المحتويات
أوّلًا: أسس الديمقراطية في تركيا الحديثة
ثانيًا: التجربة الديمقراطية لحزب العدالة والتنمية في السلطة
ثالثًا: مشكلة نشأة الديمقراطية بين الفلسفة والدين
رابعًا: مشكلات عدم التزام الديمقراطية
الخطر الأوّل: خطر الصراع الداخلي
الخطر الثاني: خطر الفراغ الدستوري
الخطر الثالث: خطر التخويف الدولي
مقدمة
من المواقف المشهورة في ربط الإسلام بالديمقراطية في تركيا إعلان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وهو في زيارة إلى مصر وتونس في السنة الأولى لثورات الربيع العربي بتاريخ 16 أيلول/ سبتمبر 2011 إعلانه: ((أنه لا تعارض بين الإسلام والديمقراطية))، وكان حينذاك رئيسا للوزراء ورئيسًا لحزب العدالة والتنمية الذي قاد مسيرة النهضة المعاصرة في تركيا في المجالات جميعها، وفي مقدمها دعوته إلى الديمقراطية المحافظة، وقال إردوغان في لقائه مع نظيره التونسي الباجي قائد السبسي إن ((الإسلام والديمقراطية لا يتعارضان. والمسلم قادر على قيادة الدولة بنجاح كبير))، وأوضح أن ((99 في المئة من شعب تركيا من المسلمين، لكنها دولة ديمقراطية علمانية، حيث تحظى الأديان جميعها بالمنزلة نفسها. فالمسلم والمسيحي واليهودي متساوون في دولة علمانية))، وكان إردوغان في ذلك الوقت يشجع على العمليات الانتخابية الديمقراطية، على أساس إيمانه بأن ((نجاح العملية الانتخابية في تونس سيؤكد للعالم أن الديمقراطية والإسلام يمكن أن يسيرا معًا)).
أوّلًا: أسس الديمقراطية في تركيا الحديثة
عند تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عام 1923م وصفت الدولة الجديدة بأنها: (دولة شعبية ـ دولة الشعب)، وكان المبدأ الرابع الذي قامت عليه الجمهورية التركية ينص: ((ديمقراطية التمثيل الشعبي بحسب المفهوم الأوروبي ومساواة المواطنين جميعهم أمام القانون))([1]).
وعلى الرغم من النص على الديمقراطية التمثيلية في المبادئ الستة للجمهورية إلا أن تركيا عاشت ((عهد التأسيس ضمن تجربة الحزب الواحد للكمالية، ونجحت في فرض قوتها السياسية ونفوذها الاقتصادي لكي تعلن بعد أكثر من عشرين سنة عن التعددية الحزبية في المرحلة الثانية))، أي إن مفهوم الديمقراطية في التجربة الكمالية كان في جعل السلطة ممثلة لإرادة الشعب، من دون أن يكون ذلك مشروطًا بالتعددية الحزبية السياسية، بل بحزب واحد حاكم وممثل لإرادة الشعب لا يسمح لغيره بالعمل الحزبي والسياسي، حتى تم إقرار التعددية الحزبية السياسية عام 1945م([2]).
وكان الحزب الذي تولّى السلطة السياسية في تركيا بعد الانتخابات الأولى، بعد السماح بالتعددية الحزبية هو الحزب الديمقراطي، وفي ذلك دلالة على أن مفهوم الديمقراطية أصبح هو الرائج بعد ذلك، حتى إن دستور 1961م، قد أجرى تعديلًا مهمًّا في تعريف هوية الدولة، فقد استُبدل النص الدستوري الذي أقر عام 1924م، بأنّ هوية الحكم: (جمهوري علماني)، فأصبح في دستور 1961م: (تركيا دولة علمانية ديمقراطية) ([3]).
وهذا يعني أن الشعب التركي أصبح يواجه العلمانية المتصلبة التي تنتهك الحقوق والحريات العامة، بسلاح الديمقراطية التي تحترم الحقوق والحريات الشخصية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل تحترم الفروق الطبيعية بين مكونات الهويات القومية للشعب التركي، فضلًا عن احترام الحقوق الدينية لمكونات المجتمع التركي جميعها.
ولعل الندوة التي استضافتها بلدية إسطنبول عام 1997م في ظل رئيس بلديتها رجب طيب إردوغان([4])، عندما كان عضوًا في حزب الرفاه الإسلامي؛ كانت نوعًا من كسر حاجز الخوف، كان عنوان الندوة ((ندوة الديمقراطية))، وقد جاءت في وقت عصيب من التاريخ التركي، ألغيت فيه الديمقراطية، وضاعت فيه هيبة الأحزاب السياسية في ظل استبداد مركزية الدولة، فكان ذلك في منزلة شمعة مضيئة وسط الظلام.
ودارت الندوة حول أربعة محاور رئيسة([5]):
1 ـ نظرية الديمقراطية
2 ـ الديمقراطية والثقافات المختلفة
3 ـ الديمقراطية سلوكًا سياسيًّا
4 ـ الديمقراطية في تركيا
وتحدث إردوغان في كلمة الختام، وجاء فيها: “إن طلب الديمقراطية حق لا يمكن التنازل عنه، إن للإنسان الحق في أن يكون له رأي في نفسه وعائلته ومدينته ووطنه، بل وكل شيء يهمه ويؤثر فيه، ومن أجل ذلك يجب على الدولة ألا يكون منهجها التسلط، وأن تأخذ في حسبانها سمو العدل، وألّا تكون أيديولوجيتها إذابة جميع الأشخاص والأطياف في بوتقة واحدة. والتجربة السياسية لبلدنا هي على النقيض من ذلك تمامًا. إن للدولة أيديولوجيتها، وهي تساند وتدعم من هم على أيديولوجيتها هذه نفسها، أما الذين يخالفونها فإنها تزدريهم وتحجمهم وكان النتيجة الطبيعية لذلك حالة عدم الاستقرار والاغتراب فيما بين المجتمع والدولة، وانقسام وفجوة كبيرة بين طبقات المجتمع))([6]).
هنا يصف إردوغان الأوضاع السياسية في عام 1997م، عندما كان عضوًا في حزب الرفاه، وبعد أن تم نزع السلطة من يد حزب الرفاه في انقلاب 28/3/1997م، وهذا الوصف يصور حال المجتمع التركي وهو يفتقد التوافق بين الشعب والدولة، وأن الدولة تنحاز إلى تيار أيديولوجي من دون آخر، وهذا الانحياز مضرّ بالمجتمع التركي، وهو ما يؤثر في ضعف الدولة والمجتمع في آن معًا، وأخطر ما فيه أن الدولة هي التي تعطل المسار الديمقراطي.
أما الحل الذي كان دعا إليه إردوغان في ذلك التاريخ، فقد عبر عنه برؤية سياسية يقول فيها: ((ورؤيتنا السياسية ترى أن الاختلاف هو نوع من أنواع الثراء، وينبغي تقوية الأبنية السياسية والثقافية والاجتماعية التي يتاح للتعددية فيها تقوية نفسها بنفسها، وليس القضاء على هذه التعددية أو رفع المجتمع للانصياع لوجهة واحدة فقط، فكلما عبرت الهويات المختلفة عن نفسها بحرية، أدى ذلك إلى إمكان الحوار المشترك، وإن هذا هو سبيلنا والمشروع الأخلاقي والواقعي الوحيد لتقوية وحدتنا السياسية وسلامنا الاجتماعي))([7]).
ولم يتجاهل إردوغان ما تواجهه الديمقراطية من معوقات فقال: ((إننا نرى في السنوات الأخيرة من يقوم بتضييق الخناق على الديمقراطية بحجة مفهوم الجمهورية، ومن يقوم بتجزئة الديمقراطية أيضًا بحجة حماية الجمهورية ويجب علينا ألّا نتجاهل ذلك. فلو غضضنا النظر عن تلك الأمور نكون قد استبحنا حرمة (دولة القضاء) تحت مسمّى (مسمّى القانون). فلا توجد أي مصلحة عامة يمكن أن تعلو على الحقوق والحريات الرئيسة. كما لا يمكن أن تحقق المعنى الحقيقي للجمهورية إلا من خلال الديمقراطية. لا يمكن أن يتحقق المعنى الحقيقي للجمهورية إلا من خلال الديمقراطية. وكذلك، فإن القوانين لا يمكن أن تحقق العدالة وتخدم الشعب إلا إذا كانت مشمولة بمظلة دولة القضاء. وفي الحقيقة، إنه لا يمكن أن يكون هناك جمهورية إذا لم تتحقق فيها الديمقراطية))([8]).
ثانيًا: التجربة الديمقراطية لحزب العدالة والتنمية في السلطة
إن أساس النظرة التركية في عهد حزب العدالة والتنمية أن تركيا اليوم قائمة على تحول تاريخي، تتكوّن فيه تركيا دولة حرة ومدنية وديمقراطية، أكثر من قبل، ودولة كبرى في المقاييس العالمية اقتصاديًا وسياسيًا، ولم يمر عقد على بداية التحول التركي نحو المدنية والديمقراطية حتى بدأ التحول العربي بالإعلان عن مشروعه وثوراته نحو التغيير، وإسقاط الاستبداد، وإعلاء الديمقراطية أيضًا، وكما كان الحال في تركيا في عدم ادّعاء العهود السابقة محاربة الديمقراطية، كذلك كان الحال في الدول العربية التي شهدت الثورات في بلدانها وإسقاط الأنظمة، فقد ادعت جميعها الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ، ولم تكن تمارس إلّا الاستبداد والقمع والفساد، أي إن هذه القيم كانت تُدّعى في العقود السابقة، ولكن الواقع كان بخلاف ذلك.
لقد كان الاستبداد الدستوري هو المهيمن في تركيا، عندما كانت تركيا تحت سيطرة العسكر وحلف الناتو، وبعد أن تغيّر الوضع الدولي في عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، أخذت تركيا طريقها في التحرر الداخلي والتحرر الخارجي معًا، وأخذت بإقامة علاقاتها الدولية على أساس مصالحه، ومع من تختارهم، ولذلك بدأت بالانفتاح الداخلي مع القوميات العرقية والإثنية التركية جميعها، على مبدأ المواطنة في الحقوق والواجبات، وقبول التعددية الحزبية السياسية والانفتاح على القوميات التركية جميعها، وبدأت في عصر المصالحة مع ذاتها، فهي عضو في العالم الإسلامي قبل أن تكون عضوًا في الاتحاد الأوروبي، وهويتها الدينية والثقافية هوية إسلامية، وهي جزء من المشرق في النشأة والتكوين والعلاقات التاريخية، وكل محاولة لإخراجها من هويتها الأصلية تمثل ضعفًا داخليًا، من دون أن يضيف لها قوة في الخارج إطلاقًا.
لم يكن المسار الديمقراطي في تركيا مفروشًا بالورود، بل قُدِّمت التضحيات تلو التضحيات، وتعرض كثير من القادة للإعدام والسجن من جانب المؤسسة العسكرية والاستبداد السياسي، وتعرضت الحكومات الديمقراطية المنتخبة من الشعب لانقلابات عسكرية كما وقع في عام 1980م، وتعرضت الأحزاب السياسية المدنية للاستقالة والحل من جانب محاكم أمن الدولة الدستورية التركية، وحرم أعضاؤها من العمل السياسي لسنوات عدة، وما تزال معركة الديمقراطية قائمة في تركيا حتى اليوم، على الرغم من بلوغها بر الأمان بعد الفوز الثالث لحزب العدالة والتنمية في انتخابات 2011، إلا أنّ معركة صوغ دستور جديد ما تزال تنذر بمخاطر على الديمقراطية، لقد كانت الانتخابات الأخيرة مشهدًا ديمقراطيًا عظيمًا، أفرزت التمثيل الحقيقي والكامل لأصوات الشعب التركي، وما مشروع صوغ الدستور الجديد إلا الخطوة الأساس والأخيرة في تمكين الديمقراطية دستوريًّا، فالديمقراطية ليست ثقافة اجتماعية، ولا وعيًا سياسيًّا، ولا احترامًا للآخر فحسب، إنما ذلك جميعه، وصوغ قانوني دستوري، يجمع المواطنين كلّهم، والأحزاب السياسية والمؤسسة العسكرية والدولة وسلطات النظام كافة على احترامه والالتزام به، وإلا كانت عرضة للأهواء والتفسيرات المختلفة والتلاعب.
قبل قيام الثورات العربية المعاصرة كان التطلع إلى التجربة الديمقراطية التركية يحمل نوعًا من الإعجاب والتقدير، وخصوصًا بعد أن اقترب رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان من مشاعر المواطن العربي وقلبه وعقله، بل مآسيه أيضًا، ومصدر هذا الإعجاب قدرة حزب العدالة والتنمية على إحداث تقدم اجتماعي واقتصادي وسياسي، داخلي وخارجي، وهو في السلطة السياسية الديمقراطية، مع ما يوصف به حزب العدالة والتنمية إعلاميًا بأنه حزب إسلامي أو حزب ذو مرجعية دينية في أصوله وجذوره، أو إن أعضاءه بصفتهم الفردية هم أناس متدينون، فأعطى بذلك الأحزاب العربية الليبرالية والحركات القومية والإسلامية أملًا وأنموذجًا في إمكان تولي السلطة، ومنحها عزيمة في قدرتها على النهوض بأوطانها ودولها وفق النموذج التركي أو غيره، المهم أنّ في إمكانها بعد التجربة التركية المعاصرة أن تتولى السلطة بطريق الديمقراطية وصناديق الاقتراع، وأن تنفذ خططها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من دون خوف، ولا تخوف من إقصاء.
ثالثًا: مشكلة نشأة الديمقراطية بين الفلسفة والدين
مرّت الفلسفة والدين بعلاقات ودّ ومصادمة عبر مراحل طويلة من التاريخ الإنساني، وكان الإنسان هو محور الود والمصادمة في آن معًا، وقبل الإسلام حاولت الفلسفة تحرير الإنسان من الجهل، فعنيت بتعريف الإنسان بماهيته، وعرفته بالحيوان الناطق، وأخرجت للإنسان نظمًا معرفية في المنطق وأصوله والقياس العقلي ([9])، حتى تضبط معارفه وعقله وعلومه، ولكنها لم تؤدِّ به إلى القناعة العقلية التامة، ولا إلى السعادة الدنيوية التامة أو الطمأنينة الكافية
فلما جاء الإسلام وانتشر في البلاد التي كانت على صلة بالأفكار الفلسفية، عمد علماء المسلمين إلى بيان عقائدهم بالحجج العقلية التي يفهمها الناس وأهل الفلسفة، وقد عُرف أولئك العلماء من المسلمين بأهل الرأي في مجال الفقه، وبالمتكلمين في مجال العقائد، ولم تنشأ خلافات تذكر بين فلاسفة تلك البلاد في حواراتهم للمتكلمين المسلمين، ولم يجعل المتكلمون المسلمون في أهدافهم معارضة الأفكار الفلسفية ولا معاداتها بادئ الأمر، بل ترجموا هذه الفلسفات رغبة في التعرف إليها أوّلًا، والاستفادة منها ثانيًا، وكان دخول الناس في الإسلام يعود إلى القناعات العقلية، فكانت العلاقة بين المتكلمين، ومن اشتغل بالفلسفة في المرحلة الأولى علاقة مودة.
وبعد مدة زمنية ظهرت طائفة من الفلاسفة ـ وربما لأسباب نفسية أو سياسية ـ تتكبر على المتكلمين وتصفهم بالجهل، وتتهمهم بعدم المعرفة بأصول الفلسفة وأصول الاستدلال العقلي، ما دفع الإمام أبو حامد الغزالي (505هـ) إلى تصنيف كتابه تهافت الفلاسفة، بسبب مهاجمتهم المتكلمين ورميهم بالجهل، ولكن الغزالي لم يجعل المعركة مع الفلاسفة معركة شخصية، وإنما أخذ أشهر القضايا التي يخالف فيها بعض الفلاسفة الدين مخالفة صريحة، فكانت جهوده في مقاومة الفلاسفة في عصره ضربة قاضية للفلسفة وللمنهج الفلسفي في البلاد الإسلامية من بعده، ما أشاع العداء بين الفلسفة والدين، أو بين الفلاسفة والمتكلمين لقرونٍ عدة.
فلما تعرف فلاسفة أوروبا تراثهم الفلسفي اليوناني، عن طريق الأندلس وشروح ابن رشد لأرسطو، وكتبه في نقد المتكلمين، تعرفوا منه إلى منهجية نقد المتكلمين، وهم في نظرهم أشبه برجال الدين، وكهنة الكنيسة، فتعلموا من ابن رشد منهجه النقدي، وكانوا في أزمة فاقت ما كان فيه ابن رشد نفسه، فوجد فلاسفة أوروبا في القرون الوسطى ضالّتهم في الفلسفة الإسلامية ([10])، الفلسفة التي هجرها أهلها، وقد كانت خليطًا من مناهج المتكلمين العقلية ومناهج الفلاسفة البرهانية، فأسس الفلاسفة في أوروبا جذور فلسفة جديدة تقوم على منهج النقد العقلي، متّخذين من الفلسفة الدينية السائدة في ذلك الوقت، العدوّ الأول، ومن كل من يمثل العقائد الدينية المنافسين الأوائل لأفكارهم وفلسفتهم العقلية من وجهة نظرهم.
ومن إسراف الفلسفة الأوروبي الحديثة وغلوها عدّها كل فكر ديني أو فلسفة دينية أنه غير نقدي وغير عقلي، فالدين والعقائد وما ينبثق عنها من نظم معرفية هي غير عقلية من وجهة نظرهم، ولذا فإنهم لا يوقرون القيم الدينية، في نظرتها للإنسان والكون والحياة، فضلًا عن عدم توقيرهم الوحي والنبوة والكتب الإلهية.
فأحدث هذا التصور مباعدة بين الفكر الديني والفكر الفلسفي في أكثر من مجال وتحت أكثر من عنوان واصطلاح، وباءت محاولات التوفيق والتقارب جميعها بينهما بالفشل، ولا سيما في عصر الحضارة الأوروبية والأميركية الحديثة، التي تزدري الدين وأهله، وخصوصًا الإسلام والمسلمين المتدينين، بل جعلهم أعداء للعلم وأعداء للديمقراطية كما سبق بيانه، ولذلك يتحسس السياسيون الأوروبيون والأميركيون اليوم من المرجعية الدينية أن تكون هي دوافع الثورات العربية المعاصرة ويحذرونها، بسبب نشوء الثورات الغربية على القيم الفلسفية أولًا، ونبذ القيم الدينية الكنسية ثانيًا، فلم ((يكن الدين إذًا هو المرجعية الكلية التي أسس عليها فلاسفة أوروبا، في القرن الثامن عشر، عالمية (حقوق الإنسان) التي بشروا بها، بل لقد عمدوا إلى بناء مرجعية عقلية مستقلة تتجاوز سلطة الكنيسة وتعلو عليها، مرجعية تتألف من ثلاث فرضيات رئيسة هي:
1ـ القول بالتطابق بين نظام الطبيعة ونظام العقل
2 ـ افتراض ما أسموه بـ (حالة الطبيعة)
3 ـ فكرة العقد الاجتماعي))([11])
وكان من آثار تلك الفرضيات، أن أدخلت الفرضية الأولى مع التقدم العلمي في الرياضيات والفيزياء في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر ما عرف بـ ((عصر الأنوار والعقل))، وأساسه الثقة في العقل لاكتشاف الطبيعة والمطابقة بينهما.
ونتج عن (حالة الطبيعة) أن ((الناس سواسية وأحرار إزاء بعضهم، لأن حق الإنسان في الحرية والمساواة هو حق طبيعي له من عمل الطبيعة، ومن هنا كانت المطابقة بين مفهوم (حقوق الإنسان) وعبارة (الحقوق الطبيعية) هنا معناها تأسيس تلك الحقوق على مرجعية سابقة على كل مرجعية، فالطبيعة سابقة على كل ثقافة وحضارة، على كل مجتمع ودولة، وبالتالي فهي مرجعية كلية مطلقة، والحقوق التي تتأسس عليها حقوق كلية مطلقة))([12]).
والنتيجة المترتبة على (الحقوق الطبيعية) في الحرية والمساواة التي أسسها الفيلسوف جون لوك (1632 ـ 1704)، قد تؤول إلى الفوضى والنزاع بين الناس، لأنهم جميعًا يملكون حقوقًا طبيعية، لذا ذهب فلاسفة أوروبا إلى ضرورة تطوير الحق الطبيعي أو تنظيمه إلى عقد اجتماعي، مهمته تفسير كيفية الانتقال من (حالة الطبيعة) إلى حالة المدنية كما قررها جان جاك روسو (1712 ـ 1778) ([13]).
والاسم الآخر لكتاب روسّو في العقد الاجتماعي هو ((الحق السياسي)) ([14])، ومن أفكاره: ((أن النظام الاجتماعي حق مقدس بمثابة أساس لجميع الحقوق، ومع ذلك فإن هذا الحق لا يصدر قط عن الطبيعة، إنه إذًا مبني على تعاقدات))([15]). و((حيث أنه ليس لإنسان سلطة طبيعية على أقرانه، وأن القوة لا تنتج أي حق، فإن الاتفاقات تبقى إذًا هي الأساس لكل سلطة شرعية بين البشر))([16]).
هذا التصور الغربي لمشروعية الحقوق سواء كانت اجتماعية أم سياسية، جعل المنادين بالدولة المدنية والديمقراطية من المفكرين يسعون إلى تأسيس عقود اجتماعية ودساتير سياسية، لا تجعل للدين دورًا في الحياة العامة وإدارة شؤون الدولة التشريعية، ولا القانونية ولا السياسية، وحصرها في شؤون الولادة والأحوال الشخصية وتشييع الموتى فحسب، وبعضهم يرفض صراحة أيّ إشارة إلى الدين في الدستور، ويرفضون أن يذكر فيه أن الإسلام دين الدولة، أو أنه مصدر من مصادر التشريع، فضلًا عن قبولهم أن يكون المصدر الوحيد للتشريع، وتأخذ منهم هذه القضية مجادلات وخلافات ووقتًا على حساب غيرها من قضايا أكثر أهمية، علمًا بأن ذكرها في الدساتير السابقة سواء في مصر أم في تونس وغيرها لم يجعل منها دولًا إسلامية، ولا ملتزمةً التشريع الإسلامي، ما يؤكد أنه خلاف شكلي أو كيدي بين المتنافسين، وأصحاب البحث عن المشكلات فحسب.
رابعًا: مشكلات عدم التزام الديمقراطية
المشكلات كثيرة، ولكن من أكبرها في الدول العربية والإسلامية هو عدم الاتفاق بين المواطنين على المرجعية، ونوعها، ومصدرها، وهي مما ينبغي للمجتمع أن يقرها بنفسه، فالمرجعية تنبع مما يقتنع به المواطنون بعقولهم، وتطمئن إليه قلوبهم، وما يؤمن به الناس من قيم، سواء كانت دينية أم فلسفية، فالمجتمع هو الذي ينبغي أن يختار مرجعيته، ويكون الاتفاق على أن المرجعية هي للقضايا العامة والمسائل الكبرى والمصالح الحيوية للأمة، فهذه القضايا لا ينبغي أن يقع عليها الاختلاف، لأن مدار تكوين أي مجتمع إنما هو ثقافته المشتركة والعامة، أما التفاصيل والجزئيات فهي من اختصاص الجهات الفرعية المنبثقة عن مؤسسات المجتمع المدنية أو السياسية، فالدولة ليست إلا مظهرًا مادّيًا لبنية المجتمع وهويته وقدراته المادية والمعنوية.
والأصل أن المرجعية العامة للمجتمعات والدول الإسلامية هي الإسلام وحضارته وتاريخه، بوصف السكان معظمهم من المسلمين، وبحكم الانتماء التاريخي إلى الحضارة الإسلامية مدّة أربعة عشر قرنًا مضت، فالأمر ليس عفويًا ولا تعسفيًا ولا عاطفيًا، وإنما هو امتداد حضاري، وقناعة عقلية، واطمئنان قلبي، ووحدة في الشعور والجماعة الواحدة.
أما تفسير الإسلام وحضارته وتاريخه فهي موضع اجتهاد واتفاق واختلاف، وفي مقدمة ذلك تاريخه السياسي وأحكامه السلطانية، فهي محل قراءات مختلفة، وليس من المكن جعلها موضع مرجعية من الجميع ، لما يحمله هذا التصور من أوزار الماضي التطبيقي والحاضر السياسي، الماضي التطبيقي هو أن التاريخ السياسي الإسلامي كان تاريخًا وراثيًا في الخلافة والسلطنة والإمارة وفي وظيفة إمام المسجد ومؤذنه أيضًا، فلم يحفل التاريخ الإسلامي السياسي بالحكم الشوري الديمقراطي إلا عقودًا قليلة مقارنة بثلاثة عشر قرنًا حكمت فيها الأسر المالكة بإطلاق.
ولذا لا يمكن نجاح دعوات سياسية وحزبية وتنظيمية تدعو إلى عودة أنظمة الحكم التراثية، فهي ليست نصوصًا شرعية من الدين، تدعو إلى هذا النظام أو ذاك من دون غيره في الحكم الإسلامي، إنما هي اجتهادات تاريخية تفاعلت مع ظروفها التاريخية، وهي لا تلقى إجماعًا ولا أغلبية إسلامية للمطالبة بها، و لهذا فإن من مسؤوليات الفكر الإسلامي المعاصر أن يجدد نفسه كلّما تقدّمت الاجتهادات، ومضى زمانها، وأن يبدع نظرياته السياسية، فإن فعل فسيجد أن الحكم الديمقراطي هو أفضل ما تفسر به آيات الشورى وعقود البيعة، وحق الاختيار في الإمامة على أساس الإسلام، وليس على أساس مذهب أهل السنة وحده، أي أن النظام الديمقراطي هو الأقرب إلى نظام الحكم الإسلامي، ومع ذلك فإن الدعوة إلى الديمقراطية من جانب تيارات الإسلام المعتدل تواجه بعض التحديات والمخاطر منها:
الخطر الأول: خطر الصراع الداخلي
الخطر الثاني: خطر الفراغ الدستوري
الخطر الثالث: خطر التخويف الدولي
الخطر الأوّل: خطر الصراع الداخلي
من أكبر التحديات التي واجهت الفكر الإسلامي التراثي والمعاصر الصراع الداخلي بين الفرق والمذاهب الإسلامية التراثية، وقد زاد الصراع حدة مع ظهور الأحزاب والحركات السياسية الإسلامية في الحاضر، في ما بينها من جهة، ومع الحركات القومية والليبرالية والعلمانية من جهة أخرى، وقضية الديمقراطية من أكثر القضايا جدلًا وخلافًا بين الأحزاب بتوجهاتها كافة، وهي بعد نجاح ثورتي تونس ومصر أكثر تحديًا وخطرًا، لأن الثورات لا تنتظر الاختلاف وإنما الاتفاق أو التوافق، والنموذج التركي لحزب العدالة والتنمية واجه هذا التحدّي مع الأحزاب الإسلامية المتشددة التي تعدّ الديمقراطية نظام كفر أو عمالة للغرب، ولكنه لم يحصر حواره معهم فكريًّا ونظريًّا، وإنما أثبت لهم جدوى الحل الديمقراطي تطبيقيًا وعمليًا، والحركات الإسلامية العربية لو حكمت من أنظمة ديمقراطية فعلًا كما حصل في تركيا، فإنها ستجد جدوى الحكم الديمقراطي، وتقبل به، وتؤيده، وتتعاون معه، وتتمسك به وتدافع عنه، فهي إن لم تجد فيه غايتها المنشودة، إلا أنها ستجد ما هو خير من الماضي الاستبدادي، وستجد أنها لن تسعى للانفراد بالسلطة بما أنها تمكنت من أداء دورها وبيان اجتهادها من دون معارضة ولا ممانعة ولا إقصاء.
وعلى صعيد تنافسها الداخلي مع الحركات الإسلامية الأخرى؛ فإن من المفيد أن تأخذ هذه الحركات العبرة من التاريخ الإسلامي، فالاستبداد المذهبي لم يستطع حسم الصراع المذهبي في التاريخ الإسلامي كله، فضلًا عن أن يحقق للأمة القوة والمنعة، ما يفرض على العقلاء منهم ومن التوجهات كافة، البحث عن أسس فلسفية ودينية تتقبّل الآخر من أبناء الوطن الواحد، وتقديم ذلك بخطاب ديني يفهمه العصر، وبخطاب فلسفي يتقبله المتدينون، فالمسلمون اليوم أمام مسؤولية بيان مفاهيم التحرر والاستقلال وتقرير المصير، ووضع المناهج، وإقامة المؤسسات التي تحول مفهوم الديمقراطية من مفهوم غربي وغريب إلى مفهوم تصالحي ومصلحي، فإذا ما تم لهم ذلك اجتماعيًا، وقد تم في تونس ومصر عبر ثورتيهما المجيدتين، فإن الخطوة التالية هي جعل ذلك دستورًا تشارك في صوغه فئات الشعب ومكوناته جميعها، وإلا فإن الخطر الثاني سيبقى قائمًا.
الخطر الثاني: خطر الفراغ الدستوري
كان ممّا قاله رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات قبل أيام: إننا سنقدم دستورًا أكثر مدنية وحرية، وسيجد كل تركي فيه حقوقه جميعها. وهذا يعني أنّ معركته من أجل الديمقراطية لم تنته بعد، على الرغم من توليه السلطة تسعة أعوام كاملة ، وحكومتين متواليتين، وأغلبية عالية في البرلمان في المجلس السابق؛ فإنه لم يستطع حسم معركة الدستور الذي يرى أنه أكثر ضمانًا للديمقراطية، ويعود ذلك الاهتمام بالدستور إلى حاجة الشعب إلى من يضبط عمل الدولة بنظام متفق عليه، ومنصوص عليه في الدستور، حتى يطمئن كل مواطن إلى أن هذه الدولة دولته، وأن هذا النظام نظامه، وأن هذا الدستور هو دستوره الذي يكفل له حقوقه بقدر ما يطالبه بالواجبات، ولمواطني الدولة جميعهم من دون استثناء، فالديمقراطية لا تأتي بعفوية، ولا بهبة، ولا بمنحة من أحد، إنما هي ثقافة معرفية وعقلية، وأسلوب في التعامل الاجتماعي، وقوانين دستورية، والتزام متبادل بين مكونات الدولة.
وإذا اتُّفق على المرجعيتين الدينية والفلسفية للديمقراطية من الشعب، فإنّ المهمة الثانية تتمثل في اختيار الشعب -من خلال خبرائه القانونيين- موادّ قانونية، تضبط علاقة الشعب بالنظام الحاكم، وبمن يتسلّم مهمّة تنفيذ إرادة الشعب، ممّن يوصفون بالدولة أو بجهاز الدولة، من رؤساء أو وزراء أو حكام أو مديرين، ويحدّد النظام لهم صلاحياتهم مع السلطات البرلمانية والقضائية الأخرى؛ فالدولة جهاز تنفيذي خاضع للنظام، وخادم للشعب أمام المجلس البرلماني والقضائي إن لزم الأمر، والديمقراطية هي أن تحكم الدولة بموجب النظام الذي أقره الدستور برقابة البرلمان والقضاء.
والخطر ألّا يوجد دستور أولًا، أو ألّا يكون الدستور نفسه ديمقراطيًا، كما كانت دساتير الدول الأوروبية في عقب الأنظمة الدكتاتورية والشمولية، فقد كانت الدولة تستبد بالنظام كله لنفسها، فتجعله أداة من أدواتها في السيطرة على الشعب والنظام في آن معًا، والدول العربية وكثير من دول العالم الإسلامي تستغل الدولة أي الأسرة الحاكمة النظام، وتستبد بالشعب سواء باسم الدستور أم باسم القضاء المملوك لها، بل هي أكثر استغلالًا وهيمنةً على أعضاء المجالس النيابية الذين تختارهم بنفسها، وتفصلهم لخدمتها.
من هنا، كان من مهمة الثورات المعاصرة تصويب هذا الوضع، وتصحيح هذا المسار، بالحرص على وضع دستور ديمقراطي يجعل الدولة محكومة بالنظام وخادمة للشعب، وليست مالكة لهما، وأن يبقى الحرص متواصلًا كي لا تستبدّ الدولة بالنظام والشعب، فالديمقراطية ليست شيئًا هلاميًا لا يمكن تحديده أو ضبطه، بل إنّ عددًا من دول العالم المتحضّر استطاعت وضع دساتير وموادّ قانونية تحفظ الديمقراطية وتصونها، فلا بدّ من وضع هذه المواد القانونية التي مهمتها الأساس التشريع للديمقراطية.
والديمقراطية ليست أن تنتقل السلطة سلميًا من حزب إلى آخر، ولا أن تحكم أحزاب المعارضة لمحض أنها كانت في المعارضة قبل الثورة فحسب، إنما أن يختار الشعب بإرادته الحرة وقناعته العقلية من يمثله في البرلمان، وأن يحترم اختيار غيره من المواطنين فيمن يمثلهم في البرلمان أيضًا، وأن ينظر إلى اختيار غيره على أنه حق له (غيره)، وأن الدولة تمثل الثقل الأكبر في البرلمان في المدة والمرحلة المنتخبة فحسب، ومن ثمّ، فإن الدولة هي البرلمان المنتخب وما ينبثق منه من حكومات، ومن هنا فإن الديمقراطية هي حكم الأغلبية البرلمانية بحكم الدستور الديمقراطي، أي إن الديمقراطية منهج في الاحتكام إلى الدستور والعمل به والوصول إلى السلطة بموجب مبادئه والتزامها.
وقد أجمعت الدساتير الديمقراطية على أن من مبادئها الأساس بعد مبدأ النص على حقوق المواطنة والحريات العامة، وأن السيادة للشعب، بواسطة انتخاب المجلس البرلماني التشريعي وانبثاق الحكومة من الأغلبية البرلمانية. بعد ذلك كله، لا بد من النص على استقلال القضاء بمستوياته وأنواعه جميعها، لأنه الملاذ الحقيقي لتصحيح المخالفات ومعاقبة المتجاوزين، وأن يكون القضاء مفصولًا عن السلطة التنفيذية والبرلمانية، فلا يخضع لسلطة حاكم ولا يُبتزّ من سلطة برلماني، ولا يُشترى بمال تاجر.
الخطر الثالث: خطر التخويف الدولي
خطر التخويف الدولي ليس من دواعي التفكير في مخاطر انعدام الديمقراطية عمومًا، إنما هو مما فرضه العصر الحديث والعالم الغربي على وجه التحديد، فيما اصطنعه من صدام مع الإسلام بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عند بحث الغرب عن عدو بديل من الشيوعية، كما أعلن ذلك أكثر من رئيس ووزير ومفكر ومستشار غربي، ثم فيما أطلق عليه الغرب نفسه على الحركات والأحزاب الإسلامية تحديدًا الأصولية الإسلامية، ثمّ حركات الإسلام السياسي، ثم كان مصطلح الحركات الإرهابية، وأخيرًا وليس آخرًا حركات الإسلام المعتدل، أي إن الغرب يفصّل مصطلحاته كما يشاء، وبما يخدم مصالحه واستراتيجياته، وقد يكون ذلك مفهومًا من الغرب ما دام يرسم مصطلحاته ويكوّنها كما يشاء. ولكن، أن تعامل الدول الإسلامية أحزابها الإسلامية أو القومية أو غيرها بهذه المصطلحات والصفات، فهو أمر مستغرب وغير مفهوم، فالتعاون مع الغرب ينبغي أن يمتثل لمعيار المصالح المشتركة للطرفين، وليس لطرف واحد فقط.
إن الخطورة في إسقاط هذه الأوصاف على عموم الحركات الإسلامية ومحاولة حصر العمل السياسي بالحركات العلمانية وحدها، هو إسقاط لقطاع كبير من المجتمع وقواه السياسية الفاعلة من دون وجه حق، ولا حجة لهم إلا ما أفرزته الإدارات الغربية وإعلامها من أوصاف على عموم الحركات الإسلامية لأهداف تخصها، بينما الدول الإسلامية أكثر معرفة بطبيعة هذه الحركات وأفكارها، وبأسباب تطرف بعضها وبكيفية تقويمها، وإلا فإن القضاء العادل هو الفصل والحكم، أما أن تجعل واجهة حرب في الداخل ومع الخارج معًا، فإن ذلك لم يكن في مصلحة المسلمين، ولا يمكن أن يكون في مصلحتهم في يوم من الأيام، فهو لم يؤدِّ إلّا إلى تقسيم المجتمعات الإسلامية وإضعافها، وإدخالها في نادي الإرهاب من دون أن تكون عضوًا فيه.
من هنا فإن تعامل الدول الإسلامية مع الحركات والأحزاب الإسلامية ينبغي لها أن تنبع من معارفها هي، وأن تعاملها بما تكونه عنها من معلومات بنفسها، ولأهداف تخدم أمنها أيضًا، وألّا تقصي أحدًا عن العمل السياسي الديمقراطي، إلا بأحكام قضائية وليس بتهم أمنية، فليس هناك ما يخيف أن يتسمى الحزب الإسلامي أو المسيحي أو الديمقراطي أو غيرها، لأن العبرة بالاحتكام إلى الدستور الديمقراطي، وليس إلى قوانين خاصة يصنعها النظام المستبد لينفرد بالسلطة والثروة والفساد.
عندما كانت تركيا تتعاون مع إسرائيل سياسيًا وعسكريًا، قبل أن تأتي حكومة حزب العدالة والتنمية وبعدها، كان الشكر والرضى والثناء عليها من إسرائيل ومن الغرب متواصلًا، ولما لم توافق الحكومة التركية على الجرائم الإسرائيلية في فلسطين ولبنان وغزة، ونددت بالسياسات العدوانية والإجرامية لها، تحول الشكر والرضا والثناء إلى تهم بالأصولية والعثمانية والتعصب وغيرها من التهم، وهذا موقف قابل للتكرار مع كل دولة إسلامية توصف بالاعتدال أو الديمقراطية بما أنها لا تعارض السياسات الغربية، فإذا ما عارضتها في ظلمها وجرائمها، وصفت بالدول الإرهابية أو الأصولية أو غيرها، أي إن سياسية التخويف لا تتوقف على الحركات الإسلامية وإنما تعاقب بها الدول أيضًا.
من هنا فإن الدول الإسلامية مطالبة بتفهم مطالب حركاتها الاجتماعية وأحزابها السياسية بنفسها، وأن تفسح لها المجال للتعبير عن أهدافها من دون خوف ولا تخويف، فكلاها لا يصنع إلا الاستبداد مقابل الاستبداد، والحل الأمثل هو الانفتاح الداخلي الذي قامت به حكومة العدالة والتنمية مع القوى السياسية التركية جميعها، بما فيها الحركات التي كانت تستعمل العنف المسلح، فقد أفقد هذه الحركات مبررات عنفها، وفتح لها المجال لتطرح مطالبها بكل حرية، وأن تشارك في الحياة السياسية من دون مخاوف، ودخلت الانتخابات وحققت من المكاسب بقدر ما تمثله من نسبة حقيقية، فعرفت قدرها وحجمها بحكم الديمقراطية، فكانت الديمقراطية مأمنها، ومأمن المجتمع من تطرفها، والثورات العربية المعاصرة تدرك أن نجاحها كان بمشاركة الجميع، وأن الديمقراطية ينبغي أن تكون الحكم بين الجميع.
خاتمة
بالفكر الديمقراطي استطاع حزب العدالة والتنمية أن يجعل مشروعه الفكري في فهم الإسلام الحضاري مشروع الأغلبية من الشعب التركي، والعكس صحيح أيضًا، فإن الفكر الإسلامي السياسي الذي يطبقه حزب العدالة والتنمية هو رأي، واجتهاد، الأغلبية من القوى الفكرية التي يتكون منها حزب العدالة والتنمية والقوى المساندة والمؤيدة له في الفكر السياسي الإسلامي الديمقراطي الذي يتبناه الحزب منذ نشأته، فلا وصاية من قيادة حزبية على كوادر الحزب وأعضائه إطلاقًا، إنما هي رؤى إسلامية يُتحاور حولها، وتُناقش مع المفكرين الإسلاميين والسياسيين من داخل الحزب وخارجه، لأن كل مفكّر إسلامي أو مفكر سياسي معنيّ بتقدم الوطن، وتحسين أحواله ونجاحه هو عقل مطلوب في المشاركة الفكرية السياسية الديمقراطية.
الديمقراطية الفعلية هي المقابل الطارد للاستبداد، وانتخاب المجالس التشريعية والوطنية في الدول الإسلامية هو باب الخروج من الاستبداد، وهو كذلك باب الدخول في الديمقراطية، فالديمقراطية هي الضامنة في الانتقال السلمي إلى السلطة الرشيدة، وهي كذلك الضامنة الوحيدة للدخول في الفكر الإسلامي المعتدل، بوصفه الفكر الإسلامي الذي يوافق عليه المفكرون الإسلاميون والسياسيون في هذا البلد أو ذاك معظمهم، وانتخاب المجالس التشريعية ينبغي أن يعني توكيل هذه المجالس المنتخبة من الشعب في ترجيح الاجتهاد الإسلامي، الذي يتوجب العمل به دستوريًا، فهو الحكم الشرعي الذي يتوجب على الشعب تبنيه وتنفيذه، بعد سيره في الخطوات القانونية لتحويله من اجتهاد علمي في المجالس التشريعية، إلى اجتهاد تطبيقي ملزم قانونيًا، أي بعد بلوغه مستوى القانون الملزم دستوريًا، فالحكومات المنتخبة أيضًا هي أمام مسؤولية أن تحكم الناس بالأحكام القانونية التي شرّعت من المجالس التشريعية، سواء كان مصدرها كتب الفقه والمذاهب الفقهية، أم الاجتهاد الفقهي الجديد الذي يباشره البرلمان أو مجلس الشعب.
ولا حجة للآراء الفردية في مخالفة اجتهاد الجماعة الممثل في المجالس التشريعية المنتخبة، لأن الاجتهاد الجماعي من المجالس المنتخبة هو الأقرب إلى الشرع والعقل والعرف، بينما الاجتهادات الفردية خاصة بأصحابها، وغير ملزمة لغيرها في الشرع، والعبرة للرأي الفقهي الراجح للجماعة، فلا يحق لرأي فردي ولو كان موافقًا لمذهب فقهي أن يشذ عن الجماعة، ولا يحقّ له أن يهاجم رأيًا راجحًا من مجلس تشريعي، فالشرع لا يطبق بالرأي الفردي، إنما بالاجتهاد الجماعي، وإلّا، فما معنى وجود الجماعة، وما معنى المشاركة بالعملية الانتخابية، وتأليف المجالس التشريعية، وانتخاب الحكومات التي تطبق القوانين النافذة، والقوانين التي تقرها المجالس التشريعية.
إن دور المجالس التشريعية أو البرلمانات أن تدرس القضايا التي يقترحها الشعب بأفراده وطوائفه ومدارسه الفقهية جميعها، ودراسة الآراء الفقهية التراثية والمعاصرة في المسائل التي يبحثها المجلس جميعها، وأن تشرك في جلساتها الوجوه الفكرية المعروفة في المجتمع، ومناقشته من وجهة نظر عامة، لا خاصة، وأن يركز الاجتهاد على مقاصد الشرع، ما دام المطلوب تحقيق مصالح العباد، وعدم تكليفهم بما هو شاقّ عليهم، وهذا النوع من الحوار والمناقشة الجماعية هو عمل شوري، ومناقشة ديمقراطية في الدائرة الفقهية أيضًا، فالديمقراطية الإسلامية حلّ المشكلات الإسلامية المعاصرة في دائرة الاجتهادات الفقهية الراجحة.
المراجع:
1- الجابري. محمد عابد، الديمقراطية وحقوق الإنسان، (د.م، د.ت)
2- الجميّل. سيّار، العرب والأتراك، (د.م، د.ت).
3- الصالح. منال، نجم الدين أربكان ودوره في السياسة التركية، (د.م، د.ت).
4- بسلي حسين. أوزباي، رجب طيب إردوغان: قصة زعيم، (د.م، د.ت).
5- ديورانت. ول، قصة الفلسفة، ط5، (بيروت، مكتبة المعارف، 1405هـ ـ 1985م).
6- روسّو. جان جاك، العقد الاجتماعي، ذوقان قرقوط (مترجم)، (بيروت: دار القلم، د. ت).
7- صبري. صاباري، الاتجاهات الإسلامية في تركيا في الوثائق السرية الأميركية، (إسطنبول: 1990م).
8- ملياني بغدادي. مولاي، حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، (د.م، د.ت).
([1])الجميل، العرب والأتراك، (د.م)، ص 326.
([2]) صبري صاباري، الاتجاهات الإسلامية في تركيا في الوثائق السرية الأميركية، (إسطنبول: 1990م)، ص 31.
([3]) الصالح، نجم الدين أربكان ودوره في السياسة التركية، (د.م) ص 40.
([4]) ولد رجب طيب إردوغان في إسطنبول بتاريخ 26 شباط/فبراير 1954 جاءت عائلته من ولاية ريزه الكائنة على سواحل البحر الأسود، وأتم دراسته العليا في كلية العلوم الاقتصادية والتجارية بجامعة مرمرة في إسطنبول حيث تخرج منها عام 1981، أسّس رجب طيب إردوغان مع مجموعة من رفاقه حزب العدالة والتنمية بتاريخ 14 آب/أغسطس 2001، وانتخب من جانب مجلس المؤسسين رئيسًا مؤسسًا للحزب، فاز الحزب في انتخابات 3 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2002. انظر: بسلي، حسين، أوزباي، رجب طيب إردوغان: قصة زعيم، د.طارق عبد الجليل (مترجم)، د. رمضان يلدرم (مراجعة)، (بيروت: الدار العربية للعلوم، 1432هـ -2011مـ).
([5]) بسلي، حسين، أوزباي، رجب طيب إردوغان: قصة زعيم، ص 228.
([6]) بسلي، حسين، رجب طيب أردوغان، ص 229.
([9]) ول ديورانت، قصة الفلسفة، ط5، (بيروت: مكتبة المعارف، 1405 هـ ـ 1985م)، ص78.
([10]) مولاي ملياني بغدادي، حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، (د.م)، ص 75.
([11]) محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، (د.م)، ص 147.
([12])محمد عابد الجابري، ص 149.
([14]) جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، ذوقان قرقوط (مترجم)، (بيروت: دار القلم، د. ت)، ص 29.