ليس واضحًا حتى الآن موقف الإسلام، دينًا أو تراثًا من الديمقراطية، أو موقف المتفاعلَين الراهنَين في مؤسسته من هذه المسألة، ولا يبدو أنهما من منبتين متطابقين أو متشابهين بل إنهما مختلفان؛ الأوّل بوصفه معطًى سابقًا وجاهزًا ومكتملًا -إلا عند بعض المفكّرين الإسلاميين القليلين- والثاني بوصفه ناتجًا لم يكتمل بعد، في وقتٍ يحاول فيه (المتأسلمون) ممن هم خارج لعبة السلطة، الإفادة من الديمقراطية من دون المحاولة الجادّة لوضعها داخل بيئة المجتمع والدين، منتجًا يوميًّا عقائديًّا وفكريًّا وسياسيًّا، ومن ثم منتجًا دينيًّا.

أرى -كما يرى كثيرون آخرون- أن ثمة صراعًا بين الإسلام والديمقراطية، صراعًا تبدو أسبابه الجوهرية غير مفهومة، ويمكننا فهم نتائجه وأسبابه الظاهرة، لكنّ ما هو واضح -على الأقل بالنسبة إليّ- أن تراكم نتائج هذا الصراع، هو أحد أسبابه، أي إن مخلفات هذا الصراع التاريخية هي أحد أهم أسبابه الجوهرية.

لا أريد أن أعطي سبباً واحداً فقط لهذه العلاقة التصارعية المعقدة بين الإسلام والديمقراطية، لكني أرى أن أحد الأسباب الرئيسة فيه، هو اتخاذ العدو –لنا- من الديمقراطية سبيلًا سياسيًّا واجتماعيًّا وحياتيًّا له، وهجوميًّا ضد خصومه أيضًا، هو سبب عدائنا للديمقراطية، وأن نكون طرفًا في الصراع معها، فكل ما يتخذه العدو -عدونا- بوصفه داعمًا له في إنتاج الصراع واستمراره، هو في نظر الخصم (نحن) أداةً معتدية، وهذا من طبيعة الصراع، وهو سبب ناتج عنه، لذا أعدّه سببًا ظاهريًّا، لكنه في وقت من الأوقات يعدّ من الأسباب الجوهرية الأولى، كما أنه سبب مهم ليكون مدخلاً أو باباً في فهم الأسباب الجوهرية الأخرى، فأيّ منّا إذا أراد أن يدخل بيتاً لرؤيته من الداخل، فلا بد له أن يدخل هذا البيت من بابه، وكذلك، فإن إماطة اللثام عن هذه العلاقة التصارعية، تعطينا القدرة في فهم الأمور الجوهرية، كما أؤكد أن فهم أسباب الصراع الظاهرة في هذا السياق، هو مهم أيضًا أهمية الأسباب الجوهرية، بمعنى أن هذا السبب هو آخر الأسباب الظاهرة، وأول الأسباب الجوهرية في فهم علاقة الصراع بين الإسلام والديمقراطية.

ليس الإسلام في علاقة صراع مع الديمقراطية فحسب، إنما الديمقراطية أيضًا في علاقة صراع مع الإسلام، وكما علينا -موضوعيًّا- أن نرى الجانب من زاويتنا وأن ننقده، فإنّ علينا أيضًا -موضوعيًّا- أن نراه من الزاوية الأخرى وننقده، لذا ينبغي لنا أن نرى سبب دخول الديمقراطية في صراع مع الإسلام من جانبها، وعليها يقع كثير من أسباب تلك العلاقة المتصارعة. وعلينا الاعتراف بأن الإسلام، ليس واحداً إنما يتخذ صيغًا عدة، غير قابلة للعد إنما قابلة للفهم، وكذا حال الديمقراطية، فهي ليست واحدة، إنّما عدد من الديمقراطيات، غير قابلة للعد، إنما قابلة للفهم.

يفضّل لفض الاشتباك بين الإسلام والديمقراطية، استخدامها بداية -أي الديمقراطية- بوصفها سبيلًا سياسيًّا لا أقل ولا أكثر، ثم بعد ذلك نرى إن كنا نريد الدخول بها وفيها إلى المجالات الحياتية الأخرى أم لا، بمعنى أن تكون بداية، وسيلة من وسائل مداولة السلطة، وأن تكون في صندوق الانتخاب والورقة الانتخابية والغرفة الحاجبة ولجان فرز الأصوات، أي أن تكون من عدّة العملية السياسية، بوصفها حالًا جامدة، ثم نعمل فيما بعد على تحريك هذا الجمود في المجالات الأخرى، لتدب الروح فيها، إن رأينا أنها تتوافق وقدراتنا الاجتماعية والفكرية والاقتصادية وغير ذلك.

من جانب آخر، ولفض الاشتباك بينهما، ينبغي للديمقراطية فهم الجوانب الأساس في الدين الإسلامي بصفته دينًا متكاملًا، وتحليله تاريخيًّا على أساس من عدم الدمج بينه -دينًا- وبين التاريخ السياسي الذي يحمل بعضًا من سماته -أقول بعضًا- لأن الغرب في علاقته العدائية معنا ينظر إلى الإسلام بوصفه عدوًّا، من منطلق دعمه لنا في إنتاج الصراع، واستمرار العداء معه -بصفته أداة معتدية-  بمعنى آخر، فإن الغرب وشعوب منطقتنا على عداء تاريخي، وكونهما كذلك فإن أي طرف يحمل مشروعه الأيديولوجي سيعدّ عدوًّا. من هنا أرى أنّ العداء بينهما لا يعدو أن يكون غلافًا لصراع سياسي قديم، وإذا حُلّت هذه المعضلة ستكون العلاقة بين الإسلام والديمقراطية علاقة مساواة.

الديمقراطية ليست من منطقتنا أو تاريخنا، هي ليست من عقلنا وتفكيرنا، لكن السيارة أيضاً ليست من منطقتنا وتاريخنا وعقلنا وتفكيرنا، وكما أن هذا المنتج الصناعي دخل حياتنا ومجتمعنا، فإن الديمقراطية تستطيع أن تدخل حياتنا ومجتمعنا، صحيح أن المنتج الصناعي هو منتج جامد، لكنه أيضًا منتج اجتماعي واقتصادي متحرك، وهو نقيض للمنتج العقلي السياسي، ألا وهو الديمقراطية بوصفها منتجًا متحركًا، لكننا نستطيع -كما أسلفت سابقًا-  بأن ندخلها كمنتج جامد في البداية، أي نتعامل معها بوصفها منتجًا تقنيًّا، لا منتجًا اجتماعيًّا سياسيًّا عقليًّا متحركًا، على الأقل في المرحلة المقبلة المنظورة، ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء.