مدخل
تتركز غالبية حقول النفط والغاز في المناطق الشمالية الشرقية من سورية، وقد أدّت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، كامتداد سوري لحزب العمال الكردستاني التركي PKK المصنّف كمنظمة إرهابية على لوائح العديد من الدول، على هذه المناطق منذ عام 2012، ومن ثّم بدعم أميركي في سياق الحرب على تنظيم “داعش” الإرهابي، إلى استحواذ “الإدارة الذاتية” المنبثقة عن الحزبين المذكورين على هذين الموردين الاستراتيجيين، حيث يتم تصريف الكميات الفائضة عن الحاجات المحلية عن طريق بيعها أو تهريبها إلى مناطق النظام ومناطق سيطرة المعارضة المسلحة والمنظمات المحسوبة على تنظيم “القاعدة” في شمال غرب سورية.
وقد أثار قرار “الإدارة الذاتية” رفع أسعار المحروقات، في الآونة الأخيرة (القرار رقم 119 بتاريخ 18 أيار/ مايو 2021)، موجةً عارمة من الاحتجاجات التي عمّت مناطق شمال شرق سورية[1]. وحين تفاجأت “الإدارة” بحجم الاحتجاجات الشعبية، سارعت إلى التراجع عن قرارها في اليوم الثاني (19 أيار/ مايو 2021)، وكأن شيئًا لم يكن! فما هي الخلفيات والدوافع الكامنة وراء هذا القرار؟ وكيف يمكن قراءة الموضوع من خلال توازن القوى ضمن سلطة “الإدارة الذاتية”؟
خطوة غير محسوبة
يتضح من صدور قرار رفع أسعار المشتقات النفطية والتراجع السريع عنه أن القرار كان متسرعًا وغير محسوب العواقب، ويكشف عن طبيعة هذه الإدارة أو، بكلام أدق، عن طبيعة الجهة المتحكمة فيها، وهي حزب العمال الكردستاني التركي الموجود في جبال قنديل شمال العراق. فقد اندلعت الاحتجاجات الغاضبة في محافظتي القامشلي والحسكة، وبخاصة في منطقة الشدادي، وتخللها إطلاق النار على المتظاهرين الذين قاموا بتمزيق صور الزعيم الكُردي عبد الله أوجلان، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى[2]. وكشفت ردة الفعل القمعية غير المتكافئة هذه عن طبيعة سلطة الأمر الواقع المتحكمة، التي اعتادت أن تلجأ إلى تبرير مثل هذه الأفعال الإجرامية بوجود عناصر مدسوسة تابعة لتنظيم (داعش) أو من مناصري هذا التنظيم، والحال أن ثمة حالة احتقان، ولكن مثل هذه الممارسات تعود، في الواقع، إلى طبيعتها المستبدة، إذ لا يمكن تبرير قتل متظاهرين يمزقون صورة أي زعيم كان، وهي من ضمن محاولات عفا عليها الزمن لفرض أيديولوجية حزب PKK على سكان المنطقة الشمالية الشرقية من سورية بكل مكوناتها، ما ترك حالة من الاحتقان فجّرها قرار رفع أسعار المشتقات النفطية.
سياسة التعتيم
اللافت للنظر أيضًا أن سلطة “الإدارة الذاتية” تفرض ضربًا من التعتيم على كل ما يتعلق بالموارد النفطية، حتى الكميات المستخرجة وحاجة سكان المنطقة التي تديرها والإيرادات التي تحصل عليها من بيع النفط، في الوقت الذي يستمر فيه سيل صهاريج النفط في العبور إلى مناطق النظام وغيرها، ولا شك في أن ذلك يثير حفيظة الأهالي، وهو ما أفضى إلى اندلاع الاحتجاجات، فور الإعلان عن رفع أسعار المشتقات النفطية إلى أن تم إلغاء القرار.
ولكن موقع (جسر) الإلكتروني أشار إلى أن إنتاج PYD من النفط والغاز، من 46 حقلًا، يبلغ 87 ألف برميل نفط يوميًا، بينما ينتج معمل السويدية للغاز في الحسكة نحو نصف مليون م3 غاز في اليوم، تبلغ قيمتها السوقية 160 ألف دولار أميركي يوميًا، وتقدر القيمة السنوية لقيمة النفط والغاز المنتج من قبلهم نحو 840 مليون دولار سنويًا، وأن الإيرادات يمكن أن تصل حتى مليار دولار سنويًا، وتتوزع عوائد هذا الإنتاج على PYD وعلى حزب PKK التركي ثانيًا، وعلى النظام ثالثًا، و(داعش) رابعًا، إضافة إلى نظام الفساد يحرم أهالي المنطقة السوريين من هذه العائدات[3].
في هذا الشأن، صرّح الباحث الكردي، شيفان إبراهيم، لموقع (الحرة) بأن “الأسباب غير واضحة فيما يتعلق بقرار رفع أسعار المحروقات، وأن الإدارة الذاتية لم تصدر أي موقف حول ذلك، وأن القرار ضد مصلحة المواطن على العموم”. وأضاف الباحث أن لا أحد يعرف عن الجانب المالي في منطقة سيطرة الإدارة الذاتية، ويفسح ذلك التعتيم وانعدام الشفافية المجالَ واسعًا لانتشار الأقاويل، ولو أن مصادر مقربة من الإدارة الذاتية عزت رفع الأسعار إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج والاستخراج[4].
هنا، يلاحظ المتابع مدى التشابه الحاصل بين ممارسات الأوساط المهيمنة على “الإدارة الذاتية” وبين ممارسات النظام السوري، من حيث التعتيم على الموارد المتأتية من استخراج النفط وتجارته، والسياسة المتبعة في رفع الأسعار على نحوٍ مفاجئ. وكان النظام السوري قد مارس مثل هذه السياسة منذ عقود عدة. وفي كلتا الحالتين، يدلّ ذلك على أن استخدام هذه الموارد يذهب لتلبية أهداف ومصالح السلطات الحاكمة والمتحكمة في هذا الطرف أو ذاك، بعيدًا عن مصالح المواطنين. كما يعكس ما سبق الطبيعة الاستبدادية العقائدية لكلا الطرفين النظام وPKK، ووجود تاريخ من تحالفٍ لم ينقطع بينهما حتى بعد اتفاق أضنة (1998)، وقد ظهر ذلك بوضوح في الطريقة التي انسحب فيها النظام من منطقة الجزيرة السورية، لصالح الحزب المذكور وامتداده في سورية (PYD).
نشير أيضًا إلى أن بعض الأصوات من مسؤولين في “الإدارة الذاتية”، على مواقع التواصل الاجتماعية، كانت قد استنكرت صدور القرار، وطالبت المسؤولين بالتراجع عنه، وهناك أصوات أخرى عبّرت عن عدم موافقتها على القرار المذكور، ما يشي بوجود خلاف جدي حول قضايا كثيرة، ومنها هذا القرار الذي يبدو أنه قد اتُّخذ من قبل مسؤولين في حزب العمال الكردستاني PKK، من دون دراسة كافية حول عواقبه الاجتماعية [5].
كما عبّر بعض مسؤولي “الإدارة الذاتية” عن موقف وسط بهذا الشأن، فقد أشار رياض درار، الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، في منشور على صفحته في موقع (فيسبوك)، إلى أن فوائد القرار تتمثل في وقف التهريب وتخفيض استفادة الفئات الميسورة من الدعم على حساب الطبقات الفقيرة، في حين تتمثل مساوئ القرار بارتفاع تكلفة التدفئة والمواصلات والإنتاج الزراعي والصناعي[6]. ولنا أن نسأل: هل يتعلق الأمر بالخلاف حول هذا القرار فقط، أم أن ثمة خلافات أعمق تتناول قضايا أخرى أكثر أهمية، في ضوء ما يتم تناقله عن وجود تيارين متنافسين داخل الإدارة الذاتية؟
إن التعتيم على كل ما يتعلق بموضوع النفط ومحاولة زيادة الأسعار الأخيرة، يشير إلى أن التيار المهيمن في قيادة “الإدارة الذاتية” يقوم بالتصرف بدخول النفط وضخّها في مسارب تخدم سياساته الحزبية الضيقة والمصالح المرتبطة بها، بعيدًا عن مصلحة سكان الجزيرة من كل الانتماءات، مع أن التراجع عن القرار 119 يعكس أيضًا أن يد PKK لم تعُد مطلقةً، في ظل حالة الانقسام التي تشهدها قيادة “الإدارة الذاتية”.
صراع يطفو على السطح
يتحدث كثيرون داخل “الإدارة الذاتية” وخارجها، في الأشهر الأخيرة، عن وجود ملامح انقسام بين تيارين: تيّار كُردي سوري يرفض هيمنة حزب PKK على المفاصل الرئيسة للإدارة الذاتية وبقية المؤسسات التابعة لها؛ وتيار ثان يتمثل بكوادر الحزب المذكور ذات الأصول غير السورية، التركية والإيرانية، ويطلق عليهم “الأجانب”. ولهؤلاء الكوادر دورٌ مهيمنٌ داخل “الإدارة الذاتية” والمؤسسات التابعة لها، وقد لُوحظ وجود عنصر من هذا الحزب في كل مؤسسة يتدخل في شؤونها ويتحكم في قراراتها وتمويلها، وهذا ما يثير حفيظة العاملين في هذه المؤسسات من السوريين، من الأكراد والعرب ومن غيرهم. وعلى الرغم من أن التيار السوري في “الإدارة الذاتية” يحظى بدعم قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي، فإنه ما زال “يفتقر إلى وجود قيادة منظمة وموحدة وواعية وجريئة لوضع حد نهائي لنفوذ قنديل وأخذ المبادرة”[7].
ولا يمكن فصل الانقسام الحاصل على مستوى قيادة “الإدارة الذاتية” عن تأثير القوى الأخرى ذات النفوذ في سورية؛ فالروس من مصلحتهم العمل على اتساع شرخ هذا الانقسام، في محاولة لإضعاف “الإدارة الذاتية” وإرباك الولايات المتحدة. وقد يكون الدور الإيراني حاضرًا بقوة أيضًا، وحالة التنافس الأميركي على أشدها حاليًا، على خلفية إعادة التفاوض على الاتفاق النووي. ولا تخفى الجهود التركية في محاولة منع قيام أي سلطة يهيمن عليها الأكراد في الشمال السوري، والعمل على إضعافها.
آفاق الصراع داخل الإدارة الذاتية
لا يمكن أن يستمر واقع الانقسام الحالي في قيادة “الإدارة الذاتية”، وهو مرهون بزوال الأسباب التي قادت إلى هذه الحالة المعقدة الموجودة في شمال شرق سورية، ومنها الضغط التركي والمواقف الروسية والأميركية ورغبة الأكراد السوريين في أن يكون لهم استقلاليتهم، وبقاء بعض الخلايا النائمة لتنظيم (داعش) وقيامها ببعض العمليات بين وقت وآخر. لكن ما يرجح بقاء حالة الانقسام الحالية في قيادة “الإدارة الذاتية” من دون حسم هو حاجة قوات التحالف الدولي ضد (داعش)، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، إلى دوام الاستقرار الحالي، حتى يتم إغلاق ملف (داعش)، ومن ضمنه ذلك الملف إغلاق معسكر الهول وحلّ مشكلة المحتجزين فيه من بقايا هذا التنظيم، من مقاتلين وزوجات وأرامل وأطفال. هذا ما قد يحصل في إطار حل سياسي شامل للمسألة السورية، عندئذٍ، يمكن تحجيم نفوذ حزب العمال الكردستاني (المصنَّف كتنظيم إرهابي من قبل الولايات المتحدة) داخل “الإدارة الذاتية” التي ستأخذ صيغًا معدلة أو مختلفة، تبعًا لمجريات الحل السياسي في سورية.
هذا يعني أن وجود قوات التحالف الدولي في المنطقة يلعب دورًا مهمًا في كبح الخلاف بين تياري “الإدارة الذاتية”، إلا في حال حدوث أمر ما مفاجئ أو قرار خاطئ، مثلما حدث عند صدور قرار رفع أسعار المحروقات الأخير.
خاتمة
لا يعكس قرار رفع أسعار الوقود والتراجع عنه سوى حالة التخبط الذي ترزح تحته “الإدارة الذاتية” في شمال شرق سورية؛ بسبب الهيمنة الأيديولوجية لحزب العمال الكردستاني على مفاصلها وتحكمه في قراراتها والإمساك بشؤونها المالية. وعلى أمل أن تخرج سورية المهشمة من تحت الاحتلالات الخارجية وتسلط قوى الأمر الواقع في الداخل، في إطار حل يجعل سكانها مواطنين متساويين في الحقوق، في دولة ديمقراطية مستقلة.
[1] تم رقع الأسعار بنسبة تراوح بين 100% و300%. على سبيل المثال، تم رفع سعر أسطوانة الغاز من 2500 ليرة سورية إلى 8000 ليرة، وسعر المازوت الممتاز من 150 ليرة إلى 400 ليرة، والبنزين من 210 ليرات إلى 410 ليرات.
[3] صحيفة جسر الإلكترونية، عائدات نفط الجزيرة السورية: مليار دولار لتغذية PKK وإرضاع “داعش” وللسكان المحليين الأوبئة، كانون الثاني/ يناير 2020، https://bit.ly/3fslcvo
[5] المصدر السابق.
كلمة حق تقال …. عيب عليكم ترديد كليشة ( الاتحاد الديقاطي الكردي امتداد لحزب العمال الكردستاني المصنف ارهابياً ) و ذلك لسببين : ان من اطلق و صنف حزب العمال الكردستاني و من يتحالف او يتعامل معه ب الارهاب هي الادارة الامريكية بطلب من السلطات الفاشية التركية المنضوية في التحالف العسكري المسمى حلف شمال الاطلسي الاستعماري التوجه والاهداف .. و ثانياً تعاملكم مع الكورد السوريين و حملة لواء تحررهم ب العداء التام لأسباب أوهامكم الرجعية القوميجية العنصرية الأستبدادية … يكفيهم الكورد العداء الفارسي و التركي الاستعماري و عداء الاسلام السياسي السوري والعراقي لهم .. .