مقدمة
مع استيلاء حركة طالبان على السلطة وسيطرتها على معظم مناطق أفغانستان، تناسلت التساؤلات المتعلقة بمستقبل الأقليات الدينية والعرقية وبمدى قدرة الحركة على إدارة التنوع الاثني في الدولة. وهي تساؤلات تبدو مشروعة بالنظر للطبيعة الإسلامية المتشددة للحركة وتاريخها الطويل في اضطهاد الأقليات منذ تأسيسها سنة 1994، على يد الملّا محمد عمر، في ولاية قندهار على الحدود مع باكستان[1]. فعلى غرار التيارات الإسلامية الراديكالية التي تطمح إلى جعل مقاصد وأحكام الشريعة الإسلامية بمنزلة المكونات الجوهرية للأنظمة السياسية والاجتماعية[2]، تهدف طالبان إلى تأسيس دولة دينية تطبّق “الإسلام الصحيح” (إمارة أفغانستان الإسلامية)، ما سيجعل من الدين -على غرار تجارب سابقة- أداة لخدمة نظامها السياسي ولإضفاء المشروعية على ممارساتها القمعية اتجاه أقلياتها، بشكل يستحيل معه توفير الحماية اللازمة لهذه الفئات وضمان المساواة بين مختلف الجماعات الدينية المكونة للدولة[3].
وبالرغم من رفع الحركة لمجموعة من الشعارات الدينية، بهدف طمأنة مكونات المجتمع الأفغاني، فإن الهوية القومية لطالبان حاضرة ولا يمكن حجبها؛ فالحركة تنتمي إلى الأغلبية الدينية السنية التي تشكل 80 % من مجموع السكان، وهي تمثل أيضًا جماعة “البشتون” المهيمنة سياسيًا، والتي تشكل الأغلبية العرقية بنسبة 38 %من الساكنة الأفغانية، ما يطرح مخاوف حقيقية حول مصير الأقليات العرقية والدينية والمذهبية[4]، خاصة أن طالبان باتت أقوى من أيّ وقت مضى بعد انسحاب القوات الأميركية في إثر اتفاقية “سلام” جرى التفاوض عليها بعناية[5]، وبسبب المكانة الاقتصادية والاجتماعية المتدنية لمجموعة من الأقليات الأفغانية مثل الهزارة والبراهوية والبلوشية التي لا تحظى بتقدير كبير[6]، حتى إنه ينظر إليها أحيانًا نظرة دونية إلى الحد الذي يجعل أفرادها يشعرون بأنهم غرباء في بلدهم، بفعل التمييز الممارس ضدهم في مختلف مجالات الحياة.
ويكتسي موضوع الأقليات الأفغانية أهمية خاصة، بالنظر إلى أنّ فشل طالبان في حمايتها واحترام حقوقها الأساسية قد يعصف بالاستقرار السياسي للدولة ويفضي إلى اندلاع المزيد من النزاعات المسلحة بين مقاتلي طالبان والميليشيات والفصائل المنبثقة من هذه الجماعات، خاصة في ظل “أنثنة” (ethnicization) المجتمع الأفغاني المترتبة عن الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين سنتي 1989 و1996، حيث اعتبرت نتيجة أكثر منها سببًا لهذه الحرب، ما أدى إلى تزايد العداء بين مكونات المجتمع الأفغاني، كما الحال بين البشتون والطاجيك (الأقلية الأكبر في البلاد)[7] ، وإلى تصاعد المطالب ذات البعد الاثني مثل أقلية الهزارة الشيعية، الأكثر اضطهادًا في أفغانستان، التي انتقلت تدريجيًا -على مدى سنوات الحرب- من الخطاب الإسلامي الشيعي إلى المطالب ذات الطبيعة العرقية[8]. فهل تغيرت طالبان فعلًا -كما تدعي- إلى الحد الذي يجعلها تفي بوعودها المتمثلة في احترام حقوق الأقليات الاثنية وضمان الحريات الدينية بما يعزز الاستقرار الداخلي؟ أم أن الحركة تناور وتراوغ للحصول على اعتراف المجتمع الدولي، ثم تعود لارتكاب الممارسات السابقة، ومنها عمليات القتل الجماعي والتمييز الممنهج والتضييق الكبير على حرية تنقل أفراد الأقليات، ما يعيد إلى الأذهان شبح الحرب الأهلية.
أولًا: التركيبة الاثنية للمجتمع الأفغاني
يبلغ عدد سكان أفغانستان، استنادًا إلى معطيات البنك الدولي لسنة 2020، حوالي 39 مليون نسمة[9]، موزعة على أكثر من 40 جماعة عرقية ودينية ومذهبية تشكل فسيفساء المجتمع الأفغاني[10]. وبالنظر إلى سنوات الحرب الطويلة وانعدام الاستقرار والأمن في مناطق عديدة من البلاد، لا تتوفر إحصائيات دقيقة وموثوقة عن نسب وحجم التنوع العرقي والديني والمذهبي، خاصة في ظل غياب إحصاء عام للسكان بسبب الظروف الصعبة التي تمر بها أفغانستان منذ عقود طويلة. ويزداد الأمر صعوبة مع التضارب الكبير في الإحصائيات -في حالة وجودها- بسبب سعي كل جماعة اثنية إلى تضخيم عدد أفرادها، لإبراز مكانتها وسط النسيج المجتمعي الأفغاني والحصول على مكاسب سياسية واقتصادية.
1-التمايزات الدينية
باستثناء مجموعات صغيرة متناثرة من اليهود والمسيحيين والهندوس والسيخ والفارسيين (the parsis)، يشكل المسلمون قرابة 99% من الأفغان، معظمهم (حوالي 80%) من السنّة الذين يعتنقون المذهب الحنفي، فيما يشكل الشيعة قرابة 20% من السكان، ويتكونون أساسا من الهزارة، إضافة إلى بعض المجموعات العرقية الصغيرة في الشمال (خاصة من الطاجيك)[11]. وعلى عكس البشتون التي يتبنى عدد من أفرادها أفكارًا إسلامية متشددة، تتبنى الهزارة (المهمشة تاريخيًا واقتصاديًا)[12] إسلامًا معتدلًا، على غرار الطاجيك، وهي تعد أكثر انفتاحًا في مواضيع التعليم والمرأة[13].
2-التنوع العرقي
يتوزع الأفغان إلى أربع مجموعات عرقية رئيسية، وهي: البشتون التي تشكل الأغلبية والتي ينتمي إليها مقاتلو طالبان؛ الطاجيك التي تمثل الأقلية الأكبر في البلاد؛ الهزارة التي تعد أقلية اثنية ودينية في نفس الوقت؛ ثم الأوزبك. وتشكل جميعها 88% من مجموع السكان، فيما تتوزع نسبة 12% المتبقية على عدد قليل من المجموعات العرقية الأقل عددًا مثل التركمان، الأيماك (Aïmaks)؛ البلوش؛ البراهويون؛ الفارسويون (Fariswans) والنوريستانيون، دون تجاهل حقيقة وجود حوالي 30 مجموعة عرقية صغيرة لا يتجاوز عدد أفراد كل واحدة منها 10 آلاف شخص أو أقلّ من ذلك، مثل العرب؛ الأشكون؛ الغوجاري؛ الكاتي؛ الكازاخ؛ القيرغيز؛ المغول؛ الباشاي؛ الشوماشتي؛ الأيغور؛ والإيغالي، تعيش معظمها معزولة وفي فقر مدقع[14].
3-التعدد اللغوي
يفوق عدد اللغات في أفغانستان عدد الاثنيات المكونة لها، فكل جماعة عرقية تستخدم لغة واحدة على الأقل من اللغات التركية أو الهندو-إيرانية أو الدرافيدية أو غيرها[15]. لكن اللغات الرسمية لأفغانستان تنحصر فقط في لغتين، تكتبان معا بواسطة الحروف العربية، هما: “الباشتو”، وهي لغة الأغلبية العرقية التي يستخدمها 50% من الساكنة الأفغانية[16]؛ و”الداري”، وهي لغة الأقلية الأكثر أهمية (الطاجيك)، وتعد بمنزلة اللهجة الأفغانية للغة الفارسية، فهي تشبه إلى حد كبير الداري الإيراني، مع اختلافات طفيفة في النطق. وتعتبر الداري لغة التواصل المشترك في البلاد[17]، حيث يتحدث بها 78% من السكان[18].
أهم الجماعات الاثنية في أفغانستان[19]
التوزيع الجغرافي | الديانة | الفرع اللغوي | اللغة | النسبة المئوية | الجماعة الاثنية |
جنوب وشرق البلاد (أهم المدن: كابول وقندهار) | الإسلام السني | لغة هندو-إيرانية | الباشتو (الأفغانية) | 38% | البشتون |
شمال البلاد (أهم المدن:مدينة مزار شريف) | الإسلام السني مع وجود أقلية شيعية | لغة هندو-إيرانية | الداري (الفارسية) | 25% | الطاجيك[20] |
وسط البلاد (أهم المدن: باميان) | الإسلام الشيعي | لغة هندو-إيرانية | الهزاراجية | 19% | الهزارة[21] |
الشمال الغربي للبلاد (أهم المدن: قندوز) | الإسلام السني | لغة تركية | الأوزبكية | 6% | الأوزبك[22] |
شمال البلاد على الحدود مع تركمنستان وأوزبكستان | الإسلام السني | لغة تركية | التركمانية | 2.14% | التركمان |
وسط غرب البلاد (شبه رحل) | الإسلام السني | لغة هندو-إيرانية | الأيماكية | 2.05% | الأيماك |
جنوب غرب البلاد (ولاية نيمروز) | الإسلام السني مع الاحتفاظ ببعض المعتقدات والطقوس المحلية | لغة هندو-إيرانية | البلوشية | %1.2 | البلوش |
جنوب غرب البلاد (ولاية قندهار) | الإسلام السني (المذهب الحنفي) | لغة درافيدية[23] | البراهوية | 0.8% | البراهويون |
ثانيًا: طالبان.. ربع قرن من اضطهاد الأقليات
بعد وصول طالبان إلى السلطة سنة 1996، تعرضت الأقليات العرقية والدينية لممارسات تمييزية وأشكال متعددة من الاضطهاد الممنهج، شملت عمليات القتل الجماعي والترحيل القسري وطمس الهوية الدينية، فجماعات مثل الهندوس؛ الطاجيك (المعتدلون السنة)؛ الهزارة (الشيعة)؛ والسنة الناطقون باللغات التركية (الأوزبك، والتركمان، والأيغور..) تعرضت على الدوام لمطاردة عناصر طالبان، بسبب معتقداتهم غير المطابقة[24]. لكن النصيب الأكبر من الاعتداءات هو الذي تعرض له أفراد الأقلية الشيعية، وهو الأمر الذي استمر طوال السنوات التي أعقبت سقوط نظام طالبان، خاصة في المناطق التي كانت خارج سيطرة الحكومة الأفغانية.
1-الاضطهاد الممنهج للأقليات في فترة حكم طالبان الأولى (1996-2001)
في ظل حكم طالبان الأول، لم تكن أفغانستان دولة قانون، بل كانت دولة ثيوقراطية تعرضت خلالها الأقليات العرقية والدينية لانتهاكات جسيمة لحقوقها الفردية والجماعية، شملت التمييز وطمس الهوية الدينية والثقافية واللغوية، في خرق صريح لمضامين إعلان الأمم المتحدة الخاص بالأقليات لسنة 1992 [25]، حيث سعت طالبان إلى وضع لغة الباشتو مثلًا في أعلى مراتب الهرم اللغوي، على حساب اللغات الأخرى خاصة الداري التي جرى التضييق عليها، على الرغم من أنها لغة ثقافية رئيسية منذ آلاف السنين، كما أجبرت الأقلية الهندوسية على ارتداء شارات صفراء عند خروجها علنًا، وفرضت على النساء الهندوسيات ارتداء الحجاب على النمط الإسلامي[26]. وفي سنة 1998، اتخذت ممارسات الحركة منعطفًا جديدًا، حيث مُنع عدد كبير من الطاجيك والهزارة والأوزبك -مع استثناء البشتون- من التنقل بحرية في جميع أنحاء البلاد، بينما تم اعتقال العديد على أساس انتمائهم العرقي فقط، وتم الإفراج عن بعضهم بعد دفع فدية[27].
وإذا كان صحيحًا أن الأقليّات الأفغانية تعرضت لأشكال من الاضطهاد طوال فترة حكم طالبان، فإن الأقلية الشيعية نالت النصيب الأكبر منها؛ ليس فقط بسبب مذهبهم الاعتقادي، إنما أيضًا بسبب خصائصهم الجسمية وسماتهم التي تشبه إلى حد كبير سكان شرق آسيا، حيث يصنفون مع جحافل المغول الذين قاموا بغزو أفغانستان في القرن الثالث عشر[28]، ما جعلهم عرضة للتمييز، حيث يتم استبعادهم بشكل منهجي من تولي مناصب السلطة منذ أواخر القرن الثامن عشر على الأقل[29]. وقد كانت طالبان تعتبر الشيعة الأفغان زنادقة، وتنظر إليهم بعين العداء، وقد تورط مقاتلوها باعتداءات أودت بحياة الآلاف منهم. هكذا، بمجرد سيطرتها على مدينة مزار شريف سنة 1998، اعتبرت الحركة بشكل رسمي أفراد الهزارة بمنزلة ” كفار”، واقتحمت عناصرها بيوتهم وقتلت المئات منهم، وأُخذ كثير من النساء والفتيات بالقوة “كزوجات” لمقاتلي النظام الجديد[30]. وعلى مدار سنوات حكمها، كانت الحركة تمنع الاحتفالات الشيعية في مختلف المناسبات، لا سيما خلال ذكرى كربلاء والمجالس العاشورائيّة[31].
2-تواصل الاعتداءات على الأقليات بعد سقوط نظام طالبان (2001-2021)
مع سقوط نظام طالبان، أصبح وضع الأقليات أفضل خاصة في العاصمة كابول والمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الأفغانية، وبدأت الجماعات العرقية والدينية تأمل في عهد جديد تسوده الحرية والمساواة، خاصة بعد إقرار الرئيس حامد كرزاي لدستور 26 كانون الثاني/ يناير 2004 الذي اعترف بوجود الجماعات الإثنية وهويتها الثقافية واللغوية، ونص على ضرورة احترام الحريات الدينية وضمان ممارسة الطقوس والشعائر الدينية، كما أقرّ حق الاثنيات الأفغانية في الاستخدام الجماعي للغاتها وحضورها في المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام[32]. لكن غياب الأمن والاستقرار واستمرار تهديدات طالبان والجماعات السنية المتشددة أعاق ترجمة مقتضيات الدستور على أرض الواقع، خاصة في ظل هيمنة المصالح وانعدام التجانس بين الساسة الأفغان، فمثلًا يُعدّ التنافس بين رئيس الجمهورية السابق أشرف غني (المنتمي إلى البشتون) والرئيس السابق للمجلس الأعلى للمصالحة الوطنية عبد الله عبد الله (المنتمي إلى الطاجيك)، تنافسًا عرقيًا في الأصل قبل أن يكون سياسيًا[33].
وقد فشلت الحكومة الأفغانية في حماية الأقليات الإثنية حتى في المناطق التي تخضع لسيطرتها، حيث استمرت اعتداءات طالبان ومعها هجمات فرع تنظيم الدولة الإسلامية (ولاية خراسان) الذي تأسس سنة 2015. وهي اعتداءات استهدفت بالأساس الأقلية الشيعية، حيث أسفر انفجار في مدرسة ثانوية بكابول في أيار/ مايو 2021 عن مقتل 50 شخصًا من الهزارة، معظمهم من الفتيات. وقبل ذلك تعرض الشيعة الأفغان لاعتداءات دموية بين سنتي 2018 و2020 خلفت مئات الضحايا[34]. أمام هذا الوضع، يجد أفراد الهزارة أنفسهم مجبرين على تقييد حريتهم في التنقل، حيث يتجنبون الذهاب إلى بعض المحافظات كي لا يتم اختطافهم أو قتلهم، كما هو الحال في الطريق رقم 2، في وادي الميدان بمحافظة وردك (غالبية سكانها من البشتون) المعروف باسم “وادي الموت”[35].
ثالثًا: مصير الأقليات بعد عودة طالبان للحكم: السيناريوهات المطروحة
أصبحت طالبان أقوى مما كانت عليه إبان فترة حكمها الأول، لكنها تسعى جاهدة لعدم تكرار أخطاء الماضي وتأسيس نظام سياسي يحظى باعتراف المجتمع الدولي وقبل ذلك بثقة مكونات المجتمع الأفغاني، لأجل ذلك تقدم طالبان خطابًا مختلفًا مع انسحاب القوات الأميركية واستلام السلطة، يحمل تصورًا جديدًا في التعاطي مع قضايا جوهرية من بينها الأقليات العرقية والدينية، لكن العديد من الباحثين يأخذون تصريحات زعماء طالبان بحذر شديد، بالنظر للخلفية الدينية للحركة وتجارب السنوات الماضية. فكيف سيكون إذن مصير الأقليات الأفغانية بعد عودة طالبان للحكم؟
1-السيناريو الأول: نحو نهج جديد اتجاه الأقليات
يتمثل هذا السيناريو بحدوث تغيير جوهري في علاقة الحركة بالأقليات الأفغانية، بعد أن أصبحت الحركة أكثر انفتاحًا، وهو ما سينعكس إيجابًا على احترام وتعزيز حقوقهم الفردية والجماعية. وقد حرص قادة الحركة في مناسبات عديدة على طمأنة جميع القوميات، من خلال تقديم خطاب ديني معتدل يعترف بالآخر “الطاجيك والبلوش والهزارة والبشتون جميعهم إخواننا”[36]، كما أكدوا التزام الحركة بحماية الأقليات الاثنية وتمكينهم من ممارسة أنشطتهم الحياتية ومنها إقامة الشعائر الدينية: “نحن لا نؤذي الأقليات. هناك أناس من السيخ والهندوس في البلاد، ويمكنهم ممارسة شعائرهم الدينية”[37]. وقد بدأت طالبان بالفعل في ترجمة تعهداتها على أرض الواقع، من خلال تكريس الحق في ممارسة الشعائر الدينية بشكل جماعي المنصوص عليه في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية[38]، حيث سمحت الحركة للشيعة الأفغان بإحياء فعاليات عاشوراء، بل أمرت مقاتليها بحماية المجالس الحسينية والمواكب العاشورائية في كل من قندهار، مزار شريف، كابول، وباميان، حيث تتركز أقلية الهزارة الشيعية[39].
لكن هذا الخيار يبقى غير مرجح، فبالرغم من الإشارات الإيجابية التي بعثتها طالبان، وحاجتها إلى ضمان الاستقرار الداخلي وتجنب اندلاع حرب أهلية، خاصة في ظل وجود أقليات اثنية مهمة (الطاجيك والهزارة والأوزبك وغيرها) قادرة على تشكيل ميليشيات مسلحة قوية، فإن احتمالية تبني الحركة لنهج مغاير تمامًا اتجاه الأقليات تبدو ضعيفة، فطالبان تؤكد هوية الدولة الدينية التي تعتزم إنشاءها (إمارة أفغانستان الإسلامية) استنادًا إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية[40]، مع التأكيد أن نظام الدولة لن يكون ديمقراطيًا لعدم وجود شروط ذلك، ما يجعل تمكين الأقليات العرقية والدينية -على وجه الخصوص- من حقوقها الأساسية أمرًا مستبعدًا؛ فالدولة الدينية، التي تعزز -بطبيعتها- من مكانة دين على حساب آخر أو مذهب على حساب آخر، لا يمكن أن توفر حماية حقيقية للأقليات، ولا أن تضمن المساواة بين الجماعات الدينية المكونة للدولة.
2-السيناريو الثاني: عودة الوضع السابق واستمرار الانتهاكات
يتمثل السيناريو الثاني باستمرار طالبان في اضطهاد الأقليات، وانتهاك حقوقها الأساسية، كما كان الأمر خلال فترة حكمها الأولى، ويعتقد عدد من الأفغان -خاصة من الأقلية الشيعية- أن الحركة لم تتغير، وأن المخاوف من ارتكابها مجددًا لعمليات القتل الجماعي لا تزال قائمة[41]، ما يظهر جليًا في عدم استجابة كثيرين منهم لدعوات الحركة بعدم مغادرة البلاد، بالرغم من الوعود التي قدمتها. ويعتقد مؤيدو هذا الطرح أن طالبان تراوغ للحصول على ثقة المجتمع الدولي واعترافه وضمان تأييد الدول المجاورة، وأن القناعات الدينية للحركة أقوى بكثير من الوعود التي تقدّمها، فبالرغم من كونها تنتمي إلى العقيدة الماتريدية، على عكس الحركات السلفية الجهادية[42] التي تفرعت منها تنظيمات القاعدة و”الدولة الإسلامية”[43]، فإنها تتقاسم معهم تأويلات خاطئة لمفاهيم إسلامية، أهمها “الولاء والبراء”، ما يضر بمفهوم التعايش، ويؤدي إلى الرفض القاطع لغير المسلمين[44].
لكن احتمالية هذا السيناريو تبدو ضئيلة، في ظل حاجة طالبان إلى تثبيت نظامها وضمان الاستقرار في مناطق البلاد، ورغبة الحركة في كسب الدعم الدولي لرفع اسمها من قائمة عقوبات مجلس الأمن، فضلًا عن كون مواصلة الاعتداءات على الشيعة وباقي الأقليات سيدفع الدول المجاورة، إيران بالخصوص، إلى مساعدة القوميات الأفغانية وتسليحها، خاصة الطاجيك والهزارة، ما ينذر باندلاع حرب أهلية قد تعصف بنظام طالبان. ومع ذلك، فإن خيار عودة الحركة لممارساتها السابقة لا يمكن استبعاده كليًا، خاصة أن العديد من مقاتلي طالبان الذين تورطوا في ارتكاب انتهاكات خطيرة في حق أفراد الأقليات في نهاية التسعينيات لا يزالون نشيطين في الحركة لغاية اليوم، وهذا يطرح تحديًا حقيقيًا أمام طالبان يتعلق بقدرتها على التحكم في مقاتليها، خاصة بعد الممارسات الصادمة التي قامت بها مجموعات منهم دون إذن من قيادات الحركة، ومنها تدمير تمثال زعيم سياسي معروف (عبد العلي مزاري) من أقلية الهزارة الشيعية في باميان[45]. وقد تجد طالبان نفسها مضطرة إلى التراجع عن وعودها وتعديل خطابها المنفتح، إرضاء للمتطرفين من مقاتليها وتلافيًا لوقوع انشقاقات داخلية تهدد نظامها.
3-السيناريو الثالث: الحماية في درجاتها الدنيا
يتمثل السيناريو الثالث بضمان طالبان للحد الأدنى فقط من الحقوق الأساسية للأقليات الدينية والعرقية، والالتزام بوقف الاعتداءات الجسدية وعمليات القتل الممنهجة وضمان حرية التنقل ووقف الاعتقالات التعسفية بسبب الانتماءات الإثنية، دون أن يرقى ذلك إلى الاعتراف الصريح بهوية الأقليات واحترام وتعزيز حقوقها اللغوية والثقافية، والضمان الفعلي لحرياتها الدينية وحقها الجماعي في ممارسة الشعائر الدينية، فضلًا عن وقف التمييز الممارس ضد أفرادها، وضمان حقهم في تقلد المناصب العامة والمشاركة في الحياة السياسية.
ويبدو هذا السيناريو منطقيًا وواقعيًا؛ فبالرغم من وجود تطور إيجابي في خطاب طالبان الحالي مقارنة عما كان عليه قبل 20 سنة، فإن الحركة لن تقدم تنازلات كثيرة في قضايا المرأة والأقليات، فطالبان هي طالبان، صحيح أنها أصبحت أقلّ تشددًا لكن دون أن يطرأ تغيير على خلفيتها القومية والدينية. ويبقى دفع الحركة لتقديم مزيد من التنازلات رهينًا بمدى قدرة المنتظم الدولي على ممارسة الضغط وتوظيف الأدوات السياسية والاقتصادية الكفيلة بإجبار النظام الجديد على احترام أكبر قدر من حقوق الأقليات الدينية والعرقية. في هذا الإطار، يندرج تأكيد جوزيب بوريل (Josep Borell)، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بأن التعاون مع نظام طالبان يظل مشروطًا باحترامه للحقوق الأساسية لجميع الأفغان، بما في ذلك تلك المتعلقة بأفراد الأقليات، وقدرته على التوصل إلى تسوية سلمية تتم بمشاركة الجميع[46].
خاتمة
ستلعب الأقليّات -لا محالة- دورًا محوريًا في استقرار أفغانستان ورسم معالم مستقبلها، وهو ما يجب أن تستوعبه طالبان، وإن كانت غير قادرة ولا مؤهلة لإدارة التنوع الاثني، بما يضمن ظهور وعي وطني يمهد الطريق نحو بناء الهوية “الأفغانية” ذات البعد فوق الديني والعرقي، فإنّها مطالبة بضمان المزيد من الحقوق الفردية والجماعية للأقليات الأفغانية، وتفعيل خطابها السياسي وترجمة تعهداتها على أرض الواقع، من خلال محاسبة ومحاكمة مقاتلي الحركة الذين يثبت في حقهم التورط في ارتكاب أعمال قمع في حق أفراد الأقليات، ووضع آليات مستقلة تمكن الضحايا من التبليغ عن الانتهاكات التي يتعرضون لها.
قبل ذلك، سيجد نظام طالبان نفسه أمام تحد حقيقي، يرتبط بقدرته على حماية الأقليات الأفغانية -وخصوصًا جماعة الهزارة الشيعية- من اعتداءات تنظيم ولاية خراسان (داعش)، حيث ستشكل الأقليات نقطة مفصلية في علاقة طالبان بتنظيم “الدولة الإسلامية”، ما قد يعصف بنظام طالبان، ويؤدي إلى اندلاع نزاعات مسلحة داخلية، وبخاصة في ظل تزايد الانقسامات داخل الحركة وبروز بوادر انشقاقات عناصرها الرافضين لخطابها المنفتح والمتعاون وتوجهاتها الجديدة “البراغماتية”. وأخذًا بعين الاعتبار للبنية القبلية الانقسامية للمجتمع الأفغاني، وسعي بعض الدول المجاورة -خاصة باكستان وإيران-لتوظيف التنوع العرقي والديني في أفغانستان واستغلال ورقة الأقليات، التي لها امتدادات داخل هذه البلدان، خدمة لأجنداتها الإقليمية، يبدو أن أفغانستان ستتجه حتمًا نحو حرب أهلية، ستكون الأقليات الخاسر الأكبر فيها.
[1] تعني طالبان بلغة البشتون جمع طلّاب، وقد تأسست من مجموعة من طلّاب العلوم الشرعية الذين تلقوا تعليمًا إسلاميًا في مدارس دينية متطرفة، ثم تلقوا لاحقًا تدريبًا من قبل الجيش الباكستاني. وقد ضمنت طالبان انتصارها في الحرب الأهلية سنة 1996 بفضل الدعم الحاسم لباكستان وأجهزة استخباراتها. يعتنق أفراد الحركة المذهب الحنفي، وهو الأكثر انتشارًا في أفغانستان، باكستان، إيران والجمهوريّات الرّوسيّة المسلمة. في: محمد خير موسى، “طالبان.. الخلفيّة الشرعيّة، والفرق مع القاعدة وداعش، وإمكان التطور”، شبكة الجزيرة، 17 أغسطس/ آب 2021 (تاريخ الدخول: 24 فبراير/شباط 2022)، https://bit.ly/3y9eq55؛
Asiem El Difraoui, Le djihadisme, Que sais-je ? 4064 (Paris : Presses Universitaires de France, 2016), 38-39.
[2] Ibid., 5.
[3] فؤاد أعلوان، “العلمانية كحل لمشاكل الأقليات الدينية”، مجلة الدراسات الحقوقية (كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة سعيدة، الجزائر، المجلد 6، العدد 2، كانون الأول/ ديسمبر 2019)، ص 17.
[4] “أفغانستان بعد حكم طالبان.. مخاوف الأقليات القومية والدينية”، Sky News، 16 آب/ أغسطس 2021 (تاريخ الدخول: 25 شباط/ فبراير 2022)، https://bit.ly/3kzUaVr
[5] “أفغانستان: ما الذي نعرفه عن الاتفاقية “المذهلة” بين الولايات المتحدة وطالبان؟”، Bbc News، 19 أغسطس/آب 2021 (تاريخ الدخول: 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021)، https://bbc.in/38q8fix
[6] Jacques Leclerc, « Afghanistan dans L’aménagement linguistique dans le monde », CEFAN, Université Laval, 16 Août, 2021, « consulté le 25 Février, 2022 ». https://bit.ly/3gGJ9k3
[7] Ibid.
[8] Tina Gehrig et Alessandro Monsutti, « Territoires, flux et représentations de l’exil afghan : le cas des Hazaras et des Kaboulis », A contrario 1, n°. 1 (2003) : 75-76.
[9] « Population, total-Afghanistan », La Banque Mondiale, 2020, « consulté le 19 Août, 2021 ». https://bit.ly/3gLfBSk
[10] Leclerc, « Afghanistan dans L’aménagement linguistique dans le monde », op.cit.
[11] Ibid.
[12] Gehrig et Monsutti, « Territoires, flux et représentations de l’exil afghan », op.cit., 64.
[13] Diane Villemin et Orient XXI, « Afghanistan. Exacerbation des tensions ethniques sur fond de retrait américain », Ritimo (Réseau d’information et de documentation pour la solidarité et le développement durable), 1er juin, 2021, « consulté le 26 Février, 2022 ». https://bit.ly/2UDx9b7
[14] Leclerc, « Afghanistan dans L’aménagement linguistique dans le monde », op.cit.
[15] Ibid.
[16] « Explore all Countries-Afghanistan», The World Factbook, October 18, 2021, August 20, 2021. https://bit.ly/2WFL69B
[17] كالي شززيبانسكي، “أفغانستان: حقائق وتاريخ”، Efferit، د.ت (تاريخ الدخول: 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2021)،
https://bit.ly/2Wd0YQq
[18] « Explore all Countries-Afghanistan», op.cit.
[19] تم إنجاز الجدول من قبل الباحث اعتمادًا على عدة مراجع من بينها:
Leclerc, « Afghanistan dans L’aménagement linguistique dans le monde », op.cit. ;
Gehrig et Monsutti, « Territoires, flux et représentations de l’exil afghan », op.cit., 61-62. ; Amnesty international, « Les minorités en Afghanistan », Document public, (Londres : Novembre 1999), 6.
[20] من المثير للانتباه أن عدد الطاجيك في أفغانستان يفوق نظيره في دولة طاجيكستان، وهم بذلك يمثلون الشعب الوحيد بين شعوب آسيا الوسطى الإسلامية التي تعيش أغلبيته خارج حدوده الدولية المعاصرة.
[21] يطرح عدد أفراد الهزارة مشكلًا حقيقيًا حيث تتضارب الإحصائيات الواردة بشأنه، حتى إن بعض المراجع تجعله مقاربًا لحد كبير مع عدد أفراد الأوزبك. نذكر على سبيل المثال:
Anthony Hyman. Afghanistan under Soviet Domination : 1964-1983, Second edition (Londres et Basingstoke : Macmillan Press, 1984), 11.
لكن مراجع كثيرة تعتبر أن الشيعة في أفغانستان يمثلون خمس الساكنة، وهو ما نتفق معه.
[22] على الرغم من اعتناقهم للإسلام السني، لا يمارس العديد من الأوزبك الشعائر الدينية (Non-practicing).
[23] تعد العائلة اللغوية الدرافيدية (Dravidian) الخامسة من حيث عدد المتحدثين بها (ما يقرب من 200 مليون)، وهي تضم حوالي ثلاثين لغة تستخدم بشكل رئيسي في جنوب الهند وسريلانكا. في:
Jacques Leclerc, « La famille dravidienne dans l’aménagement linguistique dans le monde », CEFAN, Université Laval, 01 Janvier, 2016, « consulté le 26 Février, 2022 ». https://bit.ly/3ywrTDY
[24] Leclerc, « Afghanistan dans L’aménagement linguistique dans le monde », op.cit.
[25] المادتان الأولى والثانية من إعلان الأمم المتحدة الخاص بالأقليات لسنة 1992.
[26] شززيبانسكي، “أفغانستان: حقائق وتاريخ”، مرجع سابق.
[27] Amnesty international, « Les minorités en Afghanistan », op.cit., 11.
[28] Caroline Vinet, « En Afghanistan, qui sont les Hazaras, cibles d’attentats ? », La Croix, 11 Mai, 2021, « consulté le 07 Novembre, 2021 ». https://bit.ly/3sEJgl1
[29] Emilie Nicolas, « Être Hazara sous les talibans », Le Devoir, 19 Août, 2021, « consulté le 27 Octobre, 2021 ». https://bit.ly/3kEpJgF
[30] Ibid.
[31] موسى، “طالبان.. الخلفيّة الشرعيّة”، مرجع سابق.
[32] المواد 2، 16 و43 من الدستور الأفغاني لسنة 2004.
[33] Villemin et Orient XXI, « Afghanistan. Exacerbation des tensions ethniques sur fond de retrait américain », op.cit.
[34] Caroline Vinet, « En Afghanistan, qui sont les Hazaras, cibles d’attentats ? », op.cit.
[35] Karla Mary, « Afghanistan. Entre la peste des talibans et le choléra de la guerre civile », Orient XXI, 21 Juillet, 2021, « consulté le 23 Octobre, 2021 ». https://bit.ly/2WGmsW8
[36] “طالبان تعفو عن غني وجميع مسؤولي الحكومة الأفغانية وتسمح لهم بالعودة للبلاد، RT، 23 آب/ أغسطس 2021 (تاريخ الدخول: 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021)، https://bit.ly/3mr5PIQ
[37] داوود عودة، “طالبان” تكشف مصير اليهودي الأخير في أفغانستان”، العين الإخبارية، 18 آب/ أغسطس 2021 (تاريخ الدخول: 01 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021)، 2021، https://bit.ly/2WGmvkM
[38] تنص المادة 27 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 على ما يلي: “لا يجوز، في الدول التي توجد فيها أقليات إثنية أو دينية أو لغوية، أن يحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائره أو استخدام لغتهم..”.
[39] “شيعة أفغانستان يحيون عاشوراء وطالبان تتعهد بحمايتهم”، القدس العربي، 19 آب/ أغسطس 2021 (تاريخ الدخول: 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2021)، https://bit.ly/3D1x9Dj
[40] “تصريحات ذبيح الله ومستقبل أفغانستان.. هل غيرت حركة طالبان استراتيجيتها بعد عقدين من الحرب؟“، RT، 17 آب/ أغسطس 2021 (تاريخ الدخول: 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2021)، https://bit.ly/3871YYZ
[41] Emilie Nicolas, « Être Hazara sous les talibans », op.cit.
[42] ظهر ما نسميه اليوم بـ الجهادية le djihadisme أثناء الغزو السوفياتي لأفغانستان انطلاقًا من سنة 1979 في جبال l’Hindukush، ويتحمل الغرب مسؤولية ثقيلة في ذلك.
[43] موسى، “طالبان.. الخلفيّة الشرعيّة”، مرجع سابق.
[44] Asiem El Difraoui, Le djihadisme, op.cit., 7-8.
[45] “شيعة أفغانستان يحيون عاشوراء وطالبان تتعهد بحمايتهم”، مرجع سابق.
[46] “الاتحاد الأوروبي: لن نتعاون مع طالبان إلا إذا احترمت الحقوق”، Euronews، 17 آب/ أغسطس 2021 (تاريخ الدخول: 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021)، https://bit.ly/2Y1e3wU