هل يمكن لنا أن نتخيّل مصير النظام الأسدي اليوم، لو أنه لم يقم بكلّ الاغتيالات التي قام بها خلال نصف قرن من وجوده في السلطة؟
اليوم، لا يكاد يمرّ يوم واحد من دون أن يغتال هذا النظام أحد السوريين أو عددًا منهم. أحيانًا، يقتلهم لمجرد أنه قادر على قتلهم. قبل الثورة كانت الاغتيالات وسيلته المفضلة لتذكير السوريين بأنه يحكمهم بالقوة والنار، أما باقي الترتيبات فهي مجرد شكليات. بعضهم كان يغتالهم وهم أحياء، ليتركهم عشرات السنوات يموتون ببطء في السجون. ترتفع وتنخفض وتيرة الاغتيالات، بحسب الدرجة التي يشعر فيها النظام بالأمان على نفسه. السياسة تعني القتل لا أكثر ولا أقلّ، هكذا وبكل بساطة. لم ينشب خلاف حقيقي بين حافظ الأسد وآخرين إلا وانتهى بقتلتهم. وكلّما كان السوري غير معروف، أو ليس له مكانة اجتماعية أو سياسية، كان اغتياله أسهل، ويتم بطريقة غير مسؤولة.
أذا أخذنا سجلّ الاغتيالات خلال الأسبوع الماضي فقط، كمثال، نجد أن الشبكة السورية لحقوق الإنسان أعلنت في 30 كانون الثاني/ يناير وفاة العميد خالد شحادة عزيزي في سجون النظام، وهو من قرية الشجرة بريف درعا، علِمَ أهله بوفاته من سجلات السجل المدني. وفي 1 شباط/ فبراير قتل النظام الأسدي تحت التعذيب بلال عبد الرزاق دعاس من حمص، بعد سنوات من الاعتقال، ولم يعرف أهله خبر وفاته إلا عندما راجعوا السجل المدني ووجدوا أن ابنهم مقيد في السجلات على أنه متوفى. وفي 3 شباط/ فبراير، قتل النظام الأسدي، تحت التعذيب أيضًا، مواطنًا سوريًا آخر من حلب اسمه محمد حسن الحلو، وذلك بعد سنوات من اعتقاله. وبذلك يرتفع عدد الذين قضوا تحت التعذيب على يد النظام الأسدي منذ عام 2011 إلى 14269 مواطن.
وفي يوم 4 شباط/ فبراير، اغتالت قوات النظام والميليشيات الإيرانية التابعة لها ثلاثة شبان من مدينة منبج قنصًا. الشبان الثلاثة (محمد الذيبان، عبد الله الذيبان، محمد الدخيل) كانوا يصيدون السمك في البحيرة القريبة من المدينة. عملية الاغتيال تمت مع أن المنطقة هادئة ولا تشهد أعمالًا قتالية في هذه الفترة. قد يكون القناص قتلهم لمجرد أنه يشعر بالضجر، أو قد يكون مزعوجًا من رئيسه، لأنه لم يعطه إجازة منذ مدة طويلة! معاناة السوريين من شعور القناصة بالملل والرتابة، بسبب ساعات العمل الطويلة، يكاد يعرفها الجميع.
ستستمر الاغتيالات في الأسابيع اللاحقة، لأن مسلسل الاغتيالات وجد لكي يستمر. هو ليس مجرد حملات للتخويف وبث الرعب بين الناس، وليس أمرًا اضطراريًا يلجأ إليه النظام. إنه بكل بساطة سياسة هادئة وطويلة الأمد. هو خيار إستراتيجي فعّال يلجأ إليه النظام الأسدي بوصفه مالكًا لقوة فائضة، يعتقد أنه من الغباء ألا يستخدمها.
قبل أيام، اغتيل في لبنان الباحث والناشط لقمان سليم برصاصات عدة في سيارته. علمًا أنه نشر بيانًا، قبل اغتياله، يحمّل فيه حسن نصر الله ونبيه بري مسؤولية سلامته وسلامة عائلته. حلفاء نظام الأسد أيضًا يفضّلون سياسة الاغتيالات على أي نهج سياسي آخر. هم مثل النظام الأسدي لديهم قوة عسكرية فائضة، ولا يؤمنون بالسياسة، كفعل في الحياة الاجتماعية والسياسة.
الوقاحة والعلنية التي تمت فيها عملية الاغتيالات تريد أن تقول للسوريين واللبنانيين إننا قادرون على قتلكم، كيفما نشاء ومتى ما نشاء، فماذا أنتم فاعلون؟
الذي ينتهج الاغتيالات، كسياسة شبه يومية وإستراتيجية عامة، لا يفكر في الخيارات الأخرى، يفكر فقط في من هم الذين عليه أن يغتالهم قبل غيرهم، في هذا الوقت. وهل الرسائل التي ترسل عن طريق الاغتيالات تكفي أم أن الأمر بحاجة إلى المزيد؟ في لبنان، يتخوفون من أن “حزب الله” محرج كثيرًا، ولذلك فإن هذا الإحراج قد يدفعه -كعادته – إلى مزيد من الاغتيالات. ولا سيما أن موجة اغتيالات 2005 ما زالت حاضرة في ذهن الجميع. الإغراء في مثل هذه السياسة أن “حزب الله” يخرج بعد كل موجة اغتيالات أكثر قوة، على الرغم من أنه يقول إن تلك الاغتيالات كانت لتوريطه في خلافات مع الآخرين.
سياسة الاغتيالات تطبق على الجميع حتى الموالين والشركاء. قاعدة تصفية الشركاء، من حين لآخر، هي القاعدة الذهبية التي منحت حافظ الأسد الاستمرارية لمدة 30 عامًا. هي قاعدة يستخدمها -بحسب ابن خلدون- كلّ من يريد الاستمرار في السلطة في العصور الوسطى. بشار الأسد طبّقها أيضًا مرات عدة: عندما تم اغتيال وزير الداخلية السوري السابق غازي كنعان، في 12 تشرين الثاني/ أكتوبر. وعندما قتل كبار مساعديه في تفجير خلية الأزمة في تموز/ يوليو عام 2012. ثم تحوّل التخلص من الشركاء إلى سياسة معتادة نفذها النظام على نطاق واسع، فاغتيل رستم غزالة، عصام زهر الدين، جامع جامع، وغيرهم في ظروف غامضة. بعضهم كان يركل بالأقدام حتى الموت في مكاتب أمراء المخابرات السورية.
يعتقد النظام أن الاغتيالات إحدى الركائز الأساسية لبقائه لمدة تزيد على نصف قرن، ولذلك لن يتخلى عنها. إن فعل الاغتيال لديه هو عمل سياسي بحد ذاته، بل هو يشكل المجال السياسي في البلد، بمعنى أن كل من يفكر في السياسة أو العمل السياسي عليه أن يفكر في أن اغتياله يمكن أن يقع في أي وقت من الأوقات. عبقرية لقمان سليم أنه يعرف كيف يفكر النظام الأسدي و”حزب الله”، ولذلك استشعر اغتياله قبل وقوعه.
في الأوساط العلمية، إذا استطاع قانون جديد أن يتنبأ بحصول حدث طبيعي في المستقبل، فإنه يتحول إلى نظرية علمية رصينة، على جميع العاملين في البحث العلمي أن يأخذوها بعين الاعتبار. بيان لقمان سليم أشبه بقانون علمي ثبتت صحته، لأنه يكشف حقيقة ظاهرة ما. إنه قانون يكشف أننا نعيش منذ 50 عامًا تحت نير نظام يغتال المجال السياسي العام، بسياسة اغتيال لا يمل ولا يكل من ممارستها في النور والظلام، مع الشركاء والمعارضين، مع الكبير والصغير، في الشوارع والسجون، ولن يتخلى عنها في يوم من الأيام، إلا إذا تمت إزاحته عن كاهل السوريين.