مع انتهاء ما كان يُسمّى بـ “عصر الحرب الباردة”، ينتهي في الوقت نفسه دور العامل الأيديولوجي في رسم حدود التحالفات الاستراتيجية بين الدول، حيث أخذت العلاقات الدولية تعود إلى لعبة ميزان القوى التقليدي، ولم تعد هناك ضوابط مبدئية أو ما يسمى بحدود لعبة التحالفات، بحيث بدأت تتسم بدرجة عالية من المرونة، وبرزت مفارقتان أساسيتان عند مقارنة نظام الحرب الباردة، بالنظام الدولي الذي يتشكل حاليًا، فيما يتعلق بالنزاعات.
المفارقة الأولى أن السلاح النووي في نظام الحرب الباردة، والذي تمثل في سياق تسلح مفتوح، كمًّا ونوعًا، بين القوتين العظميين طوال أكثر من أربعين عامًا، وارتكز على مفهوم قدرة التدمير المتبادل، وكان الضامن الأساس لعدم قيام حرب نووية، خاصة بين الدول التي تمتلك تلك الأسلحة ذات التدمير الشامل، ولم يعد الرادع النووي علنيًا في النظام الدولي الجديد، خاصة بين الولايات المتحدة وروسيا.
والمفارقة الثانية أن نظام الحرب الباردة كان له قواعده في إدارة النزاعات الإقليمية والنزاعات بالواسطة، ومن بين هذه القواعد، ما يعرف بضبط النفس، وضبط أو تقييد حركة حليف، أو اعتماد تصعيد مُسيطر عليه، وإرسال إشارات ممنوع المرور، أو إنشاء خطوط حمراء، وكان لتحصين الداخل أهمية أكبر من التمدد الخارجي، وكان هذا كلّه يؤدي إلى استقرار النزاعات. أما الآن، فلم تعد الأنظمة تتّجه إلى العزلة داخل حدودها، ولا تنكفئ على قضاياها الداخلية لتعاظم مصالحها الخارجية، وأخذت تنظر إلى عالم ما بعد الحرب الباردة على أنه ساحة لهيمنتها الخارجية.
وفق هذه الرؤية، خدمت “إسرائيل” هذه الاستراتيجية، بموجب الاتفاق بين الطرف الأميركي والإسرائيلي في آذار/ مارس 1993، فيما يعدّ تجديدًا للتعاون الاستراتيجي بينهما. واستبدلت الولايات المتحدة رادعها النووي بالرادع النووي لـ “إسرائيل” في العام 1994، بعد أن أقرّت الولايات المتحدة بيع عشرة أجهزة كمبيوتر فائقة السرعة، من النوع المتطور جدًا، قادرة على إنجاز عمليات لا تحتاج إليها سوى عمليات تطوير السلاح النووي.
هذه الموافقة الأميركية عنت زيادة قدرة “إسرائيل” على العمل في مجال برامج الصواريخ، أريحا 2 وأريحا 3، وساعدها ذلك في بناء الجيل الثاني من الأسلحة النووية التي تتضمن قنابل هيدروجينية وقنابل نيوترون.
كذلك، حمل إبرام اتفاق التعاون العسكري بين الاتحاد الروسي وإسرائيل عام 1995، خلال زيارة وزير الدفاع الروسي إلى إسرائيل دلالات استراتيجية، فهو ينطوي على فوائد عسكرية وتسليحية مباشرة، ومنها استمرار الاتحاد الروسي في إطلاق الأقمار الصناعية الإسرائيلية، وتحديث الأسلحة والمعدات وصناعة الطائرات.
تلك المتغيرات الأميركية – الروسية، ساعدت “إسرائيل” في تبنّي استراتيجية نووية رادعة، وفي إطار ميزان القوى الراجح لمصلحتها، فقد تحققت موثوقية الردع بواسطة سلاح الطيران الإسرائيلي، الذي احتفظ بتفوق جوي مطلق، على الساحات الجوية، وسلاح البحرية الذي احتفظ بتفوق بحري، والقوات البرية المتحركة التي كانت تنقل الحرب إلى الأراضي العربية، في كل مرة كانت الحرب تنشب فيها، واحتفظت “إسرائيل” بموثوقية هذا الردع الاستراتيجي لصالحها، وهي تعتقد أنها تستطيع تحقيق وضع أمني يضمن عدم استخدام تحرّش الدول العربية وغيرها فيها حتى على مستوى محدود وبحرب تقليدية.
في إطار ميزان القوى الراجح لمصلحة “إسرائيل”، وفي ضوء مفهومها لأمنها “مفهوم توسعي استيطاني”، عالجت “إسرائيل” المطلب العربي الداعي إلى انضمامها إلى معاهدة عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، من خلال إعلاء تفردها بالسلاح النووي على أي مستند قانوني دولي مستمد من نصوص الشرعية الدولية.
وعلى هذا، فإن “إسرائيل” ترى رفض الانضمام إلى المعاهدة حتى في ظل “السلام”، لأن السلام في الشرق الأوسط يجب أن يُبنى على توازن الرعب، عبر انفرادها بامتلاك السلاح النووي، لتردع به أي “عدوان”، وتمنع أي دولة في المنطقة من امتلاكه. وعلى الرغم من ذلك، فقد دأبت حكومات “إسرائيل” على تأكيد موقفها بأنها لن تنضم إلى المعاهدة قبل أن توقع أولًا على اتفاقات سلام مع كل الحكومات الإقليمية، بما فيها إيران، ويستمد موقفها قوته من دعم الحليف الاستراتيجي الولايات المتحدة.
تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن هناك ازديادًا في أعداد دول الشرق الأوسط المالكة للصواريخ متوسطة المدى، ذات القدرة على إصابة أهداف استراتيجية داخل “إسرائيل”، إضافة إلى وجود بعض الدول التي تسعى لامتلاك قدرات نووية.
ومهما تباينت الآراء حول مسيرة التسوية للصراع العربي – الإسرائيلي، فإن “إسرائيل” تبقى تُلوّح باستخدام سلاحها النووي، ويضع خبراؤها سيناريوهات حرب نووية تنشب في الشرق الأوسط، على المدى البعيد، وتفيد إحدى الدراسات الصادرة عن معهد الدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب، أن هناك أكثر من 30 هدفًا في الوطن العربي، قد تحددت لتوجيه ضربة نووية إليها في المشرق والمغرب العربي، وقد يصبح ذلك واقعًا إذا ما وضعنا احتمال تولي عناصر “صهيونية” أكثر تطرفًا السلطة في “إسرائيل” يومًا ما.
في هذه الحالة، من الممكن لـ “إسرائيل” الاعتماد على:
1 – الضربة الوقائية الأولى، وهو مبدأ يشكّل امتدادًا نوويًا منطقيًا للاستراتيجية الإسرائيلية المفضلة في مجال الحرب التقليدية، والتي تدعو إلى عدم انتظار قيام الطرف المعادي بتنفيذ مخططاته الهجومية. وعلى الصعيد النووي، فإن اعتماد القيادة الإسرائيلية لهذا المبدأ يمكن أن يكون ذا شقين، الأول: عند الشعور بأن ميزان القوى التقليدية بين “إسرائيل” والعرب يُعاني خللًا كبيرًا، قد يعني أن المعركة ستكون خاسرة إذا لم يتم اللجوء إلى خيار نووي، وبالتالي فإن الردع الإسرائيلي سيكون نوويًا في مواجهة خطر تقليدي، والثاني: عند التأكد أن العرب باتوا يملكون أسلحة نووية أو يتمتعون بالقدرة على إنتاجها، وهو افتراض لا يتناسب وهذه المرحلة الراهنة، على الأقل.
2 – الضربة المعاكسة الثانية، وهي استراتيجية واردة بقصر الخطر الاستراتيجي العربي على المجال التقليدي، أي أن “إسرائيل” قد تُبقي على أسلحتها النووية كسلاح مضاد استراتيجي للردّ على الهجمات العربية المحتملة، على المدن والأهداف الحيوية في العمق الاستراتيجي للكيان الصهيوني، ويمكن لهذا الرد النووي أن يشتمل على المعطيات التالية:
- – الرد على الهجمات العربية الجوية المركزة على المدن الصهيونية بهدف تدميرها أو إلحاق خسائر فادحة بها.
- – الردّ على استخدام العرب المحتمل للأسلحة البيولوجية والكيمياوية.
- – الرد على احتمال لجوء الجانب العربي النووي، قبل لجوء الكيان الصهيوني إليه.
ويشير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في تقريره السنوي (1990 – 1997) تحت عنوان “ميزان القوى”، إلى أن “إسرائيل” هي الوحيدة في المنطقة التي يسود الاعتقاد على نطاق واسع بأنها تمتلك قدرات نووية تشتمل على نحو مئة رأس حربي، مع توفر وسائل إيصال هذه الرؤوس بواسطة الصواريخ أريحا 1 وأريحا 2، وأخرى أحدث منهما.
لكن “إسرائيل” تتحدث في الوقت نفسه عن استنزاف داخلي، قد يُشكّل عاملًا رادعًا لها للاحتفاظ بقوات متفوقة لفترة مفتوحة زمنيًا، وتحدث “يحزفيل دور”، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية، عن دواعي الارتداع الصهيوني فيجمعها فيما يلي:
- – يدعي بأن الاستمرار بالاعتماد على التفوق التقليدي، يصبح مستحيلًا مع الزمن.
- – إن نسب التدمير التي مكنت “إسرائيل” من الانتصار على العرب بثمن معقول في السابق، لا يمكن تحملها في المستقبل، عندما تقف في مواجهة قوات تتمتع بالكمية والنوعية معًا.
- – إن مبادئ الحرب التقليدية لدى “إسرائيل”، الضربة الاستباقية، والالتفاف، ونقل الحرب إلى أرض العدو، من شأنها أن تكون غير قابلة للتنفيذ في المستقبل، بسبب قيود دولية وداخلية، كما أن تكلفة الاختراق من شأنها أن تكون باهظة للغاية، ومن شأن كثافة القوات أن تحول دون الالتفاف بالمعدات التي يوفرها النموذج الأمني التقليدي.
- – إن هذا النموذج لا يمكنه الصمود أمام سيناريوهات على غرار استنزاف “إسرائيل” اقتصاديًا واجتماعيًا، بواسطة حشد قوات معادية، في ظروف يكون فيها الكيان الصهيوني ممنوعًا من المبادرة لتسديد الضربة الأولى.
وفي هذا المضمار، لا بد من الإشارة إلى عدد من الملاحظات المتحكمة في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي:
1 – إن التيار السائد في “إسرائيل” لا يزال يرى أن اعتبارات الأمن تتقدم على اعتبارات التسوية، وبالتالي لا يوجد استعداد للتنازل عمّا يعتقده العسكريون الإسرائيليون بوضوح أنه أمني لصالح ما هو سياسي، وبالتالي لا توجد تناقضات بين الاستمرار في بناء وتطوير القدرات العسكرية التقليدية، وفوق التقليدية، والاستمرار في التفاوض للوصول إلى تسوية، وهو أساس الاستراتيجية اليمينية.
2 – ضرورة إقرار السلام في المنطقة أولًا، ثم البدء بالتفاوض بجدية حول التسليح، فالسياسة، حسب شيمون بيريز، هي التي تُعرّض السلام للخطر، وليس الأسلحة، وبالتالي، فإن “إسرائيل” ليست مستعدة لخوض مفاوضات موازية تقود إلى التزامات تُقيّد قوتها التسليحية قبل تحقيق السلام، وبمفهومها الأمني، ضمن استراتيجيتها العليا.
3 – لا تثق “إسرائيل” في الضمانات الدولية، وهي ليست على استعداد لرهن أمنها القومي لتلك الضمانات، وبناء على ذلك، تطرح إجراءات أو نظم معقدة للضمانات، على نمط إقامة جهاز إقليمي دائم يستند على أساس معاهدة إقليمية، تستند بدورها على معاهدة ثنائية بين “إسرائيل” ومعظم دول المنطقة، في إطار مشروع “صهيوني” لإخلاء المنطقة من الأسلحة النووية.
ومن الضروري على العرب الانتباه إلى أن تلك الترتيبات، بكل احتمالاتها، لن تتضمن المساس بالسلاح النووي الإسرائيلي، وإنما تتيح حمايته حتى لو تم إخلاء المنطقة منه.