كان عزل أحمد بدر الدين حسون، وإلغاء رئيس النظام بشار الأسد منصب المفتي العام، أحدَ الأحداث المهمة التي سُلّط الضوء عليها أخيرًا على ضفاف مناطق تقاسم السيطرة في سورية، ومنها مناطق سيطرة المعارضة وسيطرة النظام، لما كان لهذا الحدث من تعدٍّ واضح على أحد أهمّ الرموز الدينية والتاريخية لأهل السنّة والجماعة التي ينتمي إليها الغالبية العظمى للشعب السوري.

وتعددت الآراء والتحليلات التي تحدثت عن أسباب وتداعيات قيام رأس النظام بهذا التحرك المفاجئ ضد أحد أشد الشخصيات ولاءً له، في هذا التوقيت، وذهبت بعض التحليلات إلى وصف الخطوة، عن طيب نيّة أو دون أي اطلاع على خليفات هذا الحدث، بأنها تحرك إيراني لزيادة التغلغل الثقافي داخل سورية، من خلال تقديم المجلس العلمي الفقهي التابع لوزارة الأوقاف، والذي تشتمل مكوناته على تشكيلة من مختلف الأطياف الدينية السورية، إلى الواجهة.

ودعم أصحاب هذه النظرية رأيَهم بالإشارة إلى أن قرار سحب الإفتاء من يد شخصية سنّية واحدة، ووضعها في يد مجلس مكوّن من مختلف الطوائف الإسلامية السورية، سيُضعف صوت غالبية السوريين السنيين في إقرار التشريعات الدينية والمسائل الفقهية التي سيُقرّها هذا المجلس بالتشاور أو بنسب معينة للتصويت.

وخلافًا لما يراه البعض، بالرغم من أن التسليط الإعلامي لإلغاء منصب الإفتاء السوري يكاد يكون معدومًا على صفحات وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية، هناك بعض الدلائل القيِّمة التي تقودنا إلى استنتاج مهم، مفاده أن إيران لن تكون سعيدة أو راضية بهذا الإجراء في أفضل الأحوال، أو قد تراه تعديًا على أحد أهم أدوات توسيع هيمنتها الدينية والثقافية، في أحد أهم مناطق عمقها الاستراتيجي، في أسوأ الأحوال.

لماذا كان بدر الدين حسون مهمًّا للمشروع الإيراني في سورية؟

يمكن تلخيص علاقة بدر الدين حسون بإيران بالعلاقة المصلحية والمادية البحتة، التي يبادر فيها حسون بإظهار كمّ هائل من النفاق المدروس والممزوج بصبغة دينية سنّية مؤيدة لمحور المقاومة، وتغدق عليه إيران في المقابل المالَ الجزيل.

وعلى الرغم من أن حسّون كان يدّعي، في كثير من تصريحاته المتلفزة، أنه كان مقرّبًا من قادة “فيلق القدس”، وبخاصة قاسم سليماني الذي قال (في تسجيلات سابقة) إنه التقاه مرات؛ لم يكن حسون سوى متملق يجيد النفاق بهدف التقرّب ونيل الحظوة لدى أسياده في طهران. ويرجع ذلك بطبيعة الحال إلى أنه لا يمكن لأي مقرب من سليماني ألا يعرف من أي مدينة ينحدر منها الأخير، وهذا ما ظهر في تسجيلات سابقة لحسون يمتدح فيها سليماني، واصفًا إياه بابن محافظة الأحواز.

وفي المقابل، لا يهمّ إذا ما أخطأت إحدى أكبر القنوات الرسمية الإيرانية، كوكالة أنباء تسنيم، بذكرها لاسم حسون في أحد أخبارها على أنه (حصون)، إنما المهم هو أن يستمر الطرفان (حسّون وإيران) في إنجاز الدور الموكل إليهم في هذه اللعبة، على هذا النحو وبنفس الوتيرة، حتى لو شابها بعض الأخطاء الجسيمة، لتحقيق مآرب كلا الطرفين.

وفي الحقيقة، إذا ما ألقينا نظرة فاحصة أخرى، يحتاج المشروع الإيراني في بلدٍ كسورية، يغلب عليه الطابع الإسلامي السنّي المعتدل، خاصة على مستويات التغلغل الثقافي والمُجتمعي، إلى مُروِّج سنّي يمجّد انتصاراته الوهمية بشكل عام، ويتماهى بخداع ومكر مع أكبر طوائف سورية، لجذبها نحو صفوف ما يُسمّى بـ “محور المقاومة” ضمن إطار شامل يسمّى “التشيع السياسي”.

وعلى صعيد الاستغلال الإيراني للقضية الفلسطينية، كان حسّون يمجّد بشكل دائم انتصارات “فيلق القدس” وقائده المقتول، ويصوّرهم على أنهم “المخلصون وأبطال تحرير القدس والأقصى”، وهو ما كان يشكل داعمة إعلامية أساسية لترويج المشروع الإيراني على مستوى العالم العربي.

وإضافة إلى ذلك، لم يكن عمل المفتي السابق حسّون منحصرًا على دور المروٍّج السنّي الداعي لانضمام كبرى طوائف سورية إلى حشد التأييد الذي تقوده حركة التشيع السياسي الإيراني، بل سعت إيران لاستخدام حسون واستغلال تعدياته السافرة على أكثر رموز أهل السنّة والجماعة قدسيّة، كالصحابة الكرام، لتمكين الشعور الديني والمذهبي لحوضنها الداخلية.

باختصار، كان حسّون ينافق بإتقان منقطع النظير، ويُعدّ أحد أهم أدوات مدّ الهيمنة الدينية والثقافية الإيرانية في سورية بشكل خاص والمنطقة بشكل عام، والإطاحة به هو إجراء لا يُسعد إيران، بالتأكيد، لكنه في الوقت نفسه لا يُبغضها إلى درجة إبداء وجهة نظر رسمية حوله، بالرغم مما قدمه من خدمات جليلة لمشروعها.

وفي الحقيقة، لا تهتمّ إيران كثيرًا بموقع الإفتاء كمنصب رسمي، بعد أن قزّم حكم آل الأسد -على مدى عقود- صلاحيات هذا المنصب، بقدر ما تهتم بكسب ولاء القائمين عليه لاستغلال رمزيته الدينية والتاريخية خدمة للمشروع الإيراني. حتى إن من يتحدث عن إضعاف صوت الطائفة السنّية، في إقرار التشريعات الدينية القادمة، يعلم أنه لا صلاحيات كبرى معطاة لهذه الأجسام التشريعية الميتة التي اكتفت خلال العقود الماضية بالتركيز على كسب التأييد الديني والشعبي للحاكم، وإقرار مراسيم تشريعية ومسائل فقهية عامة لا يختلف فيها كثيرٌ من الطوائف الإسلامية المختلفة، دون الإغراق في التفاصيل والاختلافات التي تفرق هذه المذاهب.

لذلك، وجود شخصية سنّية عميلة في منصب المفتي العام كان سيخدم المشروع الإيراني في سورية قدمًا، أكثر مما قد يقدمه المجلس العلمي الفقهي التابع لوزارة الأوقاف، برئاسة محمد عبد الستار المعروف بقربه من روسيا، ونظرته الدينية التي لا تتماشى بشكل كبير مع الأجندة الإيرانية في سورية. ولو أننا فرضنا جدلًا أن وجهة النظر السابقة صحيحة، فإن الدلائل والمؤشرات التي نراها في سمات التدخل الإيراني في العراق لا تدعمها، وتنقضها أيضًا لتؤكد صحة تأويلاتنا.

وتقدّم لنا الحالة العراقية -عمومًا- حالة متقدمة لما يمكن أن تؤول إليه الحالة السورية، في ما يتعلق بمسيرة المشروع الإيراني وأدواته وتحركاته المستقبلية؛ إذ تخبرنا الحالة العراقية الغارقة في التأثير والنفوذ الإيراني الواسع والعميق بأن إيران لم تُقدِم على إزالة المنصب، بل على العكس من ذلك تمامًا، هي من عمدت لاستحداثه بأمرٍ من رئيس الوزراء العراقي الأسبق الموالي لها، نوري المالكي، الذي قدّم الكثير من الدعم لمفتي الجمهورية العراقي، مهدي الصميدعي، بهدف مزاحمة واستهداف عددٍ من رجال الدين السنّة، وكسب التأييد في محافظة الأنبار، أكبر حواضن السنّة في العراق. ولم يكتف الصميدعي، مفتي الجمهورية العراقي، بلعب دور المروِّج السنّي وأحد الأدوات الناعمة للمشروع الإيراني في العراق، بل ترأس في وقت سابق ميليشيا مسلحّة باسم “حركة المقاومة الإسلامية / أحرار العراق”، تأخذ دعمها من ميليشيات “الحشد الشعبي” بحجة محاربة (داعش).

لماذا أطاح بشار أسد بمنصب المفتي العام؟

تُرجع أغلب التحليلات المنبثقة من صلب هذا الموضوع الإطاحةَ بمنصب المفتي العام إلى انتصار أعداء حسون داخل البيروقراطية الدينية السورية، الذين استغلوا موقعه الضعيف نسبيًا، خاصة بعدما أصبح حسون محطّ كره عددٍ كبير من زملائه، وموضع سخرية العامة، بسبب تأويلاته الغريبة للنصوص الدينية، وبات مصدر إحراج كبير للنظام.

وعلى الرغم من ذلك، لا يبدو أن السبب الوحيد لإقدام نظام الأسد على حلّ منصب المفتي العام في سورية ينبع من اقتناعه بالنظريات الشخصية لوزير الأوقاف السوري، الذي أصبح يشكل قاعدة سنّية محافظة أكثر مصداقية للنظام من المفتي السابق، فحسب، بل يأتي هذا التحرك متوافقًا مع استراتيجية كبرى عنوانها العودة للسلوكيات السابقة في التعامل مع الحلفاء الإيرانيين، خاصة بعد التدخل الروسي في سورية عام 2015.

وفي الحقيقة، تختلف النظرة الإيرانية ونظرة نظام الأسد إلى “سورية المنتصرة على مؤامرات الأعداء”، بعد أكثر من عشرات سنوات من الحرب، فإيران ترى أن انتصارها يجب أن يمهد الأرضية لتمددها الأوسع داخل سورية، من خلال الإبقاء على حربتي الميليشيات الطائفية والمؤسسات الدينية التي تعمل خارج نطاق مؤسسات النظام، والاستمرار في دعمها؛ وهو ما لا يتوافق مع النظرة الدكتاتورية لنظام الأسد.

باختصار: يعلم نظام الأسد جيدًا أن التطرف السني لا يختلف كثيرًا عن التطرف الشيعي الذي يمكن أن تشكل أدواته الناعمة، كبدر الدين حسون وغيرها، خطرًا وتهديدًا حقيقيًا لاستقرار النظام الحاكم.

هذا الأمر لا يعني أن النظام سيخرج من تحت العباءة الإيرانية بشكل كامل، بل أن يسعى للعودة لسلوكاته السابقة في التعامل مع الإيرانيين، كندّ وحليف موثوق، قبل أن تتحول هذه العلاقة إلى هيمنة كاملة وتبعية مفرطة.

هذه التوجهات بدأت من حلّ نظام الأسد لبعض الميليشيات الإيرانية، وضمّ بعضها الآخر ضمن صفوف جيشه في السنوات السابقة، ولن تنتهي اليوم بحلّ منصب المفتي العام وطرد حسون، قبل أن يتحول إلى ظاهرة مماثلة للحالة العراقية المتقدمة لا تكتفي برفع شعارات التأييد الأعمى للأجندات الإيرانية، بل تحمل السلاح وتجند الميليشيات لتحقيق ذلك. في خضم ذلك، من غير الواضح إلى أي مدى يمكن أن ينجح النظام في مسعاه في ظلّ افتقاده لأغلب أدوات القوة الصلبة الحاسمة لوقف طموحات إيران وتقييد هياكلها العميقة داخل مؤسساته وخارجه، وحاجته الملحة إلى المساعدة الإيرانية في الوقت الراهن.

صحيح أن الفضل الأكبر يعود إلى روسيا في حماية النظام من السقوط الحتمي، لكن الجهود الإيرانية إلى الآن هي من تبقي على نبض النظام مستقرًا في غرف الإنعاش، خاصة الاقتصادية منها. ولذلك، قد تكون إطاحة النظام بمنصب المفتي العام محاولةَ المشلول العاجز الذي سئم من الهيمنة الإيرانية، ويحاول جاهدًا العودة للمسير مرة أخرى، ويتوق لسلوكاته السابقة.