لن أعود للحديث عن بشاعة ما سُمي بـ “التربية الوطنية/ القومية”، تلك المادة التعليمية التي أزعجت أجيالًا كثيرة من المتعلّمين السوريين، وأرهقتهم -على مدى نصف قرن- من خلال تبنّيها أيديولوجيا قومية شوفينية إقصائية، قلّصت حجم الوطن ليكون على مقاس “قائده”[1].
اليوم، أودّ الكتابة عن تربيةٍ مختلفةٍ، وقد حفّزني على ذلك توفّر مادة فكرية – ثقافية، تراكمت عبر كتابات عددٍ من المثقفين السوريين عن الوطنية السورية، ومن خلال تسجيلات أنتجتها ورشات وندوات حوارية عُقدت لمناقشة ما كُتب عنها. وهذا يُبشّر بأن فكرة الوطنية باتت في بؤرة اهتمام عددٍ من المثقفين السوريين.
صحيح أن النموذج الوطني السوري ما زال في بداياته، على مستوى العمل الفكري، وأنه سوف يحتاج إلى معالجات وإسهامات فكرية نقدية مستمرة كي ينضج، لكن ما تم إنجازه -إلى اليوم- يسمح باستخلاص كثير من الأفكار والمفاهيم والمصطلحات والمبادئ، التي يمكن صوغها في مصفوفة من مضامين التربية الوطنية الأولية، يمكن عدّها مادة توعوية – تربويةتُدرج، منذ اليوم، مبدئيًا، في برامج التعليم اللانظامي ومنصّاته.
ينبثق دور التربية في غرس مبادئ الوطنية الديمقراطية السورية وقِيمها من طبيعة الوطنية ذاتها؛ فهي قابلة للتعليم والتعلّم، باعتبارها عاطفة مكتسبة، تتضمن عناصر الوعي والاعتقاد والممارسة، هذا من جهة، وتنبثق أيضًا من قدرة التربية بمجالاتها المختلفة، وخصوصًا التربية العقلية والعاطفية والاجتماعية على إكساب المتعلّمين كلّ ما يتصل بتعليم الحقائق والمعارف والمبادئ عن الوطنية الديمقراطية، وعلى غرس قيمها، وتمكينهم من ممارستها في الحياة اليومية عبر ما توفره لهم من خبرات تعليمية.
فالتربية -في النهاية- هي عملية اجتماعية إنسانية، تهدف إلى غرس المعارف والاتجاهات والقيم لدى المتعلّمين، وتدريبهم على ممارستها وفق منظورها الحديث: تعلّم لتعرف، تعلّم لتعمل، تعلّم لتعيش وتشارك.
إن أبرز ما يميّز هذا النوع من التربية هو تخلّيها -لأول مرة- عن أي أيديولوجية، قومية كانت أم دينية، يسارية أم يمينية.. إنها تربية مكتفية بمحتواها الوطني السوري الديمقراطي، التعددي، والمُحمّل بمبادئ العدالة الاجتماعية، وحقوق الانسان.. إنها الوطنية المتجهة نحو المستقبل بالدرجة الرئيسة، وتستمد من التاريخ كل ما يُعزز أسسها الوطنية الديمقراطية، ويُثبت جذورها ويُرسّخها بقصد تأصيلها، ويكون الحاضر -بخبراته وتجاربه المعيشة ومعطياته- هو المَعين الذي يمدّها بحاجات الناس وأهدافهم، وبذلك تغتني بخصائص المجتمع السوري، وبخاصة تنوعه الثقافي، وتناصر وحدته في إطار تنوعه عبر الدولة السورية الوطنية.
تنبثق غايات “التربية على الوطنية السورية” المتخيلة، بخصائصها المذكورة، من فلسفة تربوية يتبناها المجتمع الديمقراطي، تمثل رؤيته عن إنسان سورية المستقبل، فلسفة تربوية نجد ترجمتها فيمنظومة القوانين العامة المصوغة في نص الدستور الناظم لعلاقات السوريين في ما بينهم وضابطها من جهة، ومع دولتهم من جهة أخرى.
ومنهجيًا، يُعبّر عن فلسفة المجتمع التربوية، وما ورد عنها في دستور البلاد، من خلال وثيقة “السياسة التعليمية” التي تتضّح فيها “الأهداف العامة للتربية”، بغضّ النظر عن مجالاتها: العقلية، والوجدانية، والاجتماعية، والوطنية، والبدنية… إلخ. ومن تلك الأهداف تُشتقّ “الأهداف التعليمية”،وهيأكثر تحديدًا وتفصيلًا من الأهداف العامة، وهكذا يكون لمادة التربية على الوطنية السورية أهدافها الخاصة بها. وأخيرًا يُختار محتوى المنهاج/ البرنامج التعليمي الذي ينسجم مع الأهداف التعليمية ويحققها.
وعادةً، يتدرّج المحتوى التعليمي للمنهاج/ البرنامج وفق مبادئ علم النفس التربوي من جهة، وفنّيات بناء المناهج الحديثة من جهة أخرى، بحيث تكون ملائمة لجميع فئات المتعلمين العمرية. وبالطبع، يرافق اعتماد محتوى المنهاج/ البرنامج التعليمي اختيارُ طرائق التعليم وأدوات القياس والتقويم، تبعًا لطبيعة المادة التعليمية وفلسفتها.
تستمدّ التربية على الوطنية الديمقراطية موضوعاتها، أي حقائقها ومفاهيمها ومصطلحاتها ومبادئها، أو ما يُعرف بالمنهاج، من ميادين علوم مختلفة، وبخاصة من الميادين الأكثر استجابة لموضوعات الوطنية السورية المنشودة. وعادة يتم تصنيفها في مصفوفة تحتوي على مجالات معرفية رئيسة، تُشتق منها ميادين فرعية، ومن الفرعية تُشتقّ الوحدات المعرفية الأصغر: الحقائق والمفاهيم والمصطلحات والمبادئ. تُرتب في مصفوفة مضامين تكون بمنزلة الدليل الذي يستند إليه مؤلفو نصوص وتمرينات منهاج التربية الوطنية الديمقراطية السورية.
وبالنظر إلى طبيعة مادة “التربية الوطنية الديمقراطية”، وارتباطها بالعدالة الاجتماعية والحقوق، نجد أنّ مجالها متشعب، وميادينها المعرفية متداخلة بين فروع معرفية عدة: اجتماعية وقانونية وجغرافية واقتصادية وسياسية وثقافية… ولذلك يمكن تشريب مفاهيم ومبادئ هذا الميدان (التربية الوطنية) في عدد من المناهج/ الكتب الأخرى، التي تحتمل موضوعاتها إدماجها فيها أكثر من غيرها، كالتربية الاجتماعية، والتربية على المواطنة، والجغرافية والتاريخ والاقتصاد واللغات. ولا يحتاج هذا إلى إعداد منهاج منفصل، وحصص مستقلة، ومعلمين متخصصين للتربية على الوطنية، بل يمكن لكل معلم أن يتولى مهمة تعليم المحتوى والتعامل معه، من خلال المادة التي يقوم بتدريسها عادة. وهكذا لا تتحول موضوعات التربية على الوطنية إلى مادة ثقيلة الظل، كعادتها، فضلًا على امتيازها بنوعية موضوعاتها وبطرائقها المشبعة بالديمقراطية والتعددية والعدالة الاجتماعية والحقوق. وبالطبع، يمكن التخطيط لاستغلال الأحداث الجارية المحلية والعالمية، لدعم التربية على الوطنية، ويمكن كذلك الاستعانة بمصادر المجتمع المحلي: المادية والبشرية، في الأنشطة اللاصفية وعقد حلقات النقاش.
أخيرًا، لا بدّ من التذكير بأن العملية التربوية لا تقتصر على التربية النظامية/ المدرسية، فحسب، فإلى جانبها تقوم التربية غير النظامية، كالدورات التعليمية ونوادي الأنشطة الموجهة، وعقد الندوات واللقاءات، فضلًا عن التربية الانتظامية، وهي تربية غير مقصودة، تتم عبر وسائط الإعلام والاتصال، وأخصّ شبكة الإنترنيت وما ينبثق عنها من منصات تواصل اجتماعي باتت تهدد التربية المدرسية في الوقت الراهن جدّيًا.
[1] انظر: https://bit.ly/3ji9bsW إيديولوجية السلطة: خمسون عاماً على التعليم في سوريا، https://bit.ly/33hIRtI التعليم بين الدين الجهادي والعلمانية المستبدة- أي نوع من التعليم تحتاج سوريا؟