مقدمة[1]
تُعدّ عملية إعمار الجزيرة السورية في عقد واحد من الزمن، من منتصف عشرينيات القرن العشرين حتى منتصف الثلاثينيات، معجزةً فرنسيةً، وكانت هذه أول عملية إعمار منهجية لهذا القسم من الجزيرة في منطقة الخابور، منذ ستة قرون من الخراب والتبدون، بعد الدمار الذي سببه تيمورلنك، إبان غزوه سورية، أواخر القرن الرابع عشر.
أدركت فرنسا أهمية أرض الجزيرة الواسعة لكونها غنية بالمياه وقليلة السكان وغير مستغلة، وأرادت أن تجعلها سلّة غذائية لسورية، ومنطقة لإنتاج القطن، وأدركت أيضًا أهميتها كمنطقة نفطية واعدة. وخلال مدة وجيزة، نشأت في الجزيرة مدن وبلدات مزدهرة، كالحسكة والقامشلي وديريك/ المالكية وغيرها، وتحولت من نويات صغيرة لبلدات، إلى مدن تنمو بسرعة وتتحول إلى حواضر عامرة، خلال ربع قرن، إضافة إلى نشوء مئات، ثم آلاف، القرى الجديدة.
مرّ إعمار الجزيرة بخمس مراحل: 1) مرحلة البدايات في العشرينيات؛ 2) مرحلة الإرهاصات في الثلاثينيات؛ 3) مرحلة الانطلاق خلال النصف الأول من الأربعينيات؛ 4) مرحلة الطفرة منذ منتصف الأربعينيات حتى منتصف الخمسينيات؛ 5) مرحلة الأزمة في منتصف خمسينيات القرن العشرين، وتلت هذه المراحل مرحلة ما بعد الإصلاح الزراعي أثناء الوحدة مع مصر ثم مع مرحلة البعث.
1 – مرحلة البدايات في العشرينيات
بدأت سلطات الانتداب تشجّع عملية إعمار الجزيرة، عبر تشجيع المهاجرين من تركيا -من أكراد وسريان وأرمن- على الإقامة فيها، واستيعاب المهاجرين القسريين الأكراد والسريان من تركيا إلى سورية، وشجّعت العشائر الرحالة على الاستقرار، كما شجعت استصلاح الأراضي وزراعتها، عبر تطبيق سياسة “وضع اليد”. وفي عام 1926 أعفت السلطات الفرنسية كلَّ شخص مهاجر أو ملتجئ أو متوطن في قصبة الحسجة (الحسكة)، يُنشئ دارًا أو دكانًا أو أي بناء آخر في أراضي الدولة، ضمن حدود قصبة الحسجة (الحسكة)، سواء كان ذلك بإذن رسمي من الحكومة أو من دون إذن، أعفته من تأدية بدل المثل والعائدات السنوية المترتبة على أرض البناء، وخوّلته حق التصرف بها مجانًا. وتم توزيع الأرض ضمن بلدية الحسكة مجانًا، وأعطيت الأولوية للمتوطنين، ثم للمهاجرين الملتجئين المقيمين في القصبة، إذا اكتسبوا الجنسية السورية. وكان شعار سلطات الانتداب “افلحْ قدر ما تريد، ازرعْ كيفما تريد، عمّر بيوتًا كما تريد، أثبت عليها خمس سنوات؛ تصبح ملكًا لك في دوائر الحكومة”. ولكن الفرنسيين ركزوا سياستهم على عملية تطوير الاستقرار والتحضّر، وأهملوا البادية، وقد أدى هذا الإجراء -كما ذكرنا آنفًا- إلى نشوء مئات، ثم آلاف القرى الجديدة، واتسعت المساحات المزروعة. ومع نمو المساحات المزروعة؛ ظهرت الحاجة إلى المياه، وازدادت الحاجة إلى “الغراف” الذي ينضح مياه الأنهار لسقاية الأرض، وبسبب فقر السكان، كان مالكو الغرافات تجارًا من دير الزور، وكان مالك الغراف يحصل عادة على سُدس المحصول، مقابل رفع الماء بالغراف. وتولى تجار دير الزور تمويل مدخلات الإنتاج (ممولين)، وعمل يهود القامشلي في مجال الإقراض، إلى جانب بعض المسيحيين، وكانت فوائد القروض تصل حتى 50%، وأحيانًا إلى 100%.
بدأ إدخال الغراف المعدني إلى جانب الغراف الخشبي، كما أدخلت بعض النواعير (بقطر 10 أمتار) إلى جانب الغراف (نواعير آل محشوش ونواعير آل درويش وبراك ومسعودي في الحسكة ونواعير داود موري في المخلط أي التقاء الجغجغ بالخابور). وكذلك بدأت طلائع المكننة في الريّ منذ أوائل العشرينيات، ودخلت المضخات لرفع المياه من الأنهار بدل الغراف، وبدأ إدخال الجرار والحصادة – الدرّاسة ومضخة المياه، بدلًا من المحراث القديم والدواب والعمل اليدوي المرهق، ولكن أعدادها ظلت محدودة (نحو 20 آلة) حتى الثلاثينيات. ثم بدأت المنتجات الزراعية تتزايد، وتطورت زراعات جديدة من المزروعات، وكثُر عدد الأغنام، وزاد إنتاج السمن والصوف، وراجت تجارتها وتصديرها، وتطور النقل بواسطة السيارة وسكك الحديد، أواخر العشرينيات، وأدى ذلك إلى انهيار سعر الجمل، من 30 ليرة سورية ذهبية إلى 5-6 ليرات. كل هذا أدى إلى تغيّرات سريعة اقتصادية واجتماعية في مجتمع الجزيرة.
2 – مرحلة الإرهاصات في الثلاثينيات
في عام 1936، فُصلت منطقة الجزيرة عن لواء الفرات “دير الزور”، إداريًا، وأصبحت الجزيرة “محافظة ” مستقلة. وفي عام 1952 حُوّل الاسم من “محافظة الجزيرة” إلى “محافظة الحسكة”. وبدءًا من الثلاثينيات تزايد إدخال الآليات الزراعية.
في مرحلة الارهاصات، بقي القمح مسيطرًا على الإنتاج الزراعي، وزادت مساحة الأراضي الزراعية المزروعة بالقمح، من 1323 هيكتارًا إلى 11,690 هيكتارًا عام 1934 في الجزيرة. وارتفع الإنتاج عام 1938 إلى 229,550 كنتال متري. وأدى ذلك إلى افتتاح الأرمني كيفورك كبابجيان أول ورشة حديثة لصيانة الآلات الزراعية الحديثة ولحامها على الأوكسجين، وقد تطورت الورشة، في سنوات قليلة، إلى صناعة الديسكات محليًا (المحراث الذي يجره التراكتور). وكان ما يصنعه كبابجيان أعلى جودةً، وأقل تكلفةً، وأقل عيوبًا بصورة مدهشة من الديسكات الأميركية المستوردة.
3 – مرحلة الانطلاق 1940 – 1945
في هذه المرحلة، استمر التوسع في المساحات المزروعة، وبين عامي 1938 و1943، ارتفعت مساحة الأراضي المستثمرة في الجزيرة، من 219 ألف هيكتار إلى 269.9 ألف هيكتار، بزيادة 46.9 ألف هيكتار. وجاءت الحرب العالمية الثانية، لتشكل فرصةً كبيرةً للجزيرة، وللاقتصاد السوري عمومًا. حيث ازداد الطلب على القمح، فارتفعت أسعاره 6- 7 مرات عمّا كانت عليه قبل الحرب، وشجع ذلك على زيادة الإنتاج، بينما انقطعت سُبل استيراد البضائع المصنعة من أوروبا، فنشأت سوقٌ أوسع للصناعة السورية، أوجبت زيادة في الطلب على المنتجات الزراعية. وشجعت بعثة (سبيرز) البريطانية زراعة القمح، للوصول إلى الاكتفاء الذاتي، وتحقيق فائض يسدّ الطلب خلال الحرب، كما شجعت البعثة مكننة الزراعة، وشقّ أقنية الري، وإدخال بذور قمح محسّنة، وساهم ذلك في زيادة إنتاجية وحدة المساحة، وتحسين المردود. وبالنتيجة؛ تحولت سورية من مستورد للقمح، في النصف الأول من الثلاثينيات، إلى مصدّر له في الأربعينيات، وكان فائض موسم 1942 نحو 40 ألف طن، ثم أصبح عام 1946 نحو 125 ألف طن.
بسبب العمل في الزراعة والاستقرار؛ ارتفع عدد القرى في الجزيرة، من 1240 قرية عام 1940، إلى 1800 قرية عام 1945، توزعت على 590 قرية في قضاء الحسكة، و935 قرية في قضاء القامشلي، و275 قرية في قضاء ديريك، وفي منتصف الأربعينيات، وصف وصفي زكريا توسّع القرى بأن كثيرًا من أكراد بلاد الترك صاروا يتهافتون نحو المنطقة العربية في الجزيرة، ويتسابقون إلى إحياء القرى وإنشاء المزارع. غير أن البنية التحتية ومرافق الخدمات الإنتاجية ظلّت متخلفة، ولم ترافق هذه النهضة الزراعية. وإلى عام 1944، كان طول الطرق المستخدمة 5775 كم، ولكن المعبّد منها لم يتجاوز 1400 كم. وقد شكّل تخلف البنية التحتية أحد عوامل الأزمة التي برزت منتصف الخمسينيات.
4 – مرحلة الطفرة: 1945 – 1951
استقدمت الحكومة السورية بعثة زراعية أميركية، لدراسة الوضع الزراعي في الجزيرة. وعكس ذلك وجود اهتمام حكومي بالجزيرة، وإدراك لأهمية تحديث الزراعة عبر الاستعانة بخبرات عالمية.
اندفع رأس المال السوري نحو الجزيرة، بعد الحرب ونيل الاستقلال، وكان رأس المال السوري واللبناني قد جمع ثروات كبيرة خلال الحرب العالمية الثانية، بسبب ارتفاع نفقات جيوش الحلفاء التي قُدرت بنحو 800 مليون ليرة سورية، واعتمادها على تأمين قسم كبير من احتياجاتها على الإنتاج الصناعي والزراعي المحلي. ومنذ أواخر الأربعينيات، بدأ تجار المدن وصناعيوها يستثمرون في أراضي الجزيرة والفرات، إضافة إلى العديد من أبناء الجزيرة، من السريان والأكراد، الذين أصبحوا مزارعين متوسطين أو كبارًا؛ فمن تجار المدن استثمر منير دياب، وأحمد حديد، وجورج أشقر، على ضفة دجلة في ديريك/ المالكية؛ واستثمر حبيب بريمو، وعبد الله سعدي، وعبد المجيد وصديق الزرة، والحاج مصطفى الأختا، وعارف صالح آلاتي، على الخابور الأعلى؛ واستثمر العقيد محمود الهندي وأنور قطب، على الخابور الأسفل قرب الشدادي. ومن أبناء الجزيرة أصبحت عائلة أصفر ونجار ومعمارباشي وآرو وقرة زيوان وأصبهان ومريامو ورزقو ومقسي نعوم وبدليسي وسعدي وترزيباشي وغيرهم، أصبحوا من كبار المزارعين. وغدوا كمجموعة ضغط ترتبط بها مصالح السياسيين والبرلمانيين.
ساهمت الحكومة في نهضة الجزيرة، إذ قضت على الجراد لأول مرة عام 1947، وقامت بشراء الآلات الزراعية وتوزيعها عبر المصرف الزراعي، واستوردت نحو 700 آلية، وشجعت على زراعة القطن، ومنحت القروض، وألغت رسوم التصدير على القطن والقمح، وزادت المصارف نسبة تسليفها خلال ثلاثة أعوام، من 1952 – 1954، ثلاثة أمثال. ودخل أصحاب الخانات في حلب على خط التمويل، مقابل احتكار تسويق المحصول مقابل فائدة بين 10 – 20%.
كان للقطاع الخاص مبادرته، وتشكلت خمس شركات لاستيراد الآلات الزراعية، وكان أشهرها معمارباشي وآل البستاني وشدوني وجلاد ونجيب باقي. ووصل عدد الجرارات في الجزيرة عام 1946 إلى 116 جرارًا، و114 حصادة – درّاسة، وعام 1950 أصبح العدد 450 جرارًا، وسمحت مضخات الري بري مساحات أوسع بكثير من الأراضي المزروعة قطنًا، وأدّى دخول المككنة الزراعية إلى رفع الإنتاجية، وسمح بقيام اقتصاد زراعي رأسمالي. وفي عام 1953، أصبح عدد الجرارات 1300، والحصادات -الدراسة 500، إضافة إلى نحو 6000 مضخة ماء، أنهت عصر الغرّافات في ريّ الأراضي. وفي عام 1953 وصلت المساحة التي تروى بالمضخات إلى ذروتها.
وفي الأربعينيات، تحولت الجزيرة إلى ثاني محافظة في إنتاج الحبوب في سورية، بعد حلب. أما في الخمسينيات فقد احتلت المرتبة الأولى قبل حلب، وأنتجت عام 1954 نحو مليون طن من القمح، بينما كان إنتاجها من القمح في الثلاثينيات لا يتعدى 5000 طن، وكان عائد الهيكتار يعادل عائده في الولايات المتحدة الأميركية.
إضافة إلى زيادة المساحات المزروعة بالقمح، وإدخال أنواع بذور جديدة، بإنتاجية أعلى، فقد حوّل التوسع في زراعة القطن الجزيرةَ، من اقتصاد الاكتفاء الذاتي، إلى اقتصاد التصدير. وشجّعت زيادة الطلب على القطن وارتفاع أسعاره، بسبب الحرب الكورية عام 1950، على التوسع في زراعته، إضافة إلى التوسع في صناعة النسيج القائمة على القطن. وبدءًا من 1950 بدأت ثورة القطن، وأصبح القطن هو المحصول الأول، وازدادت المساحة المزروعة بالقطن عام 1952 – 1953، إلى نحو 200 ألف هيكتار، بعد أن كانت 54 ألف هيكتار عام 1946، واستعمل فيها نحو ستة آلاف محرّك.
ترافق النمو الزراعي للجزيرة السورية، مع تنمية اجتماعية تعتمد على المبادرة الخاصة، وانعكست بخاصة في التوسع في التعليم. وفي نيسان/ أبريل 1944، كان في الجزيرة 71 مدرسة مختلفة تضم 6570 طالبًا. وقد بلغ التوسع أوجه في الخمسينيات، ففي عام 1952 ارتفع عدد المدارس الابتدائية إلى 270 مدرسة، ضمت 18296 تلميذًا، بينهم 4735 فتاة. وكان عدد المدارس الأهلية المسيحية، في الجزيرة ودير الزور، أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المدارس الأهلية الإسلامية، وعلى الرغم من أن أعداد المسيحيين تقل عن أعداد المسلمين بعدة مرات، فقد كان عدد المدارس الأهلية الإسلامية 56 مدرسة، بينما بلغ عدد المدارس المسيحية الكاثوليكية 100 مدرسة، والأرثوذكسية 107 مدارس، والبروتستانتية 22، واليهودية 4. وأدى ذلك إلى أكبر عملية دمج للجيل الجديد من أبناء الجزيرة في تيارات العمل الوطني.
نتيجة الثورة الزراعية؛ ارتفع سعر الأرض الزراعية مئات المرات في الخمسينيات، ودخلت الجزيرة في المشاريع الزراعية الكبرى التي تحتاج إلى يد عاملة بأعداد كبيرة، لا إلى فلاحين. وكان أبرز هذه المشروعات: 1) مشروع مدينة مبروكة للزراعة البعلية في بادية رأس العين، وكان يشغل نحو 2000 عائلة؛ 2) “مشروع زراعة القطن المروي بالمضخات”، لما يقارب عشرة آلاف دونم على الخابور. وهذان المشروعان لشركة أصفر ونجار؛ 3) مشروع المناجير لبطرس معمارباشي في الرقة وحلب؛ 4) مشروع أبو راسين في أراضي عشيرة علي بينار الكردية غرب القامشلي، ويعود لعائلة نظام الدين.
5 – مرحلة الأزمة: 1954- 1958
في عام 1955، وصلت الثورة الزراعية إلى ذروتها، وبدأت مرحلة الأزمة، وبرزت ظاهرت تكدس الإنتاج وانخفاض الأسعار وتراكم الديون وحالات الإفلاس. وبرزت الأزمة المالية لأسباب عدة:
أ – التوسع المفرط في الاستثمار الأفقي أدى إلى استغلال كامل الأراضي الجيدة تقريبًا، ولم يبق في الجزيرة كلها سوى 15 ألف هيكتار لم تمتد لها سكة الحراثة، فبدأ “قانون الغلة المتناقصة” يفعل فعله. وللهروب من هذا القانون، كان لا بد من التحول من التوسع الأفقي (أراض جديدة) إلى الاستثمار العمودي الكثيف رأسماليًا.
ب – الأحداث السياسية من حول سورية، مثل العدوان الثلاثي ومشاريع حلف بغداد والنقطة الرابعة، وتوتر العلاقات مع تركيا، جعلت المستثمرين يترددون، بل يهربون برساميلهم نحو بيروت التي كانت تنهض كمركز مالي شرق أوسطي.
ج – ارتفاع تكاليف الإنتاج مثل أسعار الوقود، وارتفاع تكاليف النقل إلى ميناء اللاذقية للتصدير، بسبب غياب الطرق المعبدة. وكانت تكاليف النقل تصل إلى ثلث سعر التصدير.
د – افتقاد المستودعات والصوامع ومستودعات التخزين في الجزيرة، حيث لم يكن هناك سوى مستودع واحد، وأدى ذلك إلى تدهور نوعية الإنتاج وتلف جزء كبير منه. فعلى الرغم من المبادرة الخاصة التي قفزت بإنتاج الجزيرة السورية الزراعي قفزة كبيرة، فقد بقيت البنية التحتية مهملة، وهي مهمة الحكومة المركزية، فلا طرق ولا منشآت نقل وتخزين، ولا كفاية كهرباء وهاتف.
هـ – انخفاض عالمي في أسعار الحبوب والقطن والفواكه، حيث انقطع التصدير وتكدّس إنتاج القمح في المخازن منذ 1956.
و – تراجع نمو الصناعة التحويلية، من 12% بين 1950 – 1956، إلى أقل من 4.8% للفترة 1956 – 1959، وهي سوق للمنتجات الزراعية.
ز – حدوث جفاف وقحط 1955/1956 وندرة في الأمطار والثلوج، وخاصة سنة 1958/1959 التي كانت سنة جدباء قاحلة، لانعدام الأمطار والثلوج، فانخفض الإنتاج إلى النصف، وأدى سوء المواسم الزراعية إلى توجه المستثمرين في الزراعة للاستثمار في الصناعة.
نتيجة تلك الأزمة؛ غرق المزارعون بالديون للمصارف، وبدأت تظهر حالات الإفلاس، وخاصة سنة 1957؛ إذ بلغت ديون شركة أصفر ونجار عام 1958 نحو 6 مليون ليرة سورية للمصارف، إضافة إلى نحو مليون ليرة استحقاقات للعاملين ولآخرين. ولذلك وجد الملاك والمستثمرون الزراعيون في قانون الإصلاح الزراعي، الذي صدر سنة 1958 في إبان الوحدة مع مصر، إنقاذًا لهم، لأنه يحمّل الدولة ديون مشاريعهم، بعد أن يتم توزيعها على الفلاحين، مع حقهم باختيار قطعة الأرض التي يختارونها من أرضهم، ضمن سقف الملكية المسموح به في قانون الإصلاح الزراعي. وبذلك؛ تخلّصوا من ديون تزيد عن قيمة أراضيهم مرات.
6 – مشروعات زراعية رائدة في الخمسينيات
6 – 1 – عائلة معمار باشي:
تعود أصول عائلة معمارباشي إخوان إلى ديار بكر. وكانت من كبار مستحدثي المشاريع في الجزيرة وحلب، لكونهم طوروا زراعة القطن وحلجه، وامتلكوا عام 1953 أهم المحالج الكبرى في حلب، كما امتلكوا مستودعاتٍ ضخمة للقمح، تتسع لنحو 80 ألف طن. وكانوا “كونسورتيوم” عائلي، يستثمر في المصارف وفي الشركات الصناعية واستصلاح الأراضي والتجارة والمحاصيل والآلات الزراعية. وأسس بيير معمار باشي مع أشقائه شركة الشهباء للإسمنت 1954، وساهموا في تأسيس شركة الزيوت الوطنية، وفي الشركة الأهلية للإسمنت 1954، وفي شركة بيرة الشرق بحلب عام 1956، التي نافست البيرة المستوردة، وفتحت سوقًا لها في العراق.
تعرض بيير معمارباشي ومجموعة معمارباشي للإفلاس، حين عجز عن تسديد قروض المصارف، بسبب توسعهم المفرط في الاستثمار، بينما تكدّس الإنتاج الزراعي في المستودعات وانخفضت قيمته في الأسواق الخارجية، مع ارتفاع تكاليف إنتاجه، وعلى إثر ذلك؛ صودرت أملاكه وبيعت لتأمين حقوق المصارف، ومن ضمن أملاكه الفيلا الجميلة في حلب.
6 – 2 – شركة أصفر ونجار إخوان:
تعود أصول عائلة أصفر ونجار إلى ديار بكر. وتبدأ قصة النسبة (أصفر ونجار) عند الأم “مريم رضواتلي” التي تزوجت عام 1884 إيرموش أصفر، ثم قُتل زوجها بعد سنة من الزواج، في حوادث 1885، بعد أن رُزق منها بطفل (مسعود)، وكانت في العشرين من عمرها. ثم تزوجت عام 1901 بسعيد نجار، وأنجبت منه ستة أولاد: (عبد المجيد، لطفي، سميرة، شكري، يعقوب، إلياس). ولهذا أطلق على العائلة “أصفر ونجار“. وكان “مسعود” العقل المدبّر للعائلة، وهو الذي قام بتحويلها إلى عائلة اقتصادية، بعد أن باعت أملاكها في ديار بكر، حيث كانت العائلة تعمل في تربية دودة القز وتصنيع الحرير، وانتقلت واستقرت في القامشلي عام 1930. وأصبح مسعود أصفر أحد أعضاء المجلس الملي السرياني الأرثوذكسي.
عام 1937، اشترت شركة (أصفر ونجار) قرية ملَوك سراي، وأقامت سدًا تخزينيًا صغيرًا على نهر الجغجغ، لنقل المياه إلى قرية تل التين، لزراعة أراضيها بالأرز. واشترت من الشيخ محمد عبد الرحمن (رئيس عشائر طي) قرى أبو خزف وغراسة وكبيه وعري، إضافة إلى شرائها قريتي شلبارات وتل التين، من عشيرة حرب، وتحوّلت إلى أكبر الملاك في الجزيرة.
توسعت الشركة أولًا في زراعة الأرز، وأسست في القامشلي معملًا حديثًا لتقشيره، وأدخلت الجرارات والحصادات التي تجرها الخيول، لتبدأ مرحلة دخول الجزيرة في عصر المكننة، اعتبارًا من 1936، حيث أدخلت شركة (أصفر ونجار) أول مرة الجرار الزراعي عام 1936 من ماركة “كيز ” Case، وكان يعمل على الكاز، وحصادة من ماركة ماسي هاريس Masy Haris. وفي عام 1938، أدخلت الجرار من نوع “كاتربيلر” والحصادة – الدراسة، من ماركة “جون دير” John Deer، ووصل عدد هذه الآلات خلال الثلاثينيات إلى 20 آلة، امتلكت شركة (أصفر ونجار) رُبعها تقريبًا.
في الأربعينيات، وفي إطار سياسة بعثة سبيرز البريطانية التي جاءت أثناء وجود القوات البريطانية في سورية، إبان الحرب العالمية الثانية، وأسست الشركة عام 1942 شراكة مع أبناء ابراهيم باشا الملي، رئيس عشائر المليّة، التي تعد كبرى العشائر الكردية في الجزيرة، لاستثمار 300 ألف هيكتار من الأراضي التي يملكها أبناء الملي، وقام باستصلاحها وبيعها. ثم توسعت أعمال الشركة إلى تجارة المحاصيل الزراعية واستثمار المزارع وتربية الأغنام في بادية رأس العين، وتسويقها إلى حلب.
قُيِّضَ لشركة (أصفر ونجار) أن تقود، منذ النصف الأول من الأربعينيات، الثورة الزراعية في الجزيرة. وبدأت مشروعها الجديد الرائد في استعمال المضخات المائية، حيث ركبت عام 1942 خمس مضخات مائية كبيرة، على العين الزرقا، وأصبحت الشركة عام 1958 تمتلك نحو 62 قرية ومزرعة، مساحتها نحو مليون دونم.
سعت كل من شركتي (أصفر ونجار)، ومعمارباشي، إلى تطوير تقنيات الري الحديث وشبكات الطرق والجسور، وأدخلوا طريقة الاستهطال الصناعي والرصد الجوي وتوقع الأمطار وكمياتها، كما أدخلت شركة (أصفر ونجار) النظام التعاوني مع العمال الفنيين لتطوير الإنتاج. وفي عام 1955 وصلت الثورة الزراعية إلى ذروتها، وبدأت مرحلة الأزمة، وذلك للأسباب التي ذكرناها آنفًا.

6 – 3 – مشروع القطن المروي بالمضخات:
كان المشروع أحد مشاريع شركة (أصفر ونجار)، ويقع على نهر الخابور، ويُروى بالمضخات والأنابيب الفولاذية التي ترفع مياه الخابور، وتروي مساحة 10 آلاف دونم. وكان يعمل فيه نحو 4 آلاف عامل زراعي، وقد جهّزت الشركة لهم منازل نموذجية تستوعب 300 عائلة فلاحية، وشكلت مدينة زراعية منظمة ومضاءة بالكهرباء، وأقامت فيها فندقًا.
قام نظام الشركة على الشراكة مع العمال الزراعيين، حيث قُسّم العمّال إلى مجموعات يطلق على كل منها “مصلحة”، يوضع تحت تصرفها الآلات الزراعية ووسائط النقل والمحروقات والمأكولات والسلف وورش الصيانة والتصليح، مقابل 45 % من إنتاج كل مصلحة، على أن تؤول ملكية هذه التجهيزات كافة إلى المجموعات، بعد خمس سنوات، مع حق كل مجموعة أن تنشئ مشروعها الخاص المستقل عن الشركة.
ثبت نجاح هذا النظام، بعد اختبار طوال خمس سنوات تمّ فيها تدريب العامل وتأهيله تقنيًا، وتدريبه على التسيير الذاتي في إنتاجه، وانتهت بتملك العامل الآلة لقاء سداد ثمنها، إضافة إلى ربح صاف يراوح بين 35 – 50 ألف دولار أميركي، أو ما يعادلها بسعر الصرف يومذاك 105 – 150 ألف ليرة سورية، كما ذُكر في سياق البحث.
وبحلول عام 1958، حين صودر هذا المشروع بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي، كان مقدار ما أنفقته الشركة قد بلغ 15 مليون دولار أميركي، تعادل 45 مليون ليرة سورية، منها 6 ملايين ليرة قروض من المصارف، ومليون واحد كان استحقاقات للعمال. وكانت مساحة أراضي شركة (أصفر ونجار) قد بلغت مليون دونم.
6 – 4 – مشروع مبروكة شركة أصفر ونجار
كان “مشروع مبروكة” أشبه بمدينة زراعية حديثة مجهزة بأعلى مستوى للخدمات في زمنها (أشبه بكالفورنيا صغيرة وسط البادية)، وتقع على مساحة 35 كم جنوب رأس العين. وقد سماها البطريرك مار أفرام بهذا الاسم، لتكون مباركة. بدأ مشروع مبروكة عام 1953. وخلال ثلاث سنوات تحوّل إلى مدينة زراعية منظمة، قامت فيها الأبنية الحديثة التي تفصل بينها شوارع عريضة منتظمة، وفق مخطط لوحظ فيه احتمال توسع المدينة. وبُنيت فيها مساكن حديثة للعمال ومطاعم ومستوصف حديث وناد رياضي ومسبح وغرف لكرة الطاولة وألعاب أخرى، وكانت مؤسسة متكاملة من منازل العمال، إلى مكاتب الشركة، إلى مستودعات قطع الغيار والحبوب والأكياس والوقود، وألحق بها معمل لصناعة آلات السكب والخراطة وتصنيع قطع الغيار للآلات والسيارات وأنابيب الري، وقد اعتُمد على أحد المهندسين الروس في إدارتها الفنية، وشيدت فيها محطة للأرصاد الجوية، وكانت الحكومة تعتمد بياناتها في تسجيل الحرارة والرطوبة والضغط الجوي وقياس كميات الأمطار في الجزيرة. وكانت شركة (أصفر ونجار) تدفع أعلى الأجور لاجتذاب اليد العاملة الزراعية، وتؤمن شروط استقرار للعمال الزراعيين في قرى ومدن زراعية نموذجية ومجهزة بأعلى مستوى الخدمات المتنوعة.

7 – تكون الملكيات الكبيرة في الجزيرة
حتى مجيء الفرنسيين، كانت أراضي الجزيرة في معظمها أراض أميرية تعود في ملكيتها للدولة. وكانت أجزاء واسعة منها مراعي لأغنام وجمال وأبقار العشائر التي تتجول بها.
عملت فرنسا على إعمار الجزيرة السورية وتوطيد السكان والبدو فيها، كما عملت على منح الأراضي لمن يواليها أو لاكتساب الولاء، فقد وزعت -مثلًا- أراضي على المترجم ميشيل دوم، وعلى متعهد تزويد الجيش الفرنسي بالقطيع جورج معمارباشي، وعلى طاهر آغاتين تازا، رئيس عشيرة بينار علي الكردية. وكذلك لجأت إلى منح شيوخ العشائر حيازات، تحوّلت فيما بعد إلى ملكيات دائمة، حيث أجاز الفرنسيون، مثلًا، للشيخ عبد المحسن (رئيس شمر الزور)، حين دعم القائمة الانتدابية في الانتخابات، وضع اليد على خمس قرى كبيرة في الدرباسية، وتبنى جكرخوين القائمة الانتدابية في الانتخابات، حيث عمل مساعدًا لحاجو آغا، فكافأه الفرنسيون على عمله بمنحه قريتين لاستثمارهما. وكذلك منحت السلطات الفرنسية، في عام 1927، ست قرى لحاجو آغا (رئيس عشيرة الهويريكية الكردية).
وفي آذار عام 1926، صدر قرار المفوضية الفرنسية بـ “حل الأراضي المشاع”، وتحويلها إلى حيازات قابلة للتملك (الطابو)، فقام رؤساء العشائر بتسجيل أراض وقرى ومناطق رعي عشيرتهم، على أنها أرض ملك خاص لهم. وقد شكل هذا، مع أعطيات الفرنسيين، أساس نشوء الملكية الكبيرة في الجزيرة.
في 13 كانون الأول/ ديسمبر 1930، صدر قانون الأراضي الجديد رقم 3339، وحلّ محل قانون الأراضي العثماني، وألغى الأراضي المشاع، ووضع أسسًا لجعل الأرض التي وضع الأفراد أيديهم عليها وأحيوها، وجعلها ملكية خاصة قانونية ثابتة. وأصدر المفوض السامي المرسوم رقم 132 لعام 1940، ثم المرسوم 141 لعام 1941، اللذين أتاحا لرؤساء العشائر “نظامًا خاصًا”، يمكنهم من زراعة أراضي الدولة العامة غير المسجلة ضمن أملاكها الخاصة خارج المعمورة، وتملكها بعد سنتين من إحيائها.
بدءًا من الثلاثينيات، بدأ زعماء العشائر بالتحول إلى كبار ملاك للأراضي، وقد ساعدتهم في ذلك لجانُ التحديد والتحرير التي كانت مشكّلة من أبناء كبار الملاك في سورية، مثل القوتلي ودياب والبارودي ونايلي وإبراهيم باشا وأتاسي وكيلاني وقدسي، وقد سبب هذا صراعًا بين شيوخ العشائر، ومزاحمة على بناء القرى في مناطق ترحالهم، وبدأت العشائر تتحول من راحلة إلى شبه مستقرة (الجبور، شمر، طي.. إلخ)، وبدأ الانتقال من الخيمة وبيوت القصب والزلّ، إلى البيت الطيني. وبين عامي 1926 و1940 نشأت 1250 قرية.
أثناء تنفيذ عملية التحديد والتحرر ورسم الخرائط “الكاداستر Cadastre”، استولى الوجهاء وزعماء العشائر على ملكيات واسعة ليست لهم، فكان الوجهاء وشيوخ العشائر، بالاتفاق مع الموظفين الفاسدين، يحضرون للمكان لإجراء عملية المسح والتحديد والتحرير لمنطقة محددة، وكان الفلاحون الذين يعملون في الأرض لا يعلمون بمجيء اللجنة، بينما يأتي الوجيه أو زعيم العشيرة ببعض أعوانه، ويدعي أن هؤلاء فلاحون في تلك الأرض التي يملكها، وأن الأرض تخصه.
مثلًا، استصلح جميل المسلط (شيخ الجبور) عدة قرى، وشيّد قرية طابان على نهر الخابور، واستصلح ميزر عبد المحسن (شيخ شمر الزور) مساحات واسعة من الأراضي، بنى عليها -بطريقة وضع اليد- خمس قرى ذات مساحات عظيمة. وقام دهام الهادي الجربا (شيخ شمر الخرصة) باستصلاح قرى عدة وتملّكها. وأصبح عبد الكريم ملا صادق من أعيان عين ديوار ومن كبار ملاكها، وأصبح عام 1939 رئيس بلديتها، وقد تملّك 20 قرية، وتمتع بخصائص عصرية، فكان مدمنًا على قراءة الروايات، ومستحدثًا زراعيًا توسع في زراعة الأشجار المثمرة التي كانت تزود أسواق ديريك والحسكة والقامشلي بالفواكه، وتحول إلى أحد أبرز المزارعين، في منتصف الأربعينيات، بعد التوسع بزراعة القمح. ويروي عبد الهادي عباس أن أحد شيوخ العشائر تقدّم بطلب إلى القاضي العقاري لتسجيل أكثر من 5000 هيكتار، باسم أطفاله، ومن بينهم جنينٌ ما زال ببطن أمه الحامل به، مدعيًا أن أطفاله يتصرفون بالأرض تصرفًا هادئًا منتظمًا مستمرًا. وأصبح الشيخ عبد الرزاق الحسو (شيخ عشيرة طي) يمتلك 15 قرية.
في العموم، انتُزعت أملاك الدولة، وسُجّلت باسم ملاك كبار، من الوجهاء وزعماء العشائر، عبر التحايل والتواطؤ بين موظفي الدولة واللجنة العقارية، ومن الأمثلة التي تُذكر في هذا السياق أن “أمين عام وزارة الزراعة” استغلّ منصبه وسجّل مراع في قرية (جلميد) باسمه، بالتواطؤ مع مدير أملاك الدولة. وكذلك تحالف ممولو المدن وشيوخ العشائر، فطردوا الفلاحين من الأراضي، وأدى ذلك إلى صدامات بين الفلاحين وشيوخ العشائر ومع الشركات المستثمرة للأرض، وعلى إثر ذلك؛ تحوّل الفلاحون إلى عمّال زراعيين موسميين، أو هاجروا إلى المدن، وخاصة حلب، للعمل في الصناعة النامية.
بنتيجة هذا الوضع؛ كانت ملكيات الأراضي في الجزيرة عام 1939 على النحو التالي:
أ – ملكيات صغيرة بمساحة تقل عن 10 هيكتار، وقد شكلت 5%.
ب – ملكيات متوسطة بين 10 و100 هيكتار، وقد شكلت 52%.
ج – ملكيات كبيرة تزيد عن 100 هيكتار، وقد شكلت 34%.
في عام 1941، أصدر الفرنسيون النظام الخاص لمشروع ريّ الخابور وشق قناة تل معاض، وبين 1941-1945 وصل التنافس بين زعماء العشائر إلى أشده، في تسابقهم لوضع اليد على أراضي الدولة وتسجيلها ملكية خاصة لهم، على حساب فلاحيها، وكان في مقدمتهم في المنطقة الشيخ عبد العزيز المسلط الذي غدا في هذ الفترة، بعد تقاسم السلطة مع شقيقه جميل المسلط (زعيم جبور الشمال)، مسيطرًا على الأراضي التي يرويها هذا المشروع، حتى كادت أن تكون حكرًا عليه، وأصبح يمتلك نحو مليون دونم.
حتى 1958، كان أقوياء العشائر والوجهاء المحليون ومستثمرو المدن قد سيطروا على معظم أملاك الدولة في الجزيرة، فكانت ملكياتهم نحو 323 ألف هيكتار عام 1947، وأصبحت عام 1958 نحو 1683000 هيكتار، يسيطر عليها نحو 40 ملاكًا كبيرًا.
نتيجة تحولات الجزيرة، خسر الفلاح الصغير أرضه، بعد أن استولى عليها كبار الملاك. وتحول إلى عامل زراعي موسمي في مشاريع كبيرة، أو تحوّل إلى عامل في الصناعات التحويلية الناشئة، وقد تسبب هذا في نقص اليد العاملة في الجزيرة، بسبب الهجرة مع ازدياد التوسع في الزراعة. وحينذاك اجتذبت الجزيرة أيد عاملة من مختلف أنحاء سورية، وبخاصة من حوران وحمص وحماة وإدلب، وفتحت الباب لليد العاملة الكردية من خلف الحدود مع تركيا.
ونتيجة الصراعات الاجتماعية، نمت قوى اجتماعية ذات توجه يناصر الفلاحين الفقراء، وبخاصة أكرم الحوراني والحزب الشيوعي وحزب البعث وغيرها، وانعكس هذا الصراع في البرلمان، حيث صار العديد من النواب يدافعون عن الفلاحين. وتحت ضغوط الحركة الفلاحية والقوى السياسية المؤيدة لها، أصدر أديب الشيشكلي، الذي كان متحالفًا مع أكرم الحوراني في كانون الثاني/ يناير 1952 قانونًا يحدد سقف الملكية الزراعية، في محافظتي الجزيرة والفرات، ويصادر المساحات الزائدة عن سقف الملكية ويوزعها على الفلاحين، وحدد سقف الملكية بـ 150 هيكتارًا في محافظتي الفرات والجزيرة ومناطق البادية، وبـ 50 هيكتارًا في بقية المناطق. ويمنع تهجير الفلاح من أرضه، أو نزع يده عن الأرض التي يحرثها. ويعد عقد المزارعة بحكم المجدد حكمًا، ولا يحق للمالك إخراج الفلاح إلا بالتراضي، أو عن طريق القضاء. وقام النقيب مصطفى حمدون بتطبيق هذا القانون في الجزيرة، واستعاد نحو مليون دونم كأملاك دولة، وزّعها على البدو الرحل لتوطينهم، ولكن هؤلاء قاموا بتأجير تلك الأراضي لمستثمري المدينة، مقابل 15% من غلة الأرض.
في عهد الوحدة مع مصر، صدر قانون للإصلاح الزراعي رقم 1161 لعام 1958، وقد تضمن هذا القانون الصادر في 27 أيلول/ سبتمبر 1958 خمس نقاط هي: تحديد سقف الملكية، المصادرة والتمليك، التعويض، إعادة توزيع الملكية الزراعية، والتنظيم التعاوني. حدد القانون سقف الملكية في الأراضي المشجرة والمروية بـ 80 هكتارًا، وفي الأراضي البعلية بـ 380 هكتارًا. وقدمت الدولة تعويضات لمالكي الأراضي المصادرة تمتد على 40 عامًا. ويمكن أن يقسط التعويض على عشرة سنوات، إن كان مقداره أقل من 100 ألف ليرة. وبلغ عدد الملاك الزراعيين الذين شملهم هذا القانون 3240 مالك أرض.
في فترة الانفصال، ألغت حكومة الانفصال (مأمون الكزبري) قانون الاصلاح الزراعي، تحت اسم إعادة النظر بالقانون وتعديله، وجرت مساع لطرد الفلاحين من الأراضي وإعادتها لمالكيها القدامى، وأدى هذا إلى صدامات بين المالكين والشرطة من جهة، والفلاحين من جهة أخرى، لكن أعيد تطبيقه إثر التغيير الوزاري للحكومة الانفصالية في آذار/ مارس 1962، وقدوم حكومة الدكتور بشير العظمة، التي قامت بتوزيع الأراضي على المنتفعين، وبدأت ببيع أراضي الدولة. بعد انقلاب حزب البعث عام 1963، صدر قانون جديد للإصلاح الزراعي برقم 1109 لعام 1963 خفض السقف الأعلى للملكية الزراعية إلى 55 هكتارًا في الأراضي المروية، و300 هكتار في الأراضي البعلية. وكانت محصلته أخذ الأراضي من 4612 مالكًا، لتوزيعها على 52504 فلاحين، وبلغ مجموع الأراضي المصادرة حوالي 1. 5 مليون هكتار. وبقيت مساحات واسعة من الأراضي المصادرة كأملاك للدولة. وقد أدى هذا الإصلاح بالطريقة التي أدير بها، إلى تفتيت الملكية، ثم إلى هجرة الفلاحين لأراضيهم، ولجوئهم إلى تأجيرها لكبار المستثمرين الجدد، مقابل نسبة صغيرة من إنتاجها، فعادت ظاهرة الملكيات الكبيرة عبر التجميع إلى الجزيرة مرة ثانية، خاصة كون الدولة تشجع المحاصيل الاستراتيجية، مثل القمح والقطن والشمندر، وكانت تدفع للمنتجين أسعارًا مجزيةً، أعلى من أسعار السوق العالمية. وبرزت الحيازات الكبيرة في الحسكة، وكان وسطي الحيازة فيها 25.2 هيكتار، وفي الرقة 9.2 هيكتار، وكان التجميع يتم بواسطة الاستئجار أو الاستثمار، بمعزل عن سقف الملكية، وأصبح كبار المزارعين يستثمرون نحو 1500 – 5000 هيكتار، وعمل هؤلاء المستثمرون في المقاولة الزراعية والاجتماعية، وسيطروا اجتماعيًا واقتصاديًا على الريف في الجزيرة، وتحول جزء كبير من الفلاحين الحائزين، بعد تفتيت ملكياتهم عبر التوريث، إلى عمال زراعيين في أراضي الفلاحين المتوسطين والكبار، بسبب عجزهم عن تمويل الموسم، فاضطروا إلى تأجير أراضيهم. وكان فلاح الجزيرة يبيع موسمه سلفًا لتاجر المدينة بسعر بخس، وبالتالي كانت سياسة دعم المحاصيل الاستراتيجية تصبّ في مصلحة كبار الملاكين، أكثر من صغارهم.
8 – نفط الجزيرة:
في أواخر عشرينيات القرن العشرين، بدأت فرنسا تهتمّ بنفط الجزيرة، وقد أوفدت بعثة دراسية أشارت إلى وجود نفط في مساحات واسعة من الجزيرة، وبدأت عملية منح الرخص لاستكشاف المكامن النفطية واستثمارها. وفي آذار/ مارس 1931، أبرمت اتفاقية، بين شركة نفط العراق IPC وكل من الحكومتين السورية واللبنانية، لمدّ خط أنابيب النفط، من حقول كركوك في العراق، إلى البحر المتوسط (إلى بانياس في سورية وإلى طرابلس في لبنان)، وبدأت الشركة استملاك العقارات على امتداد خط الأنابيب. وفي أوائل 1934، منحت سلطات الانتداب، بمرسوم من رئيس الجمهورية محمد علي العابد، ورئيس الوزراء حقي العظم، رخصة تنقيب لشركة الكاز العراقي عن أنواع المنتجات الهيدروكربونية، في كل من جبل جبيسا، في قضاء الحسكة، وفي جبل بشري، في قضاء دير الزور. كما مُنحت الشركة الصناعية للإسفلت والبترول في اللاذقية، ممثلة بشخص أمين سرها هنري تيكت، رخصة تنقيب عن المعادن الثمينة من الفئة السادسة، في أراضي قراجق طاغ في الجزيرة العليا. ثم وسّعت، في 22 كانون الثاني/ يناير، مناطق رخصة شركة الكاز العراقي في أراضي قضاء الحسكة. وفي آب/ أغسطس 1937 استؤنفت المفاوضات بين شركة امتيازات نفط سورية ولبنان المحدودة (التي اتخذت عام 1940 اسم “شركة نفط سوريا المحدودة”)، وصدقها رئيس حكومة المديرين بالمرسوم الاشتراعي رقم 47 تاريخ 25 آذار 1940، وأعيد تصديقها بمرسوم تشريعي في آذار/ مارس 1947، بعد توقيع اتفاقية متممة مع الشركة المذكورة في 6 آذار 1943. لكن شركة نفط سوريا المحدودة البريطانية نقبت عن النفط ولم تجده، وتمت تصفيتها في 10 شباط/ فبراير 1951، وباعت ممتلكاتها للحكومة السورية.
عام 1955، منحت وزارة صبري العسلي شركة نجيب منهل امتيازًا لاستكشاف النفط، تضمن 28 رخصة تنقيب عن النفط، في مساحة تقدر بـ 8400 كم2، من محافظات اللاذقية وحلب ودير الزور والحسكة. وكانت مدة الرخصة 4 سنوات (مرسوم 1493 لعام 1955). وكانت شركة نجيب منهل واجهة لشركتين هما أتلانتيك الأميركية والشركة السورية العربية المحدودة للنفط، التي لم تكن سوى شركة متفرعة من شركة نفط العراق. وكان نجيب منهل أميركيًا من أصل لبناني وهو متزوج من سيدة دمشقية، وقد برز اهتمامه بالنفط السوري منذ 1947. وقد تمكن منهل من شراء عدد من النخب الفاعلة من صحافيين وسياسيين ووزراء، واستطاع عام 1955، وسط حملة دعائية مكثفة، الحصول على رخصة لاستكشاف النفط في سورية، بدعم من ممثل الجزيرة في الحكومة عبد الباقي نظام الدين، ورئيس الوزراء صبري العسلي، الذي كان قبل سنوات وكيلًا لشركة التابلاين في سورية. ويصف الأمير عادل أرسلان نجيب منهل، في يومية 5 تموز/ يوليو 1949 بـ “المثري الدجال الذي يسمي نفسه بالمليونير السوري”. وقد حفّز هذا الأمر الشركات الألمانية على تأسيس شركة النفط المتحدة “كونكورديا”، التي كانت عبارة عن كونسورتيوم نفطي تشكل خصيصًا من شركات نفطية أوروبية صغيرة ومتوسطة، للتنقيب عن النفط في الجزيرة السورية واستثماره، فانضمت إلى عملية الاستكشاف شركة كونكورديا الألمانية. وفي أقل من سنتين، حفرت شركة كونكورديا 12 بئرًا في حقل السويدية، كان 3 من بينها آبار منتجة للنفط. وحفرت شركة منهل 6 آبار، واكتشفت حقل كراتشوك عام 1962. غير أن إنتاج النفط لم يبدأ حتى العام 1968، بعد أن تم تأميم الشركتين ضمن تأميمات 1964 – 1965.
9 – الجزيرة السورية في عهد البعث: الهجرة المعاكسة من الجزيرة
أظهر الجزء السابق حالة التنمية الكبيرة التي شهدتها الجزيرة السورية، منذ عشرينيات القرن العشرين حتى خمسينياته، أما بعد قيام نظام البعث الأسد، فقد بدأت الأوضاع تتدهور في الجزيرة -كما حدث في سورية عمومًا- حيث شهدت الجزيرة السورية، منذ سبعينيات القرن الماضي، هجرة معاكسة للهجرة التي شهدتها منذ عشرينياته؛ إذ نزح جزء كبير من سكانها، وتحوّلت من نقطة جاذبة للهجرة إلى نقطة طاردة للسكان، حيث كان أفراد العشائر يهاجرون، في العقود الأخيرة، إلى السعودية وبلدان الخليج عمومًا، وكان السريان والآشوريون يهاجرون إلى أوروبا، وكان الأكراد يهاجرون إلى المدن السورية الأخرى، وبأعداد أقلّ، إلى أوروبا.
ليس هناك إحصاء دقيق لعملية الهجرة إلى الخارج، ولكن في مطلع 2011 كان عدد المقيمين في الحسكة 1,477,000، بينما كان عدد المسجلين في السجلات المدنية 1,604,000، أي بفارق 127 ألف نسمة مهاجرين، أي نحو 9.7% من سكانها، لكنّ هناك تقديرات أخرى تشير إلى أن عدد المقيمين في الحسكة ليس أكثر من 1.3 مليون، وعلى ذلك تكون نسبة الهجرة 19%.
وقد هاجر الأكراد من قراهم باتجاه مدن الجزيرة، مثل الحسكة والقامشلي، أو باتجاه حلب ودمشق. ونشأ حيّ كامل جديد لأكراد الجزيرة في دمشق هو (جبل الرز) بجانب مشروع دمر، أنشأه عمّال أكراد كانوا يعملون في المشروع الذي بدأ أواسط السبعينيات. ويقيم معظم الأكراد، في المناطق التي هاجروا إليها في سورية، في أحياء السكن العشوائي. وقد بلغت مساحة المخالفات السكنية في القامشلي 74%، عام 2004، بعد أن استقبلت الفلاحين العرب والأكراد الذين هجروا أراضيهم. أما في الحسكة فقد بلغ عدد سكان العشوائيات 135,350 نسمة عام 2004، أي 21,240 عائلة، يشكلون 72% من سكان المدينة البالغين 188,160 نسمة، بحسب تعداد 2004، ويعمل جزء كبير منهم في الصناعة والخدمات والقطاعات الهامشية غير المنظمة.
الهجرة الكبيرة من الجزيرة إلى خارج سورية كانت هجرة السريان والآشوريين، وقد بلغت تلك الهجرة أوجها في التسعينيات. وكان عدد المسيحيين في عام 1946 في الجزيرة 46,810 نسمة، أي 31.4% من سكانها المسجلين في السجل المدني: 149,140 نسمة، آنذاك. وبحسب معدلات التزايد؛ كان سيبلغ تعدادهم مطلع 2011 نحو 386,156 نسمة، أي 26.2% من سكان محافظة الحسكة، هذا في حال كان لكل امرأة مسيحية ثلاثة أولاد أحياء. وتزداد هذه النسبة، إذا كان وسطي عدد الأولاد أكثر من ثلاثة، بينما لا يصل العدد الحالي للمسيحيين إلى خُمس هذا الرقم، وفق تقديرات أبرشية الجزيرة للسريان؛ إذ قدّر المطران يوحنا إبراهيم، في أيار/ مايو 2012، عدد الأسر المسيحية في الجزيرة بنحو 12,265 أسرة من جميع الطوائف، أي نحو 61,325 نسمة فقط، من أصل نحو 1,536,000 نسمة هم سكان الجزيرة، أي إنهم يشكلون نحو 4 % فقط. ويشير منير درويش إلى أن نسبة المسيحيين كانت في بعض المدن، مثل عامودا والدرباسية شمال سورية، تزيد عن النصف، والآن لا يوجد فيها سوى عائلتين أو ثلاثة. وكذلك الحال في المالكية التي شكل المسيحيون فيها أكثر من 70%، حيث لا تزيد نسبتهم اليوم على 26%. ويشير درويش، في كتابه هجرة العرب المسيحيين، إلى أن عدد الآشوريين كان يقارب 50 ألف نسمة في الجزيرة، حتى عام 1980، بينما لم يبق منهم سوى 5-8 آلاف نسمة فقط، أغلبهم من الشيوخ، بعد أن هاجر الشباب إلى السويد وأستراليا ونيوزيلاندا وأميركا.
كانت الهجرة الأكثر درامية تلك التي حدثت بسبب القحط بين عامي 2006 – 2009، فمن بين 141 ألف أسرة، تقطن في 2000 قرية في محافظة الحسكة، هاجر نحو 35 ألف أسرة، يبلغ عدد أفرادها 210 – 215 ألف نسمة، وقد هاجروا نحو ريف دمشق ودرعا والسويداء واللاذقية وطرطوس، بسبب عجز مدن الجزيرة عن استيعاب مزيد من المهاجرين.
لعبت ثلاثة عوامل دورًا أساسيًا في طرد سكان الجزيرة، وخاصة محافظة الحسكة:
- الفقر والتخلف: على الرغم من غنى مناطق الجزيرة بالثروات المائية والزراعية والنفطية، تبقى الجزيرة من أكثر مناطق سورية فقرًا وتخلفًا، ففيها نحو 58% من فقراء سورية (الفقر العميق)، وهي أكثر المناطق تخلفًا، من حيث البنية التحتية والخدمات الصحية والتعليم ومستويات التنمية البشرية، وأقلّ المناطق تصنيعًا. وهذا يشير إلى إهمال الحكومات السورية منذ 1958 لمنطقة الجزيرة.
- تذرر الملكيات الصغيرة: حيث أدى ذلك العامل إلى ترك الفلاحين الفقراء لأرضهم، وتأجيرها لمستثمرين لقاء 15% من محصولها، والتوجه نحو المدينة للعمل. أي إن “الإصلاح الزراعي” شتت ملكية الأرض وحرم المنطقة مزايا الإنتاج الكبير، إضافة إلى غياب برامج الحكومة المناسبة لدعم المنتج الصغير.
- دينامية التصحر بسبب التملح: حيث غطى التصحّر 17% من الأراضي، وخاصة في منطقتي الفرات والخابور، ولا سيما بعد أن جف نبع رأس العين، بسبب السدود الثلاثة التي أقامتها تركيا على نهر الخابور في الأراضي التركية، وتمارس تركيا سياسة تحويل المياه منذ العشرينيات، وكذلك بسبب حفر آبار المياه الجائر المخالف للقانون، وكان يتم الحفر عبر دفع رشاوى كبيرة لأجهزة الأمن، ونتيجة ذلك عانت أكثر من 40 قرية في الخابور تبعات التصحّر وهجرها أهلها. وقد بدأت دينامية القحط وسنوات الجفاف منذ 1958، وما بين عامَي 1990 – 2005، على نحو خاص، تكررت سنوات الجفاف بأعلى من المعدل المعروف، تاريخيًا، بسنة جفاف واحدة كل أربع سنوات.
النتيجة أن دولة البعث الأسد قد أهملت مناطق الجزيرة وتركتها لمصيرها، كما تركت بقية مناطق سورية، حيث لم تدعم المشاريع الزراعية والصناعية، ولم تقدّم التسهيلات للمشاريع التنموية، ولم تعمل على تطوير عوامل التنظيم والاستثمار والاستقرار، ولم تهتمّ إلا بجمع الثروات من كل صعيد، لتنفق منها على مراكز السلطة والجيش والأمن والمؤسسات الحكومية المتضخمة، وعملت على تكوين رأسمالية ريعية غير منتجة، وقد ساهم ذلك -مع عوامل أخرى- في تراكم مشاعر السخط وانفجارها في ربيع 2011.
[1] خلاصة ما ورد حول إعمار الجزيرة السورية في كتاب (التكوين الحديث للجزيرة السورية) لجمال باروت، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2013.