تمتّع جودت سعيد بشخصية قادرة على صدم من يسمعه أو يلتقيه، ولو مرّة واحدة، أو من يعيش معه نصف قرن. كان يكرر كثيرًا أن القرآن حرّره من آبائه المحلّيين والعالميين، وبحسب ما أتصوّر، فقد ساعده إيمانُه العميق بالله وباليوم الآخر، واطلاعه الواسع، في دخول فضاء مختلف، لقد رفض الخضوع لأي سلطة سياسية أو اجتماعية، على حساب قناعاته وأفكاره، وأصبح مثقفًا ومفكرًا وإنسانًا استثنائيًا قادرًا على أن يفاجئك في كل يوم، وفي كل موقف، تقريبًا.
تمكّن جودت سعيد من بناء عالم فكري، أتاح له ألّا يقول في السرّ ما لا يجرؤ على إعلانه، ولا يفعل ما قد يحتاج إلى التستر عليه. وكثيرًا ما كان يشدد على ضرورة أن يكون العمل نظيفًا معقمًا مثل غرفة العمليات، وأن سلوكنا والتزامنا وصدقنا يجب أن يصدم الآخر المخالف لنا، بحيث يصير يثق بنا أكثر من ثقته بأبنائه، وأننا لا يمكن أن نغدر به أو نخونه، وأن نلتزم بالقانون والأخلاق والمبادئ، ولو من طرف واحد، فيأمننا الآخر أكثر مما يأمن حرسه الخاص.
قد تبدو هذه التوصيات مثالية، لكنها في الأصل تنطلق من النماذج النبوية التي يعلن جميع المؤمنين أنهم يقتدون بها، لقد كان الأنبياء وخاتمهم معروفين بين أقوامهم، بالصدق والأمانة، قبل أن توكل إليهم مهمات النبوة أو الرسالة.
إن الآمرين بالقسط من الناس والمفكرين والمجددين هم نماذج يمكن أن نقتبس منها ونعتبر، فكل الميراث الذي تركوه هو ملك للبشر جميعًا، ومن حق كل إنسان أن يرث هذا العلم، ويعمل به ويضيف إليه ويحسنه، ويتجاوزه إلى ما هو خير وأبقى. لكن الاتباع من دون علم أمرٌ خطر، ولوم الآخرين لا ينفع في الدنيا {قل هو من عند أنفسكم}، ولن ينفع في الآخرة، {يوم يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}.
فهِم جودت الكون والتاريخ والحياة، بحسب قانون الزيادة في الخلق {يزيد في الخلق ما يشاء}، {ويخلق ما لا تعلمون}، ولاحظ أن هذه الزيادة يحكمها قانون الزَّبَد: {فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}. وعلى هذا، لا يكون من المعقول أن يتوقف الزمن عند التفاسير والتأويلات القديمة للقرآن والكون والإنسان.
ينظر جودت إلى الدين كرافعة لمستقبل أفضل، لا كأثقال تشدنا إلى الوراء. وقد أعلن، منذ وقت بعيد، رفضَه لما يسميه المسلمون “قتل المرتدّ”، ورأى أنه يتناقض مع أهمّ ما جاء به الأنبياء، ومع أسمى قواعد القرآن: {لا إكراهَ في الدين}. وشريعة الله ليست قطع الأيدي والرؤوس، بل العدل بين الناس في الحكم، والإحسان إلى الناس عند التعامل معهم.
إنّ جوهر الدين هو التوحيد، وهو قرين العدل، فالعبارات الثلاث المتتالية في هذه الآية القرآنية تكشف معنًى عظيمًا للتوحيد: {قل يا أهل الكتاب، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئًا، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله}.
هذه العبارات الثلاث تشرح معنى التوحيد، بثلاثة أوجه، وتوضح أن توحيد الله يجب أن يمنعنا من اتخاذ آلهة بشرية، فلا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا، ويصبح التوحيد بهذا المعنى قرينًا للعدل بين الناس.
بالنسبة إلى البعض، فإن جودت يتلاعب بالنصوص، يقول أشياء وأفكارًا ما سمعنا بها في آبائنا الأولين، إنه لا يلتزم بـ “قواعد” التفسير، لكنه بالنسبة إلى آخرين، يبدو كمن يعيد الحياة للكلمات، فيشعرون، كلما استشهد بآية من آيات القرآن، وكأنهم يسمعونها لأول مرة.
إن الإيمان -بحسب فهم جودت للقرآن- هو موضوع يمكن دراسته بالعلم، فالقرآن يرفض التقليل من قيمة العلم، كما هو سائد وشائع، فكثيرًا ما نسمع في الثقافة الإسلامية أن الإسلام دين العلم والعقل، ولكننا نسمع من المسلمين أيضًا أن العلم شيء قابل للتغير والتبدل، وأنه لا يوثق به. هذا التناقض أمرٌ غير مقبول، عند جودت، ومرده سوء فهم لطبيعة العلم ومعناه ودوره وأهميته. ركز جودت على قيمة العلم في القرآن: {ولا تقف ما ليس لك به علم}، {ما لهم به من علم}، {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق}، {وقال الذين أوتوا العلم لقد جاءت رسلُ ربنا بالحق}، ونصوص أخرى كثيرة تضع العلم في موضع الشاهد العدل.
إن تجديد التفكير الديني واجب وضرورة مستمرة، والواقع يؤكد، كلما فتحنا لنسمع الأخبار، أن العالم الإسلامي، والعالم أجمع، ليس بخير. العالم يواجه تحديات جسيمة، وقد يكون الوقت ضيقًا لمواجهتها، سواء على المستوى القانوني أو السياسي أو الفكري أو الثقافي أو الأخلاقي أو الاقتصادي أو البيئي، وإذا أصر المسلمون على تقديم الصيغة التقليدية من فهم الدين، فإننا لن نُسهم في حل هذه المشكلات بل في تفاقمها وزيادتها.
إن النظرة التقليدية إلى الدين هي نظرة مشتركة ما بين اليمين واليسار، بين من يؤمنون بالدين ومن يرفضونه، كلا الطرفين يظنون أن الدين هو قطع الأيدي والرقاب، وكتم صوت المرأة وقتل المرتد والمخالف والكافر، وفي حين يصرّ اليمين على تنفيذ هذه الرؤية أو على الأقلّ الدفاع عنها، يرفض اليسار الدين، لأنه يراه على الصورة نفسها.
وكان عباس محمود العقاد قد أشار إلى انقسام الناس بصورة مشابهة، حول دوران الأرض حول الشمس، فكلهم كان يعتقد أنه إذا كانت الأرض تدور فستسقط الحاجة إلى الإله، ويوضح العقاد، لكن الأرض دارت وبقي الإله.
وفي أوروبا، أعلنوا في زمن الثورة الفرنسية أنهم سيشنقون آخر ملك بأمعاء آخر قسيس، بعد أن نالوا من الحروب الدينية والمذهبية قسطًا هائلًا. إن التخلص من الدين بهذه الطريقة يشبه التخلص من طفل رضيع، لأنه لا يعرف كيف ينظف نفسه. هذا ما كان جودت يكرره نقلًا عن المؤرخ البريطاني هربرت جورج ويلز.
إن العلم هو طريقنا إلى فهم معاصر ومستقبلي للدين، فهمٍ يتجاوز النظرة التقليدية المشتركة، ويرفض رمي الطفل، ويدرك ما فيه من قيمة وأهمية وقدرة على تجاوز واقعه الراهن.
الله هو خالق الكون، وهو أيضًا الذي أنزل القرآن، وعلى المؤمنين بهذا أن يكونوا على ثقة بأن العلم المبثوث في هذا الكون والقوانين والسنن الناظمة له، لا يمكن أن تتناقض مع العلم المسطور في القرآن، ما دام مصدرهما واحدًا. التناقض يمكن أن يظهر في فهمنا القاصر للسنن والقوانين، أو فهمنا الناقص للقرآن، وهذا التناقض أو الاختلاف محكوم بـ {لا إكراه في الدين}، و{هل عندكم من علم فتخرجوه لنا}، {ولا تقفُ ما ليس لك به من علم}.
يرى جودت أن الإنسان الذي لا يميز بين ما هو علم، وما هو ظن، أو وهم أو هوى، وما هو صورة ذهنية، وما بين الحقيقة الخارجية، هذا الإنسان لن يدخل عصر العلم، ولهذا لم يدخل العالم الإسلامي إلى الآن عصر العلم.
إننا بحاجة إلى فهم الإسلام بالعلم، وألا نخاف من الحرية ولا من الآراء المخالفة، إننا مطالبون ببناء رؤية قادرة على الصمود والريادة أمام التطور والفلسفات المختلفة، وأن نتمكن -قبل فوات الأوان- من تقديم إجابات وحلول تنقذ البشرية وتصحح وجهتها.
واجبنا أن نتحرّك ونحمل ميراث الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس، وأن نرفع بما بعث الله به رسوله رأسنا، أن نقدّم الإسلام والدين والقرآن بعقل سنني علمي، يستند إلى إيمانٍ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويضع التراث الإسلامي والفقه خارج موضع الإيمان، فيستفيد منه البحث العلمي، مع السير في الأرض، وكشف سنن المجتمع والطبيعة، والانفتاح على كل العلوم لتسخير هذا الكون وتحقيق علم الله في الإنسان.
*نشرت المادة باللغة التركية تحت عنوان “CEVDET SAİD DÜŞÜNCESİ ÜZERİNE NOTLAR” في مجلة “Umran” التركية والتي خصصت عددها الأخير للتركيز على إرث وفكر جودت سعيد.
