كيف تعاطت الخبرة الغربية مع هذه المشكلة؟
مظاهر الأزمة البنيوية للفكر والخبرة الإسلامية
النهضويون العرب والسلطة الدينية
تحتل العلاقة بين الديمقراطية والإسلام أهمية خاصة في منطقتنا العربية، وعلى الرغم من قِدم المشكلة، وتعدد مناهج تناولها، إلا أنها تظل إحدى المشكلات التي تدفع باتجاه إعادة التفكير والتأويل، وفقًا لمقتضيات التطور السياسي والمجتمعي لبلداننا. وما يزيد من أهمية طرح المشكلة –مجددًا- ما حملته التطورات من ((هيمنة)) ظاهرة الإسلام السياسي، واحتلالها مساحة واسعة من الفضاء العربي العام، وطغيان الحديث عنها.
إنّ مشروع هذه القراءة يقوم أولًا على الفصل المنهجي بين ميداني العقيدة الدينية (العقائد والعبادات) والمنجز الحضاري للحداثة، بما هو تراكمات (المعاملات) حصلت عبر التاريخ في مجالي المجتمع والسياسة. وثانيًا، على أنّ الدولة الدينية هي الدولة التي تقوم على أساس الحق الإلهي في الحكم، بزعم أنّ الحاكم مفوض من الله في حكم الدولة. وثالثًا، على أنّ الدولة الديمقراطية هي التي يكون الحكم فيها للأمة، وهي صاحبة التفويض لمن تشاء، فكأن الأمة تحكم نفسها بنفسها، كما هو الشأن في النظم الديمقراطية الحديثة.
ما هي الديمقراطية والعلمانية؟
الديمقراطية المعاصرة اليوم منهج لاتخاذ القرارات العامة من قبل الملزمين بها، وهي منهج ضرورة يقتضيه التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وجماعاته، منهج يقوم على مبادئ ومؤسسات تمكّن الجماعة السياسية من إدارة أوجه الاختلاف في الآراء وتباين المصالح سلميًّا. وتمكّن الدولة، من ثمّ، من السيطرة على مصادر العنف ومواجهة أسباب الفتن. وتصل الديمقراطية المعاصرة إلى ذلك من خلال تقييد الممارسة الديمقراطية بدستور يراعي الشروط التي تتراضى عليها القوى الفاعلة في المجتمع، وتؤسس عليها الجماعة السياسية أكثرية كافية. وقد تمكنت الديمقراطية المعاصرة من ذلك عندما حررت منهجها في الحكم من الجمود، فتأصّلت في مجتمعات مختلفة، من حيث الدين والتاريخ والثقافة.
إنّ التحدي الكبير الذي يواجهه الإسلاميون يتجسد في مفهوم المساواة بين المواطنين، بغض النظر عن أي معطى آخر: ديني، أو طائفي، أو قومي، أو سواه، ومن ثمّ، موقفهم من العلمانية، من دون عدها دينًا ينافس الإسلام على الوجود والأتباع، ولا فلسفة تعادي الدين والمسلمين، إنما هي فلسفة في فهم الإنسان نفسه بحرية وعقل أولاً، وفلسفة في فهم الناس مقوّمات الدنيا التي يعيشون فيها عمليًا، ثانيًا؛ ما يستوجب التساؤل: هل يمكن بناء نوع من ((العلمانية المؤمنة)) في مجالنا المعرفي العربي –الإسلامي؟ وهل يقبل الإسلام العلمنة آلية إجرائية؟ وهل تقبل العلمنة الإسلام دينًا دنيويًّا له دور اجتماعي؟
إنّ العلمانية ارتبطت بأكثر من معنى، فهي ليست فقط بمعنى فصل الدين عن الدولة كما هو شائع في العالم العربي، بل كان الارتباط الأوثق بين العلمانية والدولة القومية، حين انبثقت من ثقافة ديمقراطية وصراع في سبيل التقدم وكرامة الإنسان، وجاءت بمنزلة تأكيد على قدرته على تنظيم شؤونه تنظيمًا عقلانيًا. لذا فالمبدأ الأساس في العلمنة يؤكد أنّ الدين أمر شخصي، وينبغي من ثمّ، فصله عن الدولة والمدرسة والأحوال الشخصية.
كيف تعاطت الخبرة الغربية مع هذه المشكلة؟
لعل من المفيد عند التعاطي مع هذه المشكلة (الدين والديمقراطية) أن نتفحص كيفية تعاطي الخبرة الغربية معها، وإلى أي السبل قد اهتدت؛ إذ كان الفكر الغربي من المهارة، حيث أدرك أهمية الدين في حياة الشعوب، ذلك أنه لم يقوَ أي نظام سياسي، مهما كانت درجة انفتاحه، على إخراج الدين من الحياة العامة للأفراد والمجتمعات، وما حدث هو ضرورة النظر إلى الدين بوصفه ((أداة)) تستهدف مصلحة البشر، وليس وسيلة لخنقهم بطقوس قد تفضي في النهاية إلى عكس ما أُريد لها.
إنها العودة إلى مشروع كانت في كتابه المثير “الدين في حدود العقل”، حيث ذهب إلى الدعوة للفصل بين الجانب الوضعي في الدين (المنظومة العقائدية) والمضمون القيمي والأخلاقي الذي يمكن أن يكون مادة ثرية للتعقل، ومصدرًا لا غنى عنه لتوطيد الواجب الأخلاقي.
مظاهر الأزمة البنيوية للفكر والخبرة الإسلامية
تاريخيًا، لم يتناول التراث الفقهي السياسي الإسلامي والأحكام السلطانية مفهوم الدولة، بمعنى الكيان السياسي الجغرافي المتضمن عناصر: الأرض والشعب والسلطة، بل إنّ التنظير لفكرة الدولة الإسلامية في ضوء التاريخ المعاصر، حمل كثيرًا من الطوباوية والتفكير الرغبوي، وقدرًا كبيرًا من الشعاراتية والرؤية الأخلاقية لمفهوم الدولة، من دون الغوص الحقيقي في الآليات وأساليب العمل، ومن دون التنظير لفكر سياسي واقعي يملك القدرة على التحرك والمرونة في محيط مضطرب. لذلك بقيت أغلب الكتابات حول ((الدولة الإسلامية)) مثقلة بعبء التجربة التاريخية الإسلامية، ولم تستطع الانفكاك عنها وتجاوزها. ففي الدولة الإسلامية المفترضة هناك غموض يحيط بالمفاهيم المرتبطة بالدولة، فالولاء مسألة خلافية: هل هو للدولة أم للدين، ومسألة غير المسلمين في الدولة الإسلامية ما تزال شائكة، كما إن مسألة ولاء المسلمين المواطنين في دول غير مسلمة هي مسألة أكثر تعقيدًا.
ثمة أزمة بنيوية للفكر والخبرة الإسلامية في تحديد خطوط الاتصال والانفصال بين الدين والدولة، ما يطرح مجموعة عناصر، من أهمها:
1- الحاكمية في مواجهة الأمة بوصفها الوعاء الذي ينتظم في إطاره الأفراد، ويتآلفون في كنفه على ((تقوى الله والإيمان بـه)). ويحيل هذا المفهوم للأمة على أسئلة مركزية، في سياق النظر في علاقة الحركات الإسلامية بالمجال السياسي، لعل أبرزها معيار الانتماء لديها: هل هو عَقَدي ديني محض؟ أم سياسي؟ أم ثقافي قيمي؟ أم هذه العناصر كلها مجتمعة، وإن اختلف ترتيبها في سلم الأهمية؟
2– الدولة المدنية، حيث تظل الأسئلة الأساس التي يثيرها الحديث عن دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية من دون إجابة، ومنها: كيف يتم تجسيد المرجعية عمليًا ومؤسساتيًا، ومن يعبر عنها؟ وكيف؟.
النهضويون العرب والسلطة الدينية
لم تتجاوز الإصلاحية الإسلامية إطار الدفاع عن مدنية السلطة والنظام السياسي من دون أن تصطدم بالدين، ولكنها ناهضت مبدأ السلطة الدينية، وقارعت الاستبداد الديني ورأت فيه أساسًا مكينًا لتوليد الاستبداد السياسي.
من الملفت للانتباه أنّ مفكري النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر، بمن فيهم تيار الإصلاح الإسلامي، طرحوا كيفيات تحديث الدولة العربية وفق رؤية علمانية. فقد أقامت الإصلاحية الإسلامية مساوقة بين ((الإسلام الصحيح والعقل))، والعقل الوضعي والحداثة، فأصبح من الممكن في هذا الوضع أن تقوم المماهاة بين الإسلام والحداثة بعامة، وأن يكون أساسًا لمدنية سوية لا تتميز عن المدنية العلمانية الحديثة، وهي الأنموذج العملي، إلا تمييزًا قيميًا. وعلى هذا الأساس، أعادت الإصلاحية الإسلامية التقدير إلى المرجعية الإسلامية التي أعيد تأويلها، فكان الإسلام النفعي (مقاصد الشريعة) التابع للتأويل العلماني بالفعل أو بالقوة، من دون اللفظ، مضمونًا للإسلام المعياري الذي وضعته الإصلاحية الإسلامية مرجعًا لها.
توجهات الإسلام السياسي
يمكن تقسيم حركة الإسلام السياسي إلى توجهين رئيسيين: أولهما، توجه أكثري ينشدُّ إلى الماضي، يخلط الدين بالشأن العام، ويقوم على إقصاء الرأي الآخر. وثانيهما، توجه أقلي مرن يتطور مع الممارسة والفعل السياسيين، بسبب تمييزه للمجال السياسي عن الديني، وعدم الخلط بينهما، وكذا مرونته الفكرية المواكبة لفعله السياسي.
حركة النهضة في تونس تتبنى فكرًا أقل انغلاقًا من نظرائها، فهي لا تردد مفاهيم الشورى والإمارة والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها في خطاباتها السياسية والإعلامية المعلنة، وإنما رسالتها التي رغبت في تبليغها مفادها أنها حركة مدنية ديمقراطية حداثية. وقد عملت سياسيًا بمنطق وفاقي، وبحثت عن أوسع ائتلاف ممكن لدعم الانتقال الديمقراطي، وعدّت الثورة ومكتسباتها مرجعية سياسية للقوى التي تريد القطع مع الماضي جميعها، وإدخال تونس نهائيًا في مرحلة ديمقراطية.
الإسلام السياسي التركي
إننا في صدد تجربة متميزة في المجتمع التركي، تقدم إسلامًا آخر غير إسلام الجمود والانغلاق. إنه إسلام متعايش مع العصر، منفتح على العالم، معترف بالحداثة، حريص على الهوية الإسلامية من دون تعصب ولا إكراه وفرض، ومن دون اغتيال العقل، ومن دون تكفير المجتمع والعالم. ومهما يكن من أمر فإنّ التجربة التركية أعادت إلى الأذهان -من جديد- إمكان التوافق بين الإسلام والحداثة من جهة، وإمكان الديمقراطية وتجاوز السلطة الدينية من جهة أخرى.
إنّ إسلاميي تركيا يبعثون برسالة بليغة إلى حركات الإسلام السياسي جميعها، مفادها أنه يمكن تقديم الإسلام بصورة مختلفة عما يعرضه الأصوليون المتزمتون الذين يقدمون للعالم صورة متخلفة وراعبة للدين الإسلامي، إنهم يتحدثون بلغة عصرية مفهومة، ويعبرون عن أفكار متمدنة: فصل الدين عن الدولة، الديمقراطية وحرية العمل السياسي للجميع، كفالة حقوق الإنسان، مساواة النساء بالرجال. وكي نجسد تأثير الأنموذج التركي في عالمنا العربي، يبدو أنّ علينا أن نرى مشروعًا تركيًّا، يحاول فيه نظام علماني أن يستوعب المكون الديني في المجتمع، ويدخله في معادلة النظام السياسي.
خاتمة
ربما تستطيع التيارات والحركات الإسلامية التي انخرطت في معمعة النضال السياسي الواقعي، تجاوز التجربة التاريخية والتنظير لرؤية إسلامية تعبر عن فكرة الدولة ومشروعها، عمادها الإصلاح السياسي، وإقامة الحريات العامة، والمجتمع المدني الديمقراطي، وإصلاح الفساد الداخلي والتنمية المستدامة. وقد يكون هذا المدخل في استشراف اتجاه إعادة الحركة الإسلامية لإنتاج نفسها أكثر منطقية وصحة، خاصة مع إرهاصات الربيع الديمقراطي العربي، فهي في حاجة إلى البحث عن تعريف لنفسها، يختلف عما كانت عليه طوال العقود الماضية، وهو تعريف يجب أن يكون مستمدًّا من رؤية لدورها، وما تسعى إليه فعلًا، ومن حاجة مجتمعاتنا العربية إلى الانخراط في عصر الحداثة السياسية، بكل ما تنطوي عليه من مفاهيم المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات وحاكمية الشعب.
د.عبدالله تركماني: باحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة. ولد في سورية عام 1948. حاز شهادة الدكتوراه في التاريخ المعاصر، أستاذ في كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بتونس، وباحث في الشؤون الاستراتيجية. لديه سبعة كتب، منها: مقاربات حول قضايا التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي والمسألة القومية، الفضاء العربي وتفاعلاته في التاريخ المعاصر، تعاظم الدور الإقليمي لتركيا، العرب وحوار الثقافات في عالم متغيّر. وشارك في نشر أكثر من خمسة وعشرين كتاباً، وله عدد من المقالات والمقاربات في الصحف والمجلات.