يشكّل الخطاب الإسلامي فيما يتّصل بنموذج الدّولة نوعًا من “اليوتوبيا” التي تتجاهل كثيرًا الواقع المعيش عبر الإيغال في المثالية والنموذجية، ونقصد المثالية النظرية، ونموذجيّة المثال الومضي الأول للدولة التي أقامها الرسول محمد في المدينة المنورة.
تكمن المشكلة الأساسية في الهوة السحيقة المتمثلة في قرون طويلة غاب فيها النموذج الإسلامي عن الواقع، منذ انتهاء عهد الخلافة الراشدية، وتمثّل هذه الهوة تغييب المعاني الاجتهادية في الحكم والسياسة عن الواقع، ومن ثمَّ حرمانها من التفاعل والتبلور، وهو التغييب الذي أبقى هذه المعاني أو العناصر “الحكمية” على صورتها الأولى المتجاوزة.
ولقد كان عهد عمر بن الخطاب مثلًا مزدهرًا بإضافات اجتهادية في الحكم، وهي الاجتهادات التي لا تدخل في باب “التوقيف”، وبعد عهد الخلافة الرّاشدة ظهرت أساليب وتقنيات بعيدة عن روح الإسلام، الأمر الذي راكم تجارب وظواهر حكمية، منطلقة من الإسلام ومتجهة نحو الابتعاد عنه..
الشورى هي مبدأ حُكمي إسلامي لم تلق التطوير “كنظام” هادف إلى المحافظة على وحدة الصفّ والموقف بوحدة التقرير، وتحقيق الأمن والسّلم والقضاء على التهميش والاحتكار، التي هي أسباب الثورات الداخلية، إنّ هذا النظام (الشورى) لم يجد من التطوير ما يجعله اليوم يُعرضُ حلًا في واقع انهيار الإيديولوجيا والتقنينات البشرية.
الشّورى ليست هدفًا في ذاتها بقدر ما هي شكل من أشكال “التّقرير” الجماعي، في مسائل الاختلاف أو في الدنيويات، ولو كانت الشورى أمرًا يستند إلى نصّ لما أمر الله نبيّه أنْ يشاور الصّحابة (وشاورهم في الأمر)، فلا شورى في نصّ كما أنهّ لا اجتهاد مع نصّ، لذلك فإن الشّورى ليست هي المطلوب النهائي، بل هي اجتماع للوصول إلى هذا المطلوب، لذلك فهي تخضع للنظر الديني، كما تخضع للنظرة الاستراتيجية التي قد يضلع فيها غير العالم بالشريعة، وكلّنا يذكر كيف أنّ الصحابة كانوا يسألون الرسول في بعض قراراته قائلين: “أهو الوحي أم الحرب والمكيدة”، وحين يعلمون أنّها الحرب والمكيدة يشيرون عليه، وقد يأخذ بآرائهم ويترك رأيه، ولن أناقش هنا الفرق بين الشورى والاستشارة والمشورة، والالزام وعدم الالزام، لأني بصدد الحديث عن الشورى كنظام، وعن الأخذ برأي الآخر في أمور الدولة إذا كان رأيه صوابًا مهما كان هذا الشخص.
كانت الديمقراطية تلبي حاجة ورغبة ورأي الأغلبية، لكن ثارت عليها الأقليات في بعض الأحيان طالبة الانفصال بالقوة، معتقدة أنها – كونها أقليات – لا يمكن أن تصل إلى الحكم في يوم ما مع أغلبية تفوقها عددًا وناخبين، والديمقراطية تلبّي حاجة الأغنياء والفقراء، لكن البعض يعتقد أنها لصالح للمدعومين و”لعبة مال” تتحكم فيها جماعات ولوبيات ضاغطة، لذلك ثار عليها الفقراءـ في بعض الأحيان، وبقي كثيرون يتطلعون إلى شكل جديد من أشكال الحكم والقرار.
الشورى كعنصر من عناصر الحكم الإسلامي يجب أن لا تُفهم فهمًا بعيدًا عن معناها الحقيقي وماهيتها الجوهرية، والناس حولها صنفان، صنف فهم أنّ الشورى لا يمكن أن تحقّق طريقة “قرار” في أقطار طيفية تشكلّها جماعات عدّة بعضها إسلامي وبعضها غيرُ إسلامي، والشورى حسب هؤلاء حكر على المسلمين، وبالتالي فإنّ غير المسلمين، أو حتى المسلمين من غير الأحزاب الدينية سيجدون أنفسهم مهمّشين، وهو أمرٌ لن يقبلوا به أبدًا، وهذا الصنف بنى على فهمه هذا للشورى توجّهًا لتجاوزها نحو الديمقراطية.
الصنف الآخر يصرّ على أنّ الشورى يجب أن تكون كما كانت أوّل مرّة، حكرًا على المجتهدين من علماء الإسلام، بل وقد تُوسَّع لكن في الإطار الإسلامي، ولا يجوز لمواطن عالم غير مسلم، أو غير إسلامي أن يؤخذ رأيه ويدخل دائرة الشّورى.
وبين هذين الرأيين ضاعت الشّورى في الواقع، ولو على المستوى الفكري والتصوري، فلا الصنف الأوّل طوّر الشورى لتستوعب الواقع، ولا الصّنف الثاني استطاع، ولن يستطيع تطبيقها حسب فكره في واقع تمثّله جماعات عدّة.
ما يجب التنبيه إليه هنا، هو أنّ “الدولة القطرية” لا تعني التمكين، لقد تغيّر مفهوم التمكين كثيرًا نظرًا لتغيّر الواقع، والدولة القطرية اليوم وإن كانت إسلامية الحكم والتشريع هي ولاية في الدولة العالمية ذات التشريعات الكونية، لذلك تكون الدولة عبارة عن بلدية أو ولاية أو محافظة إسلامية في دولة غير إسلامية.
إنّ المسلمين يشكلون 1/6 من سكان العالم تقريبًا، كما أنّهم يمثّلون الضّعف على كل المستويات، وهم رغم ذلك يظنون أنّ إسقاط نظام معيّن وإقامة دولة إسلامية قطرية معناه التمكين والخلافة التي تبيح للحاكم المسلم فِعْل ما يشاء بعيدًا عن رقابة عالمية، بل وتدخلات باسم حقوق الإنسان، وحماية الأقليات و.. و.. والعولمة.
لذلك سقطت نماذج دول إسلامية، والبشرية تبقى تطالب بالأمثل، باسم “المدينة الفاضلة” حينًا وباسم “الطريق الثالث” حينًا آخر، وتبقى “اليوتوبيا” والنموذجية مطلبًا ملحًا، ويقول أوسكار وايلد في هذا المجال: “إنّ خريطة العالم التي لا تتضمّن اليوتوبيا لا تستحقّ حتى إلقاء النظر عليها، لأنّها البلد الوحيد الذي تهبط عليه سفن البشرية دائمًا، وعندما ترسو البشرية هناك، فإنّها تتطلّع للأفق، وإذا لمحت بلدًا أفضل، بدأت الإبحار من جديد، فالتقدم هو تحقيق اليوتوبيات في الواقع“.
وطبعًا تطوير الشّورى، أو إثراؤها ببلورة فكرية تقوم مقام البلورة الزمنية الواقعية التي لم تحدث طوال قرون، ليس أمرًا سهلًا، ذلك لأنّ الإنسان يجد نفسه في حقل متفجّرات، وهو يسير بين معايير دقيقة وثوابت حسّاسة للشريعة الإسلامية، لا يجب أن يمسّها أو يتجاوزها، وبين واقع يطلب تجاوز الحمى الدينية، وهو الواقع الذي تلوّنه فسيفسائيًا ثقافات وأعراق وجماعات متباينة مختلفة متدافعة لا يسلّم بعضها لبعض، وإن كانت الأقدار قد حكمت عليها أن تجتمع في حيز مكاني واحد.
أمام فكرة الاستئثار التي تملكها كلّ جماعة نحو الوطن وحكمه والسيطرة على الجماعات الأخرى يحدث الصّراع، وقد كانت الديمقراطية لمدة مسكنًا مقبولًا إلى حدّ ما، لا بما توفره من تداول على السلطة أبدًا، لأنّها لا تفعل ذلك البتّة، بل بما تكفله من حرية للكلام والتعبير، لذلك لابد من التمييز بين الديمقراطية والحرية (الليبرالية) فالديمقراطية تعني “حكم الشعب”، أو “قرار الشعب” أمّا الليبرالية فتعني المساحة المقدسة للحرية، وهي المساحة التي تكفل للفرد والجماعة التعبير عن الرّأي والتنفيس عن الضغط عند وجوده.
إنّ نظرة الإسلاميين عبر تجارب عدّة إلى الأقليات والنخب المخالفة، قد ولّد تخوفًا دفع في بعض الأحيان نحو الحيلولة دون تطبيق النموذج الإسلامي لذلك تتساءل الأقليات والجماعات المختلفة عن موقعها في الدولة الإسلامية.
وطبعاً فللإنسان هواجسه نحو المستقبل، ومع تزايد المدّ الإسلامي يتزايد الهاجس، ويولد السّؤال الملحّ: “ماذا أنت فاعل بنا؟”
إنّ الإجابة عن هذا السّؤال بنظرية محكمة تمثّل موقفًا سيدفع الآخرين نحوة بلورة مواقف جديدة نحو النموذج الإسلامي.