لا أظن أن عاقلًا مهما اشتط به الهوى الفلسفي، أو استهوته اللامنهجية، يفسر لفظًا عربيًا بالاستفادة من اشتقاق لاتيني، من دون أن يفترض علاقةً ما بين الجذر العربي والجذر اللاتيني، في مرحلة سابقة على استعمال اللفظ.

إنَّ أيَّ عاقل لا يستطيع أن يفسر كلمة when الإنجليزية -مثلًا- بلفظها في لغتنا الدارجة التي تستعملها للسؤال عن المكان دون الزمان. وهذا يعني أن هناك إجماعًا -على الأقل فيما أعتقد- على أنَّ اللفظ يفسَّر وفق اللغة التي جاء في سياقها، ما يفرض الاستفادة من الأنظمة أو المستويات اللغوية عند التفسير من حيث الجملة، على خلاف في الكمِّ والكيف والتفصيل.

بدايةً، يفرض علينا عقلنا البشري -ونحن تحت وطأة حكمه مهما حاولنا رفضه- جَبْريَّةً في تفسير النص مكتوبًا أو مسموعًا. نحن أمام حقيقة لا يمكن تجاهلها عند إرادة بيان المعنى الكامن في اللفظ أو الكلمة وإن غابت القرينة، ألا وهي اعتماد اللغة وسيلة للفهم، إذا سلَّمْنا هذا في تفسير النص -أيِّ نصّ- فهذا يجعلنا في منأى عن تأكيد ذلك أو الاستدلال له، في حالة تفسيرنا للنص القرآني. ومع ذلك، فالآيات المفيدة لوجوب الاعتماد على العربية وسيلة لفهم القرآن غير قليلة، بل قد يحار الإنسان في كثرتها. وربما تزيل الحيرة أن هذه الآيات (أكثر من عشر آيات) نزلت في مكة حيث كان التحدي بالقرآن الدليلَ العُمْدَةَ على صدق النبوة. ولكن هل جميع الآيات المفيدة لعربية القرآن نصًّا -على المعنى الأصولي للنص- مكِّيَّة؟ الجواب: نعم إذا لم نعدّ آية الرعد نصًا في ذلك. ولكن هذا المقصد -أعني حجية القرآن على صدق الرسالة- يجعل تأكيد القرآن على عربيته غير متوجه إلى طريقة التفسير ابتداء، وهذا صحيح أيضًا لولا آية الرعد.

إننا إذًا أمام آية تشكِّل حكمًا استثنائيًا لا نستطيع التعميم معه، مِمَّا يدفعنا إلى التأمل في هذه الآية لاستنباط معالم هذا الاستثناء وأسبابه.

يقول سبحانه: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ. وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ   [.: 36، 37].

نلاحظ في الآية الأمر بالتزام العلم مقابل الهوى (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) ولكن، ماالعلم هنا وما الهوى المقابل؟ يفسر ذلك سؤال يحضر في الذهن عند قراءة الآية موازنة بالآيات المكية ولنأخذ على سبيل المثال الآيات المكية البادئة بـ “كذلك” اللفظ الذي تبدأ به هذه الآية. يقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [ طه:113]. ويقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [ الشورى: 7]. والآيتان بهذا الترتيب نزولًا وجمعًا.

السؤال: لِمَ جاء لفظ العربية دائمًا مع وصف القرآن نصًا -كما قدمنا- أما هنا فجاء مع لفظ الحكم؟ ولماذا كانت العربية -في السور المكية- تلازم القرآن أما هنا فتحولت إلى الحكم؟

إنَّ مِمَّا لا يجهله مثقَّف مسلم أنَّ الآيات المدنية إنما تتحدث في مجملها عن الأحكام، بخلاف الآيات المكية التي تُعْنى بتثبيت العقيدة، وبيان صدق الرسالة. هذا يعني أن العلم هنا: عدّ اللفظ كما توحي به دلالته اللغوية في مجال استنباط الأحكام الشرعية.

فإذا تجاوزت الحديثَ عن الحكم الشرعي حيث اللغة هنا لغة العلم في سياق أدبي، فلك أن تتذوَّق اللغة الأدبيَّة حتَّى في آيات الأحكام، على النحو الذي تقدمه لك جماليات اللفظ والسياق والموسيقى والإيحاءات والصور الفنية وما إلى ذلك؛ فاستنباط الحكم خاضع للقواعد العلمية كالفيزياء، اللفظ هنا لا يدل على شيء خارج الدلالة اللغوية الضيقة -إلى حد ما- كما أن القوة في الفيزياء لا يمكن أن تعني قوة البيان الأدبي مثلًا. فالتذوق الجمالي شيء واستنباط الحكم الشرعي شيء آخر. والإعجاز القرآني يتمثَّل في الجمع بين لغة العلم الصارمة، وبين لغة الأدب البيانية الجمالية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما الضوابط التي تعصم النص القرآني من التعسف في التفسير، أو التأويل عند انفتاح النص أمام آليات القراءة اللغوية؟ وما المنهج المتبع داخل النص “عندما لا يكون النص بالمعنى العام نصًّا بالمعنى الأصولي، وخارج النص (علاقة النص بنصوص أخرى)؟ هذا ما يقدمه لنا علم أصول الفقه بنسختيه الأثريَّة والمقصدية.

أمَّا النسخة الأثريَّة فيُجمل الشافعي خلاصة رؤيتها بجملته الشهيرة:”ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلا بالاستدلال”. [الرسالة:25]. وهذا يعني أنَّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- وكلامه عربي تحكمه طرائق الدلالة العربيَّةـ أن يحُدَّ من آفاقِ دلالة اللفظ العربي بما أعطي من سلطة التفسير، وبذلك يجعل الشافعي فصل المقال -فيما يخرج عن كونه نصًّا من كلام الله- متروكًا لبيان رسوله، وإلا فالقياس.

وقد يقول قائل: إنَّ السنَّة أغنت إذًا عن الاجتهاد بحصرها للدلالة اللغوية، بل بمحاصرتها لنصِّ القرآن المطلق بوجه واحدٍ لا يحتمل غيره. والحقيقة أنَّ هذا مجانب للصواب، وأظنُّ أنَّ ذلك سيتضح لاحقًا غير أنني أسارع إلى القول: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- لم يُفَسِّر القرآن على نحوٍ تفصيلي.

أمَّا النسخة الثانية -إن صحَّ التعبير- فيؤكِّد رائدها قطعية علم أصول الفقه، وليس ذلك حَجْرًا وصائيًّا، بل القطعيَّة آتية من طبيعة هذا العلم الذي يستمد سلطته من النصِّ نفسه؛ فالعدالة -مثلًا- واجب قطعي على كل حاكم في ميزان العقل البشري، الحديث هنا عن العدالة من حيث هي قيمة أخلاقية عامة مطلقة، يمكن أن يرفضها عاقل داخل الحرب. والصدق قيمة أخلاقية تُرْفَضُ، أو يمكن رفضها، عندما تتعارض مع قيمة أخلاقية أعلى. وكذلك القول بقطعية أصول الفقه من حيث الجملة بعيدًا عن التطبيقات الجزئية. وهنا يتَّضح لنا قول الشاطبي: [الموافقات، مقدمات، القسم الأول،1/33]: “إنَّ أصول الفقه في الدين قطعيَّة لا ظنيَّة، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي، بيان الأول ظاهر لاستقراء المفيد للقطع”. وقوله [1/33]: “فما جرى فيها مما ليس بقطعي فمبني على القطعي تفريعًا عليه بالتبع لا بالقصد الأول”.

ـ يؤكِّد علماء الأصول ضمن المدرستين أو الرؤيتين أنَّ النَّصَّ هو المؤسِّسُ لشرعية مختلف المصادر التشريعية، حتى تلك التي تملك سلطة بيانية أو تفسيرية، والعلاقات المتبادلة بين النصِّ المؤسِّس، ومجموعة الضوابط المنبثقة عن تحكيم المقاصد بصفتها سلطة تفسيرية مؤسَّسة، تشكِّل المنظومة الثانية التي استمدها الشاطبيّ من أبحاث المتقدِّمين وعلى رأسهم الشافعي الذي تحدَّث باستفاضة عن المنظومة الأولى في العلاقة بين النصِّ القرآني والنصِّ النبويِّ (الوحي بشكليه: المتلوّ، وغير المتلوّ).

نخلص من ذلك إلى أنَّ اللفظ القرآني الذي يحمل في طيَّاته اللغويَّة إمكانيات عِدَّة (دلالات مختلفة) يُرجَّحُ في تفسيره ما نصَّ عليه البيان النبوي، وهذا البيان محكوم بدوره بآليات القراءة اللغوية، ومحدود بمعطيات المقاصد في رعاية مصالح البشر. وهذا ما قاله ابن القيم (إعلام الموقعين3/14): “إنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَمِ ومصالح العباد في المعاش والمعاد؛ فكلُّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة”.

هذه المقدمة النظرية قد يعترف بها الكثيرون سواء دعاة التقليد أم دعاة التحديث، بل حتى بعض دعاة التغريب، لكنَّ المشكلة تكمن دائمًا في التطبيق، وأودُّ هنا أن أعرض لنموذج تطبيقي يهمُّنا في جلستنا الحوارية هذه، وقد بدأت بهذه المقدمة النظرية على أنها غير مقصودة لذاتها؛ لأنَّ لها أثرًا كبيرًا في تعرُّف منطلقات الأصوليين في نقاشهم المطروح. لدينا نصٌّ مؤسِّس عنه تصدر رؤيتنا، ولدينا واقع ننظر له على أنه محلُّ الرؤية لا الحاكمُ عليها، لكنَّنا لا نهمل الطرف المحكوم عليه لا لأننا نريد التطبيع مع الواقع، بل لأنَّ الواقع هو محور بحثنا وحوله تتركز رؤيتنا، ومن غير المعقول ألا يكون طرفًا مؤثِّرًا. ولا أريد أن آتي بالأدلة على أهمية فقه الواقع في تقرير الحكم، بأكثر مما قررته من أنَّ المصلحة مؤثِّرة في فهم النصِّ لا بليِّ عنقه، بل بإضاءة مساحات فيه قد تكون غائبة عن أولئك الذين حكموا به على واقع مخالف.

تختلف أنظار المفسِّرين في كثير من مواطن شرحهم لآية الجزية، وسأختار نماذج لتوضِّح ما رميت إليه من تحكيم آليةٍ تعتمد على اللغة أولًا والأثر ثانيًا والمصلحة الحقيقية ثالثًا، على نحو ما قدَّمت في مقدمتي النَّظريَّة، يقول الله تعالى :{ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة: 29].

يختلف المفسِّرون وعلماء اللغة في تحديد أصل اشتقاق الجزية، فيقول ابن منظور: “هي عبارة عن المال الّذي يعقد الكتابيّ عليه الذّمّة، وهي فِعْلَة من الجزاء كأنَّها جزت عن قتله”. (لسان العرب، مادة جزي) فهو يرى أنَّها من الجزاء، والفقهاء -بالاستفادة من تحديد اللغويين لأصل هذه الكلمة- يترددون في معنى الجزاء هنا، يقول الماوردي (الأحكام السلطانية:142):” فأمّا الجزية فهي موضوعة على الرؤوس واسمها مشتقّ من الجزاء، إما جزاءً على كفرهم لأخذها منهم صغارًا، وإما جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقًا”. ويرى بعض اللغويين أنَّ الجزية هنا ليست من الجزاء بمعنى المقابلة، بل هي من جزى بمعنى قضى كما في قوله تعالى:{ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } [البقرة:48] أي: لا تقضي عنها، وابن قدامة رحمه الله ينتصر لهذا المعنى حين يقول: “وهي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام، وهي فعلة من جزى يجزي إذا قضى”. فإذا انتقلنا إلى تفسير قوله سبحانه {عن يد} زاد الاختلاف، وسأعرض لما أورده ابن القيم من تفسيرات لهذا التركيب نموذجًا لهذه الاختلافات حيث يورد خمسة أقوال في تفسيرها:

1- يعطوها أذلاء مقهورين. 2- المعنى من يد إلى يد نقدًا غير نسيئة. 3- من يده إلى يد الآخذ لا باعثًا بها ولا موكلًا في دفعها. 4- عن إنعام منكم عليهم بإقراركم لهم وبالقبول منهم.5- عن يد منهم أي عن قدرة على أدائها فلا تؤخذ من عاجز عنها.

وقد صحح ـ رحمه الله ـ الأول ورفض الأخير.( أحكام أهل الذمة ص22).

فإذا انتقلنا إلى آخر الآية لنرى معنى الصغار في قوله “وهم صاغرون”، ألفينا اختلافًا أيضًا في بيانه، فقد ذكروا في تأويله معنيين: أحدهما أذلاء مستكينين. والثاني أن تجري عليهم أحكام الإسلام. (الأحكام السلطانية:143) أي أن يخضعوا للنظام العام للدولة. ولنقف وقفة سريعة أمام هذا الخلاف الأخير، ذلك لما يترتب على فهم الصغار -هنا- من أثر في تطبيق أمرهم بدفع الجزية، فالذين يفسِّرون الصغار هنا بالذُّلِّ ملؤوا كتب الفقه بشروط عجيبة على مؤدِّي الجزية، وهذه الشروط نتجت عن التفسير اللغوي لكلمة الصغار لكنها تجاوزت شرط تحكيم الأثر من جانب، وأهملت أهم مقصد من مقاصد الشرع وهو الرحمة، بل أظن أنَّها لم تتحقق من صلاحية المعنى اللغوي أيضًا، فتجاوزت المراحل الثلاث التي أقرها علم أصول الفقه.

أمَّا الجانب اللغوي فلو فسَّرنا الصغار بالذُّلِّ لوقفنا أمام مشكلة في تفسير آية أخرى، وأعلى درجات التفسير تفسير القرآن بالقرآن، لنقف أمام قوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}، ولنسأل كيف يغدو المعنى لو فسَّرنا الصغار هنا بالذلِّ، لا شكَّ أنَّ المعنى سيكون: ولنخرجنهم منها أذلة وهم أذلة، وهو معنى لا يتفق مع أسلوب القرآن وبلاغته. ولو تجاوزنا هذا الجانب وانتقلنا إلى جانب الأثر لم نجد دليلًا من السنة أو من سيرة الخلفاء الراشدين تطبيقًا لتلك الشروط التي فسَّروا بها كلمة الصغار، أمَّا مخالفة ذلك لمقصد الرحمة فما أظنه يحتاج إلى بيان. ويوضِّح الإمام النووي خلاصة ذلك بقوله (روضة الطالبين 10 /315 ـ 316 ) قلت: هذه الهيئة المذكورة أولا، لا نعلم لها على هذا الوجه أصلًا معتمدًا، وإنما ذكرها طائفة من أصحابنا الخراسانيين، وقال جمهور الأصحاب: تؤخذ الجزية برفق، كأخذ الديون، فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على من اخترعها، ولم ينقل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئا منها مع أخذهم الجزية، وقد قال الرافعي -رحمه الله- في أول كتاب الجزية: الأصح عند الأصحاب: تفسير الصغار بالتزام أحكام الإسلام وجريانها عليهم، وقالوا: أشد الصغار على المرء أن يحكم عليه بما لا يعتقده ويضطر إلى احتماله. والله أعلم.

هذا جانب مهم من تقرير المسألة، وربط للأحكام بمنظومة تؤهِّلنا للحديث عن الجزية في واقعنا المعاصر، فالحكم ينطلق من النصّ ليصادف واقعًا يحكم عليه، وفي أثناء حمل النصِّ الحاكم على الواقع المحكوم -ما يسميه الأصوليون تحقيق المناط- تتَّضح كما قدمنا مساحات قد يضيؤها الواقع داخل النَّصِّ، وتطبيقًا على ذلك لا بدَّ لنا من نظرة فقهية سريعة توضِّح لنا كيف يمكن تطبيق النَّصِّ على واقعنا في سوريا المستقبل.

فأقول: الجزية هي “ما يؤخذ من أهل الكفر جزاءً على تأمينهم وحقن دمائهم مع إقرارهم على الكفر” (تعريف ابن رشد، ينظر: حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني 4/33). وهي تؤخذ من المقاتلين، أعني مَنْ هم قادرون على القتال، قال ابن قدامة: “ولا جزية على صبيّ ولا زائل العقل، ولا امرأة، لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في هذا، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد وأبو ثور، وقال ابن المنذر، لا أعلم عن غيرهم خلافهم” (المغني لابن قدامة، 10/572).

وأودُّ أن أشير إلى أنَّ تحديد الجزية وما يتصل بهذا العقد في الجملة هو من باب السياسة الشرعيَّة، حتَّى أنَّ عمر -رضي الله عنه- قَبِل من بعض العرب النَّصارى دفع ضعف زكاة المسلمين، بدل دفع الجزية، لأنفتهم من اسم الجزية كونهم عربًا، قال ابن قدامة: “بنو تغلب بن وائل من العرب من ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر إلى بذل الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا: نحن عرب، خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة، فقال عمر: لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم، فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين إنَّ القوم لهم بأس وشدَّة، وهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عليك عدوك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث عمر في طلبهم فردّهم، وضعف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين، فاستقر ذلك من قول عمر، ولم يخالفه أحد من الصحابة فصار إجماعًا، وقال به الفقهاء بعد الصحابة” (المرجع السابق، 10/581).

وممَّا يؤكِّد ذلك أنه روي في عقود الجزية في صدر الإسلام إسقاطها عن القوي إذا ضعُف، والغنيِّ إذا افتقر، فمن ذلك ما جاء في كتاب الصّلح بين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأهل الحيرة: “وجعلت لهم أيّما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدّقون عليه طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النّفقة على عيالهم” (الخراج لأبي يوسف ص 156.)

كما دلت هذه العقود، على أنَّ عجز المسلمين عن حمايتهم يقتضي إرجاع أموالهم التي دفعوها على أنها جزية، لأنها إنما شرعت في مقابل دخولهم تحت حماية المسلمين، ومما ورد في ذلك ما ذكره أبو يوسف من أنَّ أبا عبيدة بن الجرّاح عندما أعلمه نوّابه على مدن الشّام بتجمّع الرّوم لمقاتلة المسلمين كتب إلى كل والٍ ممن خلّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردّوا عليهم ما جُبي من الجزية والخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: “إنّما رددنا عليكم أموالكم، لأنّه قد بلغنا ما جُمِع لنا من الجموع، وأنّكم اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنّا لا نقدر على ذلك..” (المرجع السابق، ص 139) وورد من ذلك عدَّة أخبارٍ دالة على أنَّ عجز المسلمين عن حمايتهم يوجب إرجاع ما دفعوه من الجزية.

وبناء على ما تقدَّم أودُّ أن أسجِّل الملاحظات الآتية:

1- يجب أن ينظر الإمام في مصلحة المسلمين ليحدد كيفية التعامل مع رعايا الدولة من غير المسلمين، كما فعل عمر رضي الله عنه مع بني تغلب، وبناء على ذلك يمكنه أن يأخذ منهم مالًا باسم الضرائب أو الصدقة أو غير ذلك، مقابل ما يلزم من حمايتهم، وما يعبِّرون به عن مواطنتهم (الخضوع لنظام الدولة).

2 – يدفع المسلمون الزكاة تعبُّدًا، ويمكن أن تكون الجزية في مقابلها؛ لأنَّ غير المسلم لا تقبل منه القربات.

3- ظاهر الأدلة تشير إلى أنَّ الجزية تؤدَّى مقابل الحماية، فهي لا تؤخذ إلا ممن يستطيع القتال، وتردُّ في حالة عدم القدرة على حمايتهم، وهم كانوا إذ ذاك لا يقاتلون مع المسلمين.

 

وبناء على هذه الملاحظات فإنَّ أهل الطوائف اليوم في بلاد الشام، ممن ثبت كفره، ينظر في الآلية التي يُثبِتُ فيها ولاءَه للدولة، بأن يدفع مبلغًا مقابل إعفائه من الخدمة العسكرية، أو أن يشترك مع المسلمين في حماية بلده، وعندها تسقط عنهم الجزية، إذ كانت مقابل حمايتنا لهم، وهم يدفعونها بشكل بَدَلٍ عن خدمة العلم على ما تسمَّى اليوم، أو يشتركون في حماية البلد أسوة بالمسلمين.

وقد ذهب إلى هذا القول عدد من العلماء المعاصرين، منهم د. عبد الكريم زيدان (أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، ص 157 ـ 158)، ود. القرضاوي (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ص 28).

وممَّا يدلُّ على جواز إسقاط الجزية عنهم إذا اشتركوا في حماية البلد المسلم، سوابق تاريخيَّة متعددة، ذكرها المؤرخون المسلمون كالطبري وغيره، ومن ذلك ما ذكره البلاذري في فتوح البلدان (فتوح البلدان ص 217. وذكر د. عبد الكريم زيدان رحمه الله عددًا من هذه السوابق في كتابه أحكام الذميين … ص 155) وما بعد من مصالحة والي أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه للجراجمة (المسيحيين) على أن يكونوا عونًا وعيونًا للمسلمين مقابل إسقاط الجزية عنهم.

 

أخيرًا ـ نظرة واقعيَّة

لا بدّ بعد بيان الحكم من ملاحظة المعطيات الواقعيَّة الآتية:

أولًا: حال الطوائف المنتشرة في الجغرافيا السوريَّة امتدادٌ لإقرار المسلمين لها عبر القرون، منذ العصر العباسي مرورًا بالعصر العثماني ووصولًا إلى العصر الحديث. فليس إقرارها اليوم بدعًا من الأمر، بل هو منهج المسلمين في التعامل مع غير المسلمين في المجتمع الإسلاميّ عبر العصور.

ثانيًا: لا سبيل إلى إفناء الأقليَّات ولا إلى تهجيرهم، هناك مئات آلاف السوريين من هذه الأقليات في سوريا، بعضهم يريد التعايش بصدق، وإقرارهم ضمن تفاهمات هو السبيل للاستفادة منهم بدل معاداتهم.

ثالثًا: نصَّ الفقهاء على أنَّ عقد الجزية هو ما يحقق مقاصد الشريعة الغراء في هداية الناس وإرشادهم، فمن ذلك ما قاله ابن العربي: “لو قُتل الكافر ليئس من الفلاح ووجب عليه الهلكة، فإذا أعطى الجزية وأمهل لعله أن يتدبر الحق ويرجع إلى الصواب، ولا سيما بمراقبة أهل الدين والتدرب بسماع ما عند المسلمين؛ ألا ترى أن عظيم كفرهم لم يمنع من إدرار رزقه سبحانه عليهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس أحد أصبر على أذى من الله يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد” (أحكام القرآن لابن العربي 2/482، والحديث أخرجه البخاري رقم 5634، ومسلم، برقم 5016 بألفاظ قريبة، ولفظ البخاري، وهو الأقرب للمذكور، “ليس أحد ـ أو ليس شيء ـ أصبر على أذى سمعه من الله، إنَّهم ليدعون له ولدًا، وإنَّه ليعافيهم ويرزقهم”). وما قاله القرافيّ رحمه الله: “إنّ قاعدة الجزية من باب التزام المفسدة الدّنيا لدفع المفسدة العليا وتوقّع المصلحة، وذلك هو شأن القواعد الشّرعيّة، بيانه: أنّ الكافر إذا قتل انسدّ عليه باب الإيمان، وباب مقام سعادة الإيمان، وتحتّم عليه الكفر والخلود في النّار، وغضب الدّيّان” (الفروق 3/10.)

ولو ربطنا كلامهم هذا بواقعنا لأدركنا أنَّ المصلحة الدينيَّة والدنيويَّة متحقِّقة بإقرارهم، ولعلنا نعلم أنَّ عددًا من العائلات النصيريَّة المشهورة اختلطت بأهل السنَّة في دمشق، فكان منها علماء وتجار مؤمنون مسلمون يسعون في مصالح المسلمين ويدعمون الدعوة الإسلاميَّة، كما يعرف أهل دمشق وغيرهم.

رابعًا: كانت الأقليَّات -ولا تزال- وسيلة الأجنبيّ للتدخل في البلاد، وذريعته في التحكُّم في قراراتها، وقد يدفع هذا بعض الناس إلى عدّهم خطرًا يجب التخلُّص منه، وهو تفكير ثبت خطؤه تاريخيًّا، والأولى استيعابهم ضمن مواطني الدولة، وإقناعهم بصدق السُّنَّة في الرغبة بالتعايش معهم دون مشكلات، وهذا يقطع يد التدخل الأجنبيّ بحجة مساعدتهم والدفاع عنهم، وبقاؤهم في ظل الدولة التي تحكم بالعدل مهم لطمأنتهم من جهة، ولبقائهم تحت مراقبة الدولة من جهة أخرى. وقد تقدَّم معنا أنَّ هذا ما دفع عمر رضي الله عنه لقبول الجزية باسم الصدقة من نصارى بني تغلب، وفي التاريخ شواهد مماثلة منها صنيع السلطان عبد الحميد مع بعض الطوائف في شمال سوريا، فإنَّ ضياء باشا الذي بعثه ليستكشف أمرهم رأى ميلهم إلى إيران ومحاولة الأميركيين لاستقطابهم عبر المدارس، فكان أن قطع السلطان الطريق على هؤلاء بما فعله من محاولة إصلاحهم. (خطط الشام، (3/105_106)، (6/58)، سوريا والعهد العثماني، يوسف الحكيم، ص 70_71).