لم يطل الوقت حتى وافقت المعارضة السورية المسلحة على المشاركة في مؤتمر أستانة الذي رعته روسيا وتركيا في العاصمة الكازاخية مطلع عام 2017، وقامت بتحديد وفدها، وقوامه ممثلين عن الفصائل المسلحة الـ 13 الموقعة على اتفاق وقف إطلاق النار في اليوم الأخير من العام الذي سبقه، وجرى إقراره في أنقرة بضمانة روسية وتركية.

بغض النظر عن أهداف ذلك المؤتمر، وعدم نجاحه في وقف أو حتى التخفيف من الحرب السورية، اللافت في الأمر أن المشاركين كانوا هم القوى العسكرية السورية المعارضة، وتم تهميش القوى السياسية المعارضة، بمن فيها الهيئة العليا للمفاوضات التي تعتبر المفاوض المعترف به دوليًا عن المعارضة السورية، والوحيد الذي شارك في مفاوضات جنيف التي جرت برعاية أممية، وكذلك تهميش ائتلاف قوى الثورة والمعارضة، الذي يضم تشكيلة واسعة من التيارات والأحزاب والتجمعات السياسية المعارضة.

أعطى الروس أهمية كبيرة لأستانة، وسعوا بشكل جدّي لعقده وإنجاحه، بطريقتهم طبعًا، ومارسوا ضغوطًا عبر تركيا على المعارضة السورية المسلحة لتقبل المشاركة فيه، وقالت تركيا للفصائل إنه بإمكانها طرح شروطها في المفاوضات، مراهنين على إضعاف الأكراد الموالين لحزب العمال الكردستاني وإضعاف النفوذ الإيراني في سورية عبر التعاون مع روسيا.

سعى الروس لـ “ترقيع” الوفد المفاوض الذي يمثل المعارضة ببعض الشخصيات المعارضة المنتمية لهذه التكتلات، لكن تمت دعوتها بصفتها الشخصية، وليست كممثلة لتلك التكتلات، وبالتالي همّش الروس التكتلات السياسية السورية المعارضة، لصالح مجموعة من الفصائل التي كانت لا تُمثّل إلا جزءًا من القوى العسكرية المقاتلة في سورية، فهي لم تضم كل الجبهة الجنوبية التي عملت في نطاق واسع في جنوب سورية، كما لم تضم سبعة فصائل كبرى ومتوسطة رفضت حضور مؤتمر أستانة لشكوكها في أهدافه، من بينها “حركة أحرار الشام” و”صقور الشام” و”فيلق الرحمن” و”ثوار الشام” و”جيش إدلب” و”جيش المجاهدين”.

على الرغم من تلك النوايا الروسية، إلا أن كل المعطيات أكّدت لاحقًا أن المؤتمر يهدف لمسألة واحدة فقط، وهي وضع خطة لوقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية، ولم تُبحث العملية السياسية، وأُجّلت.

وضع أستانة خطة لتثبيت وقف إطلاق النار، لكن تثبيت وقف إطلاق النار لم يكن ليحتاج لآستانة، أو لقرار روسي، بل لقرار أممي، فالمعارضة السورية طالبت منذ سنوات بصدور قرار أممي مُلزم تحت الفصل السابع لوقف إطلاق النار، لكن روسيا عرقلته، والنظام وإيران خرقوا كل هدنة مؤقتة، كما لم يكن هناك ضامن في مؤتمر أستانة لوقف إطلاق النار ذاك، فالخصم روسيا هو نفسه الحكم، لقد كان أستانة خدمة مجانية لروسيا، لتصنع أطراف إضافية تمهيدًا لإشراكها في مؤتمرات لاحقة.

بعد أن صار المؤتمر أمرًا منسيًا، انتبهت المعارضة السياسية إلى أن العسكر أخذوا مكانهم، وطالبت الفصائل العسكرية بالابتعاد عن مناقشة الشق السياسي، لقد كان أستانة محطة إجبارية محفوفة بالمخاطر، بحكم تحكم الروس بها، وتسيّدته الفصائل العسكرية التي لا تملك خبرة سياسية، فتسببت هذه الفصائل بإضعاف مرجعية جنيف ورعاية الأمم المتحدة.

استغل الثنائي الروسي والإيراني لأبعد حد أستانة لحرف العملية السياسية، ولتهميش السياسيين، وحاولوا فرض تسوية سياسية، كل على طريقته، وانتبهت روسيا فقررت إبعاد إيران عن الضلوع المباشر بهذا المؤتمر، وعدم مشاركة إيران فيه بشكل رسمي، على الرغم من أنه نتيجة اتفاق روسي – تركي – إيراني مشترك.

سعى الروس بالمقابل للاتفاق مع الفصائل العسكرية مباشرة لسحب البساط من الهيئة العليا للمفاوضات، لكن هذا الأمر جعل القرارات محل تشكيك ورفض طالما أنها لم تحقق أهداف التكتلات السياسية السورية المعارضة، خاصة مع وجود شكوك كبيرة جدًا بقدرة الفصائل المسلحة وكفاءتها المهنية للدخول في مفاوضات سياسية.

إن تحويل مهام الفصائل العسكرية إلى طرف سياسي، أمر حمل دلالات خطيرة كثيرة، وبالنظر إلى تلك الفصائل في ذلك الوقت، يسهل اكتشاف أن لا علاقة لها بالشأن السياسي التفاوضي، وليست صاحبة خبرة، وليست أهل اختصاص في مسار التفاوض والقرارات الأممية وعراقيل مفاوضات جنيف 1 و2 وملابسات تفسير القرارات الأممية، وبما يعني أن النوايا معقودة كانت فقط لخلخلة مؤسسات المعارضة وتغليب العسكري على السياسي.

حاول الروس جعل أستانة مسارًا خاصًا بديلًا عن مسار جنيف، ولهذا استبعدوا عقده تحت رعاية الأمم المتحدة، ولم يوجّهوا دعوات للولايات المتحدة، ولا لدول أقليمية ذات نفوذ في الشأن السوري كالسعودية وقطر، لكن هذه المحاولات الروسية فشلت، فلا روسيا ولا غيرها استطاع الابتعاد عن إعلان جنيف ومؤتمرات جنيف دون موافقة دولية شاملة، من القوى الكبرى ومن أوربا والدول الإقليمية، لأنه الشرعية الدولية الوحيدة المتفق عليها.

حاول مؤتمر أستانة التغريد خارج سرب المجتمع الدولي، فلا هو سار على مرجعية الأمم المتحدة، وهو في نفس الوقت لم يحظ باعتراف دولي كمؤتمر لحل المسالة السورية، فالقرار 2336 الذي اتخذه مجلس الأمن نصّ فقط على “أخذ العلم” بعقد المؤتمر، ما يعكس عدم رضا الدول الأوربية والولايات المتحدة والأمم المتحدة عن هذا المؤتمر.

حاولت روسيا دفع العسكري ليصعنوا السياسة بصورة مباشرة في أستانة، وربما بصورة غير مباشرة في جنيف، ومن سيفعلون ذلك كلهم (أي عسكر المعارضة والنظام)، في موقع المتهمين بارتكاب جرائم موصوفة وموثَّقة، أو أمروا بارتكابها أو تغاضوا عنها أو برروها، على مرأى ومسمع من العالم، الذي تخلى عن ضميره. أي حاولت روسيا إن تجعل مؤسسة الحرب هي التي تصنع السياسة، وتعيِّن مؤسساتها وأشكال عملها وآليات اشتغالها، وتقرر مستقبل البلاد، ويُهمّش السياسيون المدنيون.

أدخلت روسيا العسكر متاهات السياسة في أستانة، كما أدخل النظام السوري في بدايات الثورة الإسلاميين في الثورة بإطلاق سراح عتاتهم من سجونه، وكل ذلك من أجل بقاء الأسد ونظامه، بقاء الأسد على رأس منصبه بصلاحياته كاملة، ولمدة لا نهائية، ونسي عسكر المعارضة أن مهمتهم حماية الثورة وليس قيادتها سياسيًا، فاركتبوا منذ ذلك الوقت الكثير من الأخطاء التكتيكية والاستراتيجية، وساهموا في إضعاف المعارضة السياسية المتفرقة والمقسّمة والمتنافسة أساسًا، ودخلوا متاهات التناحر والصراع، وضرلوا الشرعية، وساهموا في تحويل حلم السوريين بإقامة بديل سياسي تعددي ديمقراطي في بلدهم أبعد وأشد صعوبة.