ترجمة: أحمد عيشة
(*) الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي المركز
في أثناء إعادة انتخاب بشار الأسد للرئاسة في عام 2021، انتشرت مشاهد موالين للنظام، على وسائل التواصل الاجتماعي وفي المدونات الإخبارية في البلاد، وهم يَخِزون أصابعهم ويصوّتون بالدم بـ “نعم”. وكانت مقاطع الفيديو المماثلة للدعم العاطفي وشبه الطقوسي للنظام هي القاعدة طوال عقود، وهي تعود إلى الصعود الأوليّ لحافظ الأسد (والد بشار) في السبعينيات. ومع أن بعض هذه المشاهد قد يكون مفروضًا بتنظيم من النظام، فإن الحجم الكبير والحماس الهائل لإعجاب الموالين يُشكّل تحدّيًا لأولئك الذين يرغبون في الاعتقاد بأنّ الأسد معزول، وأنه لا يحتفظ بالسلطة إلا من خلال الخوف والعنف. لا ينبغي الاستهانة بالهيمنة الأيديولوجية والعاطفية التي غالبًا ما يمارسها الطغاة، والتي تمتلك آثارًا مهمة على مفهوم المستقبل المشترك والمصالحة الوطنية.
غالبًا ما، تستلزم الرؤى الغربية لسورية ما بعد الحرب إنشاءَ برامج نزع السلاح وإعادة الاندماج الموجهة نحو أعضاء الجماعات والميليشيات الإسلامية. ومع ذلك، هناك نقاشٌ أقلّ حول تركات استبدادية الدولة في المناطق التي يسيطر عليها النظام أو المناطق الموالية له، كيف أنها ستؤدي على الأرجح إلى إعاقة أي نوع من المصالحة بعد الحرب. حتى في البلدان التي انتقلت إلى الديمقراطية بعد عقود من الاستبداد، كانت العملية بطيئة وضعيفة في كثير من الأحيان، بسبب الموروثات النفسية وعادات الدكتاتورية، التي يمكن أن تقود الناس إلى رؤية الاستبداد والمحسوبية، كإجابة أولى على أي مشقة أو صراع، أو صعوبة شخصية أخرى.
صنّفَ كثير من المحللين والمحللين السياسيين المواطنينَ السوريين إلى مجموعات تبدو واضحة ومثيرة للانقسام، وصنفوهم وفقًا لطائفتهم أو دينهم أو عِرقهم، أو بشكل أكثر عدوانية، صنفوهم وفقًا لتوجهاتهم السياسية. ظهرت أيضًا مصطلحات مثل “الموالي” و “المعارض”، في رواية ثنائية في الغالب بين جماعات المعارضة ومسؤولي النظام. وانتشر مصطلح آخر، “محايد” (الرمادي)، بين صفوف المعارضة ومسؤولي النظام، على حدٍ سواء.
وفي مقابلة مع باربرا والترز، في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2011، أشاد الأسد بأولئك الذين لديهم وجهات نظر سياسية محايدة، مدّعيًا أنهم منحوه الشرعية. في الوقت نفسه، فإن المعارضة تعدّ أولئك الذين لديهم موقف سياسي متناقض (مثل المحايدين) تعدّهم متواطئين مع النظام؛ وهذا يفرض مرة أخرى ثنائية مسيّسة مفادها أنه “إذا لم تكن مع الثورة، فأنت أسديّ”. هذا التصنيف المتشدد للسوريين يستهين بتأثير عملية التلقين الأيديولوجي، ومن ثمّ يزيد من انقسام السوريين.
في حين صاغ البعض منطق الدعم أو الولاء للنظام، على أنه نابعٌ من الانتماء الطائفي أو الفوائد المادية أو الوضع الاجتماعي، لم يتناول أحد كيف أثرت الأيديولوجية والتنشئة الاجتماعية، على مدى العقود الخمسة الماضية، في الحكم السياسي للسوريين، وساعدت في تشكيل أساس دعم الأسد. في الواقع، كما هو الحال في أي حرب أو صراع مسلح، يعكس التصنيف المبسط للأحزاب -تقسيم السوريين إلى معسكرين “معارضين” و “موالين”، و “محايدين”- فهمًا غير كافٍ لكيفية الولاء السياسي أو الموافقة السلبية لنظام حكم ما، أو حتى تشكل تعبئة المعارضة إلى حد كبير، من خلال عقود طويلة من التلقين الأيديولوجي والتكتيكات القسرية.
طوال أكثر من 50 عامًا، ظلّ نظام البعث في سورية يروّج لنموذج من الأيديولوجية الوطنية التي تؤكد الانتماء العسكري الشهم للنظام، كشكل من أشكال الهوية الشخصية ونمط للتقدم الاجتماعي. في حين أن السيطرة من أعلى إلى أسفل على الموارد المادية والمعلومات أسهمت بالتأكيد في الحفاظ على سلطة الأسد، فإن الاستيعاب والتكرار الواسعين للأيديولوجية الموالية بين شرائح كبيرة من عامة السكان أصبح الوسيلة المركزية التي يستمرّ النظام من خلالها في مهمته. حتى بين هؤلاء السوريين الذين لا يعدّون أنفسهم موالين للأسد، غالبًا ما يكون هناك شعور باللامبالاة السياسية أو عدم الاعتقاد بأن مجتمعًا مختلفًا يمكن أن يكون ممكنًا. كثيرًا ما يصف هؤلاء السوريون أنفسهم بأنهم “محايدون” سياسيًا أو “رماديون”، ويركزون بدلًا من ذلك على النجاح المادي الشخصي والاستقرار. ويميل كثيرٌ ممن يسمّون بالمحايدين والموالين إلى النظر إلى الوراء بحنين إلى عصر النظام الاشتراكي النسبي وغمر الاختلافات الطائفية والعرقية التي فرِضت في ظل الدكتاتورية البعثية. مع معارضة تنقسم بشكل متزايد بين الهويات والأيديولوجيات المختلفة، والحرب المستمرة منذ أكثر من 10 أعوام، هناك سببٌ كبير للقلق من أن الإرهاق السياسي والاكتئاب والحنين الاستبدادي سيستمر في ابتلاء السياسة السورية إلى ما هو أبعد من أي اتفاق سياسي محتمل لإنهاء الصراع.
السؤال الملحّ الحالي الذي يهيمن على تحليلات الصراع السوري هو كيف يمكن إنهاء الحرب بالمعنى العسكري؟ ولكننا ساعةَ حدوث ذلك سنواجه مسألة حول كيفية بناء رؤية بديلة وإعادة توحيد سورية لمنع تجدد العنف. إن شحذ الخطوط الطائفية والعرقية التي حدثت أثناء الصراع، وكذلك استمرار العادات العقلية والسياسية المتأصلة في أجيال متعددة من الاستبداد، سيخلقان عقبة أمام الإصلاحات الديمقراطية. ومن أجل تحدي هذه الموروثات الاستبدادية والمساعدة في منع تجدد العنف السياسي، يجب على المجتمع الدولي أن يولي اهتمامًا وثيقًا لكيفية تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، وتأثيراته على سرديات الهوية ومواقف المواطنين.
على الرغم من عدم وجود دولتين متطابقتين، فإن الأمثلة السابقة لدول ما بعد الاستبداد تُقدّم رؤى مفيدة لواضعي السياسات. في عراق ما بعد البعث، قام النظام المؤقت بقيادة الولايات المتحدة بتطهير الحكومة العراقية من أي شخص على علاقة بحزب البعث أو مرتبط به. أُبعِد كبار المهنيين الذين يشغلون مناصب رفيعة في القطاعات السياسية والعسكرية والمدنية. وقد أدى ذلك إلى شعور قويّ بالإقصاء والحرمان بين أجزاء كبيرة من السكان العراقيين، وكان يُنظر إلى هذا المسعى عمومًا على أنه جهد طائفي يستهدف السنّة. وإضافة إلى ذلك، تضررت شرعية الحكومة المؤقتة بشدة من تصوّر أنها دمية في يد قوة أجنبية (الولايات المتحدة). أسهم رفض السماح لأي شخص مرتبط بالبعثيين بالمشاركة في إعادة الإعمار الوطني للعراق بشكل مباشر في اندلاع الحرب الأهلية في عام 2006.
تثير الحاجة إلى مخاطبة الموالين للنظام، وإعادة دمجهم (بالإضافة إلى فصائل الميليشيات المختلفة) في مجتمع مشترك، التساؤل حول نوع العملية والسياسات التي ستكون أكثر فعالية. أود أن أزعم أنه يجب مواجهة الموروثات الاستبدادية من خلال عملية تصاعدية، تمكّن المنظمات المدنية السورية المتنوعة للتوسط في جهود المصالحة وإنشاء سرديات وطنية جديدة وأرضية مشتركة. هذا لا يعني أنه يجب منح المقاتلين عفوًا واسعًا كما حدث في لبنان بعد الحرب الأهلية في ذلك البلد. في هذه الحالة، أصبحت السردية السائدة سردية فقدان الذاكرة القسري، حيث لم تُفحَص الذكريات والتوترات الكامنة وتحَل بشكل حقيقي. وأسهم هذا مرة أخرى في نشوب صراع طويل الأمد واختلال وظيفي مدني. ولذلك يجب على المجتمع الدولي أن يواصل دعم المبادرات التي يقودها السوريون لمحاكمة المقاتلين الذين ثبت ارتكابهم جرائم، على سبيل المثال، في عملية مماثلة لمحاكمة كوبلنز الأخيرة التي أدانت مسؤولًا كبيرًا في النظام السوري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ومع ذلك، لا ينبغي أن تمتد هذه الملاحقات القضائية إلى عزل شامل أو إدانة لجميع الأفراد المرتبطين بالنظام. يجب أن تؤخذ الخيارات الصعبة التي يواجهها هؤلاء الأفراد وعقود من التلقين الاجتماعي الواسع النطاق التي واجهوها في الحسبان، كنقطة انطلاق لتطوير سرديات سياسية جديدة للديمقراطية وإعادة الاندماج.
يمكن العثور على نقطة أخرى محتملة لأرضية مشتركة للسوريين في رفض “التدخل” الأجنبي. تُظهر المتابعة الوثيقة لصفحات الموالين وللصفحة الرسمية للحرس الجمهوري السوري، على وسائل التواصل الاجتماعي، انتقادًا صريحًا للتدخل الإيراني والروسي. وبالمثل، تتفق معظم الفصائل المتنوعة في البلاد على أن تدخلات القوى الإقليمية والدولية أثناء الحرب أدت إلى تعزيز الأجندات الجيوسياسية لتلك الدول الأجنبية، بدلًا من دعم مصالح السوريين. على سبيل المثال، يُنظر إلى العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على ذلك البلد، من خلال “قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية”، على نطاق واسع في سورية، على أنها ضارة بجهود المعارضة كما هي ضارة بالأسد. شكك الأكاديميون ومحللو السياسة في فوائد العقوبات في إطاحة الأنظمة الاستبدادية أو حتى تغيير سلوكها. وأكثر من ذلك أن العقوبات جردت السوريين من إرادتهم، حيث أصبحوا جزءًا من الصراع الأوسع بين الولايات المتحدة وروسيا، وهو ما حوّل قانون قيصر إلى نفوذ تستخدمه القوى العظمى لتعزيز مصالحها الخاصة، بدلًا من كونه أداة سياسية في أيدي السوريين. ولأن العقوبات تم تشجيعها والنظر إليها على أنها نتيجة للضغط السوري في الولايات المتحدة، فقد أدى ذلك إلى حدوث شرخ اجتماعي بين السوريين. السوريون العاديون الذين يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها النظام، ويخضعون أيضًا لدعاية النظام الراسخة المعادية للغرب، وللسردية التي تصوّر أي معارضة سورية على أنها إرهابية أو أصولية أو متواطئة مع إسرائيل، وينظرون بعين العداء إلى مجموعات المعارضة السورية، ويعزون أسباب مشكلاتهم إلى السوريين الذين فرّوا من البلاد. لذلك، يجب على السوريين في الشتات تقديم المساعدة من خلال المنظمات المدنية، ويجب على الغرب والأمم المتحدة تسهيل مثل هذه الشبكات المجتمعية. سيساعد هذا في بناء مزيد من السرد الوطني الشامل (التي تتعدى الأسد أو من هم ضده) وتخلق إحساسًا بأن السوريين متوحدون في هذه. وأكثر من ذلك، يمكن لمجموعات الضغط السورية في الغرب اتخاذ خطوات فعالة، حيث لا يجب اتخاذ خطوات لتخفيف العقوبات الاقتصادية إلا إذا تم تنفيذ آليات لضمان العودة الآمنة للاجئين والسماح لمنظمات المجتمع المدني المحلية بتوزيع المساعدات أولًا.
يمكن أن تكون الانتقادات المتزايدة للنظام من قاعدته الموالية، بسبب فشله الاقتصادي، أرضيةً مشتركةً أخرى بين جميع السوريين. وتتمثل إحدى الطرق التي يمكن بها لجماعات الشتات السوري والجهات الفاعلة السياسية السورية المستقلة في استعادة الإرادة من خلال إنتاج سردية وطنية شاملة تركّز على انتقاد تلاعب الأسد بالعقوبات، من خلال تحويل ملايين المساعدات من الوكالات الأجنبية. إن استعادة القوة بإنتاج سردية بديلة للسوريين في الشتات، تُسهّل الانتقاد ضد الاستبداد والمحسوبية، يجب أن تتوازى مع تطوير آليةٍ لدعم الفئات الضعيفة في المناطق التي يسيطر عليها النظام للبقاء على قيد الحياة في وضع اقتصادي يائس. لا ينبغي أن يكون هذا عن طريق إقناع السوريين داخل البلاد بالمخاطرة بحياتهم لمواجهة نظام عدواني، ولكن من خلال لعب دور نشط في تحدي عقلية الحصار التي خلقتها العقوبات وتشويه سمعة مزاعم النظام بالشرعية، التي تستخدم سرديات “الالتفاف حول العلَم” المناهضة للغرب كأدوات للتعبئة [وهو مفهوم مستخدم في العلوم السياسية والعلاقات الدولية لشرح الدعم الشعبي المتزايد على المدى القصير لحكومة بلد ما أو القادة السياسيين خلال فترات الأزمات الدولية أو الحرب.]. وهذا بدوره يمكن أن يساعد في بناء قاعدة لتحدي الاتجاهات الاستبدادية في سورية في مرحلة ما بعد الصراع. يجب على المجتمع الدولي استكشاف طرق لدعم مساحات الخلاف/ الانشقاق السياسي داخل مناطق النظام، والعمل في الوقت نفسه مع الجهات الفاعلة الإقليمية، لدعم هياكل الحكم اللامركزية في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام الواقعة تحت نفوذها. وبطريقة مماثلة، أصبح كثير من الموالين مستائين من التدخل الروسي والإيراني، مشتبهين في أن هذه القوى لا تريد لهم الخير في الجوهر. يمكن للسوريين أن يجتمعوا، لاستعادة إرادتهم من خلال معارضة استخدام البلاد كبيدق في ألعاب القوة الدولية، مع معالجة قضايا الاستبداد والمحسوبية داخل المجتمع السوري التي تساعد في تمكين هذا التدخل الأجنبي. إن تحسين الحكم المحلي والظروف المعيشية في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام يمكن أن يقدم سياسة بديلة منشودة للموالين والمحايدين المهتمين بإعادة النظام والازدهار.
أخيرًا، يمكن أن تستفيد عملية إعادة إعمار سورية من العودة الآمنة للاجئين والشتات ومن تمكين الأجيال الشابة. ويجب على الجماعات المدنية وعلى صانعي السياسات أيضًا التفكير في كيفية الاستفادة من ظهور جيل جديد من السوريين على مدى عقد من الصراع. لدى كثير من هؤلاء الأفراد اليوم ولاءٌ ضئيل، سواء أكان لنظام الأسد أو لميليشيات المعارضة. على هذا النحو، فهم في وضع جيد لإقامة علاقات مع السوريين داخل البلاد، وللمساعدة في نزع الاستقطاب وتسييس السردية. من الأهميّة بمكان تحدي الافتراض الاستبدادي غير المستقر القائل بأن الاختلافات في الآراء السياسية ترتكز على النزاعات بين المجتمعات والهويات والطوائف المختلفة وشبكات المحسوبية. يمكن القيام بذلك من خلال ضمان ألا تستبعد عملية إعادة الإعمار أي مجموعة وألا تحرّض طائفة على طائفة أو عرقية ضد أخرى. نحن نعلم من التجارب السابقة مع الدمقرطة أن نجاحها يعتمد على إنشاء شكل جديد من الثقافة السياسية وإنشاء مواطنة فاعلة. لذلك، يجب أن تبدأ عملية المصالحة والحد من الصراع، مع نظرة السوريين إلى الداخل وتقييم الظروف المدنية لبلدهم، بدلًا من افتراض أن الإرادات الخارجية أو الزعماء الأقوياء يمكنهم التدخل وإنقاذنا من الإرث المدمّر للحرب.
(*) – الآراء الواردة لا تعبّر بالضرورة عن آراء المركز ومواقفه من القضايا المطروحة
اسم المقالة الأصلي | Bringing loyalist and opposition factions together: The prospects for reconciliation in new Syria |
الكاتب* | رهف الدوغلي، Rahaf Aldoughli |
مكان النشر وتاريخه | معهد الشرق الأوسط، MEI، 27 نيسان/ أبريل 2022 |
رابط المقالة | https://www.mei.edu/publications/bringing-loyalist-and-opposition-factions-together-prospects-reconciliation-new-syria |
عدد الكلمات | 2035 |
ترجمة | وحدة الترجمة/ أحمد عيشة |
- الدكتورة رهف الدوغلي محاضرة في دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جامعة لانكستر. هذه المقالة جزء من بحث في كلية كينغز/ لندن، حول السلوك العنيف والسلمي، مع التركيز على الصدمات لدى السكان المتضررين من الصراع.