اللقاء الحواري الأول – برلين 13 و14 آب/ أغسطس 2016
أليس من حق السوريين بعد مرور خمسة أعوام، على بداية ثورتهم أن يعيدوا قراءة المشهد السوري في فترة ما قبل الثورة، أي في السنوات التي كان الوطن السوري يحكم بالنار والحديد، وفي مرحلة ما بعد الثورة، وإن كان ما نشاهده الآن من دمار وحرق وقتل؛ ليس إلا نتيجة البذرة التي زرعها حزب البعث في التراب السوري الطاهر، الذي لم يعرف إلا الوئام قبل وصول هذا الحزب إلى السلطة، التي انتزعها كما نعلم جميعا عن طريق العنف، فأسس دولته على الاستبداد؟
أجزم شخصيًا، أن إعادة القراءة بهذه الطريقة مطلوبة من الجميع، من جميعنا نحن معاشر السوريين أينما كنّا، لنعرف ما الأسباب التي دعتنا نصل إلى هذا المستوى الكارثي، بعد أن هجر الوطن نصف السكان، وأصبحت أعداد الشهداء بمئات الألوف، وهناك مئات آلاف المفقودين والمشوّهين. وقد نكون أصلًا قد تأخرنا، والتأخر في مثل هذه الحالة السورية تسجل علينا، لأننا نعدّ أنفسنا ناشطين وكتابًا معنيين بأمر مواطننا ووطننا.
كل السوريين متفقون على أن ما يدور الآن فوق التراب السوري، حدث نتيجة هيمنة فكر البعث الذي وصل عبر العنف، وجعل من العنف أهم ركائز بنيانه، وأنه هو من أنتج الطغاة الذين يسفكون دماء الشعب السوري. في هذه المداخلة السريعة لست معنية بأن أحلل فكر البعث، ووبائيته على السوريين، بل سأذهب للتحدث عن بعض الآثار الأليمة التي تركها -ولايزال يتركها- وراءه.
تعد عقود حكم حزب البعث في سورية -والتي بدأت منذ ستينيات القرن الماضي، واستمرت حتى بداية الثورة السورية، بل إلى الآن- من أصعب الفترات التي عانى منها السوريون جميعًا، ولاسيما بعد أن أصبح أداة بيد النظام الدكتاتوري، لكي يمنحه شرعية استمراريته، والبطش بالمواطن السوري أيًّا كان، وأيًّا كانت رؤيته إن لم تنسجم مع توجهات هذه الطغمة، التي سطت على السلطة في العام 1963، عن طريق الانقلاب الدموي، وإن دأب على تسميته بالثورة، عبر وسائل إعلامه، والمناهج التربوية والتعليمية منذ المرحلة التحضيرية والابتدائية وحتى مرحلة التعليم العالي، بل وتسخير المؤسسات التي صنعها كي تروج لهذا المصطلح، الذي صار يردد بشكل آلي.
لقد عانى السوريون على اختلاف انتماءاتهم من شبح حزب البعث، الذي خيم فوق خريطة البلاد من شماله إلى جنوبه، ومن غربه إلى شرقه، وبدأ يمنح فئة من البعثيين بعض المكاسب، بحسب الدور الذي يؤديه المنتسب إلى هذا الحزب، كما أنه احتكر العمل في مؤسسات الدولة إلى المنتسبين إلى هذا الحزب، إضافةً إلى المؤسسة الأمنية التي تداخل دورها مع دور البعث، وإن كانت المؤسسة الأمنية ستفرّغ، تاليًا، حزب البعث من محتواه، وتجعله واجهة، لا وظيفة له أكثر من أن يكون ملحقًا بهذه المؤسسة، ولتكون المؤسسة الأمنية ذاتها في خدمة فرد واحد، هو الرئيس، ولاسيما بعد انقلاب مطلع السبعينيات الذي قام به حافظ الأسد، الذي أرسى للدولة الأمنية التي حكمها حوالي أربعة عقود، قبل أن يسلمها إلى وريثه الاضطراري بشار الأسد.
ومظالم البعث التي تضاعفت في عهد الأسد الأب، ومن ثم عهد الأسد الابن عرفت سورية والسوريون بواكيرها منذ بداية انقلاب البعث، وقد كشفت الثورة السورية عن كثير من جوانبها، بعد أن أكدت أن هؤلاء الذين كانوا يساقون إلى المظاهرات، التي كانت تُسمّى المليونية، يهتفون للدكتاتور وللحزب الذي استولى عليه هو الآخر كي يحوله إلى ثكنة يحكم باسمها. هذه المظالم الهائلة تلزمها آلاف المجلدات، حتى تكتب عناوينها فحسب. وقد عرفها كل بيت سوري، إن لم يعلن أبناؤه عن خضوعهم وانتمائهم إلى هذه المؤسسة، كي ينتفعوا بها قليلًا أو كثيرًا، بمقدار حجم ولائهم لها زورًا وبهتانًا، لأنها لم تكن فاعلة، ولا دور لها إلا لترسيخ مفهوم عبادة الفرد، كما كان يُرسم لها في الخفاء في الدوائر الرهيبة.
إن تناول حجم الأذية التي لحقت بالسوريين الذين نأوا بأنفسهم عن الانخراط في هذه المؤسسة، يغري بالحديث عن كثير من أشكال الاضطهاد والعسف الذي عانوه، إلا إنني سأحاول جاهدة تناول بعض العناوين السريعة، في اضطهاد هذا الحزب الكارثي لأبناء شعبنا الكردي في سورية، وما أكثرها، وأول ما يمكن أن أرصده هو أن طبيعة حزب البعث كانت مبنية على العنصرية، على الرغم من الشعارات البراقة التي صار ينادي بها، كما خطط له مؤسسوه في تلك الفترة التي هيمن فيه الفكر الاشتراكي بُعيد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى 1917، كي يكون ذلك غطاء لتمرير هذا الشكل القوموي العنصري الذي يرفض الآخر، و لا يرى في سكان العالم العربي إلا أبناء القومية الواحدة، التي نظرت إليه أدبياته بشكل تأليهي . كما أن حزب البعث وفي مرحلة ما قبل الأسد وضع أسس السياسات العنصرية، بحق من هم من غير العرب وبخاصة الكرد منهم، وصار يسعى ومن خلال شتى وسائل الإعلام والتربية والثقافة والمؤسسات الرسمية، إلى تعريب ما هو كردي، وإلغاء ثقافة الكردي وترثه وفولكلوره وتاريخه، وباتت السجون السورية تمتلىء بالشباب الكردي، الذي عمل في أول حزب تأسس في عام 1957، وتعامل حزب البعث مع اللغة الكردية على أنها ممنوعة، إذ لم يسمح بالتدريس بها، ولم يسمح بتأليف وتداول وطباعة الكتاب الكردي، ولا الجريدة الكردية، ولا المنشور الكردي. وقد كان يرمي من وراء هذه السياسات إلى تذويب العنصر الكردي في بوتقة العروبة.
وقد مثل الكراس الذي كتبه رئيس شعبة الأمن السياسي محمد طلب هلال، نظرة فكر البعث وسياسة البعث حيال الكرد السوريين، وعج الكراس بالتوصيات والاحترازات الواجب إتباعها، من أجل إفراغ المنطقة الكردية من السكان الكرد، الذين كانوا يشكلون الأكثرية في مناطقهم بحسب الإحصاءات المحايدة، التي تمت من جانب بعض الجهات التي عنيت بذلك، ومنها الإحصاءات الفرنسية. وظل حزب البعث يطبق هذه السياسة بشكل مباشر حتى مرحلة بداية الثورة السورية 2011، ونجد أنه حقق نسبة عالية منها الآن في السنوات الثلاث الأخيرة لأسباب نعرفها جميعًا.
وما الحزام العربي، الذي كان من إبداعات العقل الأمني البعثي، أو البعثي الأمني، لا فرق في رأيي، إلا نتيجة الحقد الدفين على الكرد، من أجل التغيير الديموغرافي للمنطقة، وقد تجسد ذلك بسلب الملاكين والفلاحين الكرد خيرة أراضيهم الخصبة التي كانت تسمى زراعيًا ب-خط العشرة- أو -خط المطر- حيث جيء بمئات الأسر الفلاحية من محافظة الرقة بشكل خاص وسلبوا أراضي الكرد، ليحققوا بذلك رفع نسبة السكان العرب نتيجة إحساسهم بأن المنطقة ذات أغلبية كردية، كما خططوا لوضع خط فاصل بين كرد سورية وكرد تركيا، ليكونوا نواة قوة تواجه الكرد في شطري خريطتهم، المتعارف عليها ضمن خريطة كردستان الكبرى، التي تجزأت وفق سياسات سايكس بيكو.
وضع حزب البعث وأجهزته الأمنية مخططًا محكمًا من السياسات، التي صارت تنفذ بالإكراه ضد الكرد السوريين ومن بينها إفقار المنطقة، ومنع إقامة المعامل والمصانع فيها، حتى تلك التي كانت تعتمد على خيرات المنطقة، وأولها البترول أو الحبوب، بالإضافة إلى منع تطوع الشباب الكرد في الكليات الحربية والعسكرية وحتى الشرطة، حتى وإن كانوا منتمين إلى حزب البعث، ولم يكن هناك ضباط كرد برتب عالية، إلا بعض حالات تعد على أقل من أصابع اليد الواحدة، وكان هؤلاء يقدمون أنفسهم كعرب بعثيين، ومع ذلك فلم يتم اعتمادهم إلا كتابعين لوزارة الداخلية.
كما إنه لم يصل إلى كرسي الوزارة في أية حكومة سورية أي كردي، إلا إذا كان شيوعيًا مرضيًّا عنه. إذ ليس كل الشيوعيين الكرد كان مرضيًا عنهم. وإن السجون السورية وعلى مدى عقود من حكم حزب البعث، لم تخل من السجناء السياسيين الكرد.
وإن تناولنا مسألة التعريب التي سعى إليها البعث بحق الكرد بشكل خاص، فإن هذا الجانب بحد ذاته ليس إلا مدخلًا لمحو الهوية، وهنا أرى، بدوري، أن هذا الحزب العنصري قد فعل ذلك ضمن مخطط عام بالموازاة مع الأنظمة الشمولية في تركيا وإيران. وقد كانت الدعاوى القوموية العربية، أو الكمالية، أو الفارسية، بمنزلة طلقة رحمة في رأس الرباط الديني في بلدانهم، بين سائر القوميات المتعايشة تحت رحمة الدولة الإسلامية الواحدة، كي يتوهم، ويوهم كل طرف من الأطراف الثلاثة، أنه يجب أن تكون البوصلة وقفًا على مشيئته، كي يهتدي بها سائر الإثنيات المتمايزة، التي تعيش معها، خاصة أن تشكيل جغرافيا بلدانهم تمّ من خلال العامل الخارجي، لا العامل الداخلي، الذي يعدّ حصيلة القراءة التاريخية، أو الديموغرافية، كي ينجم عن مثل هذه السياسات –بأجمعها– ترك بؤر، باتت تستفحل يومًا وراء آخر، ولاسيما إزاء محاولات الصهر في بوتقة هذه القومية السائدة، رأس هذا الهرم أو ذاك” وهو ما حاول حزب البعث إلغاء الاستشعار به عبر إلغاء من يفكر به .
وأخيرًا، أعتذر لأنّني، بسبب ضيق الوقت، قد اكتفيت بهذه الإضاءة السريعة، على الأشكال المعروفة من معاناة أبناء شعبنا الكردي في سورية، في مرحلة البعث العنصري الذي نظر إلى الكردي على أنه معادٍ، بل إنه نظر إلى الكردي الذي تدخل في الشأن السياسي على أنه عدو حقيقي.