بمناسبة دخول الثورة السورية عامَها العاشر، يبدأ مركز حرمون سلسلة مقالات تناقش الأسئلة الكبرى التي تطرحها الثورة. وفي كل مقال سنجيب عن سؤال من هذه الأسئلة، ونفتح باب النقاش أمام كل من يرغب، أيًا كان رأيه، لعلمنا أن في الحوار غنى وفائدة.
السؤال الأول: هل هي ثورة؟
يطرح السؤال منذ آذار/ مارس 2011 عن حقيقة قيام الشعب السوري بالمطالبة بالتغيير، وهل هي ثورة أم انتفاضة أم حراك أم قومة، أم عامية، أم شغب، أم مؤامرة مدفوعة من الخارج.
النخب الممسكة بالسلطة، بحسب تقاليدها العريقة في الموقف من أي رأي ينتقد سيطرتها المطلقة المديدة على السلطة، أسمتها “مؤامرة مدفوعة من الخارج”، وأنها ثورة مذهبية إسلامية سنّية متطرفة، ورسمت استراتيجيتها على هذا الأساس، ولها دوافعها التي ستكون موضوعًا لمقال آخر. وفي الوقت ذاته استطاعت هذه السلطة، بما لديها من قوة بطش وسيطرة ورهبة زرعتها في نفوس السوريين على مدى أربعة عقود من القمع، استطاعت أن تستنفر حفيظة مجموعة من فئات المجتمع السوري، لتأخذ منها موقفًا حذرًا ثم متحفظًا ثم معاديًا. وقد شملت هذه المجموعة الفئات الوسطى في المدينة من مختلف المذاهب، بما فيها السنّية، إضافة إلى ما يسمى “أقليات” من علويين وإسماعيليين ودروز ومسيحيين وأكراد وأرمن. ونقصد هنا موقف الغالبية من هذه الفئات وليس كلها، فقد وقفت مجموعات منها موقفًا مبدئيًا من الناحيتين السياسية والأخلاقية.
سنخضع هذه المسألة لمعايير موضوعية، بغض النظر عن الأحكام المسبقة المؤيدة أم المعارضة للحراك/ الانتفاضة.
في مفهوم الثورة:
لا يوجد اتفاق شامل على تعريف “الثورة” وتحديد معايير دقيقة ثابتة لما يمكن تسميته “ثورة سياسية”. ولكن يوجد عدد من التعريفات الشائعة لما يسمى “ثورة”.
في التراث الثوري اليساري، تقوم الثورة عندما تنضج شروط الظرف الثوري، وهي: 1) أن تعيش النخبة الحاكمة أزمة سياسية تعكس أزمة اقتصادية ومجتمعية، وتعجز السلطة الحاكمة عن تقديم حلول للأزمات المتراكمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، 2) أن تكون جماهير الشعب قد امتلكت حدًا أدنى من الوعي، وضاقت بالنظام السياسي القائم، ولا تريد استمرار العيش كما كان، ومستعدة للمشاركة في حراك ثوري، 3) أن يكون للثورة قيادة ثورية متمثلة بحزب ثوري لديه برنامجه للتغيير يعلم ما يريد، وإلى أين سيقود الثورة ثم سيقود البلاد بعد انتصار الثورة و تسنم السلطة على أنقاض النظام القائم.
على الرغم من التعريفات النظرية المثالية، فالثورات لا تقوم وفق وصفة مكتوبة يسهل التحكم فيها، ولا يوجد ثورة في العالم تشبه في دوافعها وشروطها أي ثورة أخرى، ولكنها تتقاطع مع بعضها في مجموعة من السمات المشتركة، وهي: “التغيير العميق بإرادة شعبية”. ويمكن أن نأخذ أمثلة على ذلك من تأمل أشهر الثورات في التاريخ هي: الثورة الأمريكية/ والثورة الفرنسية، والثورة الروسية، والثورة الصينية، والثورة الإيرانية 1979، وجميعها أحدثت، على الرغم من اختلافاتها الجوهرية، تغييرات عميقة في نظم مجتمعاتها، وأسست لمراحل جديدة، وبعضها مضى في طريق تعميق خيارات الشعب وفق إراداته، وبعضها تحول إلى أنظمة مستبدة، وبعضها سُرقت من قبل نخب طامعة حوّلت مياهها إلى مصالحها، أو حبستها في مفاهيمها الضيقة.
بالمعنى الشائع، الثورة السياسية هي تغيير عميق في النظم القائمة، حتى الشخصيات والفئات الممسكة بالسلطة، وليست مجرد استبدال حاكم بآخر، فالنظم الديمقراطية تستبدل حاكمًا بآخر طوال الوقت، دون أن يسمى هذا “ثورة”، بالرغم من وجود اختلاف جوهري في البرامج، لأن استبدال الحاكم يتم ضمن آليات تداول للسلطة هي من صلب النظام القائم، ولا تشمل تغييرًا في طبيعة النظام.
وبما أننا نتحدث على صعيد المجتمعات والدول ونظمها السياسية، وكي يكون التغيير “ثورة” لا بد أن تكون تعبيرًا عن إرادة شعبية واسعة، وليست مجرد تعبير عن مصالح حفنة من الطامعين في السلطة، والذين يصلون إليها عبر انقلاب عسكري، وهي إحدى سمات بلدان العالم الثالث. بل أن يكون لها أسبابها العميقة التي تدفع الناس للخروج إلى الشارع بأعداد كبيرة تعكس مشاركة شعبية وإرادة شعبية واسعة.
في أسباب الثورة السورية:
امتلك “الحراك السوري”، وهذه إحدى التسميات المتداولة، دوافعه العميقة المشروعة. فنظام الأسد القائم في 2011 هو استمرار للنظام الذي أقامه الانقلاب العسكري صبيحة 8 آذار/ مارس 1963، واستولى على السلطة بالقوة على حساب سلطة منتخبة شرعيًا، وأجرى تغييرات غير مسبوقة في السياسة والاقتصاد وتركيب المجتمع، وهي تغييرات كان لها بعض النتائج الإيجابية على المدى القصير، وآثار سلبية بل كارثية على المدى الطويل. وبعد صراعات بين أجنحة الانقلابيين على مدى الفترة 1963 و1970، استفرد حافظ أسد بالسلطة، وهو وزير دفاع هزيمة حزيران 1967 وتسليم الجولان لإسرائيل، فعزز الطابع الفردي الشمولي الاستبدادي، واستكمل حكم المخابرات، ووأد الحريات العامة في التعبير والتنظيم ونشر الفساد، وساد الفشل الاقتصادي. وقد أمضى حافظ أسد 30 عامًا في الحكم دون أن يقدم أي إنجاز حقيقي له قيمة، حتى حرب تشرين التحريكية في سنة 1973، فقد دخلها مضطرًا، وكانت نصف هزيمة، ولو لم يتم وقف إطلاق النار بإرادة دولية، لاحتلت “إسرائيل” دمشق.
على مدى أربعة عقود من نظام البعث- الأسد، تراكمت أسباب كثيرة أخرى لغضب السوريين، من وأد الحريات وهدر الكرامة والفساد والبيروقراطية والبطالة والتعسف وازدياد الفقر واتساع بون التنمية بين سورية ودول العالم المتقدمة، فأصبح للسوريين دوافعهم القوية التي نمَّت الرغبة في تغيير النظام القائم الذي هو من مخلفات الحرب الباردة، وقد أصبح استبداله ضرورة تاريخية.
الثورة السياسية هي تغيير عميق في النظم القائمة، بمن فيهم الشخصيات والفئات الممسكة بالسلطة، وليست مجرد استبدال حاكم بآخر… وكي يكون التغيير “ثورة” لا بد أن تكون تعبيرًا عن إرادة شعبية واسعة.
خلال سنوات حياته، رتّب حافظ أسد عملية توريث السلطة لولده بشار، الذي لم يكن له أي دور أو وظيفة لها علاقة بالشأن العام السوري، ولا يتمتع بأي كفاءة أو خبرة، بل جرى تصنيعه كرئيس وريث أورثه والده السلطة، كما تُورّث الإبل من الأب إلى الابن. وقد أمل السوريون أن يحمل معه ذاك “الشاب” الوريث تغييرًا إيجابيًـا في الحكم، وصمتوا عن ذاك التوريث، يحدوهم ذاك الأمل عن خوفٍ مضمر من قمع وحتى خبروه على مدى عقود، فانطلق ربيع دمشق سنة 2000 لملاقاة ذاك “الأمل”، الذي سرعان ما تبين أنه أمل كاذب، إذ سارع الأسد الابن إلى وأد ذاك الربيع، فكان الولد أسوأ من أبيه.
وعي يتحول إلى رغبة في التغيير:
ليس فشل النخب الحاكمة ونظامها الفاسد والمستبد، هو وحده ما شكّل وعي الشعب السوري ودفعه إلى المطالبة بالتغيير، ولكن ساهمت التكنولوجيا بدور حاسم في ذلك، فقد أتاحت أقنية التلفزيون الفضائي التي انتشرت في سورية في تسعينيات القرن العشرين سُبل المعرفة، وفتحت نوافذ السوريين على العالم، ثم جاء الإنترنت وجاءت الموبايلات الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، فأصبح السوريون يعرفون أكثر، ويقارنون أوضاعهم بأوضاع غيرهم من الشعوب والبلدان، فازداد غضبهم وزادت رغبتهم في التغيير، وبات الشعب ينتظر الفرصة المناسبة، حتى جاءت في كانون الأول/ ديسمبر 2010، عندما أحرق البوعزيزي التونسي نفسه، فأشعل بيادر الشعوب العربية الجاهزة للاشتعال. فالبوعزيزي الذي اضطر إلى العمل بائعًا للخضار، لأنه لم يستطع تأمين عمل آخر، تمنعه السلطات البلدية من كسب رزقه، ثم تأتي الشرطية ممثلة للسلطة فتصفعه، فيقوم بإحراق نفسه في الساحة العامة، فتنطلق ثورة شعبية عارمة أطاحت بنظام بن علي، وامتد لهيبها إلى بلدان عربية أخرى تراكمت فيها أسباب قوية للثورة، فانتقلت عدوى الثورة إليها كانتقال النار في الهشيم. والتاريخ مليء بحوادث فردية تطلق أحداثًا عظيمة، فاغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند، في 28 حزيران/ يونيو 1914 أثناء زيارته سراييفو، قد أشعل الحرب العالمية الأولى.
تجمع حادثة البوعزيزي عناصر متكاملة للدلالة على الثورة. 1) السلطات تعجز عن تقديم حل للمشكلات الكثيرة القائمة، مثل تأمين فرص عمل تضمن للإنسان عيشه وكرامته، 2) التعليمات البيروقراطية تضيق على الناس وتمنع عليهم حرية العمل، 3) ثم تأتي ممثلة السلطة فتجرح كرامة البوعزيزي، فتتجمع عناصر ضيق العيش وفشل السلطة مع هدر الكرامة، لتطلق الثورة. لذا سميت ثورات الربيع العربي بثورات الحرية والكرامة.
مشاركة شعبية واسعة:
يردد جميع الأطراف المتدخلة في الصراع الدائر في سورية أن القرار هو للشعب السوري، ومن ضمنهم رأس النظام. وبما أنه لا يمكن قياس الرأي العام فيها لا عبر صناديق الاقتراع والانتخابات الحرة ولا حتى عبر استطلاعات الرأي، فإن المشاركة في التظاهرات المطالبة بالتغيير هي أهمّ وأبلغ وأصدق تعبير عن الرغبة في التغيير، خاصة إن كان المشاركة في التظاهرات والتعبير عن الرأي ثمنه القتل أو الاعتقال والتعذيب الوحشي، وهذي هي حال سورية قبل آذار 2011 أو بعده.
في العودة لحجم التظاهرات التي خرجت في سورية منذ منتصف آذار 2011، وانتشارها الواسع ليشمل جميع مناطق سورية دون استثناء، والفترات الطويلة التي استمرت بها التظاهرات، على الرغم من رصاص السلطة وقمعها الوحشي للتظاهرات، يتبين لنا الحجم الحقيقي للرغبة في التغيير في سورية. فعلى مدى ستة أشهر متواصلة، بين شهري آذار وأيلول 2011، وعلى نحو سلمي، خرجت أعداد كبيرة من التظاهرات في كل يوم جمعة، وعلى امتداد الأرض السورية، من شمالها إلى جنوبها، ومن غربها إلى شرقها، وقد بلغت نقاط التظاهر في أيام الجمع بضع مئات، وتفاوتت أعداد المشاركين فيها بين بضع مئات من المتظاهرين، أو بضع آلاف وبضع عشرات الآلاف، بينما تجاوز بعضها المئة ألف، مثل تظاهرة حماة في الأول من تموز 2011، وتظاهرة دير الزور 22 تموز 2011.
وقد ازداد عدد نقاط التظاهر، وازدادت أعداد المشاركين فيها مع انحسار سيطرة النظام عن مناطق واسعة في سورية شملت نحو ثلاثة أرباع الأرض السورية سنة 2012. ويذكر “المركز السوري المستقل لإحصاء الاحتجاجات”، وهو المركز الذي كان يتابع أعداد التظاهرات ونقاط التظاهر، أن أعداد التظاهرات التي خرجت أيام الجمع، خلال شهري آذار ونيسان 2012، راوح بين 500 و700 تظاهرة في عموم أنحاء سورية.
مخطط بياني بأعداد التظاهرات في كل يوم جمعة، وتظهر تسمياتها في أسفل كل عمود في الرسم البياني خلال شهري آذار ونيسان 2012.
تُقدر أعداد من شاركوا في واحدة أو أكثر من هذه التظاهرات، وعلى امتداد كامل مرحلة التظاهر، خلال سنتي 2011 و2012، بأكثر من 2 مليون متظاهرة ومتظاهر، شكلوا نحو ربع القادرين على المشاركة. إن هذا الحجم غير المسبوق عبر التاريخ الحديث للمشاركة في تظاهرات شعبية تطالب بالتغيير، يقدّم كشفًا معلنًا قويًا لرغبة الشعب السوري في التغيير، وسيكون لنا في مركز حرمون دراسة خاصة عن هذا الموضوع.
نعم إنها ثورة:
استنتاجنا الموضوعي، بناءً على ما تقدم، هو أنها ثورة، 1) لأنها امتلكت أسبابًا عميقة للتغيير تراكمت على مدى أربعة عقود من حكم مستبد فاشل، 2) لأنها هدفت إلى إحداث تغيير عميق في النظام القائم وطالبت برحيله.
لكنها تختلف عن الثورات التي تنظمها قيادة تجمع قواها وتنظم خطواتها وتحدد برنامجها، لذا فقد أخذت شكل “الانتفاضة” أي الانفجار الذي يحدث دون تنظيم ودون توقع ربما. وعلى الرغم من أنها ثورة، بقيت “ثورة غير منتصرة”، بل “ثورة مسروقة” و “ثورة مغدورة”.
أما لماذا لم تشكل قيادة، ولماذا هي مسروقة، أو مغدورة، ولماذا لم تنتصر، وماذا حققت حتى الآن، فهذه ستكون أسئلة نناقشها في مقالات قادمة.