إذا كانت هوية الفرد هي مجموعة الخصائص والمحددات والصفات التي يُعرف هذا الفرد مِن خلالها ويمتاز بها؛ فإن هوية المجتمع لا تختلف كثيرًا -في تعريفها- عن هوية الفرد، وكذلك هي الحال مع هوية الدولة.
يمكن أن نعرّف هوية البلد أو الدولة بأنها مجموعة الخصائص والميزات التي تُعرف مِن خلالها هذه الدولة مرتبطةً بالأرض التي تقوم عليها وبالمواطنين المُشكلين لها.
• نستطيع تتبع وتحديد الملامح الرئيسة للهوية السورية مثلًا، مِن خلال معرفة أهمّ العوامل المكونة لهذه الهوية، وهي: الدين واللغة والتاريخ.
أولًا: الدين
يُشكل المسلمون السنّة أكثرية السكان في سورية، وهم يساهمون، مع المسيحيين والعلويين والدروز والإسماعيليين، وغيرهم من المذاهب القائمة، في صناعة نسيج يُعبّر عن جزءٍ مهم من الهوية والثقافة العامة السورية، ومِن هنا فإن مسألة الأكثرية لا تُطرح للمغالبة والإقصاء والاستعلاء، بل للتكامل والشراكة في تعريف واقعي لهوية وطنية سورية جامعة.
تتعرض هذه الأكثرية السنّية اليوم في سورية لحملة تطهير عرقي وإبادة جماعية، على أيدي النظام الحاكم فيها وحلفائه الإيرانيين وغيرهم، بهدف تغيير نسب السكان فيها، وصولًا إلى تغيير واضح في الهوية، يُهدد أُسس هذا النسيج الممتد تاريخيًا عبر مئات السنين.
وكذلك تتعرّض مقدّسات المسلمين السنّة في سورية لألوان من الاعتداء الذي يستهدف انتماءهم، وذلك من خلال مجموعة من الممارسات، مثل تحويل مساجدهم إلى حُسينيات، وكأمثلةٍ على ذلك: مسجد (عروة البارقي) في مدينة حلب حُوّل إلى “حسينية سلمان الفارسي”؛ ومسجد (عثمان بن عفان) حُوّل إلى “حسينية السيدة الزهراء”؛ ومسجد (أبو عابد) في مدينة دير الزور حُوّل إلى حسينية، على يد نواف البشير، قائد ما يُعرف بلواء الباقر؛ و(المسجد الكبير) في بلدة الحوش قرب الزبداني حُوّل إلى حسينية؛ ومسجد (المصطفى) في مدينة حمص كذلك.
يضاف إلى ذلك فرض الأذان، وفق المذهب الشيعي، في العديد مِن مساجد محافظة دير الزور، وتعيين خطباء شيعة في مساجد السنّة، كما هي الحال في مسجد (المحطة) في مدينة إزرع في محافظة درعا، حيث يقوم داعية التشيع زيدان الغزالي اليوم بالخطابة فيه.
ثانيًا: اللغة
اللغة العربية هي اللغة الأساس والسائدة بين السوريين، وهي تُعدّ رابطًا متينًا يجمعهم، وعاملًا قويًا في مكونات هويتهم منذ آلاف السنين، وما يُقال في جانب اللغة -كعامل في تكوين الهوية السورية- يماثل ما قيل في مسألة الدين، أي أن عامل اللغة العربية -بوصفها مكونًا للهوية السورية- لا يقصي وجود لغات أُخرى تساهم في رسم الهوية السورية، كاللغة الكردية مثلًا.
تتعرض اللغة العربية في سورية اليوم، كذلك، لخطر، مِن خلال سياسة التفريس التي تتبعها إيران في سورية، وذلك عن طريق نشر اللغة الفارسية، والترويج لها في شتى نواحي الحياة العامة، وهذه بعض الأمثلة على هذا الخطر:
المدارس: كما هي الحال في العديد من المدارس، في دير الزور ومعدان والبوكمال والميادين، حيث يتم التدريس باللغة الفارسية بشكل أساس بدلًا مِن اللغة العربية.
تتعرض اللغة العربية في سورية اليوم، كذلك، لخطر، مِن خلال سياسة التفريس التي تتبعها إيران في سورية.
الجامعات: أنشأت إيران عددًا من الجامعات في سورية، واتخذت منها سبيلًا لترويج ونشر لغتها وثقافتها، مثل (جامعة المصطفى)، و(جامعة الفارابي)، (جامعة الرسول الأعظم) في اللاذقية، و(جامعة مدرس)، والفروع الواسعة لـ (جامعة آزاد)، يضاف إلى ذلك الأبواب المفتوحة أصلًا لإيران، لبث نشاطاتها ولُغتها وثقافتها، في مختلف الجامعات السورية.
المستشاريات الثقافية الإيرانية: تنتشر هذه المستشاريات في العديد من المحافظات السورية، وتقوم بدور واسع في نشر الفارسية، وذلك من خلال الدورات المكثفة والمستمرة لتعليم اللغة الفارسية، وكذلك التعاون بينها وبين اتحاد الكتاب العرب في سورية، على إقامة هذه الدورات.
الأسواق التجارية: حيث جعلت إيران بعض المناطق تشبه المستعمرات، مثل منطقة السيدة زينب التي عملت إيران على جعل الفارسية فيها لغة البيع والشراء والتعامل، وكذلك في مناطق دمشق القديمة، خصوصًا في سوق الحميدية التاريخي قرب المسجد الأموي.
ثالثًا: التاريخ
ليس مِن الممكن قراءة الهوية السورية ومعرفتها دون معرفة تاريخ البلاد وربطها به، وسورية ذات تاريخ إسلامي وعربي واضح (أموي، أيوبي، عثماني… سورية المستقلة بعد الاستعمار الفرنسي)، وما تزال آثار وصروح كثير من الحضارات العربية والإسلامية شاهدة قائمة، تعبّر عن جزء أصيل من هوية هذه البلاد، وما ينطبق على الصروح التاريخية يُقال حول الرموز التاريخية أيضًا، مثل عمر بن عبد العزيز، الخلفاء الأمويين، وصلاح الدين الأيوبي. وإن الإساءة إلى تلك الصروح، أو إلى أولئك الرموز، هي لون آخر من ألوان الاعتداء على التاريخ وعلى هوية البلاد.
ومن الأمثلة القريبة على هذا، قول عباس النوري (الممثل السوري المشهور) عن صلاح الدين الأيوبي، إنه “كذبة”، ورفضه أن يكون لصلاح الدين تمثالٌ في قلب دمشق، كجزء يُفتَخر به مِن تاريخها المجيد، وكذلك تحويل بيت الشاعر نزار قباني في دمشق القديمة، إلى مركز لنشر الطائفية على يد عائلة نظام، وعبد الله نظام أبرز دعاة التشيع في سورية، هذا البيت الذي يقول فيه نزار:
“هنا جذوري هنا أرضي هنا لغتي … فكيف أوضح هل في العشق إيضاح!”
يضاف إلى ذلك تزوير التاريخ، من خلال اختلاق مقامات مكذوبة، كمقام السيدة زينب، بالقرب من دمشق؛ ومقام السيدة سكينة، في داريّا؛ ومقام عين علي، قرب القورية في دير الزور، وغير ذلك في إطار ظاهرة محمومة لإنشاء هذه المقامات، يسميها الكُتاب والباحثون بـ “حرب القبور”.
• قبل الختام:
إن التغيير الديموغرافي الذي جرى -وما يزال يجري- في سورية يتضافر مع التغيير المذهبي الذي تعمل عليه إيران في سورية كذلك، سعيًا إلى تغيير الهوية السورية مِن خلال استهداف المسلمين السنّة قتلًا وتهجيرًا، ومن خلال تجنيس المرتزقة الأفغان وغيرهم، على أساسٍ طائفي، من أجل الوصول إلى تغيير حقيقي في نسب المكونات في سورية، وكذلك فإن ما تفعله إيران اليوم في سورية يشبه -في كثير منه- ما فعلته فرنسا في الجزائر، إبان استعمارها لها مدة 132 سنةً، حيث عملت فرنسا على استهداف الهوية الجزائرية، من خلال استهداف الدين الإسلامي واللغة العربية، ومِن خلال جرائم القتل والإبادة، فعلى صعيد استهداف الدين، عمدت فرنسا إلى تحويل أجمل مساجد الجزائر وأعرقها (مسجد كتشاوة) إلى كاتدرائية، وعلى صعيد اللغة، قامت بسياسة الفرنسة، لكن حسّ أبناء الجزائر، مِن خلال انتمائهم إلى هويتهم ووعيهم، كان أقوى من كل محاولات وسياسات فرنسا الرامية إلى سلب الشعب الجزائري هذه الهوية، وما يزال أبناء الجزائر حتى اليوم ينشدون ما قاله عبد الحميد بن باديس:
شعب الجزائر مسلمٌ … وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله … أو قال مات؛ فقد كذب
أو رام إدماجًا له … رامَ المحال من الطلب
ولعل من أنسب ما يُشار له هنا، حول موقف عبد الحميد بن باديس التاريخي، أن ابن باديس لم يكن عربيًا في نسبه وقوميته، بل كان أمازيغي القومية، ولكنه كان عربيًا بلسانه وثقافته، مُصدقًا في ذلك للأثر المشهور: “ليست العربية لأحدكم بأم ولا أب، إنما العربية اللسان”.
ختامًا: لئن كانت العناوين الرئيسة في الهوية السورية هي العروبة والإسلام وتاريخهما؛ فإن هذا لا يعني أبدًا عدم وجود الثقافات واللغات والأديان والمذاهب الأُخرى، ولا ينفي أبدًا مساهمتها الفاعلة في رسم معالم الهوية السورية وتكاملها، عبر محطاتها الحضارية والتاريخية، في صورة تعبّر عن هوية وطنية منسجمة مع الحرية، قائمة على أساس من المساواة والشراكة بين كل السوريين على تنوع انتماءاتهم.
__________
(*) بحث مقدم إلى ندوة “التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تحتاج إليه سورية المستقبل ” التي عُقدها مركز حرمون للدراسات المعاصرة في مدينة إسطنبول في 19 و20 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.