مقدمة:
إن اختلاف النظم السياسية بين مجتمع وآخر، وبين دولة وأخرى، إنما ينتج عن الظروف التي يعيشها مجتمع دون آخر، والشعوب القاطنة في منطقة جغرافية دون أخرى، وكما قال عالم الاجتماع والسياسة الفرنسي موريس دوفيرجيه، في كتابه (الأحزاب السياسية) Maurice Duverger was a French jurist, sociologist and politician”: إن “الاختلافات والتناقضات القديمة لا تُهدم بل تترسب أيضًا، كالطبقات الأرضية، حيث تنعكس انشقاقات الأجيال السابقة في نفوس الأجيال الحاضرة، وخصوصًا عندما تكشفها ظروف معينة تمرّ بها هذه الأجيال”. وموضوع الورقة البحثية التي أقدّمها بين أيديكم اليوم هي أحد أهم نتائج هذه الترسبات التاريخية، وهو مبدأ الفصل بين السلطات، المبدأ الذي بلوره العالم الفرنسي مونتسكيو عام 1748 في كتابه (روح القوانين)، وتأثر به جان جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعي) حيث كانت النظم السياسية في أوروبا، حتى ذلك الوقت، تعتمد جمع السلطات الثلاث في شخص الحاكم، أو بشكل أوضح كانت هذه السلطات الثلاث تتداخل بشكل يخلّ بأداء الدولة، ويؤدي بها إلى تسلط الحاكم ومن يلوذ به، على الشعب ومقدراته.
ويبقى مبدأ فصل السلطات محلّ اختلاف الباحثين والعلماء، وفي هذا الصدد يذكر موقع NCSL national conference of state legislatures: “في حين أن الفصل بين السلطات هو مفتاح عمل الحكومة الأميركية، فإنه لا يوجد نظام ديمقراطي مع الفصل المطلق بين السلطات، كما لا يمكن أن يوجد نظام ديمقراطي بالافتقار المطلق إلى الفصل بين السلطات. تتداخل السلطات والمسؤوليات الحكومية عن عمد؛ فهي معقدة للغاية ومترابطة بحيث لا يمكن تقسيمها بدقة. ونتيجة لذلك، هناك قدر لا يتجزأ من المنافسة والصراع بين فروع الحكومة. على مرّ التاريخ الأميركي، كان هناك أيضًا تراجع وتدفق الأفضلية بين الفروع الحكومية. مثل هذه التجارب تشير إلى مكامن القوة في جزء من العملية التطويرية”.
الموضوع:
غالبًا ما نجد أن علماء السياسة الغربيين، عندما يدرسون علوم الدولة والسياسة، يبتدؤون دراستهم بالحضارة اليونانية، ويقفزون فوق القرون الممتدة من القرن السابع الميلادي إلى القرن الثامن عشر الميلادي، مستمرين في دراستهم من القرن السابع عشر والثامن عشر الميلادي إلى يومنا الحاضر.
غير أني في عودتي إلى القرن السادس الميلادي، أجد أن الاختلاط بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية قد كان في حده الأعلى، في النظم السياسية المنتشرة في ذلك الوقت، وبمعنى آخر: كان مبدأ الفصل بين السلطات في حده الأدنى، إلى أن هاجر الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة ساعيًا إلى تأسيس دولة تتبنى مفاهيم جديدة، ليس على مستوى الجزيرة العربية، البقعة الجغرافية التي بُعث فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل في سائر الأرض.
فصحيفة المدينة المنورة قد نحتت مصطلحات أساسية لهذه المفاهيم السياسية، مثل مفهوم الأمة، ومفهوم القضاء المستقل، وغيرها من مفاهيم، ليس هنا موضع بحثها، لكن عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، كان عملًا دؤوبًا طوال العقد الذي دأب فيه الرسول الكريم على تأسيس دولته، حيث كان هذا الفصل جليًا في نفوس مواطني المدينة المنورة، مسلمين كانوا أم غير مسلمين، كان هذا واضحًا في خطاب وتصرف الصحابي المقاتل في جيش بدر، عندما سأل بشكل واضح الحباب بن المنذر بن الجموح، قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضَا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله: أشرتَ بالرأي. بمعنى أن الحباب بن المنذر -رضي الله عنه- كان يميز بين السلطة التشريعية التي يمثلها شخص سيدنا محمد، وأن المنذر يؤمن بأن بالوحي الذي يوحى للرسل حق، وبأن السلطة التشريعية مصدرها الوحي، وليس شخص محمد بن عبد الله، ويميّز بين السلطة التنفيذية التي هي محط اجتهاد بشري، هو ديدن محمد بن عبد الله القائد ورئيس الدولة. وتكرر هذا الموقف كثيرًا في حياة الرسول، أي التمييز بين التشريعي والتنفيذي.
مثال ذلك ما حصل في صلح غطفان في غزوة الخندق، حيث أراد النبي الكريم أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعوا عن قتال المسلمين، فاستشار زعيمَي الأوس والخزرج: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقالا: يا رسول الله، أمرًا تحبه فتصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرًى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له وأعزّنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك، وترك مصالحة غطفان.
وهذا كان فصلًا لم تتعود عليه النظم السياسية في ذلك العهد، إلا بالحد الأدنى، إن كان هناك فصل أصلًا، فغالب الملوك كانت ترى أنها تنطق باسم الله، وإن علماء الاجتماع والسياسة الغربيين يرون أن منتسيكيو 1748 هو أول من تكلم عن هذا الفصل، لكن أول فصل حقيقي بين السلطتين في أوروبا لم يحصل إلا بعد الثورة الفرنسية، حيث لم تنجح الماغنا كارتا في إنجلترا عام 1215 في تحقيق هذا الفصل، بالرغم من ولادة مجلس البارونات بجانب الملك، وظلت معظم السلطة التشريعية رهن الملك.
لم يكن هناك لبس عند الصغير أو الكبير من المجتمع الإسلامي، بالفصل بين شخص الرسول كقائد، وشخص الرسول الموحى إليه كمشرع، وقد كان هذا واضحًا في قول أمّ أيمن، في جواب على سؤال سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر: ما يبكيك، فما عند الله لرسول الله هو خير من الدنيا، لتجيب: “إني أبكي انقطاع خبر السماء” أي انقطاع السلطة التشريعية.
استمر الفصل بين السلطات، في جميع مراحل الحكم الإسلامي، حتى آخر يوم للدولة العثمانية، فلم يكن لأحد من الخلفاء أو السلاطين أن يدعي بأن له حق التشريع، ولجؤوا بمراحل مختلفة إلى هيئات أهل “الحلّ والعقد” أو المفتي أو المفتيين، لكن لم يكن لرأس الدولة أن يعمد إلى عملية التشريع، وقصة العِزّ بن عبد السلام، في فتواه بعدم شرعية حكم المماليك، ما لم يشتروا أنفسهم ويعتقوها من العبودية، أشهر من أن نذكرها. أي أن السلطة التشريعية بقيت خارج سلطة الحاكم، بطريقة لا خلط بها، ومن خلط بها من الحكام تسبب في أزمات سميت بالفتن، مثال فتنة خلق القرآن.
وفي دعم للفصل بين السلطتين التنفيذية: الحاكم أو الإمام، أيًا كان مسماه، ظهر مفهوم “أهل الحلّ والعقد”، وعرّفهم النووي بأنهم “العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم” (النووي منهاج الطالبين ت 676 هج، ج 1 ص 131). وهم يختلفون عن أهل الشورى، وهم أصحاب الشأن في ما يجتهد به أهل الحل والعقد، بمعنى أن أهل الحل والعقد، إذا ارتأوا رأيًا، كانوا يرجعون به إلى العلماء من أصحاب الشأن، وقد يبلغ هذا جميع مواطني الدولة، كما حصل في بيعة سيدنا عثمان رضي الله عنه، عندما استشار سيدنا عبد الرحمن بن عوف كل كبير وصغير وامرأة ورجل، حتى إنه لم يترك خيمة إلا أخذ برأي قاطنيها. لكن لم تتبلور مؤسسات لها آليات اختيار ودوائر قرار، ولم ترسم لأهل الحل والعقد، ولا لأهل الشورى، علاقة بالحاكم الذي يمثل السلطة التنفيذية.
السلطة القضائية:
في أمر السلطة القضائية، كان الأمر أوضح، والقضاء له استقلالية شبه تامة، وليس للحاكم الذي يمثل السلطة التنفيذية أي سلطة عليه، وكانت الاستقلالية هي السمة الأكثر سوادًا في تاريخ الدول الإسلامية، فيما قبل ولادة الدولة الحديثة أي ما قبل 1916.
وإذا كان الفصل قد اختلط على البعض، لقيام الرسول صلى الله عليه وسلم بالتشريع لأنه يوحى له، بالإضافة إلى قيامه بالقضاء بين الناس؛ فإن الناظر بعين التفحص يستطيع أن يميز الفصل تمامًا.
اتضح هذا الفصل، منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث أنَّ رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّار”. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. بمعنى أن الفصل واجب هنا، بين قول الله في سورة النجم {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}، وبين قول الرسول في الحديث. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى القضاء المدني في قضية بني قريظة، فحَّكم بهم سيدنا سعد بن معاذ، ورضي بما حكم.
كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولى قضاة عدة، فقضوا بين الناس، وتولية القضاة من قبل السلطة التنفيذية تداخل بين السلطات الثلاث، وما زال موجودًا إلى زمننا الحاضر، كما تمت الإشارة إليه بالمقدمة، إضافة إلى أن المؤسسة القضائية لم تتمأسس في ذلك الوقت، ومن هؤلاء القضاة سيدنا علي بن طالب، وأبو موسى الأشعري، وزيد بن ثابت، واستمر القضاء باستقلالية مميزة طيلة فترة الدول الإسلامية. ومن الجدير بالذكر في مجال القضاء أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يلزم أصحاب الأديان الأخرى على الاحتكام إلى قضاء المسلمين فـ “اليهود لم يُلزموا بالرجوع إلىٰ القضاء الإسلامي دائمًا، بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية، فهم يحتكمون إلىٰ التوراة، ويقضي بينهم أحبارهم، ولكن إذا شاؤوا فبوسعهم الاحتكام إلىٰ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خيّر القرآن الكريم النبي -صلى الله عليه وسلم- بين قبول الحكم فيهم أو ردهم إلىٰ أحبارهم، إذ قال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. [المائدة:42] (السيرة النبوية الصحيحة [1/291]).
وعن العصر الأموي، يقول الدكتور عبد الستار نصيف جاسم العامري، من جامعة بابل: استمر القضاء مستقلًا، ولم يكن متأثرًا بدرجة كبيرة بالتيارات السياسية وسياسة الدولة في الأقاليم، وكانت أحكام القضاة نافذة، وكلمتهم مسموعة من الولاة وعمال الخراج. ومما يميز القضاء في هذا العصر، ظهور سجلات القضاة لتسجيل الأحكام بسجل خاص، وكذلك بدأت معالم توحيد الأحكام في حد من الاجتهادات في القضايا المعينة. سار القضاء إلى المزيد من المأسسة والاستقلال في العصر العباسي، حيث ظهرت المذاهب الفقهية، وبدأت الأحكام أكثر تناسقًا بحسب المذهب الفقهي المعمول به في الإقليم، وظهر منصب قاضي القضاة، فأصبح من ينظر في حال القضاة ويعينهم ويحاسبهم هو قاضي القضاة، وليس الحاكم. ويذكر الدكتور جاسم: “وكان القضاة المسلمون يقبلون شهادة النصارى واليهود على المسلم، بعد استحلافه في محل عبادته وكتابه المقدس”. وقد حصل في بعض الفترات تدخل من الحكام في القضاة، غير أن هذا كان يسبب أزمة، ويؤدي إلى استقالة القضاة وعزوف الفقهاء عن قبول المناصب القضائية، نتيجة تدخل ممثل السلطة التنفيذية بالسلطة القضائية، كما حصل بين أبي حنيفة صاحب المذهب المشهور، وأبي جعفر المنصور.
وفي العهد العثماني، تمأسست المؤسسة القضائية وكان لها المكانة ونصيب وافر من الاستقلالية، وكانت تمتع كثير من الطوائف بقضاء مختص بهم، لا سلطة للقضاء الإسلامي عليهم، وذلك في النظام المُلي.
الخاتمة:
الطرح السياسي النبوي، الذي ربما اصطلح عليه لاحقًا بالمنهج أو الطريقة الإسلامية في إدارة الدولة، وفي العصر الحالي يدعى “الإسلام السياسي”، تميز بالتقدم عما سواه من طروحات النظم السياسية المعاصرة له على مدى العصور، وهذا ابتداء من القرن الأول الهجري السادس الميلادي، غير أن ما حصل في بدايات القرن العشرين من تغير جذري في طبيعة الدولة، على المستوى الدولي، من حيث انتهاء زمن الدولة التوسعية وظهور الدولة الحدودية، أربك المفكرين الإسلاميين كما أربكتهم ثورة المصطلحات ومصدر هذه الثورة، حيث قدمت إليهم من الغرب المعادي لهم على المستوى العسكري، خاصة أن هذه النُخب كانت في زمن تراجع وانحسار، على المستوى العسكري والفكري والمكانة الدولية، وفي خضم هذا الارتباك، وإن لم يٌنَّظر لفصل السلطات، لم يحصل من طرف مفكري الإسلام السياسي تنظير أو دعوى لدمج السلطات أو للشمولية، بمعنى أن الخلفية الفكرية للإسلام السياسي مؤهلة للتفاعل الإيجابي مع المبادئ المؤسسة لمنع ظهور الدكتاتورية ونمو الديمقراطيات، خاصة أن الفصل بين السلطات على ما ينتقد عليه هو أساس لبناء الديمقراطية.
لا شك في أن الفكر السياسي الإسلامي بحاجة إلى مزيد من التنظير، خاصة أن فكر الحريات والعدالة والإقرار بالتنوع هي أركان مؤسِّسة لفكر الإسلام السياسي، وهذه بحد ذاتها هي أسس دولة الحداثة، أو ما أسميه الدولة ما بعد الوطنية التي نعيش ولادتها في مرحلة الثورة التكنولوجية.
__________
(*) بحث مقدم إلى ندوة “التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تحتاج إليه سورية المستقبل” التي عقدها مركز حرمون للدراسات المعاصرة في مدينة إسطنبول في 19 و20 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.