المحتويات
ثانيًا: اقتراحات لتجديد الخطاب الديني
1- فتح النص على فضاءات الإمكان
2- قطعية الدلالة وقطعية الثبوت
لم يعد الإصلاح الديني ترفًا فكريًا، بعد أن أثبت الخطاب الموجود عجزه عن منع انتشار وباء التطرف، وأصبحت مراجعة الأدوات التي تقارب الخطاب، ومراجعة فحواه كذلك ضرورتين، ولا نبالغ إذا قلنا إنهما وجوديتان؛ فأن تضرب صفحًا عن التراث الديني؛ فهذا سلوك لم يؤت أكلًا عبر عقود مورس فيها، وربما كان سببًا من أسباب العنف المستشري المشاهد اليوم.
وأن تصر على عدم تنقية الموجود، وتجديده، وإصلاح جوانب القصور فيه؛ فهذا يعني الركون إلى حالة الفوات التاريخي التي طال أمدها، والتي تنذر بالتحول إلى خروج من التاريخ، وربما تفضي إلى الانقراض، وقد حدث مثل ذلك في التاريخ.
في الرؤية الموجزة التي سنقدمها سنقترح آليات إصلاح مأخوذة من داخل التراث، لا من خارجه؛ لسببين:
الأول: قناعتنا أن هذا التراث -ونحن لسنا في معرض تمجيده- تراث وافر الغنى، وهو يتضمن أبعادًا أهملت، ولم تستثمر، ولو استثمرت لقدمت نفعًا جليلًا.
الثاني: أن محاولات إقحام المناهج الغربية في دراسة التراث، وإن كنا لا نناهضها، ونحترم الجهد الذي بذلت فيه، قد ظلت تحوم في سماء الواقع، وكانت حقلًا للسجال بين النخب، من دون أن تحدث تغييرًا ملموسًا في العقل والوجدان الجمعيين.
إن النص المقدس لا يمكن أن يكون بنيةً معزولة عن قصدية واضعه، ولا عن فهم تأويليّ لمتلقّيه، وإنّ إمكانية فتحه على عوالم الإمكان، لا تحتاج إلى استيراد مناهج غربية، وإن كان استثمارها أمرًا إيجابيًا أحيانًا كثيرة.
إن تقسيم الأصوليين مستويات الفعل اللغوي إلى نص، وظاهر، ومؤول، ومجمل، كفيل -إلى حد كبير- بتوضيح إمكانات تأويله، وإمكانات فتحه على عوالم واسعة.
النصّ هو ما كان لفظه دليله، وبتعبير آخر هو رجحان من دون احتمال.
والظاهر رجحان مع احتمال.
والمؤول رجوح مع احتمال.
والمجمل احتمال مع تساو.
واضح أن الاحتمال قاسم مشترك بين هذه الأقسام -ما عدا القسم الأول، وهو المسمى “النص” – وهو في نظر جمهور يعتدّ به من العلماء نادر، وقليل العدد، ويمكن الاستنتاج بسهولة أن الإمكان الذي يفتحه الاحتمال يفتح النص على تأويلات لا تشتطّ خارج حدود الحقل التأويلي ومحدداته، ولكنها تكسبه غنىً يكبر إذا علمنا أن المؤوّل من النصوص -وهو يقسم إلى تأويل قريب إذا كان دليله قادرًا على تحويل المرجوح في نفسه راجحًا، وتأويل بعيد إذا كان دليله ضعيفًا، ورغم اعتماده في قوته وضعفه على توسط الدليل- يبقي الفضاء مفتوحًا؛ لأن الأدلة تتفاوت بحسب مخزون المؤول وقدراته، وتظل قابلة للقبول والرفض
أما قطعية الدلالة وقطعية الثبوت، فتحتاجان إلى تبصر يمنع استخدامهما استخدامًا يختزلهما إلى أدوات للإرهاب الفكري.
يظلّ النص أداة صالحة للاستثمار المشبوه، ما لم يتمّ الاعتراف بأنه يكفّ عن التفاعل مع الواقع، ما لم تكن الموسوعة الثقافية للمشتغلين عليه هي الإطار الذي يفتحه على ممكناته الثريّة، والحقل التأويلي الذي يضبط حدود ما يمكن استيلاده من مستخرجات من رحمه.
قطعية الدلالة التي تنطوي عليها بعض عباراته، وهي الأقلّ من مجموعه -بحسب رأي عدد يعتدّ به من رواد تفسيره وتقنين استخراج معانيه- أصبحت فزّاعة يرفعها وكلاء الحقيقة الحصريون من الإسلاميين والمتأسلمين؛ لكي يغلقوا باب الجدل الخلّاق، الذي ما إن يرتخِ أحد طرفيه، حتّى ينغلق على دوغمائية استبدادية، وعلى ادعاء باحتكار الحقيقة، يمثّل أقسى أنواع العنف الرمزي الذي يفرّخ العنف المادي.
ما يغيب عن أذهانهم أن النص -بمكوناته العلائقية- يخترق الاحتمال جميع مستويات أفعاله اللغوية، ما عدا مستوى واحدًا، لا يمثل -من حيث نسبته- إلا النسبة الأقل من مجموعه، وهو مستوى النصّ، أما الظاهر والمجمل والمؤول –بحسب تقسيم الأصوليين- فجميعها مستويات تنطوي على احتمال يزيد وينقص -بحسب كل مستوى- كما ذكرنا آنفًا.
أما قطعية الثبوت -وإن كانت ثابتة باعتقاد المسلمين، فيما يتعلق بنصهم المقدس الأول-، فهي لا تنسحب على النص النبوي الذي يمثل المرجعية المقدسة الثانية، من حيث الترتيب؛ لأن الصحيح منه ظنيّ الثبوت كائنًا من كان راويه، ومهما بلغ سنده من إشراق، وخلوّ من القوادح والعلل.
ولأحد المجتهدين الكبار في خمسينيات القرن الماضي رأي في حادثة مروية في الصحاح فحواها: أن جماعة من العرب أسلموا، ثم ارتدّوا، وقتلوا الرسل الذين أرسلهم النبيّ معهم لتعليمهم دينهم، فأمر النبيّ رهطًا من أصحابه بقتلهم عن طريق منع الماء عنهم في الصحراء، وجعلهم يموتون عطشًا. وهي رواية يناقشها ذلك المجتهد بالقول: إن رحمة النبي معلومة بالضرورة، وهي لا تنسجم مع تنفيذ عقوبة بهذه الوحشية، أما الحديث المرويُّ في الصحاح، فهو حديث منقول عن آحاد، ولا يفيد القطع؛ فمن الطبيعيّ، إذًا، تغليب المعلوم بشكل قطعيّ على الظنيّ، ولو روته جميع الصحاح.
أما دلالات الألفاظ في أصول الفقه فهي أداة أخرى لسدّ أفواه المتطرفين الذين يأخذون بحرفية النصوص؛ ليطبقوا حدودًا، لا يجوز تطبيقها من دون توخي مقاصد التشريع، وفهم دلالات الألفاظ في النص.
فالخصوص والعموم -مثلًا- من ضمن دلالات الألفاظ، إذا طبقا على حدّ السرقة، يمكن أن يجعلا تطبيق الحد الذي يرفع العقيرة به وكلاء الحقيقة الحصريون هؤلاء، غير ممكن شرعًا في حالات كثيرة.
على الرغم من أن مقاصد الشاطبي تعد مرجعية مهمة جدًا لكثير من المنظرين الإسلاميين المعاصرين، في بحثهم عن تأصيل إسلامي لمفاهيم معاصرة، فإن نظرية المقاصد الشاطبية تعاني-بحسب طه عبد الرحمن- من عيوب يمكن إيجازها بالتالي:
أ- التقسيم الخماسي للمصالح (الدين والعقل والنفس والنسل والمال) لا يستغرق جميع المصالح، ومعروف أن من قواعد التقسيم الصحيح أن يشمل جميع الأقسام، فمثلًا لا وجود لمصلحة العدل، وهي مصلحة بالغة الأهمية من منظور إسلامي وغير إسلامي، فهذا العيب الأول.
ب- من شروط التقسيم الصحيح أن تتغاير الأقسام، ولا تتداخل فيما بينها، والنفس والعقل لا يتغايران تغايرًا كليًا، فهذا العيب الثاني.
ج- من شروط التقسيم الصحيح أن تكون الأقسام جزئيات تندرج تحت الكلي، ومصلحة الدين لا تندرج تحت مصالح الشريعة، وهذا العيب الثالث.
د- إن عدّ مكارم الأخلاق من ضمن التحسينيات، حطّها من مقام عال، إلى مقام كماليّ لا يليق بها، وهذا العيب الرابع.
إذا أعيد النظر في مقاصد الشاطبي، ولوحظت هذه الهنات فيها، فإن الأحكام المشتقة، -بالاستناد إليها- ستكون أكثر قدرة على مواكبة أحوال العصر، وأكثر مرونة في الاستجابة للمستجدات التي تطرأ على حياة المسلمين.
ليس الاعتدال مجرد خطاب اعتذاري يقدمه المتأخر بدافع من شعور النقص؛ لكي يوصف بأنه تنويري وآخذ بأسباب الرقيّ، ولكنه اجتراح أدوات قادرة على التعاطي مع الممكنات الأكثر استعدادًا للتحول إلى واقع.
وليس الفوات التاريخي كبيرًا إلى درجة تصيب المرء بالإحباط؛ لأن تدارك هذا الفوات ممكن بقدر أكبر من العقلانية، والجهد للقبض على فحوى المفاهيم قبل الانشغال بالمجريات التي لا تتوقف عن سيلانها ما لم تضبط ضبطًا إجرائيًا يثبّتها؛ من أجل فهم أكبر لمتغيراتها، والتمكن من استثمار الفاعلية للتأثير فيها.
إن انفجار الكامن بفعل حدث الثورة السورية، من صراع طائفي، وقومي، وانكشاف كثير من المستور بكل عريه القبيح، يحرّضنا الآن وليس غدًا على أن نجلو الصدأ عن أدواتنا، ونثبت قدمًا في الساحة التي تناهبتها قوى غريبة إن لم يكن في انتمائها الجغرافي، فستكون في غربتها عن جوهر حضارتنا وتراثنا.