عقد صالون الكواكبي، المنبثق عن مركز حرمون للدراسات المعاصرة، ندوة حوارية بعنوان: “الحوار بين مكوّنات سورية حول التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تحتاجه سورية المستقبل”، يومَي السبت والأحد، في 19 و20 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
كانت محاور الندوة شاملة ومتنوعة، وقد حاولت مقاربة قضايا بالغة الأهمية هي:
ضرورة الحوار بين التيارات المختلفة حوارًا يفضي إلى توافقات سياسية عابرة للأيديولوجيات، حول مفهوم الهوية من منظور إسلامي وعلماني، وحقوق الإنسان، وحيادية الدولة، ومواصفات القضاة في الدولة المأمولة، والعقد الاجتماعي، والتعليم ومناهجه، والفصل بين السلطات، ومفهوم التقدم الاجتماعي، وآليات زرع الثقة، وتجارب ناجحة للتوافق بين المختلفين على بناء الحياة السياسية المشتركة، والصراع القومي والديني، وقوانين الأحوال الشخصية، وقضية الدستور، ودين رئيس الدولة.
ولا شك في أن المشاكل عادت لكي تذرّ بقرنها، كما يحصل عادة في حوارات من هذا النوع، ولعلّ التخندق الأيديولوجي المديد الذي لم تستطع سنوات الثورة أن تدكّ حصونه لا يزال قيدًا على الوصول بهذه الحوارات إلى غاياتها المرجوة. ولعل الجذر خلف هذا التخندق كامن في انطلاق الحوار من أرضيتين مختلفتين؛ فبينما يمثل النصّ المقدس الفضاء الذي يتحرك الإسلامي داخل حدوده، وهو منسجم مع نفسه كما يعتقد؛ لأن هذا النص موحى به من الله، ولا سبيل لتحديد المصلحة -خاصة أو عامة- بالاستنباط من نصوص أخرى، يطالب العلماني المتطرف بالبحث عن بديل للمنظومة التشريعية التي لم تعد صالحة للصرف في عصر الحداثة وما بعدها، ويطالب العلماني المعتدل باحترام هذه المنظومة، ولكن مع عدم اعتمادها مرجعًا وحيدًا لبناء الدولة، ويطالب بتأويل جديد للنص المقدس ينسجم مع مقتضيات الواقع المعاصر الذي يختلف جذريًا عن الواقع الذي شهد ظهور النص.
ولا شك في أن هذا الجذر الثاوي للخلاف ينعكس في خلافات على صعيد المفاهيم توسّع شقة الخلاف؛ فالمطالبة بتأويل معاصر تمثّل محلّ نزاع بين المعتدلين من الطرفين، فلا يستطيع الإسلامي المعتدل -عمومًا- الذهاب بعيدًا في تبني رؤى هيرمينوطيقية تترك الحبل على الغارب لقارئ النص، لكي يستخرج منه ما يراه الأنسب، وهو موقف من هذا الإسلامي يجد تبريره في أن لهذا النصّ قصدًا بلا شك؛ لأن واضعه هو خالق البشر الذي أنزل كلامه لتحقيق مصالحهم، وهو ما يعني حتمية استخلاص المقاصد الإلهية باستخدام أدوات مقنّنة منضبطة. وهو ما يعدّه المطالبون بتبني تأويلات معاصرة من معتدلي العلمانيين -على الأقل- تقييدًا لعملية اشتقاق الفهم المعاصر بأدوات لم تعد صالحة في واقع اليوم.
وبينما لا يزال الإسلامي محكومًا بمفهوم للدولة يعدّها مؤسسة جيدة تضطلع بمهمة تحويل المجتمع إلى مجتمع ورع تقي، ويمثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -عن طريق جهاز الحسبة- أحد آليات عملها الأساسية، ينظر العلماني إلى الدولة على أنها مؤسسة مهدّدة يجب أن تكبح بالقانون؛ لما تملكه من موارد وصلاحيات يمكن أن تجعلها تجور على الأفراد والجماعات، ويعد مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووسيلته في المنظور الإسلامي كفيلين بوسم دولة الإسلاميين بوسم الدولة التدخلية. وهو ما يخرق مبدأ حيادية الدولة الذي أصبح اليوم مبدأ يحوز إجماعًا، بعدّه مبدأ لا يمكن تحقيق العدالة بين مواطني الدولة من دون تبنّيه.
وبينما يعدّ الإسلامي التعددية نتيجة حتمية للتنوع الذي هو قضاء إلهي، يرى العلماني أن مجرد عدّ التنوع قضاءً إلهيًا هو قصورٌ في فهم ومقاربة واقع التنوع الذي يحتاج -لكي يصبح مساعدًا في تكريس مفهوم المواطنة- إلى سياسات للتعددية، لا تقصي أي فرد على أساس معيار دينيّ أو غير دينيّ.
ولعله من المهم الإشارة إلى ملاحظة لوحظت في هذه الندوة، وفي سابقات لها -وإن ليس بالدرجة نفسها من الوضوح- وهي تضمّن خطاب كل طرف بطانة استعلائية تظهر أحيانًا على استحياء، وأحيانًا أخرى بصورة صريحة. وهو استعلاء يجد مستنده من طرف الإسلامي بنظره إلى نفسه على أنه ممثل الأصالة التي لم تمسخ التيارات الوافدة جوهرها وتشوّه نقاءها، ويجد مستنده من طرف العلماني في نظره في مرآته إلى نفسه على أنه المواكب للعصر، المستوعب لأحدث مفاهيمه على الصّعد المختلفة.
وهو ما يمكن تلمّسه في النقاشات التي يصرّ فيها الإسلامي –مثلًا- على تأصيل المفاهيم الحديثة في التراث، فحقوق المرأة أقرّها الإسلام -في نظره- على أكمل وجه، والعقد الاجتماعي له أنموذجه الأمثل في وثيقة المدينة المنورة، وفصل السلطات يمكن تأصيله من أحداث في سيرة النبي.
بينما ينظر العلمانيّ إلى محاولات التأصيل هذه على أنها إصرار على النكوص، وتقييد المجتمع بقيود لا تأخذ في الحسبان ما جرى من تحولات عصفت بكل المجالات، وضرورة تبني التاريخانية للقبض على التحولات، ووضع مفاهيم معاصرة لمواكبتها.
وعلى الرغم من هذه العقبات الكأداء البارزة في مفاهيم أساسية، فإن جذوة أمل يمكن الاستئناس بقبسها، إذا لاحظنا اتفاق الطرفين على ضرورة الديمقراطية، وعلى ضرورة الاعتراف بالحقوق المتساوية لكل المكوّنات، وعلى الاحتكام في صياغة الدساتير إلى إرادة الشعب، وعلى الاعتراف -على الأقل نظريًا- بقيم المواطنة الواحدة.
وهذه المشتركات التي يمكن أن تمثّل جسورًا للّقاء توجب مزيدًا من الحوارات المعمقة والمفتوحة؛ لأن الفروق في تمثلها المفاهيمي لا تزال قائمة، على الرغم من الاتفاق على الإطار العام. فلا يزال يرشح عن بعض الإسلاميين ما يؤكد إفراغهم للديمقراطية من بعدها القيميّ، واختزالها إلى مجرد وسيلة، ولا يزال يرشح عن بعض العلمانيين من مكونات أخرى، من غير الأكثرية المسلمة السنية، ما يؤكد أن ديمقراطيتهم انتقائية لها سقف محدود بمصالح المكونات التي جاؤوا منها. ولا يزال بعض الإسلاميين يتحدثون عن مفهوم الذمّة والجزية على أنهما من المفاهيم التي لا يمكن المساس بها، وهو ما يتناقض مع المواطنة المتساوية تناقضًا لا تجدي معه محاولات التلفيق.
وفي الحديث عن المكونات لا يسع الملاحظ الذي يتوخى الموضوعية ألا يلاحظ أن الحقوق المتساوية التي يتفق الطرفان على ضرورة منحها للجميع -أفرادًا وجماعات- عبر فصل الدين عن الدولة المشتق من مبدأ حيادية الدولة، لا تزال تُناقش بطريقة تُغفل التغييرات التي حفّت بهذه المكونات، وما تسببت به الأحداث من دمار نسبة كبيرة من الأكثرية قتلًا أو تهجيرًا، وما حلّ بالأقلية التي يتحدّر منها النظام كذلك من استنزاف عقب استخدام النظام لها وقودًا في حربه. وهي تغييرات مسّت بنية الأكثرية، سواء على صعيد عديدها أم بنيتها الاجتماعية، ومسّت بالمثل بنية الأقلية المذكورة، وقد عانت باقي المكونات السورية من تحولات في بنياتها على مستويات أقل حدة.
وهو ما يتطلب إعادة نظر في أدوات مناقشة قضية الأكثرية والأقلية؛ فقد لوحظ في النقاشات في الندوة أن أفرادًا من الأكثرية لم يعودوا يطيقون صبرًا تجاه أي ملاحظة عن هيمنة منظومتهم الفكرية ونسقهم الاجتماعي، ويعدّون هذا نوعًا من العنف الرمزيّ المضاف إلى العنف الماديّ الذي تحمّلوا عبئه الأكبر.
وهو ما يصلح عاملًا تفسيريًا أيضًا للإحساس بالخطر الذي تفاقم لدى الأقليّات، بعد انفلات التطرف الإسلامي الذي يستمد بعضًا من تبريراته من كونه المعبّر عن جسد المجتمع الأساسي، وتصدر هذا التطرف المشهد في السنوات السابقة.
وإذا حاولنا القبض على مواضع الخلاف، فإننا نستطيع أن نعثر عليها بسهولة في منظور كل طرف لقانون الأحوال الشخصية، فلا يزال الإسلاميون مصرّين على ضرورة اشتقاق قوانين الأحوال الشخصية من نصوص التشريع الإسلامي، بينما يصرّ العلمانيون على مرجعيتها المدينية.
وقد وجدت أصوات إسلامية أكثر مرونة في مقاربة هذه القضية، حيث رأت إحدى الأوراق المشاركة في الندوة أن منظورًا إسلاميًا وسطيًا لقضية قانون الأحوال الشخصية حاضرٌ في الساحة، ولكنه لا يملك أدوات لتسويق خطابه، ولا دعمًا كالذي يتمتع به الطرف الإسلامي المتشدد.
ويصرّ العلمانيون على عدم تكريس منهاج تربية دينية ذي محتوى محدد يخص فئة محددة، بينما يعتقد الإسلاميون أن في هذا محاولة لمسخ وتشويه هويات الأجيال القادمة التي هي -في نظرهم- هوية تمثل العروبة والإسلام سمتيها الأساسيتين؛ ولهذا تجد بينهم أصواتًا تطالب بجعل الديانة مادة مرسّبة.
من ضمن ما يمكن أن يحرّض الأمل -على الرغم من كل ما ذكرناه من صعوبات للقاء- وجود تجارب ناجحة عربية وغير عربية، تبرهن على إمكانية بناء دولة مدنية تعددية ديمقراطية تتجاوز خلافات المواطنين العقدية والأيديولوجية.
والتجربة التونسية الواعدة تصلح للاحتذاء بها، وكذلك التجربة التركية، ففي هاتين التجربتين لم يمنع وجود أكثرية مسلمة وتيارات أيديولوجية متنوعة من الانتقال إلى دولة المواطنة والتحول الجاد إلى الديمقراطية. وهما تجربتان عانت كلّ منهما مخاضًا طويلًا اشتُقّت خلاله المراجعات النقدية من احتكاك بالواقع بكل أبعاده حتى وصلتا إلى التصالح مع مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والمواطنة المتساوية.
ولكن اتخاذ تجارب للاستئناس يتطلب فهم سيرورة كل تجربة، وخصوصية التجربة السورية التي كانت تجربة رائدة نحو الشروع في التحول الديمقراطي في خمسينيات القرن الماضي، لولا إجهاض التجربة على يد العسكر، وهو ما يعني قابلية المجتمع السوري إلى تمثل قيم المواطنة المتساوية وقيم النظام الديمقراطي.
ولعل مما يجب أن يؤخذ بالحسبان -ونحن بصدد فهم خصوصية الحالة السورية- ما تسبب به النظام من تعبئة طائفية باستجلابه لميليشيات طائفية وحليف إقليمي يقوم نظامه السياسي على أساس طائفي؛ الأمر الذي كرّس حالة التطرف على ضفتي الصراع.
كان الفيلسوف الألماني هابرماس قد دعا إلى ما بعد علمانية، لا تستعلي على أصحاب المنظومة الدينية، ولا تتهم الفكر الدينيّ باللاعقلانية، وتقوم على صياغة خطاب يمثل جزءًا من فعل تواصلي يستخلص من الدين نواه العقلانية بعمل مشترك، ويفتح الفضاء العمومي لكل الأطراف في إطار من التسامح الذي تؤطره علمانية يمكن للمتديّن أن يعبّر عن نفسه وفكره ومشروعه من خلالها عبر ديمقراطية حقيقية، لا تختزل في صندوق اقتراع بائس يتسلق عليه الطامحون ثم يلقون به في البحر.
وربما كان هذا الاقتراح وسيلة ناجعة لتمهيد الطريق للتواصل، شريطة أن يحاول الإسلاميون أن يواكبوا متغيرات الواقع بعدة معرفية جديدة، وبمنهاج معاصر للتأويل لا يتقيد بحرفية النص، ولا يتعالى على الواقع وينظر إليه بمنظار قروسطي.
ولا شك في أن لدى المعتدلين من الإسلاميين محاولات جادة، من الظلم عدم تقديرها، على هذا الطريق، وأن لدى المعتدلين من العلمانيين ما يبشر بإمكانية اللقاء على مشتركات لا بد من استيلادها من جوف الحوار لبناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية.
فالسوريون ذوو مزاج فكري ونفسي وسطي، وقد كانوا سباقين -كما أشرنا آنفًا- في تجربتهم الديمقراطية، ولا شك في أن الثورة مخاض كبير، لا بد أن يدفع بمفرزات متنوعة ترسبت عبر عقود الاستبداد، وكرّسها عنف النظام وتجييشه الطائفي، ولكن عودة السوريين إلى وسطيتهم واعتدالهم ونبذهم للتطرف، وما يملكونه من عمق حضاري سيكون هو ما سيمكث في الأرض، وكل ما سواه من انغلاق وإقصاء سيكون –حتمًا- هو الزَّبد الذي يذهب جُفاء.