يمكن لدراسة الصورة السينمائيَّة أن تستفيد من مقولات علم الإشارات أو العلامات Symology، وتستلهم في الآن ذاته مقولات الهيرمينوطيقا Hermeneuticsوعلمي الجمال والتحليل النفسي.
وفي دراستنا لفيلم بعينه فإنَّنا نتناوله من خلال زوايا عدة: شكليَّة وسرديَّة وتقنيَّة، ومن خلال مقاربات عدة: نقديَّة أدبيَّة وتاريخيَّة وسيكولوجيَّة وسيميوطيقية. وإنَّها أنساق متباينة في التأصيل النظريِّ الأكاديميِّ، لكنَّها تتداخل في ما بينها في التطبيق والتناول، وتتشابك في رحلة الكشف عن عوالم هذا الفيلم وآفاق تلك الصورة.
وأنْ ترصدَ في هذه الرحلة الدلالات والإشارات الموصِلة للمعنى، وأنْ تلحظ الرسائل التواصليَّة التي تطلقها تلك الصورةُ التي قد تختزن وظائف ذرائعيَّة مختلفة، وأنْ تقفوَ ما يمارسه الفيلم من تأثيرات سلبيَّة أو إيجابيَّة في المتلقي، وأن تُشرِّحَه تشريحًا علميًّا اعتمادًا على آليَّات الكتابة السينمائيَّة وأدواتها الفنيَّة والجماليَّة، وأن تستخلص دور النظريَّة الإدراكيَّة في فهم الصورة وتقبلها فنيًّا وجماليًّا، وأن تنتبه إلى مختلف الحقول الدلاليَّة والسيميائيَّة المولِّدة للبنية المنطقيَّة للفيلم، فتلك رحلة وافرة الثراء، جمَّة المتعة، لذيذة الاكتشاف! فكيف إذا كانت الصورة متعلقة بشخصيَّة من أهمِّ شخصيَّاتنا التاريخيَّة التي طُبعَ رسمُها على العملات، وأقيمت لها النصب والتماثيل، ونُظمت فيها القصائد والأشعار!
في هذا البحث سنرصد في الأفلام موضوع دراستنا تلك الصورة السينمائيَّة التي لم تعد مجرد صورة، بل غدت صيرورة بخاصيَّة (أنطو-تكوينية) فقد بعثت الأصل بعثًا آخر، وخلّقته تخليقًا جديدًا، وسنحاول أن نضع اليد على وصاية الفكرة على الصورة، ووصاية الصورة على الأصل، وهل كانت هذه الصورة تفيض عن الفنان أم الأيديولوجيِّ؟ وهل استطاعت التواصل مع الواقع في ديمومته وتنويعاته؟ وسنحاول الإصغاء للمنطوق، والتمعن في المفهوم، واستجلاء الضمنيِّ والمسكوت عنه! وهل كان المتلقي العربيُّ حياديًّا في تلقيه من مرسلين متنوعين!
يترك النصُّ الفنيُّ أثرًا عميقًا في حياة الإنسان كما يقول دافيد جاسبر، على الرغمَ من علمه بأنَّه مجرد اختراع، مجرد عالم خياليٍّ، و يمكن أن يكون لنصوصٍ ورواياتٍ خياليَّة سلطةٌ في حياتنا، رغم علمنا أنَّها – بمعنى ما – ليست صحيحة[1]. وإذا كان شأن النصِّ كذلك فكيف يمكن أن يكون حال السينما وهي الفنُّ الأرقى؟! لقد غدا هذا الفنُّ المنبثق من الآلة سيِّد الفنون، واستطاعت السينما أنْ تحفّز الفنان التشكيلي على الرسم بشكل أفضل، والمسرحيَّ أن يتعرف إمكاناته وقدراته بشكل أعلى، وإذا كان التشكيل يُعدّ بمنزلة التحليل النفسيِّ للقرن التاسع عشر، فيمكن أن يُعدَّ الفنُّ السينمائيُّ التحليلَ النفسي للقرن الحاليِّ[2]، فهي مصدر من مصادر الكشف عن اللاوعي البصريِّ الذي ينطوي على سيل من الإدراكات والمفهومات.
ومن ناحيةٍ أخرى، فقد راجت في الآونة الأخيرة الدراسات الصورولوجيَّة[3] رواجًا واضحًا، وانتقلت من الأدب إلى الفنون الأخرى، فانتشرت الأبحاث التي تتحدث عن صورة هذا الشعب أو ذاك في هذا الفيلم أو غيره، ولم تعد دراسات الصور خاصَّة بنظرة الأدباء إلى الشعوب الأخرى وانعكاسها في آدابهم القوميَّة على شكل صور أدبيَّة، بل انسحبت على السينمائيِّين أيضًا. وغدا نقدُ الدراسات الصورولوجيّة نوعًا من نقد النقد لا بدَّ منه لاستكمال المشهد.
وهذه الصورة قد تكون مغلوطة بالمصادفة أو مشوَّهة عمدًا، كما أنَّ تلقيها قد لا يكون محايدًا أو معقولًا – وهذا ما سنكشف عنه لاحقًا – لأنَّ الشحن الأيديولوجي الذي غدا في الآونة الأخيرة أشد كثافة وتأثيرًا يمنع التلقي السليم للصور على مبدأ ((عنزة وإن طارت)).
ملأت شخصيَّة صلاح الدين الأيوبيُّ (1137 – 1193) الدنيا وشغلت العرب والمسلمين بعد منتصف القرن العشرين؛ نُحِتت له التماثيل في الساحات العامة، واستغاث به الشعراء بعد أن أصبحت السيوف خشبًا، وتشدَّق باسمه الخطباء، وهم يتحدثون عن تحرير القدس، والنهوض بالأمَّة، وأُنْتِجت عنه المسلسلات والأفلام… إلخ.
وفي هذا السياق عُقِد في جامعة مدينة سعرد Siirt التركيَّة (23 – 25. 09. 2016) مؤتمرٌ دوليٌّ عنه، شارك فيه عدد كبير من الباحثين، توافدوا من أصقاع العالم المختلفة، ونُشرَت أعمالُ المؤتمر لاحقًا في مجلدين ضخمين[4].
حضر في المؤتمر بحثان يتصلان بالسينما، الأول لكاتب هذه السطور بعنوان: ((أسطرة شخصيَّة صلاح الدين واستلهامها في الشعر والسينما))[5] رُكِّز فيه على استكشاف مفهوم الأسطرة legenderize، وتبيان آليات تحوِّل الأبطال التاريخيين المشخصين إلى صور نمطيَّة، تكوِّنها المخيلة الشعبيَّة الجمعيَّة، وتعبِّر عنها في الفنون الشعبيّة المتَّصلة بها، كالحكاية الخرافيَّة والأنشودة الشعبيَّة البطوليَّة…، وانتقال هذه الصور إلى الأدب الفنيِّ الفرديِّ والفنون المختلفة وبالتالي السينما، وقد بيَّن البحث كيف أنَّ الذهنيَّة العربيَّة لم تتفتق عن عمل ضخم يليق باسم هذا القائد التاريخيِّ؛ فلم تبدع سيرةً شعبيَّة كبرى أو قصيدة بطوليَّة ترقى إلى مستوى الملحمة، ولم تنتج فيلمًا سينمائيًّا يشبه ما فعلته الشعوب الأخرى مع عظمائها الكبار.
أمَّا البحث الآخر فكان بعنوان: ((نقد الملامح الاستشراقيَّة لصورة صلاح الدين الأيوبيِّ في السينما الغربيَّة))[6]، ولعلَّ العنوان يشي بطبيعة البحث، فقد حرص فيه الباحث التركيُّ د. مصطفى يلماز على قراءة صورة صلاح الدين في عددٍ من الأفلام الغربيَّة، لكنَّها كانت قراءة على ما تنطوي عليه من جهد علميٍّ ومتابعة رصينة، تنطلق من لغة استشراقيَّة معكوسة (حسب مصطلح صادق جلال العظم)، تتبنى بعض مقولات إدوارد سعيد، ولا ترى في الغرب إلَّا عدوًا متآمرًا متحفزًا دائمًا لإلحاق الأذى والحيف بالمسلمين ماضيهم وحاضرهم، بل ترى الغرب كلَّه محض مؤسسة، يتحكم بها عدد من المستشرقين بجهاز تحكم مبرمج في أجهزة المخابرات.
وقد حفز لديَّ بحث الزميل التركيِّ الفضولَ للعودة مجددًا إلى هذه الأفلام ومتابعتها بدقَّة، للتأكد من صحة ما ذهب إليه، لكنَّني لم أر ما رآه، ووصلت إلى عكس ما وصل إليه.
لم يرسخ في خلدي قبل الشروع بمتابعة الأفلام التي يظهر فيها صلاح الدين الأيوبيُّ سوى تصورين اثنين عن الصورة الممكنة له في السينما؛ الأول يقوم على أن السينما العربيَّة قد بالغت في تمجيده، وأطنبت في تصوير مآثره، حتى جعلته أنموذجًا للبطل الأسطوريِّ السوبرمان، والآخر يقوم على أن السينما الأميركيَّة قد شوَّهت صورته حتَّى جعلته إسلاميًّا متشددًا وإرهابيًّا بربريًّا، فخاب ظنِّي في الحالتين كلتيهما، واكتشفت أن تصوراتي محض أوهام مبنيَّة على ترَّهات صحافيَّة، لا تستند إلى قيم علميَّة موضوعيَّة. وسنحاول فيما يأتي أن نستكشف كيف بدت شخصيَّة صلاح الدين في بعض النتاجات السينمائيَّة، وسنتناول بالتحليل فيلمًا عربيَّا واحدًا، وثلاثة أفلام أميركيَّة.
[1]دايفيد جاسبر، مقدمة في الهرمينوطيقا، وجيه قانصو (مترجمًا)، (بيروت/ الجزائر: منشورات الدار العربيَّة للعلوم – ناشرون، 2007)، ص23.
[2]ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، فريد الزاهي (مترجمًا)، (الدار البيضاء: منشورات أفريقيا الشرق، 2002)، ص221.
[3]الصورولوجيا واحد من مفهومات الأدب المقارن Comparative Literature وكان د. سعيد علُّوش أول من تحدث نظريًّا عنه، وابتدع مصطلح الصورولوجيا في اللغة العربيَّة مقابلًا للمصلح الفرنسي Imageologie، في كتابه: مكونات الأدب المقارن في العالم العربي، (بيروت: منشورات الشركة العالميَّة للكتاب، 1987)، ص480.
[4]Uluslararası Selahddin Eyyübi Sempozyumu Bildiriler I – II, ed. Najati Somer – Ahmet Aktaş, )İstanbul: Beyan, Yayınları, 2017(.
لم يترك المشاركون صغيرةً أو كبيرةً، شاردةً أو واردةً في حياة هذا القائد التاريخيِّ إلَّا أشبعوها دراسة وتمحيصًا، وكانت النظرة السلبيَّة إلى الغرب بكلِّ مكوناته الثقافيَّة (استشراق – أدب – سينما…) عامَّةً، تكاد تكون الشيء الوحيد الذي يتفق عليه جلُّ الباحثين، ويُصفِّق له جمهور المتلقين، فإذا ما انتقد أحد المستشرقين سلوكًا ما لصلاح الدين، فإنَّ الاتهامات الجاهزة واللعنات القاسية تنصب على هذا المستشرق كالحمم، وتنصبُّ أيضًا على الاستشراق العميل وربيب الاستعمار… وإذا ما ذهب مستشرق آخر إلى بيان فضائل صلاح الدين وأطنب في امتداحه يأتيه الردُّ سريعًا على لسان الباحث محمد إلهامي: ((لسنا في حاجة إلى شهادة غير المسلمين على عظمة صلاح الدين، كما أنَّ شهادة الغربيين لمسلم ليست قولًا فصلًا ترفعه أو تخفضه)). انظر: محمَّد إلهامي: ((مدح صلاح الدين في مؤلفات المستشرقين والمؤرخين الغربيين))، في:
Uluslararası Selahddin Eyyübi Sempozyumu Bildiriler I – II, ed. Najati Somer – Ahmet Aktaş, )İstanbul: Beyan Yayınları, 2017(, I, 123.
[5]د. غسَّان مرتضى: ((أسطرة شخصيَّة صلاح الدين واستلهامها في الشعر والسينما)) في:
Uluslararası…, 2017, I, 366 – 390.
[6]Mustafa Selim Yılmaz, ‘’Oryantalit bakış açısından hareketle batı sinemasında çizilen Selahddin Eyyübi portresi üzerine bir değerlendirme’’, Uluslararası…, 2017, I, 39 – 64.
وقد أنجزتُ ترجمةَ بحث د. مصطفى يلماز إلى العربيَّة وآمل نشرها قريبًا.