المحتويات
أولًا: خلفية تاريخية دبلوماسية واستراتيجية
ثانيًا: أميركا تتجه شرقًا، ماذا عن الصين؟
2- التفاف صيني على الاحتواء الأميركي
ثالثًا: شراكة استراتيجية أم حرب باردة جديدة؟
بعد نهاية الحرب الباردة أواخر الثمانينيات وانتصار الولايات المتحدة وهزيمة الاتحاد السوفياتي ثم تفكّكه مطلع التسعينيات من القرن الماضي، راجت مقولات عدّة حول “النظام العالمي الجديد” و”الأحادية القطبية” و”القرن الأميركي الجديد”، وغيرها من عبارات تؤكّد انفراد الولايات المتحدة في “قيادة العالم”، بوصفها القوّة العظمى الوحيدة من دون منازع. مقابل رواج نزعة التنظير تلك للزعامة الأميركية المطلقة، ظهرت كتابات تذهب إلى التشكيك في نظام القطب الواحد، وتتحدث عن “عالم متعدد الأقطاب”، مفنّدةً مزاعم القوة الأميركية المهيمنة وإمكان حفاظها على مكانتها في القرن الحادي والعشرين.
وفعلًا، لم يطل الوقت حتى توضّحت أوهام “القرن الأميركي”، ولا سيّما بعد التعثّر الأميركي في أفغانستان والعراق والفشل الذريع لما سُمّي “الحرب على الإرهاب”، فضلًا عن الأزمة المالية العالمية وآثارها الاقتصادية والاجتماعية السلبية داخل أميركا نفسها، وذلك كله بالتزامن مع تقدّم ملحوظ في الأوضاع الاقتصادية والقدرات العسكرية لخصوم واشنطن التقليديين والمحتملين في العالم، وسعي بعضهم للتأثير في مجرى السياسة الدولية، وتحقيق مكاسب غالبًا ما تكون متعارضةً مع المصالح الأميركية.
وبالنظر إلى الإمكانات والقدرات الهائلة، المادية والبشرية التي تمتلكها الصين، وسعيها الحثيث لتنفيذ خططها التنموية الشاملة والطموحة، فقد نُظِر إليها بوصفها المنافس المحتمل الذي سيتحدّى الولايات المتحدة في القرن الجديد. ومع السنوات الأولى من الألفية الثالثة لم يعد هذا “التحدّي الصينيّ” مجرّد احتمال، وإنما بات أمرًا واقعًا في الكثير من المجالات وفق ما تكشفه الوقائع، إذ استطاع “العملاق الأصفر” أن يزيح الولايات المتحدة ويحتل الصدارة عوضًا عنها في أرقام النمو الاقتصادي وحجم الإنتاج والتصدير وكتلة الاحتياطي النقدي، وحتى في موقع الشريك التجاري الأول لعدد من حلفاء واشنطن التقليديين. دفع هذا بدوائر صنع القرار الأميركية إلى إيلاء اهتمامٍ أكبر لآسيا عمومًا وجنوب شرقها على نحو خاصّ، حيث تطمح الصين إلى كونها صاحبة اليد الطولى هناك، وهو ما عُبّر عنه أميركيًا بسياسة “الاتجاه شرقًا” و”إعادة التوازن في شرق آسيا والمحيط الهادئ”.
ثمّة، إذًا، تنافسٌ بين اتّجاهين متباينين: طموح الصين إلى تعزيز دورها الإقليمي والدولي بما يتناسب وتعاظم قدراتها ولا سيّما الاقتصادية، وسعي الولايات المتحدة للحفاظ على مصالحها (ومكانتها أيضًا). ولمّا كان المجال الجيوسياسي الذي تدور فيه عديد من مصالح الفريقين هو ذاته، فإنّ التعامل مع تعارض المصالح وتناقضها في ما بينهما يبدو مفتوحًا على شتّى الاحتمالات، بدءًا من إمكان التعايش ومحاولة تسوية الخلافات، مرورًا باحتمال التنسيق والشراكة، ووصولًا إلى التصعيد والصدام المباشر.
ومع التشابك والتعقيد في العلاقات الدولية وتأثيراتها المتشعّبة في عالم اليوم، فإنّ مآلات العلاقة والتنافس ما بين واشنطن وبيجين لن تقتصر آثارها على منطقة جنوب شرق آسيا وما حولها فحسب، إذ ستتعداها إلى غير مكان من العالم. ونظرًا إلى وجود مصالح حيوية لكل من الولايات المتحدة والصين في الشرق الأوسط والبلدان العربية، وتأثيرهما الحاسم في عدد من ملفات المنطقة، فإنّ من الضرورة بمكان مواصلة الجهد البحثي باللغة العربية سعيًا لفهم أعمق لتطور الحالة الأميركية – الصينية وآفاقها المحتملة، وهو ما تأمل هذه الدراسة الإسهام فيه، عبر محاولة قراءة استراتيجية الولايات المتحدة في آسيا في ظل النهوض الصيني.
وبغية الإلمام بالموضوع، تُستهلّ الدراسة بخلفيّة تتضمن معلومات تأسيسية عن تاريخ العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، وكذلك الإشارة إلى موقع كل منهما في التفكير السياسي – الاستراتيجي للآخر. وتنتقل لتناقش التوجّه الأميركي شرقًا وكيفية تصرّف الصين إزاءه، مع التعريج على أهم المصالح الحيوية للجانبين والملفات الإشكالية بينهما، وكذلك تحالفات كل منهما وأولوياته. وتمضي الدراسة في تناول الآفاق المحتملة كالتوصّل إلى شراكة استراتيجية تضمن مصالح الطرفين، أم أنّ حربًا باردةً جديدة تلوح في الأفق، في ظل الشروط الحالية ووجهات النظر المختلفة داخل دوائر صنع القرار في البلدين، فضلًا عما قد تكون عليه سياسة إدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب حيال الصين، وهو المعروف بتصريحاته (وشخصيته) المثيرة للجدل. لتختتم الدراسة بخلاصة تكثف نتائج ما تضمّنته من تحليل ومعطيات.
يعود تاريخ العلاقات الرسمية الأميركية – الصينية إلى أواسط القرن التاسع عشر، عند توقيع أول اتفاقية دبلوماسية بين البلدين عُرفت بـ (معاهدة وانغيا Wanghia) عام 1844، والتي حصل الرعايا الأميركيون بموجبها على الامتيازات والحصانة الدبلوماسية[1].
انتهى الحكم الملكي في الصين بإعلان الجمهورية عام 1911 على يد صن يات صن، الذي لم يتمكن من إحكام سيطرته على البلاد، ليتابع خليفته شيانغ كاي شيك الصراع ضدّ القادة العسكريين المحليين بهدف توحيد البلاد تحت سلطته بمساندة أميركية. كذلك دعمت الولايات المتحدة كاي شيك خلال مقاومته الاحتلال الياباني، ولا سيّما في سنوات الحرب العالمية الثانية، وانتهى الاحتلال مع نهاية الحرب واستسلام اليابان.
بعد ذلك، تجددت الحروب والصراعات الداخلية في الصين، ما بين حكومة شيانغ كاي شيك القومية، والشيوعيين بزعامة ماو تسي تونغ، الذي انتصر في النهاية على الرغم من الدعم الأميركي لخصمه وحياد الاتحاد السوفياتي في النزاع آنذاك، حيث تراجع كاي شيك نحو الجنوب الشرقي أمام الزحف الشيوعي لينتهي به المطاف بنقل حكومته إلى جزيرة فرموزا (تايوان)، فيما أعلن ماو قيام “جمهورية الصين الشعبية” عام 1949، لتدخل العلاقة بين الولايات المتحدة والصين منذ ذلك التاريخ مرحلة ذات طبيعة متغيّرة وإشكالية.
اعترف الاتحاد السوفياتي بنظام الحكم الشيوعي و”جمهورية الصين الشعبية” التي أعلنها ماو، في حين رفضت الولايات المتحدة ذلك، وواصلت مساندة حليفها شيانغ كاي شيك، ودعمت نظام الحكم الذي أسسه في تايوان، واعترفت بحكومته ممثلًا شرعيًا وحيدًا للشعب الصيني، وقد حذت حذوها في ذلك عديد من الدول الغربية.
جاءت الحرب الكورية (1950- 1953) لتترجم عمليًا الانقسام المستجد، إذ تدخّلت الصين الشعبية ومعها السوفيات لدعم كوريا الشمالية، في وقت قدمت الولايات المتحدة وتايوان الدعم لكوريا الجنوبية. وما إن انتهت الحرب الكورية حتى تجدّد الحال، هذه المرة في حرب فيتنام خصوصًا بعد التدخل الأميركي المباشر (1965- 1973)، حيث ساند المعسكر الشيوعي الشمال في مواجهة الدعم الأميركي للجنوب، غير أنّ الحرب الفيتنامية انتهت بالتزامن مع تحوّل تاريخي في العلاقات الأميركية – الصينية، تمثّل في الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين في شباط/ فبراير 1972، بعد سلسلة لقاءات سرّية أجراها مستشاره للأمن القومي (هنري كيسنجر) مع مسؤولين صينيين تمهيدًا لها.
تُوِّجت الزيارة بلقاء نيكسون وماو وإصدار “إعلان شنغهاي”، عن رغبة البلدين بإقامة علاقات طبيعية بينهما، والعمل على تسوية الخلافات وتجنّب الصدام في العلاقات الدولية. وكان من بين النتائج المباشرة للتقارب الأميركي – الصيني استعادة الصين لعضويتها في الأمم المتحدة على حساب تايوان، وكذلك مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي.
وضعت زيارة نيكسون أسسًا جديدة للعلاقة مع الصين، إذ شرع الجانبان في حوار جدّي حول مختلف القضايا استمر لسنوات، ورغم تباطؤ تنفيذ بعض التفاهمات، نتيجة وفاة ماو تسي تونغ وخروج نيكسون من البيت الأبيض، إلا أن العلاقات الثنائية واصلت تطوّرها الإيجابي، ليتم تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين بشكل رسميّ عام 1979، بعد نحو ثلاثة عقود من القطيعة. كما قام الزعيم الصيني دينغ سياو بنغ بزيارة تاريخية للولايات المتحدة في العام نفسه. دينغ، الذي قاد مسيرة الانفتاح الاقتصادي والتنمية في الصين، كان مدركًا لأهمّية تطبيع العلاقة مع واشنطن في نجاح خطط الصين التنموية، فتتالت الزيارات المتبادلة على أرفع المستويات، وقام رئيس الوزراء الصيني بزيارة لواشنطن عام 1984، تلتها زيارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان للصين في العام نفسه، وخلالها وقّع الجانبان اتفاقية حول الاستخدام السلمي للطاقة النووية بين البلدين.
على أنّ ذلك كلّه -وإن أشاع أجواءً إيجابية- لم يكن ليعني إقفال كثير من الملفات العالقة بين واشنطن وبيجين، (كمسألة تايوان مثلًا، حيث استمرت العلاقة العسكرية والتجارية بينها وبين الولايات المتحدة على الرغم من إعلان الأخيرة التزامها بسياسة “صين واحدة”)، بمقدار ما خفّف نسبيًا من حدّة التوتر بشأنها، وذلك مقابل استثمار كل من الطرفين حالة الانفتاح المستجدة تلك في مواجهة أطماع الاتحاد السوفياتي، الرفيق اللدود للصين وخصم الحرب الباردة العنيد بالنسبة إلى واشنطن، فقد كانت الخصومة مع موسكو من الموجبات التي هيّأت الأجواء للتقارب. وحيث إن التوافق السوفياتي – الصيني حيال بعض الملفات كالحرب في كوريا وفيتنام لم يمنع تراشق الاتهامات ونشوب الخلافات الأيديولوجية والسياسية بينهما داخل المعسكر الشيوعي التي بلغت ذروتها في ستينيات القرن العشرين ولم تخل من مواجهات مسلحة أحيانًا بسبب خلاف حدودي، فقد وجدت واشنطن في الشقاق بين عملاقي المعسكر الشيوعي فرصة لدعم جهدها الرامي إلى تطويق الاتحاد السوفياتي وعزله.
ويمكن قراءة الجهد الأميركي لتحييد الصين في سنوات الحرب الباردة، ضمن سياق الاستراتيجية القائمة على الإحاطة بالاتحاد السوفياتي والضغط عليه عن طريق ما سُمّي “الأحزمة المتعاقبة”، وذلك بمحاولة تطويقه عبر ما يُعرف في الفقه الاستراتيجي الأميركي بـ”قوس الأزمات”، أي القوس الذي يتيح لأميركا أن تعزل الاتحاد السوفياتي وتحاصره، بدءًا من بحر البلطيق شمالًا مرورًا بأوروبا ثم تركيا وإيران، ومنها شرقًا حتى الصين[2]. ولعل هذه الاستراتيجية راقت الصين التي كانت تخوض في ذلك الوقت حربها الباردة الخاصة في مواجهة موسكو، سواء باستقطاب الحلفاء إلى صفها داخل الكتلة الاشتراكية (مثل ألبانيا، يوغسلافيا، وكوريا الشمالية)، أو بعرقلة مساعي موسكو لمدّ نفوذها في جنوب شرق آسيا (كما في كمبوديا وفيتنام). وقد استمر الخلاف الصيني – السوفياتي حتى الثمانينيات، وقتَ شرع الجانبان في تسوية خلافاتهما والعودة إلى تطبيع العلاقات بينهما تدريجيًا، وهو ما تم أخيرًا ولكن خلال فترة احتضار الاتحاد السوفياتي، الذي آذن أفوله ببدء تقويم مختلف وإعادة ترتيب لأوراق العلاقة الأميركية- الصينية.
بعد الانهيار السوفياتي المدوّي، شرع منظرون أميركيون كُثر ولا سيّما المنتمين منهم إلى تيار “المحافظين الجدد” في وضع التصورات والخطط حول الزعامة الأميركية للعالم وسبل الحفاظ عليها ومواجهة ما يعترض ذلك من تحديات.
ففي ورقة بعنوان “دليل التخطيط الدفاعي” كتب بول وولفويتز، أحد منظري المحافظين الجدد، وكان لا يزال خبيرًا في وزارة الدفاع في بداية التسعينيات، يقول: “إن هدفنا الأول هو تفادي ظهور منافس جديد. إن هذه رؤية عامة تقع تحتها الاستراتيجية الدفاعية الإقليمية، وتتضمن سعينا الدائم لمنع أي قوة معادية من السيطرة على أي منطقة يمكن لثرواتها -عندما تصبح تحت السيطرة- أن تكون كافية لإطلاق قوة عظمى. هذه المناطق تتضمن أوروبا الغربية، شرق آسيا، الأراضي السوفياتية السابقة، وجنوب غرب آسيا”[3].
بعده بسنوات، قدّم ثلاثة من التيار نفسه (هم: زلماي زادة، فرانك كارلوتشي، وروبرت هانتر) رسالة إلى جورج بوش الابن عقب انتخابه عام 2001، تؤكّد أن “أميركا ينبغي أن تسعى لمنع نهوض أي منافس عالمي معادٍ أو تحالف دولي معادٍ”[4]، وذلك ضمن ما أسموه “رؤية استراتيجية لمهام بوش على الصعيد العالمي”، تمحورت حول استراتيجيات تتعامل مع تحدّي صعود القوى العالمية المحتملة كمنافس مستقبلي، وهي الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا. وقد عرضت تلك الوثيقة استراتيجية على مرحلتين للتعامل مع الصين، الأولى تجسّ نبض العملاق الأصفر، في ما تحدّد الثانية ماهيّة السبل الملائمة لمواجهة نموه المتفاقم، حيث إنّ “على الولايات المتحدة أن تتبع إستراتيجية متعددة المستويات مع الصين، فليست هي استراتيجية شراكة كاملة، ولا هي استراتيجية الاحتواء تمامًا”، وعلى الرغم مما تدعو إليه الوثيقة من تشجيع الارتباط مع الصين في التجارة والاقتصاد، وتقوية العلاقات العسكرية المتبادلة، والقيام بمشاريع مشتركة، فهي تشدد في الوقت عينه “على الديمقراطية في الصين، والوقوف في وجه الطموح الصيني تجاه السيطرة الإقليمية”[5].
أما كوندوليزا رايس، وقبل أن تتولى منصب مستشار الأمن القومي للرئيس بوش الابن، فقد كتبت مطلع عام 2000، أن “الصين ليست بالدولة التي تميل إلى الحفاظ على Status Quo (أي الوضع الراهن) بل على العكس، فهي تريد تغيير الوضع القائم، وتغيير ميزان القوى في آسيا لمصلحتها. وهذا وحده كافٍ لجعلها الخصم الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية”[6].
كذلك الحال لدى المنظرين من غير “المحافظين الجدد”، فقد شغلت الصين حيزًا مهمًا من تفكيرهم. جوزيف س. ناي، الأكاديمي ومساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية في حكومة بل كلينتون، والذي جادل منظّري الأحادية القطبية، ويُنسب إليه ابتكار مصطلح “القوة الناعمة”، رأى أن “عبارة صعود الصين اسم على غير مسمى، إذ إن عبارة “عودة الصين” ستكون أكثر دقة، بما أن المملكة الوسطى [الاسم االقديم للصين] كانت من حيث الحجم والتاريخ لفترة طويلة، قوة كبرى في شرق آسيا. فقد كانت الصين فنيًا واقتصاديًا قائدة للعالم -ولو من دون امتداد عالمي – من سنة 500 إلى سنة 1500. فلم تتفوق عليها أوروبا وأمريكا إلا في نصف الألفية الأخيرة”[7]، وفي هذا إشارة واضحة إلى جدّية ما يعنيه “صعود الصين” من إمكان العودة إلى الصدارة في العالم، على الرغم من أن ناي هو أحد المشككين بفرص الصين في قيادة العالم، لكنه يؤكد تحدّي الصين للولايات المتحدة في آسيا والمحيط الهادئ. وبحسب ما ذكره ناي، نقلًا عن محللين آخرين، فإن الصينيين يصوّرون الولايات المتحدة بشكل روتيني “العدوَّ رقم 1” في البيانات الحكومية، والتقارير الإخبارية في الصحف التي تديرها الدولة، وفي الكتب والمقابلات. وأنه “ليس من المحتوم أن تشكّل الصين تهديدًا للمصالح الأميركية، لكن هناك احتمالٌ بخوض الولايات المتحدة حربًا ضد الصين أكثر من احتمال خوضها ضد أي قوّة كبرى غيرها”[8].
من جهتها، تعاملت الصين بجدّية مع التطورات التي أفرزها عالم ما بعد الحرب الباردة وبروز نزعة الهيمنة الأميركية، ولا سيّما بعدما خيّم التوتّر على علاقاتها مع واشنطن إثر حوادث ميدان “تيان آن مين” الشهيرة عام 1989، وقيام إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش (الأب) بفرض عقوبات على الصين أدخلت علاقات البلدين في حالة من التردي لسنوات، على خلفية تصعيد الموقف الأميركي حيال ملف حقوق الإنسان في الصين.
في تلك الأجواء، كانت وثائق الحزب الشيوعي الصيني (الحاكم) تصنّف الولايات المتحدة كعدو حقيقي للصين. تقول وثيقة صينية تعود لعام 1992: “إن الولايات المتحدة الأميركية، منذ تحولها إلى دولة عظمى وحيدة، تعمل جاهدة من أجل تحقيق الهيمنة الجديدة، وتغليب سياسة القوة – كل ذلك في ظل دخولها مرحلة التدهور النسبي، وبروز حدود إمكاناتها”. وفي العام 1995، أعلن الرئيس الصيني أن “قوى الغرب المعادية لم تتخلّ دقيقة واحدة عن خططها الرامية إلى تغريب بلادنا وتقسيمها”، بينما صرّح وزير خارجيته قبيل الاجتماع السنوي لحلف آسيان في العام نفسه: إن على الولايات المتحدة التخلي عن نظرتها لنفسها أنها منقذة الشرق، مضيفًا “إننا لا نعترف بتطاول الولايات المتحدة للقيام بدور ضمانة السلم والاستقرار في آسيا”[9].
بدورها، زي زونغوان، وكانت مديرة المعهد الأميركي التابع لأكاديمية العلوم الصينية، عبرت عن الشكوك والهواجس الصينية حيال الاستراتيجية الأميركية. ففي معرض تقويمها للعلاقات الأميركية – الصينية خلال عقد التسعينيات، والتي وصفتها بـ “العلاقات الهشة”، رأت زونغوان أن “العامل الرئيس هنا هو الموقف الأميركي من تحوّل الصين إلى دولة عصرية، قوية نسبيًّا، وعلى الرغم من أن التصريحات الرسمية باقية على حالها، فإن السؤال الذي لا يزال يطرح نفسه هو: إلى أي درجة يسمح الوعي الأميركي للصين أن تكون قوية.
تعتقد أميركا أن الصين تتطور بسرعة فائقة، ويصبح التحكم بها أكثر صعوبة. وبعبارة أخرى فإن تسريع التحديث الصيني لا يبدو دائمًا متماشيًا مع المصالح الأميركية”[10].
شيئًا فشيئًا راح الزعماء الصينيون يكررون الحديث عن حضور الصين الفاعل في الساحة الدولية، مع التأكيد أن “صعود الصين” إنما هو “صعود سلمي”. وفي تقرير قُدّم إلى المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي الصيني في تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، صرّح الرئيس الصيني جيانغ زيمين: إن الصين واجهت “فترة 20 عامًا من الفرص الاستراتيجية” التي من شأنها أن تسمح للبلد بصوغ وانتهاج استراتيجية دولية “معتدلة وبراغماتية” تركز على التنمية المحلية[11].
شهدت أواخر التسعينيات عودة العلاقات الأميركية– الصينية إلى التحسّن من بوابة الاقتصاد والمبادلات التجارية، ومع غرّة القرن الجديد باتت الصين الحليف التجاري الأول للولايات المتحدة، التي دعمت دخول الصين في عضوية منظمة التجارة العالمية عام 2001، كما أن هجمات أيلول/ سبتمبر من العام نفسه وتفشّي ظاهرة الإرهاب الدولي، فتحت بابًا إضافيًا لتطوير العلاقات بين الجانبين في مجال مكافحة الإرهاب.
لكن بعد الأزمة المالية العالمية (2007 – 2008)، تكرّرت الانتقادات الصينية للنظام الأميركي ولدور أميركا في العالم. وحُمِّلت أميركا مسؤولية تفجير الأزمة المالية والإخفاق في تقويم دور الصين الحيوي في اجتراح رد جماعي دولي عليها. كذلك دأبت وسائل الإعلام السياسي الصينية على توبيخ أميركا بقسوة متزايدة من جراء عدم حساسيتها المزعومة إزاء مصالح الصين وتدخلها عام 2010 في نزاع الصين مع جاراتها الآسيويات على حقوقها في بحر الصين الجنوبي. ولم يتردد بعض المعلقين في اتهام أميركا بالسعي لتطويق الصين[12].
إنّ الشك والريبة المزمنين وصورة كل من الفريقين لدى الآخر بوصفه “العدو”، الفعلي أو المحتمل، لم تقتصر على التنظير والتحليل، بل انعكست في الواقع العملي، عبر سعي كل منهما لتعزيز مواقعه والتحسّب من نوايا خصمه.
إنّ الاهتمام الاستراتيجي الأميركي بشرق آسيا سابق على المرحلة الحالية التي يكثر فيها الحديث عن هذه “الانعطافة” في السياسة الخارجية الأميركية منذ فترة حكم الرئيس باراك أوباما، لكون هذا التوجّه قد شهد زخمًا أكبر في عهده، ولا سيّما ولايته الثانية. لقد قامت الإدارة الأميركية، والتي ترى في منطقة بحر الصين الجنوبيّة مصلحة قوميّة جوهريّة، بإطلاق ما يسمّى (محور آسيا) والذي يحوّل سياسة الولايات المتّحدة تجاه الصين من سياسة مبنيّة، بشكل واسع، على مصالح تجاريّة مشتركة، إلى أخرى هدفها احتواء نهوض الصين، لذلك كانت رحلة الرئيس أوباما -التي رافقتها تغطية إعلاميّة كثيفة- إلى جنوب شرقي آسيا مؤشّرًا جيّدًا على نيّة واشنطن في إحاطة الصين وعزلها[13].
إنّ ما يجرى ليس البحث عن موطئ قدم بل هو تدعيم للوجود الأميركي الحاضر أصلًا في المنطقة منذ عقود، وذلك استجابة للمعطيات الجديدة التي أفرزها النهوض الصيني. ومن المؤشّرات الدّالة على أهمّية المنطقة أميركيًا، أنّه من بين القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة حول العالم والتي تقدّر بنحو 750 قاعدة، تتوزّع على 130 دولة[14]، (والبعض يرفع العدد إلى 1000 قاعدة) فإنّ 109 قواعد منها تقع في اليابان و85 في كوريا الجنوبية[15]، فيها أربعة وثمانون ألف جندي، 47 ألفًا في اليابان و37 ألفًا في كوريا الجنوبية[16]. وقبل العام 1990 كان ثلثا الأميركيين يعدّون اليابان المتنطّح الأكبر للهيمنة في آسيا، ومنافس الولايات المتحدة. وفي السنوات العشر اللاحقة قلّت إلى حد كبير أهمية اليابان[17].
بدأ التركيز على الصين كمنافس محتمل بعد نهاية الحرب الباردة كما سبق بيانه، وباتت العلاقة بين الولايات المتحدة واليابان وغيرها من جيران الصين، تتّخذ أهميتها المتزايدة بدلالة تنامي الدور الصيني وتأثيراته على دول المنطقة.
هكذا أعاد الرئيس بل كلينتون تأكيد التزام الولايات المتحدة واليابان بتحالفهما الأمني/ العسكري، خلال زيارته الرسمية إلى اليابان عام 1996، حيث أصدر ومضيفه رئيس الوزراء هاشيموتو إعلانًا مشتركًا عرف باسميهما، ونصّ على أن “التحالف الأمني بين الولايات المتحدة واليابان يشكل أساسًا للاستقرار الذي من شأنه أن يسمح بالرخاء المتنامي في شرق آسيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة” واستمر هذا التوجّه بدعم الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة. كما أن أول زيارة قامت بها هيلاري كلينتون، بصفتها وزيرة للخارجية، كانت إلى آسيا وكانت اليابان أول محطة لها في تلك الزيارة[18].
أكّدت هيلاري كلينتون مركزية آسيا والمحيط الهادئ وأهميتهما في الاستراتيجية الأميركية للمرحلة المقبلة، وذلك في مقالها “عصر أميركا الباسيفيكي America’s Pacific Century”، إذ تحدثت عن أولوية زيادة الاستثمار الدبلوماسي والاقتصادي والاستراتيجي، في آسيا والمحيط الهادئ. وأن آسيا والمحيط الهادئ أصبحا محركًا رئيسًا في السياسة العالمية. هذه الاستراتيجية تشمل مناطق تمتد من شبه القارة الهندية إلى الشواطئ الغربية للأميركتين والمحيط الهادئ والهندي، التي ترتبط على نحو متزايد عن طريق خطوط الشحن والمصالح الاستراتيجية، وتضم ما يقرب نصف سكان العالم، وفق ما كتبت كلينتون. وعلى الرغم من لغتها الدبلوماسية حول تعميق العمل مع القوى الناشئة بما فيها الصين، والتعامل مع المؤسسات الإقليمية متعددة الأطراف وتوسيع التجارة والاستثمار، فإن الموضوعات الأساسية التي شدّدت كلينتون على أهميتها والتركيز عليها هي من المسائل الإشكالية بين بلادها والصين، كالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي والشفافية في الأنشطة العسكرية، والتي تعدّها بيجين أمورًا “سيادية”. فضلًا عن التحالفات الأمنية الثنائية وتعزيز الوجود العسكري الأميركي، و”الحفاظ على السلام والأمن في جميع أنحاء منطقة آسيا والمحيط الهادئ”، ومن ضمن ذلك الدفاع عن حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي، والتصدي لكوريا الشمالية وبرنامجها النووي[19].
من جهته، عاد زميلها ليون بانيتا -وكان وزيرًا للدفاع- إلى الحديث عن حرص وزارة الدفاع الأميركية على “إعادة توازن” التركيز الاستراتيجي الأميركي وموقف الولايات المتحدة تجاه منطقة آسيا والباسيفيكي، كما أشار إلى العديد من الخطوات العملية التي قام بها في إطار تتفيذ الاستراتيجية الجديدة، في مقال له بعنوان “أميركا وإعادة التوازن الباسيفيكي – America’s Pacific Rebalance”.
أكد بانيتا الشراكات الجديدة في جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي، وزيادة عدد جنود مشاة البحرية (المارينز) وكذلك القوة الجوية الأميركية في منطقة شمال أستراليا. وأشار إلى الاتفاق مع سنغافورة على نشر أربع سفن قتالية هناك إضافة إلى إشراك دول أخرى في المنطقة في المناورات، والتدريبات. وبحلول عام 2020، سيكون 60 في المئة من القوة البحرية الأميركية منتشرة في المحيط الهادئ، وفقًا للوزير الأميركي، الذي يرى أن “إبراز القوة” ركيزة لإعادة التوازن[20].
في استراتيجيتها البحرية الجديدة “الاستراتيجية التعاونية لقوة البحر في القرن الواحد والعشرين”[21]، تركّز الولايات المتحدة على دور قواتها البحرية في دعم سيطرتها العالمية، حيث إن الغرض من هذه الاستراتيجية هو تأمين القدرة على التدخل ما وراء البحار، عبر نشر المزيد من قطعاتها البحرية حول العالم، وتعزيز تحالفات أميركا القائمة وبناء تحالفات جديدة والمشاركة في المناورات العالمية، وصنع الوكلاء عبر العالم خصوصًا في المنطقة الهندو آسيوية للمحيط الهادئ، في سعي للتعامل بشكل أكبر مع مسألة نهوض القوى البحرية الصينية وتوسعها هناك، مما يدل على نية الولايات المتحدة في السيطرة على التجارة في المحيط الهندي والهادئ وحتى احتكارها، وتقييد الاستخدام العسكري أو الاقتصادي للمحيطات من قبل دول أخرى. وتهدف هذه الاستراتيجية، بشكل أساسي، إلى منع قدرة الصين على الدفاع عن مناطق اتصال بحرية من التدخل الخارجي، هذا التدخّل الذي تعيقه الصواريخ الصينية المضادة للسفن والتي تثير قلق واضعي الاستراتيجية.
ولتحقيق أهداف استراتيجيتها، تعمل واشنطن على تقوية التعاون مع حلفائها التاريخيين كأستراليا، اليابان، نيوزلندا، كوريا الجنوبية وتايلاند، كما تسعى لإقامة شراكات جديدة مع دول أخرى في المنطقة مثل بنغلاديش، بروناي، الهند، إندونيسيا، ماليزيا، سنغافورة، وفيتنام. هذا يعني أن الولايات المتحدة ستحكم الطوق حول القوات البحرية الصينية في بحر الصين الجنوبي، وبالتالي تمنع تحركاتها في المجال العملياتي الأوسع، كالمحيط الهندي الذي يشكّل منطقة أخرى للمواجهة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين، فضلًا عن فرض سيطرتها على منطقة مصالح الصين. وبدعم أميركي، سيزداد التوتر في بحر الصين الجنوبي حيث الخلاف على ملكية عدد من الجزر والمناطق البحرية بين كل من ماليزيا وتايوان وفيتنام وبروناي والفلبين والصين، فالأخيرة سيطرت على العديد من المناطق المتنازع عليها وشرعت بفرض الأمر الواقع عبر توسعة الجزر وإقامة جزر صناعية وتطوير منشآت اقتصادية وعسكرية.
يتبادل الصينيون والأميركيون الاتهامات بأن الجانب الآخر يعمد إلى “عسكرة” بحر الصين الجنوبي. وعلى الرغم من إعلان الأميركيين أنهم لا ينحازون لطرف ضد آخر في النزاعات الإقليمية، لكنهم أرسلوا سفنهم الحربية وطائراتهم العسكرية إلى المناطق القريبة من جزر متنازع عليها، في عمليات يطلقون عليها اسم “عمليات حرية الملاحة” ويقولون إنها تهدف إلى إبقاء طرق الملاحة البحرية والجوية مفتوحة للجميع[22].
قلق واشنطن من نفوذ الصين في المحيط الهندي أيضًا دفعها إلى تعزيز علاقاتها مع الهند كجزء من استراتيجيتها لمواجهة الصين، مستغلّةً حالة التنافس المتصاعدة بين الجارتين الآسيويتين، ولا سيّما بعد تزايد الأنشطة والمشاريع الصينية في سريلانكا، منطقة النفوذ الهندية والتي باتت تحت تأثير النفوذ الاقتصادي الصيني عبر المرافئ الممولة من قبل الاستثمارات الصينية، وكذلك في باكستان، العدو التاريخي للهند. يقول بانيتا: “مع الهند، عملنا على إطلاق مبادرة تنمية غير مسبوقة لتبسيط عمليات التصدير في ما بيننا وتعميق تجارتنا وإنتاجنا المشترك في المجال الدفاعي”[23].
لم تخطئ الصين قراءة المعاني التي تنطوي عليها الاستراتيجية الأميركية من محاولة تطويقها والسيطرة على مناطق المصالح الصينية والممرات المائية الحيوية في المنطقة. وهي تواصل تحركاتها المضادة للاستراتيجية الأميركية التي ترى فيها تهديدًا لمصالحها.
إنّ مبعث التوجّس الصيني من الخطط الأميركية الرامية إلى تطويق الصين لا يأتي فقط من حرصها على تدفّق صادراتها إلى العالم والسيطرة على الأسواق، وإنما من سعيها الدؤوب إلى تأمين خطوط إمداداتها من الطاقة، التي لا غنى عنها لاستمرار عجلة اقتصادها، والحفاظ على وتائر نمو بوّأتها مكانتها الحالية في خارطة اقتصاد العالم. ما يعني أنّ ضمان تدفّق النفط إليها والبضائع منها، وتعزيز التحالفات والقدرات الدفاعية لتحقيق ذلك، تشكّل المحدّدات الأكثر أهمية لفهم الاستراتيجية الصينية. ويعتقد الخبير والأكاديمي الأميركي في الاقتصاد والاستثمار، جيم روجرز أنّه “كما أثر إنشاء منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) على كل البلاد على وجه الكرة الأرضية لعقود، فلسوف تعيد حاجات الصين من النفط ترتيب سياسة العالم”[24].
مع تسارع عجلة نمو الاقتصاد الصيني أواسط التسعينيات، ازدادت حاجات الصين من الطاقة، وبات من الهواجس الصينية الرئيسة تجنّب حصار أميركا واليابان لطرق النقل البحرية، والعمل على مد أنابيب النفط من وسط آسيا إلى الصين. فالصين باتت مستوردًا للنفط بدءًا من العام 1993، وعلى الرغم من أن احتياط النفط المؤكد فيها -عدا عن التوسع في التنقيب والاكتشاف- يصل نحو 18.3 بليون برميل، تؤمّن إمدادًا يكفي لنحو خمس سنوات من الاستهلاك[25]، فقد تخطّت الصين الولايات المتحدة وأصبحت أكبر مستورد للنفط في العالم.
وفي وقتٍ ذهبت فيه أميركا إلى “التخفيف الاستراتيجي من الاعتماد على النفط الخليجي، حيث انتقلت الواردات الأميركية من هذا النفط من 1.007 مليون برميل سنة 2001 إلى 789.082 برميل سنة 2013، مما يعني مزاوجة الإدارة الأميركية بين التحول الاستراتيجي عن منطقة الشرق الأوسط، والتحول الطاقوي باتجاه مناطق أخرى، أهمها في وسط وجنوبأميركا، إضافة إلى نفط كندا”[26]، فإنّ الصين تعدّ حاليًا أكبر مستورد لنفط الشرق الأوسط فقد وصلت نسبة اعتمادها على واردات المنطقة إلى 51 في المئة أو أكثر من 3.4 مليون برميل يوميًا في عام 2015. هذه النسبة مرشحة للتصاعد إلى 60 في المئة أو 5 ملايين برميل يوميًا (ما يعادل حاليًا واردات الولايات المتحدة واليابان مجتمعتان) بداية العقد المقبل بحسب توقعات وكالة الطاقة الدولية. وعلى المدى الطويل، من المتوقع أن تستورد الصين أكثر من ثلثي احتياجاتها من المنطقة[27].
إنّ 90 في المئة من تجارة الصين تتم عبر البحار، لذا فإنّ ثلاثة مضائق بحريّة تعدّها الصين استراتيجية لمصالحها الحيوية، هي: مضيق ملقا، الذي تمر فيه معظم تجارة الصين، وأكثر من 80 في المئة وارداتها النفطية، و30 في المئة وارداتها من الغاز. ثم مضيق هرمز الذي تمر فيه أكثر من نصف واردات الصين النفطية، وربع وارداتها من الغاز الطبيعي المسال، ونحو 5 في المئة من إجمالي الصادرات الصينية. وأخيرًا، مضيق باب المندب مرورًا بقناة السويس وتعبره نحو 20 في المئة من إجمالي تجارة الصين الخارجية، معظمها مع أوروبا فضلًا على نحو 300 ألف برميل من النفط آتية من دول مثل، ليبيا، الجزائر، والسودان. ووفقا لمعهد الشحن الدولي في شنغهاي، سوف يرتفع نصيب الصين من الشحن البحري ليمثل نحو 15 في المئة من الإجمالي العالمي. وسوف تملك الصين أسطولًا للشحن البحري أكبر مما تملكه اليابان وألمانيا بحلول عام 2020، وأكبر من قوة الشحن التقليدية (اليونان) بحلول عام 2030[28].
كل ذلك دفع الصين إلى المضي في تنفيذ استراتيجتها الرامية إلى إعادة إحياء “طريق الحرير” بشقّيه البحري والبرّي، الذي كان يربطها بالعالم أيّام عظمة امبراطوريتها الغابرة. ومنذ أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرته المعروفة بـ “استراتيجية الحزام والطريق” عام 2013 باتت هذه المبادرة تشكل المحرك الأساسي للسياسة الصينية داخليًا وللدبلوماسية الصينية خارجيًا. وبحسب وزير الخارجية الصيني، لاقت المبادرة تجاوبًا ومشاركة نشيطة من نحو سبعين دولة مطلة على هذا الخط، وفي مقدّمها دول الشرق الأوسط. وتتضمن المبادرة نحو ألف مشروع ستنفذ تدريجيًا، منها ربط الدول الأوروآسيوية التي يمر فيها الطريق بشبكة من الطرق البرية والحديدية وخطوط الطيران فضلًا عن الأنابيب وشبكات الإنترنت، وهو ما يهيئ الظروف اللازمة للتنمية الاقتصادية[29].
وقد شرعت الصين، عمليًا، في مد نفوذها وإيجاد نقاط ارتكاز لها على “طريق الحرير البحري” قبل الإعلان رسميًا عن “استراتيجية الحزام والطريق” كمشروع متكامل، وذلك من خلال “سلسلة اللآلئ”، وهي عبارة عن عدد من الموانئ التي طوّرتها الصين على سواحل المحيط الهندي، وباتت قواعد ثابتة لها لا يقتصر دورها على الخدمات اللوجستية والتجارية فحسب، بل توفّر لها أفضلية اقتصادية وعسكرية في المحيط الهندي وجنوب آسيا، فتعزّز من نفوذ الصين و تساهم في الحيلولة دون انفراد القوة البحرية الأميركية بالهيمنة على المنطقة، فضلًا عن دور تلك القواعد في تطويق الصين للهند، منافسها الآسيوي الأبرز.
سبق لبريجنسكي القول: إنّ علاقة الصين الاستراتيجية مع الباكستان إضافة إلى محاولاتها الرامية إلى مجاراة حضور الهند في بورما وبنغلادش تعكس أيضًا تصميمًا استراتيجيًا أوسع وإرادة مفهومة لحماية طرقها البحرية الرئيسية عبر المحيط الهندي إلى الشرق الأوسط”[30]. ويذكر، نقلًا عن “لعبة الحرب الصينية المتسعة” هندوستان تايمز، 25 آب/ أغسطس 2010، ما نصّه:
“نفذت الصين بناء ميناء غوادار في موقع باكستاني استثنائي الحساسية لتفوز بموطئ قدم في مجال التحكم بالخطوط البحرية ولتتمكن أيضًا من إخضاع الهند للمراقبة وهكذا فإن الصين نجحت بدعم باكستاني خفي ومكشوف في تحييد الهند برًا وبحرًا. وإضافة إلى ذلك قامت الصين، منتهكةً سائر القواعد الدولية، بتحويل الباكستان إلى بلد مسلح نوويًا للوقوف في وجه الهند. يضاف إلى ذلك أن تحرك الصين لبناء الموانئ ومد أنابيب النفط، وشق الطرق في ميانمار أيضًا، ليس أقل أهمية. وفوق كل ذلك ليس ميناء هامبنتولا الذي شيّد بمعونة صينية في (سريلانكا) التي هي عمليًا جزء مقتطع من الكتلة القارية الهندية إلا تنفيذًا مدروسًا بعناية لـ”استراتيجية سلسلة اللآلئ” لتطويق الهند عبر المحيط الهندي”[31].
في خليج عدن، انطلاقًا من دعمها عمليات ضد القرصنة فيه، ومشاركتها واسعة النطاق في المناورات البحرية متعددة الجنسيات التي تجري هناك، توصّلت الصين إلى اتفاق مع جيبوتي وشرعت في إقامة قاعدة عسكرية على شواطئها، على الرغم من اعتراض الولايات المتحدة التي تملك قاعدة عسكرية في جيبوتي هي الأكبر لها في أفريقيا، على بعد نحو ثمانية أميال فقط من موقع القاعدة الصينية على ساحل مدينة أوبوك، القريبة من مضيق باب المندب الاستراتيجي[32].
ما تقدّم يندرج ضمن استراتيجية الدفاع الصينية، ويمثّل أحد ركنيها: وهو تأمين حماية خطوط النقل البحري الحيوية لنمو اقتصاد الصين.
أمّا الركن الآخر فهو حماية المنطقة الساحلية الشرقية للصين، والتي تتضمن المنطقة الاقتصادية الأكثر حيوية في البلد. ويكون ذلك وفق مبدأ “الدفاع عن البحار في الخارج”، وذلك من خلال توسيع امتداد الحماية البحرية لمسافة تبعد مئات الأميال عن السواحل الصينية، بطريقة إنشاء قواعد في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه، ونشر غواصات قي المحيط الهندي وامتلاك قواعد ما وراء الإقليم. ويسمح الموقع الجغرافي الفريد للصين بفرض السيطرة على بحارها المحلية (البحر الأصفر، وبحر شرق الصين وبحر الصين الجنوبي)، وهو ما يثير حفيظة واشنطن إذ يُفقدها السيطرة البحرية في المنطقة[33]. وضمن عناصر استراتيجية الصين العسكرية، قيامها بتزويد أسطولها البحري بحاملة طائرات لن تكون الوحيدة فقد شرعت في بناء غيرها، كما أنها نقلت الاتجاه العملياتي لقواها الجوية من الشمال نحو الجنوب، منذ أواخر عهد الحرب الباردة وتسوية علاقاتها مع موسكو. وتنفّذ القوات الجوية الصينية تدريبات عسكرية في أعالي البحار تقول إنها “نشاط عسكري عادي روتيني لتعزيز قدراتها على حماية السيادة الوطنية والأمن الوطني والمصالح التنموية”[34].
وعلى الرغم من تأكيد الصينيين في الوثيقة الرسمية حول استراتيجيتهم العسكرية، من القول “لن نهاجِم ما لم نُهاجَم ولكننا سنشن بالتأكيد هجوما مضادًا إذا ما تعرضنا لهجوم”، فالوثيقة ذاتها تتضمن السعي لأخذ زمام المبادرة الاستراتيجية فى الصراع العسكري، والتخطيط للصراع العسكري على نحو استباقي فى كل الاتجاهات والمجالات، واغتنام الفرص لتسريع البناء العسكري، والإصلاح والتنمية”[35].
وتشمل عناصر الاستراتيجية الصينية بعض المكونات الأخرى، أبرزها التركيز على الدول ذات العلاقة المضطربة مع الولايات المتحدة مثل الفلبين وكمبوديا، فقد عززت الصين علاقاتها مع رئيس الوزراء الكمبودي “هون شين” بالتزامن مع تدهور علاقاته مع واشنطن، وتتبع أمرًا مشابهًا خارج الإقليم مثل علاقتها بالسودان وفنزويلا وأوزبكستان. لقد عملت الصين ولا تزال على الدفع بقوتها المرنة في جنوب شرقي آسيا، حيث تساوت المساعدة الصينية مع الأميركية لدولة إندونيسيا، لكنها تفوقت عليها في تنوعها وتشعب اتجاهاتها، كما فاقت نظيرتها الأميركية في لاوس بثلاثة أضعاف، فيما بلغت في الفلبين أربعة أضعاف حجم المساعدة الأميركية لها[36].
ومع نهاية عام 2016، شهدت العلاقة بين الفلبين والولايات المتحدة توتّرًا على خلفية إيقاف برنامج مساعدة أميركي بسبب قلق واشنطن بشأن احترام حقوق الإنسان في الفلبين، فردّ الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي، بالحديث عن احتمال إنهاء الاتفاق الذي يحدد الإطار القانوني للوجود العسكري الأميركي في بلاده، فضلًا عن تلقي مساعدات صينية إضافية[37]. وهو ما تم الإعلان عنه بالفعل بعد يومين، إذ عرضت الصين على مانيلا «مجانًا» تقديم أسلحة صغيرة وزوارق سريعة بقيمة 14 مليون دولار وقرض ميسّر بقيمة 500 مليون لشراء أسلحة أخرى، دعمًا لدوتيرتي في حربه على المخدرات والإرهاب، وقد لاقى العرض ترحيبًا من الجانب الفلبيني[38].وهذا قد يقلل من حدّة الخلاف بشأن الحدود البحرية وملكية الجزر في بحر الصين الجنوبي.
كل ما سبق لم يمنع الولايات المتحدة والصين من المواظبة على العبارات الديبلوماسية في الاجتماعات الثنائية والبيانات المشتركة. ويمكن القول إن الحديث عن الشراكة والتعاون و”المصالح الأساسية للبلدين” وضرورة احترامهما، يسير جنبًا إلى جنب مع السعي الأميركي للحد من طموحات الصين، التي تواصل بدأب ترجمة طموحاتها تلك على أرض الواقع وحماية مصالحها بخطوات عملية، ما يعني أنّ آفاق العلاقة بين أكبر كيانين اقتصاديين في العالم تبقى مفتوحة على شتى الاحتمالات.
في المقال نفسه عن “إعادة التوازن في الباسيفيكي”، قال ليون بانيتا: “إن استنتاج بعضهم أن إعادة التوازن موجهة ضد الصين غير صحيح”، و”إن أحد العناصر الأساسية في إعادة التوازن يتلخص في إقامة علاقة عسكرية صحية ومستقرة ومستمرة مع الصين، استنادًا إلى الحوار المستمر والموضوعي الذي يعزز من قدرتنا على العمل معًا وتجنب أي نوع من سوء التقدير”، وقد أشار الوزير الأميركي إلى قيامه “بزيارة ناجحة إلى الصين” وعلّق عليها: “أتحرى نظرة واقعية، إلا أنني متفائل بشأن مستقبل هذه العلاقة العسكرية المهمة. وبينما تسعى الولايات المتحدة لإقامة علاقات دفاعية أكثر قوة مع الصين والدول الأخرى في مختلف أنحاء المنطقة، فنحن نتوقع ونرحب بجهد الدول الأخرى في بناء العلاقات مع الصين والولايات المتحدة على حد سواء”.
وقد ورد في “الكتاب الأبيض التاسع” الصيني حول الدفاع تحت عنوان: “الاستراتيجية العسكرية الصينية”، إن القوات المسلحة الصينية ستواصل تعزيز نموذج جديد من العلاقات العسكرية مع القوات المسلحة الأميركية حيث ستدعم الصين الحوارات المتعلقة بمجالات الدفاع والتبادل والتعاون مع الجيش الأميركي”[39].
وفي آخر لقاء جمع الرئيسين الأميركي باراك أوباما والصيني شي جين بينغ، يوم 20 تشرين الثاني/ نوفمبر، في البيرو على هامش اجتماع القادة الاقتصاديين لمنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا الباسيفيك 2016، قال أوباما إنه ونظيره الصيني “أسسا علاقات مخلصة وودية وبناءة وعزّزا الثقة المشتركة”، ووصف العلاقات بين البلدين أنها “أهم علاقات ثنائية في العالم”، وقال إن العلاقات البناءة بينهما تعود بالنفع على شعبي البلدين والمجتمع الدولي كله، وإن الولايات المتحدة مستعدة لتنمية علاقة أكثر استدامة وإثمارًا مع الصين. كما تحدث الرئيس الصيني عن تنمية العلاقات الثنائية وكيف كان التعاون هو الاختيار الصحيح الوحيد للبلدين، وسعيهما لتحقيق نتائج تعود بالنفع على البلدين وعلى العالم كله. وأشار إلى التزامهما بإدارة قضايا حساسة بطريقة بناءة مع الاحترام المتبادل وتجنب الحكم الخاطئ إلى جانب تفكير كل منهما بشكل أكبر في موقف الجانب الآخر لمنع تصاعد النزاعات. وقال إن الصين والولايات المتحدة تتحملان مسؤوليات كبيرة ولديهما مصالح مشتركة واسعة لحماية السلام والاستقرار ودعم التنمية والرخاء في العالم، وإن النمو طويل المدى والمستقر والصحي للعلاقات بينهما يخدم المصالح الأساسية لشعبي البلدين[40].
لقد أكّد الزعماء والأكاديميون الصينيون تدريجيًا -على مدى السنوات القليلة الماضية – موقع الصين بوصفها تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. وفي المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني، في تشرين الأول/ أكتوبر 2007، أيّد الرئيس هو جينتاو فكرة السعي لتحقيق “عالم متناغم” وشملت هذه الفكرة الأساسيات الصينية القائلة بـ”التنوع والمساواة” في العلاقات الدولية، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية[41]. هذا يعني إقرارًا صينيًا بحجم ودور الولايات المتحدة على مستوى العالم، مع تأكيد حجم وأهمّية الدور الصيني. وقد رأى بريجنسكي أن “دور الصين النافذ والصاعد في الشؤون العالمية واقع سيتعين على الأميركيين أن يتكيفوا معه، بدلًا من أبْلَسَتِه أو الاستغراق في أحلام اليقظة حول سقوطه”[42].
غير أنّه نظرًا إلى كون الوجود العسكري الأميركي في جوار الصين يستند إلى التزامات تعاقدية كما في اليابان وكوريا الجنوبية مثلًا، وموقفها من مسألة ضرورة تسوية مسألة تايوان سلميًا، فذلك يؤثّر تأثيرًا مباشرًا في العلاقات الأميركية – الصينية. وتذكر مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، كيف “كادت الولايات المتحدة والصين تتواجهان بعد أن منحنا تأشيرة للرئيس التايواني الذي توجه إلى جامعة كورنل (الجامعة التي تخرج فيها) حيث ألقى ما عدّته بيجين خطبة مثيرة للغضب. ردت الصين بإطلاق الصواريخ وإجراء تدريبات عسكرية قرب الجزيرة. حفّز ذلك إدارة كلينتون على إرسال حاملتي طائرات إلى خليج تايوان. وبعد عدة أسابيع من التوتر، هدأ الوضع.”[43] فالتوتّرات التي تنجم عن قضية تايوان، أو الخلاف المزمن في شبه الجزيرة الكورية، أو تحرّكات البحرية الأميركية في المجال البحري المتاخم للصين، قد تشكّل أسبابًا لتأزيم الوضع بين بيجين وواشنطن أكثر كثيرًا مما قد يسبّبه التنافس الاقتصادي والسياسي المباشر بينهما بصوره المختلفة.
مؤدّى ذلك، أنّ احتمالات وقوع مواجهات بين أميركا والصين تتناسب عكسًا مع تحسّن علاقات الصين وجيرانها من حلفاء واشنطن، وهذا ما يجري فعلًا، فقد حلّت الصين محل الولايات المتحدة بوصفها الشريك التجاري الأبرز لليابان، وهي اليوم السوق التصديرية الأضخم للكوريتين الشمالية والجنوبية.
أما في ما يخصّ تايوان، فمنذ رفعت حكومتها القيود عن الاستثمارات التايوانية في الصين، تدفقت الشركات المملوكة من أهل تايوان إلى البر الصيني لتأسيس مصانع مستفيدة من رخص تكاليف الإنتاج في الصين في حقول الاتصالات، والألبسة، والالكترونيات. وقُدّر عددهم في عام 2006 بـ 750 ألفًا. وعلى الرغم من العقبات البيروقراطية الباقية فإن 2/3 من أصل 250 شركة رئيسة في تايوان لها استثمارات في الصين (عام 2006). زعماء العمل المتنفذون أولئك هم القوة في المقدمة التي تدفع باتجاه حل سلمي للنزاع بين الصين وتايوان[44].
وفي ما يخص موضوع حقوق الإنسان، الذي كان من أكثر الملفات الإشكالية بين واشنطن وبيجين، فإنّ “تراجع سمعة أميركا خفّف الضغط على الصين لتحسين سجلها، فلا حاجة للصينيين سوى إلى الملاحظة بأن الأميركيين ليسوا في موقف إلقاء الدروس على الآخرين، حتى تهزّ الرؤوس بالموافقة”، وفق تعبير مادلين أولبرايت[45] التي ترى “أن الفجوة في المكانة الدولية التي كانت قائمة بين الولايات المتحدة والصين قد ضاقت كثيرًأ واليوم تعدّ الصين أفضل من الولايات المتحدة في نظر مزيد من الشعوب في مزيد من البلدان”[46].
إن تركيز الجهد الصيني على التنمية الاقتصادية وتحديث البلاد وتطوير قدراتها، يجعل من غير المطروح الخوض في مواجهة مباشرة مع القوة الأميركية، مع إدراك الصينيين -حتى من دون “مقاومة صينية فاعلة”- أن قوة أميركا لن تظل بلا رقابة في المنظومة الدولية، وأنه ثمة تنوع في الرأي الرسمي وغير الرسمي داخل الولايات المتحدة حول أفضل السبل للتعامل مع الصين[47]. وإذا ما أراد الأميركيون المضي في الخطط الرامية إلى بسط النفوذ في آسيا ردًّا على النهوض الصيني، فالصين لن تكون وحدها بمواجهتهم حيث إن هناك قوى كبرى فاعلة وطموحة لأداء دور أكبر في آسيا كالهند وروسيا.
تبقى الإشارة إلى أن انتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة ربما يؤدي إلى تعكير الأجواء مع الصين، فمواقفه قد أثارت حفيظة الصينيين حتى قبل أن يتولّى مهماته رسميًا. فإنّ اتصالًا هاتفيًا جرى بين ترامب ورئيسة تايوان، وتصريحات أدلى بها بشأن التزام واشنطن بسياسة “صين واحدة”، تسببت بتوتر دبلوماسي مع الصين. وقد علّق وزير الخارجية الصيني على ترامب بالقول: “إذا حاول نسف سياسة الصين الواحدة أو المسّ بالمصالح الأساسية للصين فسيكون كمن يزحزح صخرة ستسحق قدميه”. وكان ترامب هدد بكلمات بسيطة بكسر التوازن القائم منذ عقود في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة بقوله: “لا أعرف لماذا علينا أن نكون مرتبطين بسياسة الصين الواحدة، إذا لم نتوصل إلى اتفاق معها للحصول على أمور أخرى على المستوى التجاري بشكل خاص”، وقد أعربت الصين عن “القلق البالغ” إزاء هذه التصريحات محذّرةً من تدهور العلاقات مع واشنطن[48]. وبعدها بأيام أجرت القوات الصينية تدريبات عسكرية في المحيط الهادئ، نفذتها قطعات من أسطولها ضمنها حاملة طائرات. وهي أول مرة تغادر فيها حاملة الطائرات “لياوننغ” المياه الإقليمة الصينية باتجاه المحيط الهادئ[49].
على أنّه من المستبعد أن تشكّل مواقف ترامب سببًا كافيًا لإعادة صوغ العلاقات الأميركية – الصينية بكليّتها. وحيث إن الرئيس وفق النظام الأميركي، يقع في قمة الهرم في اتخاذ قرارات السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، من المنظورين القانوني والسياسي، غير أنه يمسك بآلية اتخاذ القرار من طرف خيط دقيق، إذ لا يمكن لرجل واحد اتخاذ القرار في دول ذات نفوذ عالمي مماثل. أي إن الرئيس يشكّل الجزء الظاهر من إدارة ضخمة، حيث هناك آلاف المستشارين في البيت الأبيض، هذا إلى جانب الوزارات الضخمة والمؤسسات الرسمية التابعة لها أو تلك الخاصة التي تعمل لمصلحتها[50].
هذه الحقائق لا تلغي المشروع الخاص بكل رئيس وما يحمله من أفكار واتجاهات حيال قضايا معينة، فضلًا عن سماته الشخصية وطريقته في التفكير والعمل. من المحتمل أن ما يقوم به الرئيس المنتخب هو نوع من “ضربة استباقية” لتحسين شروط الشراكة الاقتصادية الضخمة بين واشنطن وبيجين، إذ يدرك ترامب، وهو الآتي إلى البيت الأبيض من عالم المال والأعمال، حجم التأثير الكبير للصين على الاقتصاد الأميركي، وقد سبق لأولبرايت أن لخّصت الحال بالقول إن لدى الصين “سلطة الحياة والموت على ملايين الوظائف الأميركية”[51]. كما لن يغيب عن الرئيس الأميركي حجم الأصول والديون الأميركية التي تمتلكها الصين، وعجز الميزان التجاري بين البلدين لمصلحة الصين، فضلًا عن حيازتها أكبر احتياط نقدي في العالم. فهل ستكون “الصفقة الأكبر”، التي يعقدها ترامب، هي بين القوة العسكرية الأعظم للعالم (أميركا)، والاقتصاد الأكثر نموًا الذي يمثله “مصنع العالم”، الصين؟
قيل في ما مضى: “إن معنى التاريخ العالمي هو تجديد الميزان العالمي بعد اختلاله، أي إن المنبوذين، والذين ضعفوا سيتوحدون بصورة حتمية ضد القوي”[52]. ولعلّ مجريات العلاقات الدولية خلال ربع قرن من الزمن تلا سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية النظام العالمي ثنائي القطبية، إنما هي تأكيدٌ ملموس لحقيقة ذلك المعنى. حيث إنّ متضرّرين كثر من نزعة الهيمنة الأميركية المطلقة لم يجدوا بدًّا من تنسيق جهدهم للحدّ من جموحها، والعمل على صوغ تحالفات وتكتلات تعيد شيئَا من التوازن إلى النظام الدولي.
وعلى الرغم من جبروتها العسكري الذي لا يضاهى، لم يكن لواشنطن أن تتخلّى عن الهيئات الدولية وحشد الحلفاء لتبرير حروبها التي لم تنتج سوى سلسلة من الأخطاء ومراكمة الفشل، بدءًا من تدخّلها في الصومال، ثم حملتها على يوغسلافيا السابقة، ووصولًا إلى غزو أفغانستان والعراق، والحرب على الإرهاب.
في المقابل، لا يعني رفض الهيمنة الأميركية القبول بهيمنة بديلة، صينيّة كانت أم غيرها. القادة الصينيون يدركون هذا جيّدًا، لذا فهم يؤكّدون مقولة الصعود السلمي للصين، ويكررون الدعوة إلى “عالم متناغم”، فضلًا عن إعلانهم التمسّك بالمبادئ المتعلقة باحترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، كإحدى ثوابت السياسة الخارجية الصينية. وإنّ مما يساعد الصين على تحقيق أهدافها هو عدم وجود دعاوى وأوهام أيديولوجية كونية تبشيرية، ذلك أنّ “الفولكلور الشيوعي” ما فتئ يتراجع أمام المصالح الاقتصادية ومتطلباتها المتكاثرة، كالبحث عن مزيد من الأسواق والاستثمارات وموارد الطاقة، فضلًا عن حماية تلك المصالح وضمان أمنها. وإنّ ما درجت عليه “القوى العظمى”، تاريخيًا، من النزوع نحو السيطرة والتوسع والطموحات الإمبريالية، لا يبدو أنّه مما يغري الصين في المدى المنظور، فحرصها على عدم الخوض في مغامرات خارجية معلَمٌ بارز لسياستها.
في عصر الحرب الباردة سادت التحالفات السياسية شبه الثابتة، التي لا تخلو من دوافع أيديولوجية. عوضًا عن ذلك، فإن ما يطلق عليه “الشراكات الاستراتيجية” تكاد تكون السمة الأبرز للعلاقات الدولية في عالم اليوم، وهي وسائل دبلوماسية فريدة تتيح للدول السعي إلى تحقيق أجندات قضايا ثنائية، وإقليمية، وعالمية متعددة الأبعاد، وأهداف محلية متنوعة، من دون المساس بحرية العمل. هذه الشراكات-من خلال السماح لكلا الطرفين بالحفاظ على خرافة المساواة الغائبة عمومًا في التحالفات- تجعل الترويج لها أسهل داخل البلاد كما تساعد على حماية صورة البلاد في الخارج[53].
في عالم باتت علاقات المصالح التي تحكمه أكثر تشابكًا وتعقيدًا من أي وقت في التاريخ، فإن السياسات الخارجية والداخلية للدول تتداخل فيه بشكل متزايد، وسيكون من مصلحة القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم التكيف مع نوع من توزيع النفوذ السياسي والاقتصادي. فالعلاقات الأميركية – الصينية أكبر وأكثر تعقيدًا من التبسيط الذي تقوم عليه فكرة الصراع بين قوّتين متنافستين، نظرًا إلى ضخامة حجم الاعتماد الاقتصادي المتبادل بينهما، وتأثير كلّ منهما في مجمل الاقتصاد العالمي.
على أنّ هذا التوزيع في تحرّك مستمرّ ولن يكون ثابتًا بصورة نهائية، فهو لا يخلو من بذور تناقض قد يدفع إلى المواجهة في حال حدوث تغيّرات حادّة فيه. وقتئذ سيكون من الحكمة الأخذ بنصيحة مادلين أولبرايت: “حل الخلافات باكرًا، قبل أن تؤدّي الكلمات القاسية إلى حروب ساخنة”.
– أوتكين، أ. ني. النظام العالمي للقرن الواحد والعشرين، يونس كامل ديب ود. هاشم حمادي(مترجمون) (الطبعة الأولى، دمشق، دار المركز الثقافي للطباعة والنشر والتوزيع، 2007).
– أولبرايت، مادلين. مذكّرة إلى الرئيس المنتخب، عمر الأيوبي (مترجم) (الطبعة الأولى، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2008، نسخة الكترونية PDF).
– بريجنسكي، زبيغنيو. رؤية استراتيجية: “أمريكا وأزمة السلطة العالمية“، فاضل جتكر (مترجم) (الطبعة العربية (بيروت، دار الكتاب العربي، تموز/ يوليو 2012).
– روجرز، جيم. مارد في الصين، أيمن طباع (مترجم) (الطبعة العربية الأولى، الرياض، العبيكان للنشر، 2011).
-س. ناي، جوزيف. مفارقة القوة الأمريكية، د. محمد توفيق البجيرمي (مترجم) (الطبعة العربية الأولى، الرياض، العبيكان، 2003).
– عين ملك، عين ملك. السياسة الأمريكية آلية التدخل والعدوان (الطبعة الأولى، دمشق، مكتب الخدمات الطباعية، 1986).
– قبيسي، هادي. السياسة الخارجية الأمريكية بين مدرستين: المحافظية الجديدة والواقعية (الطبعة الأولى، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2008، نسخة الكترونية pdf).
– نادكارني، فيديا. الشراكات الاستراتيجية في آسيا توازنات بلا تحالفات (الطبعة الأولى، أبو ظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2014.
[1] http://usforeignpolicy.about.com/od/countryprofile1/a/uschinatimeline.htm
(تمت آخر زيارة للموقع، وكذلك روابط كافة المصادر من الإنترنت أدناه، عند الانتهاء من الدراسة، وذلك في 26 كانون الأول/ ديسمبر 2016). هذه المعاهدة كانت كغيرها من “المعاهدات غير المتكافئة” التي فُرضت على الصين في ذلك الحين، والتي انتهى العمل بمعظمها بعد اجتياح اليابان للصين في الحرب الصينية – اليابانية الثانية (1937 – 1945).
[2] جورج عين ملك، السياسة الأمريكية آلية التدخل والعدوان، الطبعة الأولى، دمشق، مكتب الخدمات الطباعية، 1986، ص91.
[3] هادي قبيسي، السياسة الخارجية الأمريكية بين مدرستين: المحافظية الجديدة والواقعية، الطبعة الأولى، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2008، نسخة الكترونية pdf، ص26
[4] المصدر نفسه.
[5] قبيسي، ص 28.
[6] أ. ني. أوتكين، النظام العالمي للقرن الواحد والعشرين، يونس كامل ديب ود. هاشم حمادي(مترجمون)، الطبعة الأولى، دمشق، دار المركز الثقافي للطباعة والنشر والتوزيع، 2007، ص295.
[7] جوزيف س. ناي، مفارقة القوة الأمريكية، د. محمد توفيق البجيرمي (مترجم)، الطبعة العربية الأولى، الرياض، العبيكان، 2003، ص55.
[8] ناي، ص54
[9] أوتكين، ص283
[10] المصدر السابق، ص285. وقد أوردها أوتكين نقلًا عن:
Zi Zhongyun. U.S. – China Relations. Breaking a Vicious Circle (“World Policy Journal”, Fall, 1999, p. 119)
[11] فيديا نادكارني، الشراكات الاستراتيجية في آسيا توازنات بلا تحالفات، الطبعة الأولى، أبو ظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2014، ص37
[12] زبيغنيو بريجنسكي، رؤية استراتيجية: “أمريكا وأزمة السلطة العالمية”، فاضل جتكر (مترجم)، الطبعة العربية (بيروت، دار الكتاب العربي، تموز/ يوليو 2012) ص101
[13] مركز حرمون للدراسات المعاصرة، «سياسة أوباما الخارجيّة رهينة إجماع الحزبين» ترجمة: أنس عيسى.
[14] مركز بيروت لدراسات الشرق الوسط، “القواعد العسكرية الأميركية في العالم”، على الرابط:
http://www.beirutme.com/?p=559.
[15] ساسة يوست، “القواعد الأميركية تتقلص في الخليج لصالح المحيط الهادئ”، على الرابط:
http://www.sasapost.com/reduce-us-forces-in-the-gulf/.
[16] وكالة الأنباء العالمية، “اليابان وغيرها من دول آسيا: نمو موجة الإعتراض علي القواعد الأمريكية”، على الرابط:
http://www.ipsinternational.org/arabic/print.asp?idnews=2744.
[17] أوتكين، ص343
[18]موقع Project Syndicate، “هل يُكتَب البقاء للتحالف بين الولايات المتحدة واليابان؟”، على الرابط:
https://www.project-syndicateorg/commentary/will-the-us-japan-alliance-survive?version=arabic .
[19]يمكن الاطلاع على النص الأصلي لمقال كلينتون بالانكليزية، على الرابط:
http://foreignpolicy.com/2011/10/11/americas-pacific-century/ .
[20] يمكن الاطلاع على مقال ليون بانيتا، مترجمًا للعربية، على الرابط:
[21] للمزيد من التفاصيل والمعلومات، انظر: Foreign Policy Diary – The US-China Standoff in the Indo-Asia-Pacific Region”” (تقرير مصور). تمكن مشاهدته على الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=AEe6BmjjPdY.
[22] بي بي سي عربي، “ما هو أساس الخلاف حول بحر الصين الجنوبي ؟”، بي بي سي عربي، على الرابط:
http://www.bbc.com/arabic/worldnews/2016/07/160712_south_china_sea_qa
وفيه معلومات تفصيلية عن الخلافات بين دول المنطقة بشأن السيطرة على الجزر والمياه الإقليمية.
[23] ليون بانيتا، مصدر سابق.
[24] جيم روجرز، مارد في الصين، أيمن طباع (مترجم)، الطبعة العربية الأولى، الرياض، العبيكان للنشر، 2011، ص151.
[25] المصدر نفسه، ص151-152
[26] مجلة السياسة الدولية. أحمد الكاتب: القيد الأمريكي، احتمالات بروز قيادة إقليمية في الشرق الأوسط.
[27] د. ناصر التميمي، العلاقات السعودية – الصينية، التحالف العسكري الاستراتيجي مؤجل، على الرابط:
http://araa.sa/index.php?view=article&id=3708:2016-04-03-08-33-09&Itemid=172&option=com_content .
[28] المصدر نفسه.
[29] الجزيرة نت: “طريق الحرير الجديد.. آمال وأشواك“.
[30] بريجنسكي، ص104
[31] المصدر نفسه، ص 105
[32] وكالة الأناضول: “لماذا تبني الصين قاعدة عسكرية في جيبوتي؟”.
[33] – The US-China Standoff in the Indo-Asia-Pacific Region (مصدر سابق) بتصرّف.
[34] صحيفة الشعب (الصينية)، متحدث، التدريبات العسكرية التي أجرتها الصين في أعالي البحار أنشطة روتينية”، على الرابط:
http://arabic.peopledaily.com.cn/n3/2016/1216/c31664-9155573.html
[35] الأهرام، “الإستراتيجية العسكرية الصينية فى كتاب أبيض جديد.. دفاع نشط ومواجهة لحرب الجيل الرابع”، على الرابط:
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/404723.aspx
[36]محمد عبد الفتاح الحمراوى، “السياسة الخارجية الصينية”، على الرابط:
http://elhamrawy.blogspot.de/2008/09/blog-post_7938.html.
[37] الحياة “دوتيرتي مراهنًا على أموال الصين: وداعًا أميركا”.
[38] الحياة “بكين لِدعم دوتيرتي عسكريًا بـ 514 مليون دولار”.
[39] راجع الهامش رقم 35.
[40] انظر: “شي وأوباما يوافقان على الحفاظ على نمو سليم ومستدام للعلاقات الصينية الأمريكية”، على الرابط:
http://arabic.peopledaily.com.cn/n3/2016/1121/c31660-9144382.html
[41] نادكارني، ص356
[42] بريجنسكي، ص194
[43] مادلين أولبرايت، مذكّرة إلى الرئيس المنتخب، عمر الأيوبي (مترجم)، الطبعة الأولى، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2008، نسخة الكترونية PDF، ص165
[44] روجرز، ص76
[45] أولبرايت، ص162
[46] المصدر نفسه، ص161
[47] نادكارني، ص37
[48] هوفنغتون بوست، “لا تزحزح صخرةً تسحق قدمك، الصين تحذِّر ترامب من العبث في تايوان” على الرابط:
http://www.huffpostarabi.com/2016/12/13/story_n_13607684.html
[49] الحياة “الصين تحرّك حاملة طائراتها الوحيدة نحو الهادئ”، على الرابط:
http://www.alhayat.com/Articles/19259715
[50] قبيسي، ص10.
[51] أولبرايت، ص164
[52] أوتكين، ص177
[53] نادكارني، ص345