المحتويات
أوّلًا: المعطيات الممهّدة لمؤتمر أستانة
ثانيًا: قراءة نقدية لبيان أستانة
ثالثًا: ملامح خريطة الطريق الروسية
رابعًا: الفرص المتاحة بعد أستانة
خامسًا: المخاطر المحدقة بعد أستانة
بعد إسدال الستار على مؤتمر أستانة يبدو أنّ فرص النجاح -في إنهاء المقتلة السورية، وفتح الأفق أمام عملية انتقال سياسي- ضعيفة، حيث يميل رأس النظام وحلفاؤه الإيرانيون إلى محاولة إحراز نصر عسكريّ حاسم، ومتابعة المصالحات القسريّة والتهجير الممنهج، ما يهدّد إعلانَي موسكو وأستانة.
لقد خرجت اجتماعات أستانة ببيان ثلاثي نعى الحديث عن “مرحلة انتقالية” في سورية، ما يمثّلُ مرجعية سياسية جديدة لدى إطلاق مفاوضات جنيف3 في الشهر المقبل، وخاصة بعد الحديث الروسي عن تشكيل وفد موحّد من منصّات الرياض وموسكو وحميميم والقاهرة والفصائل العسكرية المشاركة في مؤتمر أستانة، للتفاوض مع وفد النظام في جنيف بموجب مرجعيّة بيان أستانة التي عكست ميزان القوى العسكرية في سورية بعد حلب.
على الرغم من تكتّم الأطراف الراعية للمؤتمر على جدول أعماله، والغايات المرجوّة منه، وكذلك على المشاركين فيه والمدعوّين إليه، فإنه بات واضحًا أنه كان يبتغي تحقيق أربعة أهداف أساسية: أولها، تكريس اتفاق وقف إطلاق النار في سورية، بضمانة قانونية وسياسية من الأطراف المعنية على الأرض بصورة مباشرة، مع استمرار ضمانة موسكو وتركيا؛ وثانيها، تكريس سياسة المصالحات والهُدن المنفردة مع مناطق المعارضة، وشرعنة هذه السياسة، على أساس إخراج المسلّحين منها، كما حدث في حمص وداريا والمعضميّة وحلب ووادي بردى ومناطق أخرى؛ وثالثها، التأسيس لإطلاق مسار التفاوض السياسي وفقًا لمرجعيّة جديدة تستند إلى بيان أستانة، تُمثّل فيها موسكو الحجر الرئيس الذي يقود إلى وضع تصوراتها لحلّ الوضع في سورية موضع التنفيذ بوصفه أمرًا واقعًا، يأخذ بقرارَي مجلس الأمن 2336 و2254، ومرتكزاتهما، بما يُنجز تسوية سياسية بين أطراف تعترف ببعضها بعضًا وتتشارك “حكومة وحدة وطنية” لفترة انتقالية، تستثمر ما تحقق لها من التدخل العسكري المباشر، وتُعيد تأهيل النظام الأسدي مع إحداث تغييرات محدودة، تُمكّن المعارضة من المشاركة في السلطة، ما يعني العودة إلى المربّع الأوّل، ونسف هدف تغيير النظام، وعدم تناول قضية بقاء الأسد أو رحيله إلى أجل غير معروف؛ ورابعها، إنجاز صيغة للتعاون المشترك بين الأطراف الثلاثة الضامنة التي تمثّلُ مظلّة سياسيّة وأمنيّة وعسكريّة لمرحلة أستانة، تجعل منها دائرة القرار الرئيس في الشأن السوري، ما يفرض وضعًا سياسيًّا يجب التفاعل معه من جانب المجموعة الدولية، يعيد تشكيل خريطة التوازن الإستراتيجي في المنطقة.
وخلافًا للمفاوضات السابقة في جنيف وغيرها من المدن، فإنه يجري أول مرة، تحت رعاية تركيا الداعمة لفصائل المعارضة، وإيران وروسيا الداعمتين للنظام السوري، تغليب الطابع العسكري على الوفود المشاركة، ما يعني أنّ الهدف الأساس من المحادثات هو تثبيت وقف إطلاق النار بين الطرفين، والذي تواصل قوات النظام والمليشيات الداعمة لها خرقه في حلب ودرعا والغوطة الشرقية ووادي بردى وغيرها من المناطق.
بل إنّ رأس النظام، في تصريحاته للصحيفة اليابانية، قال: إنه يفاوض في أستانة الإرهابيين لدفعهم إلى إلقاء سلاحهم، ما يعني أنه لا يزال يصرّ على رفض الاعتراف بالمعارضة. في حين حقّقت الفصائل العسكرية بعض المكاسب، منها تكريس نفسها قوّةً معارضة شرعية، معترَفًا بها في نظر موسكو التي كانت ترفض الاعتراف بها، وتتعامل معها بِعَدِّها قوى متمرّدة أو إرهابية. وهذا يعكس رغبة موسكو في العمل من أجل مخرج سياسي من الحرب، بعكس حلفائها في طهران ودمشق.
وكان واضحًا أنّ الإيرانيين لن يستسلموا بسهولة لخسارة مشروعهم، بعد أن نجحوا في اختراق مؤسسات النظام واحتلالها من الداخل، وفي محاولة تقويض أي أسسٍ لاستعادة المجتمع السوري وحدته وتماسكه واستمراره. وبالمِثل، فلا يزال كثيرٌ من قادة نظام الأسد يظنّون أنّ في إمكانهم المراوغة واللعب مع روسيا، كما لعبوا من قبل مع جميع حلفائهم، وأخلُّوا بالتزاماتهم تجاههم في اللحظة المناسبة، لكسب الوقت واستعادة المبادرة لاسترجاع موقعهم في دولة ورثوها بالقوة والحرب.
في حين قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في 20 كانون الثاني/ يناير إنّ موسكو تعدّ المحادثات المرتقبة في أستانة بمنزلة “إسهام مهمّ في وضع معايير التسوية السياسية الشاملة في سورية، والتي ستستمرّ ضمن فاعليات أوسع في جنيف مطلع شباط/ فبراير على أساس قرارات مجلس الأمن الدولي”.
لكنّ عدم إشراك أطراف إقليمية ودولية فاعلة في المسألة السورية، أضعف بيئة انطلاق المؤتمر، وجعله محطة استعراضية، لن يتمكن منظمّوه من حصدِ كثيرٍ منه، ومن ثمّ، لن يكون المؤتمر، لا في مكانه ولا في زمانه، إلّا محطة عابرة في سياق أزمة إقليمية دولية لها كثيرٌ من الشروط التي ينبغي أن تتوافر للمضيّ في حلّ واعد.
وقد برز قبيل المؤتمر، في 21 كانون الثاني/ يناير، تطوران ينبئان بنتائج هزيلة له: الأول، حين ظهرت ملامح خلاف أجندات إيرانية- روسية، تُرجمت بتصريح غير مسبوق عن الكرملين، رأى أنّ الموقف الإيراني من المشاركة الأميركية في المحادثات يُساهم في تعقيد الاجتماعات المقررة؛ والثاني، أنّ الولايات المتحدة ارتأت تخفيض مستوى مشاركتها في المؤتمر، بإعلان وزارة الخارجية الأميركية أنها لن ترسل وفدًا للمشاركة في المحادثات، وتأكيدها أنها ستُمثّل فيه من خلال سفيرها في كازاخستان، ما يعني مشاركة باهتة من الناحية الدبلوماسيّة. هذا الغياب الدولي حمل رسالة واضحة للروس، بأنه من غير المسموح لمؤتمر أستانة أن يجترح مرجعيّة بديلة من مرجعيّات جنيف.
كان لافتًا تضمين البيان الختامي مجموعة من البنود، وكان أبرزها ما ورد على الصعيد العسكري إذ “تعيد الوفود المشاركة تأكيد إصرار الجميع على القتال ضد تنظيمي “داعش” و”فتح الشام”، على أن يجري فصل مجموعات المعارضة المسلّحة عنها؛ أمّا سياسيًا، فنصّ البيان الختامي على “إبداء قناعتهم (تركيا، روسيا، وإيران) بأنه ما من حلّ عسكريّ للصراع السوريّ، وبأنّ الصراع يُمكن حلّه فقط من خلال عملية سياسيّة قائمة على أساس تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 بشكل كامل”. كما نصّ على إعادة تأكيد التزام سيادة أراضي الجمهورية العربية السورية، واستقلاليتها ووحدتها، بعدِّها دولة ديمقراطية، متعددة الإثنيات، متعددة الأديان، غير طائفية، كما أكد مجلس الأمن في الأمم المتحدة.
لكن، غاب عن بيان أستانة أيّ إشارة إلى “بيان جنيف” الصادر عام 2012، الذي نصّ على تأليف “هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة بين الحكومة والمعارضة، على أساس القبول المتبادل”. كما نجح الجانبان الروسيّ والإيرانيّ في حذف عبارة “العمليّة الانتقاليّة”، حيث بات الحديث الآن يشمل “عمليّة سياسيّة” لتنفيذٍ كاملٍ للقرار 2254 الذي صدر نهاية 2015، ونصّ على تأليف “حكم تمثيليّ وغير طائفيّ لتعديل الدستور وإجراء انتخابات”. وحُذفت في البيان عبارة تتناول القرار 2118، الذي نصّ في فقرتين على “بيان جنيف”، مع إشارة إلى أنّ هذا البيان ورد في مقدمة القرار 2254.
ولم تُلبَّ طلبات المعارضة باعتماد عبارة “منع خروق” وقف النار، بل حافظ البيان على عبارتي “تقليل الخروق وخفض عنف” في سورية، من دون إشارة إلى “وقف شامل للنار” كما كانت الفصائل تأمل، وخصوصًا ما يتعلق باستمرار هجوم قوات الأسد وحزب الله على وادي بردى بين دمشق وحدود لبنان، إضافة إلى إهمال رعاة اجتماعات أستانة مطلبًا آخر يتعلّق بـ “وقف التهجير الممنهج” و”المصالحات القسريّة”.
توحي التصريحات والتحركات الروسيّة المتلاحقة التي أعقبت مؤتمر أستانة، بوجود خطّة لدى موسكو لاستثمار نتائج المؤتمر إلى الحدّ الأقصى. وظهر “التسويق” الروسي بتصريحات الرئيس فلاديمير بوتين في 25 كانون الثاني/ يناير، وتأكيده أهميّة مؤتمر أستانة لتسوية المسألة السورية، وتشكيله أساسًا لمفاوضات جنيف المرتقبة في شباط/ فبراير المقبل، فضلًا عن الدعوة التي تلقّتها شخصيّات وقوى محسوبة على المعارضة للقاء وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف، في 27 كانون الثاني/ يناير، بهدف تسويق البيان واعتماده مرجعًا لمفاوضات جنيف برعاية الأمم المتحدة.
لقد عملت موسكو في الاجتماع على تمييز نفسها عن النظام وإيران، وهو ما عبّر عنه كبير مفاوضي المعارضة، محمد علّوش، وآخرون. وليس هذا تغييرًا مفاجئًا في مواقف موسكو، بقدر ما هو استكمال طبيعي لمسارٍ رسمته منذ زمن، وبتفاهم مُضمر مع واشنطن، على الأرجح، أو على الأقلّ محاولة روسيّة لتقديم رؤية وقواعدَ للحلّ تقبلها إدارة ترامب.
وقد كشف المفاوض الروسيّ في أستانة، ألكسندر لافرنتييف، في مؤتمر صحافيّ عقده بعد انتهاء فاعليّات المؤتمر، عمّا يمكن وصفه بالعناوين العريضة لخريطة طريق روسيّة جديدة، ضُمّن بعض بنودها في البيان الختامي، وظهر أنّ بعض هذه البنود بدأ -فعلًا- يسلك طريقه نحو التنفيذ، في حال رُبطت أحداث اشتباكات فصائل معارضة مسلّحة ممثّلة في أستانة، مع “جبهة فتح الشام” وتنظيمات محسوبة على الجبهة، مثل “جند الأقصى” في الشمال السوريّ، تحت عنوان “عزل جبهة النُّصرة” لتصبح مناطق الفصائل المعارضة خالية من هذا التنظيم، في خطوة أوليّة وتمهيديّة لإجراءات وتطورات سياسيّة وعسكريّة. إن نُفّذت فعلًا، فقد تكون مدخلًا لحلّ سياسي.
هذا، في حين أعلن لافرنتييف أنّ جميع المنصّات “المعارضة” ستشارك في مفاوضات جنيف في فبراير/ شباط/ فبراير المقبل، وأنّ المحادثات في أستانة ليست بديلًا من التفاوض في جنيف، وأن “لدى الجميع فهم كامل بأنّ عمليّة أستانة هي تكملة جيّدة جدًا لإطار جنيف”.
وهكذا، فثمة مُركّب سياسيّ واضح المعالم يدفع روسيا إلى ألّا تسير وفق رغبات الأسد تمامًا، يعود إلى مسؤوليّتها بصفتها دولة كبرى في حرصها على عدم الانجرار إلى الإنهاك في حرب طويلة، قد تدفع أثمانها الاقتصاديّة والسياسيّة في الداخل الروسيّ ومع القوى الكبرى، وفوقهما؛ ألّا تظهر عدوًّا مناوئًا لـ “العالم الإسلامي السنّي” من دون مبرر.
في الحصيلة، تطلب روسيا من النظام السوريّ أربعة وجوه من الالتزامات للمحافظة على متانة العلاقة بين الطرفين: فمن جهة أولى على نظام الأسد أن يُقرّ بأنّ الحرب الشاملة، والسعي للسيطرة العسكريّة والأمنيّة على سوريّة غير مُمكنين، وأن ما يُسيطر عليه راهنًا هو أفضل الممكن، وأنّ أي مسعى في غير هذا الاتجاه يُعدّ مخاطرة عسكريّة، وخلخلة حقيقيّة للسلام الإقليمي. ومن جهة ثانية، يجب أن تدفع هذه السيطرة النسبيّة على الجغرافيا السوريّة النظامَ إلى القبول بالسيطرة السياسيّة النسبيّة على البلاد مستقبلًا. وجوهر هذا الأمر القبول ببدء عمليّة سياسيّة حقيقيّة، يستطيع معارضو الأسد بموجبها مشاركته في حكم سوريّة وإدارتها. وثالث هذه الالتزامات، وفق الإستراتيجيّة الروسيّة، هو تخفيف شبكة علاقاته الأمنيّة والعسكريّة مع إيران والمليشيات التابعة لها؛ ورابعها سعي روسيا لأن يقبل بشار الأسد بتحديد فترة حكمه لسورية بستة أشهر أو سنة، أي أنّ موسكو تريد من حليفها أن يقتنع بأنّ بقاءه حاكمًا مدّة غير محّددة، أمرٌ غير مُمكن. والأكيد أنّ موسكو تعلم أنّ هذا الأمر ليس محض مطلب تفصيلي يُمكن أن تتفاوض عليه مستقبلًا، بل هو جوهر تكوينيّ لما يُمكن أن تحقّقه الإستراتيجية الروسية في مسعاها الجديد، وأنّ شيئًا لن يتحقق من دون هذا الالتزام، سواء مع قوى المعارضة السوريّة أم مع داعميها الإقليميين، أو حتى مع القوى الكبرى.
وفي ما يبدو، فإن محادثات أستانة، بالنسبة إلى الروس، كانت عمليّة ذات بعد نفسي، من أجل كسر الحاجز، ولذلك أصرّوا على المشاركة الواسعة من العسكريّين الذين يقودون فصائل تقاتل النظام، وكانت عملية وضع هذا العدد الكبير منهم في وجه وفد النظام والجانب الإيراني، بمنزلة صفحة جديدة في مسار المسألة السوريّة التي يريد النظام، وحليفه الإيراني، مواصلة القتال من أجل تصفية كل من يرفع السلاح في وجه مشروع إيران في بسط هيمنتها على سوريّة.
من الواضح اليوم أنّ روسيا مُصمّمة على السير في خريطة الطريق التي وضعتها، وأنّ أيّ احتجاج من أي طرف لن يؤثّر على مسارها العام. ولذا وضعت جميع الأطراف في قطار واحد، وأمرت السائق أن يسير بالسرعة القصوى، لكي تمنع القفز من على ظهر القطار. وهي ستعمل، في هذه الفترة، على إعادة خلط الأوراق من جديد. ومثلما كانت أستانة نقلة في الشكل والمضمون، فإنّ جنيف مُرشّحة لأن تُحدث صدمة أكثر قوّةً، وذات ارتدادات كبيرة في الداخل والخارج على السواء.
وهكذا، توشك المسألة السوريّة، بعد نحو ستّ سنوات على بدايتها، أن تدخل مرحلة جديدة، مختلفة عمّا سبق، وهو أمر يتطلب، من قوى المعارضة خصوصًا، إعادة قراءة المشهدين الإقليميّ والدوليّ، والتصرّف بناء عليه، سواء فيما خصّ الوضع الميدانيّ على الأرض، أو المسار السياسيّ الذي تدفع كلٌّ من روسيا وتركيا به من محطة أستانة، على أمل أن يصل إلى جنيف.
من شأن محادثات أستانة أن تُحوِّل الهزيمة العسكريّة في حلب، التي يستثمرها النظام السوري وحلفاؤه، إلى نصر سياسيّ للمعارضة، إذا تعامل وفد المعارضة العسكريّة بحِرَفيّة تجاه جميع القضايا المطروحة على طاولة التفاوض الروسيّة- التركيّة، وفق رؤية المعارضة السياسيّة تجاه الحلّ السياسيّ الشامل لإعادة ترتيب أولويات المرحلة الانتقالية التي تتوافق وأهداف الثورة السوريّة، ما يتطلّب البحث في أسباب الاستدارة الروسيّة بقبول التفاوض مع الفصائل المسلّحة، بعد أن بذلت جهدًا لتصنيف هذه الفصائل بـ “الإرهابية”، رافضة، هي والنظام ومعارضته المحسوبة عليه، الجلوسَ مُقابلها في جنيف. وليس من شك في أنّ شرعنة هذه الفصائل في مفاوضات أنقرة، ومن ثمّ في أستانة، هو تغيّر مهمّ في الموقف الروسيّ، مقارنة بما كان عليه الحال في المحادثات مع الولايات المتحدة الأميركيّة في فيينا، وتأليف “المجموعة الدوليّة لدعم سوريّة” وإقرار وقف العمليّات القتاليّة في شباط/ فبراير من العام الماضي.
كما نجحت تركيا في إدخال ملف الميليشيات التابعة لإيران في سورية إلى برنامج الحل السياسيّ، بل ذهبت إلى طرح مسألة التغييرات الديموغرافيّة التي تسعى إيران لتكريسها أمرًا واقعًا في الشمال السوري وريف دمشق، كونها عائقًا أمام أي تعاون روسيّ- تركيّ، وهذا ما قاد روسيا إلى موقع مواجه للطموحات الإيرانيّة في سوريّة، وإلى اتّخاذ إجراءات عمليّة في حلب بعد مرحلة من التغاضي عن ذلك. من هنا، ازداد الحديث عن تعارض في الرؤى بين روسيا وإيران، بدأ يأخذ مكانه في الميدان هذه المرّة، ومن هنا انطلق الرّهان على إمكان زيادة الشرخ بينهما.
كما أنّ البيان الختاميّ لمحادثات أستانة تبنّى -في شقّه السياسيّ- المطلب الأساسيّ ذاته الذي اتّفقت عليه واشنطن وموسكو في العامين الماضيين وتبنّته قرارات دوليّة عدّة، إذ أكد هذا البيان “أنّ من الممكن فقط حلّ النزاع السوري عن طريق عمليّة سياسيّة تعتمد على تطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 2254 كاملًا”. وهذا القرار يُحدّد خريطة طريق واضحة، لتحقيق الانتقال السياسيّ إلى نظام سوريّ تعدّديّ جديد.
كما أنّ اجتماعات أستانة ترافقت مع البداية العلنيّة للسياسة الأميركيّة الجديدة في المنطقة، إذ يريد الروس من الرئيس الأميركي الجديد تغطية الحلّ السياسي المقترح على أساس تشكيل مجلس عسكري انتقالي، يتمتّع بثقة الأطراف، ويمتلك صلاحيّات عسكريّة للإشراف على وقف إطلاق النار، وتعبئة القوى لمحاربة “داعش”، وخروج جميع الميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية، المدعومة من إيران، من سورية.
وقد تكون خطط الولايات المتحدة لإنشاء “مناطق آمنة” في سورية مؤشّرًا على الانخراط الأميركي، واقتحام المسار الذي رسمته موسكو في خريطة الطريق للمسألة السورية. وما تأمل فيه المعارضة بجميع أجنحتها، ألّا يكتفي الزعيمان، الأميركي والروسي، بالتفاهم على محاربة “داعش”، بل أن تنضمّ واشنطن إلى الجهد الثنائيّ الروسيّ- التركيّ لترتيب حلّ مُرضٍ يرفع اليد الثقيلة لإيران عن دمشق، ويحبط إستراتيجيتها في بلاد الشام، مقدمة أيضًا لانضمام أطراف أخرى، مثل دول الخليج، إلى رسم مستقبل سورية. وما لم يحصل مثل هذا التفاهم الدوليّ- الإقليميّ الواسع، ستظلّ التسوية معضلة تمامًا كما الحسم العسكريّ المستحيل. ويصعب الآن التنبؤ بموقف الإدارة الأميركيّة الجديدة حيال المسألة السوريّة. وإشارة ترامب إلى تأخير رفع العقوبات التي فرضها سلفه على روسيا، ودعوته أركان فريقه إلى البحث عن إقامة ملاذات آمنة في سوريّة، لا تشيران إلى سهولة التفاهم بين الكرملين والبيت الأبيض.
إنّ إعلان وزير الخارجية الروسيّ، سيرغي لافروف، عن تأجيل الاجتماع الدوليّ في جنيف الخاصّ بالمسألة السورية من 8 شباط/ فبراير إلى نهاية الشهر ذاته، جاء بمنزلة تريّث في المضيّ قدمًا في المشروع الروسيّ، بعد المفاجأة التي فجّرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب عندما جزم أنّه “بالتأكيد سننشئ مناطق آمنة للسوريين”، مرفقًا بتتمة بريطانية ترجمتها لندن بعدم استبعاد إرسال قوات حفظ سلام إلى سورية، وكأنّ الكرملين يستشعر عودة أميركيّة- بريطانيّة إلى المنطقة عمومًا وإلى المسألة السورية خصوصًا. إن حصلت، فمن شأنها أن تُعيد خلط الأوراق الروسيّة التي كانت سعيدة بالغياب الأميركيّ- الأوروبي عن المنطقة، ليظهر وكأن مسارًا أميركيًا يؤسّس له من أجل الحلّ السوريّ، بصورة موازية، أو ربما متباينة مع مسار موسكو أو مسار أستانة. وجاء استغراب الأمم المتحدة رميَ موسكو مسؤوليّة تأجيل الموعد، ليُظهر -بدرجةٍ أكبر- الارتباك الروسيّ، والتأجيل غير المفهوم إلا في إطار ترقّب مشروع أميركيّ جديد في سوريّة، ما يطرح عددًا من التساؤلات حول المسار الذي تسير فيه السياسة الأميركيّة إلى جهة موضوع الحلّ في سورية، في ما إذا كان مسارًا داعمًا للجهد الروسيّ، أم أنّ الإدارة الجديدة تفكّر في لعب دور أكثر فاعليّة في المسألة السوريّة، من خلال التنسيق مع شركائها الأوروبيين بعد أن تحوّلت الإدارة السابقة إلى محض وسيط بين الأطراف.
كما أنّ تهميش الدور الأوروبيّ والعربيّ الخليجيّ على حساب إبراز الدور الإيرانيّ، ومحاولة الروس تسويق إيران طرفًا محايدًا وضامنًا في صوغ الحلّ، ربما يدفع بالولايات المتحدة إلى التعاون مع تلك الأطراف على مسار حلّ سياسيّ بديل للخطّة الروسية، وممارسة ضغوطات على الجانب الروسيّ من أجل تقليص الدور الإيراني في الحلّ، بدءًا من مشروع إنشاء مناطق آمنة في سوريّة والسير في اتّجاه حلّ سياسيّ بفاعليّة أكبر لتلك الدول. ربّما تكون هذه المعطيات قد دفعت بروسيا إلى تأجيل مفاوضات جنيف إلى حين استبانة طبيعة السياسة الأميركيّة تجاه المنطقة وإجراء محادثات أكثر مع الإدارة الجديدة.
إنّ أيّ فرصة متاحة لعودة الأمان للسوريين هي -في الآن ذاته- فرصة للثورة السورية كي تستعيد حراكها من أجل الحرية وإقامة الدولة الوطنية التي تحفظ حقوق مواطنيها أفرادًا وجماعات، وتُنهي تغوّل الأمن والجيش في السياسة والتدخّل في حياة المواطنين.
نجحت روسيا في فرض نهجها بشقّ صفوف المعارضة، وخاصّة في تركيزها على الفصائل العسكريّة، واعتمادها طرفًا رئيسًا في اتفاق وقف إطلاق النار، ثم في تحويلها إلى مفاوض سياسي، بكلّ ما يعنيه ذلك من إحداث شروخ في جسد المعارضة، وبخاصّة مؤسّساتها المعتمدة (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة والهيئة العليا للمفاوضات).
وهنا يجب القول: إنّ تحويل مهمّات الفصائل العسكريّة إلى مهمّات سياسيّة- تفاوضيّة أمر يحمل كثيرًا من الدلالات الخطرة، نظرًا إلى أنّ تلك الفصائل يُفترض ألّا علاقة لها بالشأن السياسي التفاوضي، وأنّها ليست ذات خبرة واختصاص في مسار التفاوض، وعراقيل مفاوضات جنيف1، وجنيف2، وملابسات تفسير القرارات الأمميّة، وبما يعني أنّ النيّات قد تكون معقودة لخلخلة مؤسّسات المعارضة وتغليب العسكريّ على السياسيّ؛ أو أنه ينمّ عن استدارة دوليّة لتنصيب فصائل المعارضة العسكريّة، وإيلاء الأولويّة للصراع العسكريّ الذي كثيرًا ما سعى النظام لتصديره أمام الرأي العام، للهرب من استحقاقات الحل السياسيّ، أو استحقاقات ثورة حدثت لأسباب سياسيّة وحقوقيّة في الدرجة الأولى.
لقاء أستانة، إضافة إلى ذلك، حاول التغريد خارج سرب المجتمع الدوليّ بخطّ طريق آخر موازٍ، وإن كان أتبع المبادرة بذكر مرجعيّة الأمم المتحدة والقرارات الدوليّة، بما يعكس عدم رضا الدول الأوروبيّة والولايات المتّحدة، وكذلك الأمم المتحدة ومبعوثها ديمستورا، ومحاولاتهم إضعاف اللقاء، أو إفشاله، وخاصّة أنه عُقد في الأيام الأولى من تسلّم الرئيس الأميركي الجديد مهمّات منصبه، وقبل أن يُتاح له، ولفريقه، التعاطي الفعليّ مع المسألة السوريّة.
لقد بدا واضحًا أنّ وفدي المعارضة والنظام فشلا في تقريب وجهات النظر حيال آليات تطبيق وقف النار والضمانات التي يطلبها كل طرف، ما عزّز التوجّه إلى إصدار البيان الختاميّ من جانب الأطراف الثلاثة الراعية من دون توقيع الطرفين المعنيّين عليه. وأكّد رئيس وفد النظام، بشار الجعفريّ، أنّ مفاوضات أستانة “نجحت في تحقيق هدف تثبيت وقف الأعمال القتالية لفترة محدّدة، الأمر الذي يمهّد للحوار بين السوريين”، في حين أعلن رئيس وفد المعارضة، محمّد علّوش، أنّ المعارضة السوريّة “ستذهب إلى جنيف فقط في حال تثبيت وقف النار من قبل الحكومة وضمان آلية مراقبته”، وأشار الجعفريّ، ردًا على سؤال حول الوضع في وادي بردى، إلى أنه “تمّ تحرير جميع مناطق الوادي حيث تتواجد جبهة النصرة”. وكان رأس النظام بشار الأسد قد قال في مقابلة مع قناة TBS اليابانية، نُشرت مقتطفات منها في 19 كانون الثاني/ يناير، “حتى الآن، نعتقد أنّ المؤتمر سيكون على شكل محادثات بين الحكومة والمجموعات الإرهابية من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار والسماح لتلك المجموعات بالانضمام إلى المصالحات في سورية، ما يعني تخلّيها عن أسلحتها والحصول على عفو من الحكومة”.
وإذا كان النظام، المُستجيب لإلحاح موسكو المنقذة، يحاول استعادة بعض الصدقيّة أمام العالم، وتجنّب الظهور بمظهر الرافض جهد التسوية، إلا أنه اكتفى في أستانة بترديد النغمة القديمة المستهلكة عن “محاربة الإرهاب” وضرورة الفصل بين التنظيمات، والتذرّع بمشكلة المياه في دمشق لاستمرار حملة التطهير المذهبيّ الجارية على قدم وساق بأيدي حزب الله والميليشيات الإيرانيّة الأخرى. فنظام الأسد لا يزال يعدّ الحل العسكريّ السبيل الوحيد لإنهاء الصراع، أيّ إخراج المعارضين تدريجيًا من جميع معاقلهم، والحيلولة دون أي تغيير حقيقيّ. وهو تقييم تشاركه فيه إيران التي ترى أن الحفاظ على النظام السوري يضمن استمرار نظام طهران نفسه.
ومن المخاطر أيضًا أنّ الروس، في عقب أستانة، يريدون أن يؤلّفوا كيانًا ما من المنصّات المقبولة لدى النظام، لتظهيرها في محادثات جنيف المقرّرة في 20 من شباط/ فبراير الجاري. وجاءت اجتماعات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، مع ممثّلين لهذه المنصّات، في العاصمة الروسية، في 27 كانون الثاني/ يناير الماضي، لتؤكّد أنّ المسار الذي تقوده روسيا للتوصّل إلى اتفاق على طريقتها لحل المسألة السورية، لا يزال بعيدًا عن الوصول إلى نهايات سعيدة. فلا زوّار موسكو نجحوا في مهمّتهم، ولا الدستور الروسي المقترح لسورية حظي قبولًا، ولا اجتماعات جنيف التي كانت مقرّرة في الثامن من شباط/ فبراير ستُعقد في موعدها، ولا وقف إطلاق النار يسير كما يصوّره الإعلام الروسي.
على الرغم من وجود نقاط استفهام كثيرة حول حظوظ محادثات أستانة في إنجاز وقف إطلاق نار شامل، إلّا أنها تعكس سقوط وهم الحلّ العسكريّ الذي وقف، خلال السنوات الماضية، في وجه بلورة الحلّ السياسي الذي كان في إمكانه وحده وقف الاقتتال السوريّ، والحدّ من الأثمان الباهظة التي دفعها السوريّون.
لقد مثّل مؤتمر أستانة اختبارًا صعبًا للتفاهم بين تركيا وروسيا، بصفتهما ضامنتين لوقف إطلاق النار، ولمدى قدرتهما على فرض التزامه من جانب الأطراف المتصارعة في ظل الرفض الإيرانيّ، وعدم قناعة النظام بالحلّ السياسي من أصله، كما سيمثّل اختبارًا للتفاهمات الروسيّة الإيرانيّة حول المسألة السوريّة. إلا أنّ الاختبار الأصعب سيكون من نصيب الطموحات الروسيّة في أن تحوز إنجازاتها رضًا أميركيًّا وغربيًّا، يفتح أمامها باب المساومات على الملفّات العالقة معه، ذلك أنه لم يظهر ما يدلّل عليه، فالغرب غاب عن أستانة، والحضور الأميركيّ كان باهتًا وأقرب إلى رفع العتب.
وبصرف النظر عن طبيعة المؤتمر، والمدعوّين إليه، والنتائج التي تمخّض عنها، فمن الصعب تعليق الآمال الكبيرة عليه بوصفه محطة تكتيكيّة، ستستعمله بعض الأطراف، لتحسين ظروف التفاوض اللاحق في لقاء جنيف المزمع.
في الحصيلة، يمثّل مؤتمر أستانة محطّة صغيرة وهامشيّة في مسار المسألة السوريّة، في انتظار أن تنتهي الإدارة الأميركيّة الجديدة من المرحلة الانتقاليّة التي قد تستمرّ بضعة أشهر. وسواء نجح الروس، عبر مسارهم السياسي، في الوصول إلى الحلّ الذي يتطلعون إليه، أم لم ينجحوا في ذلك، فإنّ هذه المسألة، على الأغلب، سوف تبقى عصيّة ومستمرّة زمنًا، ليس في وسعنا، في ضوء المعطيات القائمة، استشراف مداه. ذلك أنّ الحلّ الروسيّ، إذا قُيّض له النجاح عبر توافق دوليّ، وهذا أمر ليس مستبعدًا، لن يلبّي الحدّ الأدنى من تطلّعات السوريّين ومن مطالبهم التي عبّرت عنها ثورتهم، ولن يكون وجه سورية بعد هذا الحلّ مُغايرًا كثيرًا للوجه الذي عرفه السوريون وعايشوه على مدى عقود من الزمن، وثاروا عليه، ومن ثمّ، سوف تبقى مفاعيل ثورتهم قائمة ومستمرة في أشكال أخرى جديدة، تحدِّدها الوقائع المستجدة التي سوف تحدث، وربما بأدوات أخرى أيضًا.
في جميع المقاييس، فإنّ الحلّ الذي يُبقي على بشار الأسد بحراسة إيران وروسيا لا يُمكن أن يكون حلًا دائمًا لأنه غير عادل، وغير عقلاني. فبعد مقتل نصف مليون إنسان، وإعاقة مليون ونصف، وتهجير اثني عشر مليونًا، في الداخل والخارج، وتخريب أكثر من نصف العمران السوريّ، لا يُمكن لأيّ نظام تسبّب في ذلك كلِّه أن يكون جزءًا من الحلّ، فضلًا عن أن يكون نظامًا مستقبليًا للحكم الصالح.