المحتويات
أولًا: قرارات مجلس الأمن الدولي تجاه القضية الفلسطينية والقدس
ثانيًا: في توقيت القرار الأميركي
ثالثًا: حول ردّات الفعل على القرار وتداعياته
أحدث إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في السادس من كانون الأول/ ديسمبر2017، قراره بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، صدمة عميقة في الساحتين الإقليمية والدولية، وأثار ردّات فعل متنوعة، رسمية وشعبية. فقد جاء القرار الأميركي مفاجئًا في توقيته، وقد يكون كارثيًا في تداعياته على عملية السلام، التي أصبحت أوسلو عنوانها الرئيس منذ ربع قرن، ذلك أن الولايات المتحدة التي رعت تلك العملية وقدّمت نفسها “وسيطًا نزيهًا وعادلًا” يعمل على دفع الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، لإنجاز سلام على مبدأ حلّ الدولتين وفقًا لقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة وفي المقدمة منها القرار 242 لعام 1967، تكون قد تخلت بقرارها المفاجئ عن هذا الدور والصفات المرتبطة به، في وقت لا تستطيع فيه دولة أخرى في العالم القيام بأعباء هذا الدور في ظل التوازنات الدولية القائمة في هذه المرحلة، نظرًا إلى التعنت الإسرائيلي في ظل اليمين الحاكم، الذي يرفض قيام أي دولة بأي دور لا يتبنّى الطروحات الإسرائيلية.
تُعدُّ قضية القدس واحدة من أعقد قضايا الصراع العربي- الإسرائيلي، إن لم تكن أعقدها، بسبب الرمزية الدينية والتاريخية لمدينة القدس، هذه الرمزية التي لا تقتصر على الديانة الإسلامية فحسب، بل تنسحب على الديانتين المسيحية واليهودية أيضًا، وبما أن الصراع يتمحور على البعد التاريخي عندما يتعلق الأمر بمدينة القدس على وجه الخصوص، فقد أصرّت “إسرائيل” على الدوام على أن القدس الموحّدة هي عاصمة أبديّة للكيان الإسرائيلي، وشغل هذا الموضوع قسطًا واسعًا من نشاطها الدبلوماسي على مدى عقود. وليس عبثًا أن تُركت قضية القدس إلى قضايا الحلّ النهائي التي حرصت “إسرائيل” على عرقلة الوصول إليه منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993.
شكّل القرار الأميركي الجديد خرقًا للقانون الدولي، وهو يتعارض مع كلّ القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي على مدى الصراع بصفتها مدينة محتلة، وقد أرادت الولايات المتحدة بهذا القرار استباق مفاوضات الحلّ النهائي، إن حصلت، وجرّ الآخرين ليحذوا حذوها، ولتفرض أمرًا واقعًا تفوز فيه “إسرائيل” بالقدس عاصمة موحّدة لدولتها الاستيطانية. من هنا، فإن خطورة هذا القرار لا تكمن في بعده القانوني، بل في الخشية من أن يُشكّل سابقة أو ذريعة لكثير من دول العالم لنقل سفاراتها إلى القدس، ما يجعل استكمال مسيرة السلام المتعثرة عسيرًا، كما أنه قد يعطي تصعيدًا للبعد الديني للصراع ويُساهم في نمو التطرف الذي يسعى العالم لتطويقه وهزيمته، وهذا يتناقض مع ما تدّعيه الولايات المتحدة بأنها ترمي إلى دفع عملية السلام.
لقد ارتكبت الولايات المتحدة خطأً تاريخيًا سواء أكان دافعه الضغوط الداخلية، أو تعويلها على موافقة أو تلميح بعض الدول العربية الوازنة بتسهيلها تسوية ترضى عنها “إسرائيل”؛ وفي الغالب، سيجرّ قرارها المزيد من الصراعات والعنف في المنطقة.
والحقيقة المرّة الحاضرة عند هذا المنعطف، أنه ما كان للولايات المتحدة أن تُقدِم على ما أقدمت عليه لولا تهافت الوضع العربي الذي يمرّ في أسوأ مراحله. فأفعال النظام الرسمي العربي باتت بروتوكولية وصوتية مع انكشاف أدواره الوظيفية، وثورات الربيع العربي تواجه خيارات صعبة، وباتت الثورات المضادّة المدعومة من قوى احتلالية دولية حاضرة بقوة في مختلف ساحات الصراع، لذلك من الطبيعي ألّا تواجه حسابات “إسرائيل” وحلفائها تجاه الواقع العربي أو الفلسطيني أي تحدّيات رادعة على المدى المنظور.
حقيقة واحدة ستبقى حاضرة على الدوام تفيد بأن أي تسويات لا تُبنى على الحقّ والعدل، أو تُفرض على النقيض من إرادة أصحابها، لن تُفضي إلى سلام، بل ستُبقي الصراع مفتوحًا وخطرًا دائمًا على الأمن والسلم الدوليين.
صدرت عن مجلس الأمن الدولي وعن الجمعية العامة للأمم المتحدة عشرات القرارات حول القضية الفلسطينية أو القدس، التي تدين “إسرائيل” وتصرفاتها في الأراضي المحتلة عمومًا أو القدس، ومنها محاولاتها طمس هوية المناطق المحتلة أو التغيير الديموغرافي أو بناء المستوطنات؛ وكانت هناك قرارات محورية في مسيرة الصراع، وباكورة هذه القرارات القرار رقم 181 لعام 1947 (قرار التقسيم) الذي ألغى الانتداب البريطاني في فلسطين بدءًا من 1 آب/ أغسطس 1948، وأقرّ أن تقوم فيها دولتان مستقلّتان، عربية ويهودية، على أن تخضع مدينة القدس للوصاية الدولية، وتجري العودة إليه بصفته القرار المؤسِّس لحل الدولتين؛ تلاه القرار 194 لعام 1948 الذي أقرّ بإلزامية عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم وممتلكاتهم، وأنها حقّ لهم، وأن عودتهم تتوقف على اختيارهم الحرّ وحدهم؛ أما القرار رقم 242 لعام 1967، فقد جاء إثر حرب الأيام الستة واحتلال “إسرائيل” الضفةَ الغربية ومرتفعات الجولان وغزة وسيناء، وورد فيه ضرورة انسحاب القوات الإسرائيلية المحتلة من الأراضي التي احتلتها في تلك الحرب. وفي تموز/ يوليو 1980 أقرّ الكنيست الإسرائيلي قانون أساس القدس عاصمة لدولة “إسرائيل”، حيث جرى بموجبه ضم القسم الشرقي وإعلان القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وحينها صدر عن مجلس الأمن الدولي القراران المتتاليان 476 و478 لعام 1980 اللذان أكّدا مخالفة القرار الإسرائيلي للقانون الدولي وطالبا “إسرائيل” بإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية في حرب الـ 67، كذلك صدر عن الجمعية العامة القرار رقم 35/ 207 لعام 1980 والذي يدين قرار “إسرائيل” بضم مدينة القدس الشرقية وكل إجراءاتها لتغيير طابع المدينة. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة التي كانت مؤيدة لهذين القرارين بعد ضم القدس، قامت بنقل سفارتها إلى تل أبيب واحتفظت بقنصلية لها في القدس.
بعد قرار ترامب الأخير، وإثر اجتماع وزراء الخارجية العرب في مقرّ جامعة الدول العربية؛ أُقِرّ التوجه إلى مجلس الأمن الدولي للمطالبة بقرار دولي، يُطالب الإدارة الأميركية بسحب قرارها والتراجع عن اعترافها بالقدس الموحّدة عاصمة لدولة “إسرائيل”، إلا أن الولايات المتحدة استخدمت حقّ النقض في الجلسة التي عقدها مجلس الأمن في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2017، وأفشلت مشروع القرار المصري بهذا الخصوص على الرغم من تصويت مندوبي الدول الأربع عشرة الباقية الممثلة في مجلس الأمن، ما أظهر عُزلة أميركية داخل المجلس، وقد كانت المداولات والردود الأوروبية مميّزة وواضحة، وأكّدت على أن القدس الشرقية هي عاصمة لدولة فلسطين في ختام عملية السلام، وأنها تُعارض بوضوح لا لبس فيه الخطوة الأميركية.
هذه المواقف، والإجماع على التصويت لمصلحة المشروع المصري ورفض القرار الأميركي، قابلته مندوبة الولايات المتحدة بردّة فعل غاضبة ومرتبكة وغير دبلوماسية؛ لكن بقي سؤال يطرح نفسه على القانونيين الذين صاغوا مسوّدة القرار المصري، هل كانوا يعتقدون أن الولايات المتحدة يمكن أن تتراجع عن قرارها نزولًا عند قرار لمجلس الأمن أو سواه؟ ألم يكن من الأجدى أن يُطالب مشروع القرار مجلس الأمن بتأكيد قراراته السابقة ذات الصلة بمدينة القدس، وأن القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين؟ إذ لربما كان أكثر إحراجًا للإدارة الأميركية.
بعد فشل مشروع القرار المصري في مجلس الأمن، ظهر توجّه عربي وإسلامي لمواجهة الخطوة الأميركية، فقد طلبت اليمن عقد جلسة استثنائية للجمعية العامة للغرض ذاته الذي سعى له مشروع القرار المصري، وقبل أن يُعقد هذا الاجتماع، ومن دون أن تُعرف نتيجته، راح الرئيس الأميركي والمندوبة الأميركية نحو تهديد الدول التي سوف تُصوّت لمصلحة القرار بالعقوبات، ذلك أنه من المعروف أن الطروحات الأميركية والإسرائيلية في ما يخص القضية الفلسطينية، لا تلقى تجاوبًا من أغلبية دول العالم الممثلة في الجمعية العامة، فكان التصويت بأغلبية مئة وثمان وعشرين دولة لمصلحة المشروع اليمني.
على الرغم من عشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن أو الجمعية العامة على مدى السبعين عامًا الماضية، التي تُدين “إسرائيل” وإجراءاتها الاستيطانية في الأراضي المحتلة بصفتها مخالفة للقانون الدولي، وعلى الرغم من عدم التزام “إسرائيل” أيًا من هذه القرارات، وعدم اتخاذ مجلس الأمن الدولي أي إجراءات لملاحقة “إسرائيل” بشأن عدم التزامها قراراته، بسبب من الغطاء السياسي والعسكري الذي توفره الولايات المتحدة لحمايتها، إلا أنه من المهم صدور مثل هذه القرارات كونها تُعبّر عن الضمير العالمي المتعاطف مع قضية الشعب الفلسطيني بعيدًا من سطوة الفيتو الأميركي وجبروت قوته.
في عام 1990، وبضغط من اللوبي الصهيوني النافذ في الولايات المتحدة، صدر عن الكونغرس الأميركي قرار ينصّ على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة؛ وفي عام 1995، وفي ذروة مفاوضات أوسلو في عهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون، صدر عن الكونغرس الأميركي “قانون نقل السفارة” الذي تضمّن ثلاثة بنود: 1- بقاء القدس موحّدة وغير مجزّأة، 2- الاعتراف الأميركي بالقدس الموحّدة عاصمة لإسرائيل، 3- إلزام الإدارة الأميركية نقل السفارة من تل أبيب في أي وقت ملائم؛ وأجاز القانون للإدارة تأجيل قرارها بهذا الخصوص مدة ستة أشهر قابلة للمراجعة بناءً على طلب الرئيس بحسب تقديراته لأثر القرار على الأمن القومي الأميركي. وقد استنكف الرؤساء الأميركيون منذ ذلك التاريخ عن اتخاذ هذه الخطوة، بمن فيهم الرئيس جورج بوش الإبن الذي وقّع قانون القدس الموحّدة في أيلول/ سبتمبر 2002.
في 6 كانون أول/ ديسمبر 2017، أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قراره بالاعتراف بمدينة القدس عاصمة لدولة “إسرائيل”، طالبًا من وزارة الخارجية الأميركية اتخاذ الإجراءات اللازمة لنقل السفارة الأميركية إليها خلال أربع سنوات من تاريخه، وبرّر ترامب قراره بأنه يُريد به “تحقيق مردود إيجابي على عملية السلام الفلسطيني- الإسرائيلي”، ولأن الولايات المتحدة “سوف تؤيد حلًا يُرضي الدولتين في حال وافق عليه الطرفان”. وبعد الزوبعة التي أثارها القرار، في المنطقة والعالم، حاول الرئيس والمسؤولون الأميركيون امتصاص هذه الصدمة بالقول: “إن الخطوة الأميركية تعاملت مع أمر واقع قائم، حيث أن مؤسسات الحكومة الإسرائيلية كلها موجودة في القدس، كما أن الخطوة الأميركية لا تؤثر في مخرجات السلام، ومنها تحديد الحدود المعينة للسيادة الإسرائيلية، وهي متروكة لعملية التفاوض بين الطرفين”.
كثيرة هي الأسئلة التي أُثيرت حول توقيت القرار الأميركي، في محاولة للوقوف على دوافعه وفهم التطورات القائمة أو المحتملة في المنطقة، وجعلت من الولايات المتحدة تتجاوز كثيرًا من المحاذير التي كانت تأخذها في الحسبان في المراحل السابقة، ومنها إحراج حلفائها العرب في قضيّة حسّاسة مثل قضية القدس، أو حتى المغامرة بعملية السلام برمّتها وهي التي رعتها منذ ربع قرن على ضآلة الحصاد الذي جنته بسبب التعنت الإسرائيلي، كما تباعد مواقفها مع المواقف الأوروبية بهذا الخصوص المتعارضة بشكل شبه مطلق مع موقف وسياسة الحليف الأميركي.
لكن، من المفترض أن هشاشة الوضع العربي وعجزه عن الوقوف في مواجهة خطوة أميركية من هذا العيار، دفعت الرئيس الأميركي إلى اتخاذ مثل هذا القرار؛ ذلك أن النظام الرسمي العربي، والوضع العربي على وجه العموم، الذي شهد مسارًا انحداريًا منذ سبعينيات القرن الماضي، فقد عناصر قوته وبات مكشوفًا منذ حرب الخليج الثانية، وما زال في حالة تدهور وانحدار. ومن غير المتوقع أن تأخذ الإدارة الأميركية مواقفه في حساباتها. أما الشعوب العربية فقد أنهكها الاستبداد والحروب المستعرة في أغلب ساحاتها، فضلًا عن التدخل الخارجي متعدّد الأطراف والمشاريع والأدوات.
من هنا، فإن التوقيت يبدو ملائمًا للسياستين الأميركية والإسرائيلية للإقدام على مثل هذا القرار، وعليه فإنه إذا كان توقيت القرار الأميركي قابلًا للتفسير، فإن دوافعه وما يمكن أن يتبعه من مشاريع وتطورات تتعلق بمستقبل المنطقة أو الصورة التي يمكن أن ترسو عليها، بما فيها عملية السلام، ستبقى محطّ التساؤل والبحث عن أجوبة.
ربما تكون سياسة إعادة التموضع في المنطقة التي وسمت السياسة الأميركية في عهد الإدارة السابقة، وغضّت فيها الولايات المتحدة بشكل مقصود الطرف عن توسع الحروب وتدخّل الأطراف الإقليمية والدولية الأخرى، قد انتهت، ويبدو أن الإدارة الحالية عُهد إليها بالانتقال إلى المرحلة الثانية المفترضة، التي يتوقف عليها تحديد الدور الأميركي في هذه المنطقة الحساسة والحيوية، وما يمكن أن يقتضيه من حروب وتسويات وتحالفات جديدة في سياق الصراع الجيوسياسي، وإعادة رسم خارطة النفوذ والسيطرة على الساحتين الإقليمية والدولية في ظلّ رئيس أميركي عنيد و”أهوج” ومُثقل بالضغوطات الداخلية، مع ملاحظة أن الإستراتيجية الأميركية ما زالت تتعمّد عدم الوضوح من حيث أهدافها وأساليبها، لكن ثمة نقاط ارتكاز أُعلن عنها بشكل جزئي ومتقطّع يمكن الوقوف عندها في محاولة تلمّس أو ربط غير يقيني للخطوط التي تسير عليها هذه الإستراتيجية ومنها:
* إحياء التحالف الأميركي- السعودي بعد فتورٍ في عهد الإدارة السابقة، مذ زار الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، الرياض في نيسان/ أبريل 2017، وجمع له السعوديون خمسين رئيسًا لدول عربية وإسلامية. في تلك الزيارة طمأن ترامب السعوديين إلى رسوخ تحالفاته في المنطقة ومواجهة التهديدات الإيرانية التي باتت هاجسًا شبه وجودي للسعودية. رافقت الزيارة صفقات سلاح وتدريب وتعاون عسكري واقتصادي، كما جرى الحديث، أقلّه من باب التسريبات، عن نيّة الولايات المتحدة العملَ على تشكيل حلف دولي جديد لمواجهة إيران ولجمها، تكون “إسرائيل” جزءًا منه بصيغة ما، لكن من غير المحتمل أن تظهر نتائج مثل هذا التوجه- على فرض صحّته – في المدى المنظور؛ فقد دخل الحُكم السعودي في مواجهة داخل العائلة المالكة لتثبيت حكم وليّ العهد الجديد، وأثارت قرارات الملك سلمان بهذا الخصوص اعتراضات من أبناء أخوته الكثر، من الصعب تقدير حجمها وخطورتها، وقد تكون مرحلة انتقال السلطة من جيل الأبناء إلى جيل الأحفاد أصعبَ اختبار تواجهه العائلة الحاكمة منذ إعلان المملكة قبل تسعة عقود. كما تواجه السعودية في ظل العهد الجديد، جديًا، تحدّي الانفتاح والتقارب مع العالم الخارجي من حيث طبيعة العلاقات الاجتماعية والقانونية وثقل التقاليد التي تحكم حياة السعوديين. فلم تعد خافية الضغوط الخارجية التي تعرّضت لها السعودية منذ حوادث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001. غير أن الأخطر على المملكة هو الحرب في اليمن، حيث تقود السعودية تحالفًا عربيًا ضيقًا وهشًا لدعم الشرعية اليمنية في مواجهة انقلاب الحوثيين وأتباع صالح على المبادرة الخليجية، وما زالت نهايتها غير منظورة.
* يجري الحديث منذ أشهر عن تكليف أميركي لمصر بتهيئة الوضع الفلسطيني كي يكون أكثر مرونة في عملية السلام المتوقفة منذ العام 2014 على خلفية استمرار “إسرائيل” في بناء المستوطنات، ومن ضمن الجهد المطلوب المصالحة غير الناجزة حتى الآن بين فتح وحماس، والتي تداهمها أشباح الفشل، تمامًا كما الحديث عما دُعي بـ “صفقة القرن” التي تنتقل ببطء من حيّز التسريبات إلى حيز التداول الإعلامي الواسع، الأمر الذي يُدلّل على وجود مثل هذا المشروع وأنه قيد الإنضاج، بما تقتضيه هذه العملية من تعديلات في بعض فقراتها كي يُمكن توقّع تسويقها؛ ويقوم جوهر هذه الصفقة على إلحاق الضفة الغربية بالأردن، وغزة بمصر، ضمن اتحاد كونفدرالي، وتتولّى كل من الأردن ومصر حماية حدود “إسرائيل”، في حين يتكفل الأمن الفلسطيني بضبط الوضع الداخلي الفلسطيني، ويضاف إلى هذا البند الرئيس ما تستلزمه حياة الفلسطينيين من مطارات وموانئ ومعابر ومناطق حرّة تتولّى أمنها عناصر دولية. ولم يتطرق المشروع لوضع القدس. وباختصار، فإن المشروع أعلاه الذي قدّمه نتنياهو إلى الإدارة الأميركية الجديدة، يُحوّل مشروع الدولة الفلسطينية القابلة للحياة وفق حلّ الدولتين الذي قامت عليه اتفاقات أوسلو إلى دولة على الورق، وتكليف كل من الأردن ومصر بضبط حياة الفلسطينيين. والسؤال الذي يطرح نفسه عند هاتين النقطتين من الاستراتيجية الأميركية هو: لماذا تُصرّ أميركا على إحراج حليفيها السعودي والمصري في هذه المرحلة الحساسة؟ وهل أوضاع حليفيها، الداخلية أو العامة، قادرة على تحمّل تبعات السكوت عن/ أو تمرير مثل هذا القرار!؟
* تصعيد المواجهة مع إيران وأذرعها في المنطقة. فقد ارتفعت وتيرة الخطاب الإعلامي الأميركي والإسرائيلي ضدّ إيران وحرسها الثوري وميليشياتها المنتشرة في المنطقة، وزادت العقوبات الاقتصادية على الحرس الثوري الإيراني و(حزب الله) على وجه الخصوص، وتجفيف منابع تمويله عبر العالم ووضعه على قائمة المنظمات الإرهابية، كما واعتبار إيران دولة مارقة تُهدّد أمن واستقرار المنطقة. وربّما يأتي هذا التصعيد الإعلامي تهيئة للرأي العام الأميركي لحرب محتملة في المنطقة، سواء أقامت بها أميركا بالأصالة أو أوكلتها لإسرائيل أو لبعض حلفاء أميركا المحليين، وسواء أكانت مباشرة مع إيران، وهذا مُستبعد من حيث المبدأ، أو طالت ميليشياتها بالجملة، أو اقتصرت على (حزب الله)، فإنها تشكّل أحد بنود استراتيجية أميركا في المنطقة التي أعلن عنها ترامب منذ فترة قصيرة.
* كذلك هناك تكثيف للوجود الأميركي العسكري في المنطقة، فعلى عكس السياسة الانسحابية الظاهرية التي أوحت بها الإدارة الأميركية السابقة، تعمد الإدارة الجديدة إلى زيادة وترسيخ وجودها العسكري المباشر من خلال مشاريع القواعد العسكرية التي تتوالد؛ ففي كردستان العراق خمس قواعد، وفي العراق قاعدة الرمادي إلى جانب قاعدة الأسد، وفي سورية ثماني قواعد أهمّها عين عيسى في الرقة والتنف في الجنوب، ثم قاعدة الأزرق في الأردن. وهذا القوس الواسع من القواعد الذي ينتهي بأهم قاعدة، ألا وهي “إسرائيل”، يُشير إذا أضيفت له تصريحات البنتاغون حول عدم نيّة أميركا الانسحاب من المنطقة بعد نهاية الحرب على (داعش)، بغضّ النظر عن مواقف الدول المعنية، إلى أن الولايات المتحدة على المستوى الإقليمي تحرص على حماية مصالحها بشكل مباشر، وتتهيأ لضبط إيقاع المنطقة.
في المجمل، وعلى الرغم من أن قرار ترامب هو مجرّد تنفيذ لتوجهات أميركية سابقة، إلا أن توقيته يُجيز التساؤل حول ما إذا كان اختبارًا لمدى قدرة حلفائه المحليين على الذهاب بعيدًا في حساباتهم، أم أنه جاء كجائزة ترضية لإسرائيل لمهمات قد تنتظرها؟ من دون أن تغيب عن الذهن قدرة الإسرائيليين على ممارسة الابتزاز في مثل هذه المحطّات.
كل ما أنجزته ردّات الفعل الرسمية العربية، عدا عن الرفض والتحذير من تداعيات القرار على عملية السلام والاستقرار في المنطقة والخوف من نمو التطرف، يتلخص في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة والتصويت لمصلحة مشروع القرار اليمني بهذا الخصوص. ومن غير المتوقع أن يُحقق التحرك الدبلوماسي الرسمي العربي أو الفلسطيني نتائج تُفضي إلى تغيير المعادلات. كذلك، لم تُضف جديدًا منظمة المؤتمر الإسلامي التي عقدت اجتماعًا طارئًا في 13 كانون أول/ ديسمبر 2017 بناءً على دعوة تركية وتحرّك أردني. أما التحركات الشعبية- على أهميتها، كونها تُعبّر عن حالة وجدانية راسخة- ومنها تلك التظاهرات المحدودة التي شهدتها عدد من الدول العربية أو فلسطين، لم تتّسع بالشكل الذي كان مأمولًا منها، ذلك أن السلطة الفلسطينية، وحركتي فتح وحماس، تريد أن تبقى هذه التظاهرات قابلة للضبط كي لا تفلت الخيوط من أيدي المنظمتين الرئيسيتين، على الرغم من دعوة حماس لانتفاضة جديدة، ذلك أن الوضع الجماهيري الفلسطيني غير مهيأ لانتفاضة جديدة، وإذا تجاوزنا الإنهاك الخاص اللاحق بالفلسطينيين، فإن الواقع الفلسطيني لا يختلف عما يعتري واقع الشعوب العربية من وهن وتشتت.
يعتقد بعض المسؤولين الأميركيين المؤيدين لقرار ترامب، أن ردّات الفعل العربية والفلسطينية موقّتة وذات تأثير ضعيف على مواصلة الولايات المتحدة “جهدها” في عملية السلام، لكن، وبغضّ النظر عن مدى صحة هذا التقدير من عدمه، فإن هذا القرار الذي استبعد عمليًا السلطة الفلسطينية كشريك في عملية السلام، أقلّه وفق اتفاقات أوسلو، قد أوقعها في حرج كبير ووضع مستقبلها أمام تحديات كبيرة، فهي لا تستطيع ابتلاع القرار الأميركي لأنها ستفقد كل شرعيتها، وإن عاندته ستجد نفسها خارج الفعل السياسي، هذا إذا استبعدنا سيناريوهات إحداث تغييرات عميقة فيها، بفعل خارجي، تتجاوب مع التوجهات الأميركية الجديدة، لذلك رأينا رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي أعلن كثيرٌ من رجالات سلطته، أن السلطة لن تستقبل نائب الرئيس الأميركي من دون أن تقطع السلطة بهذا القرار، وهو يؤكد في خطابه أمام اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي التزامه عملية السلام، وهذا يدلّل على أن عباس يحاول البحث عن شركاء جدد في رعاية عملية السلام لتخفيف الضغط الأميركي، في وقت لا يتوافر فيه أي من هؤلاء الشركاء في العالم. الحرج ذاته ينطبق على الدول العربية الحليفة، كمصر والسعودية والأردن، التي من غير المتوقع أن تتجاوب مع التوجه الأميركي وتنخرط في عملية ضغط على الطرف الفلسطيني لجلبه إلى طاولة المفاوضات والقبول بالحلول المطروحة، لأن تكلفة ذلك أكبر من طاقتها على تحمّله في ظل أوضاعها المضطربة.
قد يصعب التكهّن بمصير عملية السلام الفلسطيني- الإسرائيلي وحلّ الدولتين، فقرار ترامب قد يُنهي هذا المسار المتعثر، أو أنه سيُدخل عملية السلام في حالة موت سريري، وهذا الخيار لا يضير “إسرائيل” الماضية في بناء المزيد من المستوطنات وفرض أمر واقع يصعب مع الزمن تغييره، أو أن تنهار السلطة الفلسطينية بقرارها الذاتي، أو كنتيجة منطقية للضغوط الهائلة التي تتعرض لها، وتضطر “إسرائيل” إلى إعادة احتلالها الضفة والقطاع، أو أن تكتفي بالضفة وتترك غزة تجترّ آلامها تحت حكم حماس.
هذه “المغامرة الترامبية”، إذا جاز القول، ستكون إيران والميليشيات التابعة لها أكثر المستفيدين منها في خدمة مشروعها التوسعي، لأنها ستزيد في جرعة خطاب ادعاءاتها حول تحرير القدس ومواجهة “الشيطانين الأميركي والإسرائيلي”، ما دامت سياستها في المنطقة تقوم على إثارة المزيد من المشكلات والاستثمار فيها. كذلك، ستجد قوى التطرف الديني مادة جديدة لنشر فكرها وعنفها في كل اتجاه داخل المنطقة وخارجها، وستزاود على من تتهمهم بالتفريط بالحقوق العربية والإسلامية.
شكّل قرار ترامب حول القدس منعطفًا خطرًا في مسار الصراع العربي- الإسرائيلي، وسوف يزيد من تعقيداته، وقد ينسف كل الجهد الدولي السابق لحل هذا الصراع، لكنه من حيث يدري أو لا يدري، نزولًا عند تقديرات ظالمة لإدارته، أعاد قضية القدس بقوة إلى طاولة المجتمع الدولي وكشف عن مفارقات مهمة في المواقف السياسية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذي عارض الخطوة الأميركية بخصوص القدس وأكد موقفه بوصفها عاصمة لدولتين، “إسرائيل” وفلسطين؛ ويمكن لأي عمل فلسطيني أو عربي بنَّاء لمواجهة التطورات المستجدة أن يُفيد من هذا الموقف على الساحة الدولية؛ لكن المراهنة الكبرى تبقى على نهوض شعبي عربي وفلسطيني يواجه الغطرسة الأميركية والإسرائيلية، ويعمل على توفير عوامل القوة بمعناها الواسع، التي لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل تقوم أساسًا على إعادة الاعتبار للإنسان العربي وحريته وكرامته التي سلبتها أنظمة الاستبداد العربية.
ثمة تعويل خاص على سكان مدينة القدس الفلسطينيين الذين يُشكّلون 40 في المئة من مجموع سكانها، لأنهم سيبقون رافعة أي عمل فلسطيني، وهم من يُعطون القدس هويتها العربية، سواء طوّروا أساليب عملهم ونضالهم من خلال النظام السياسي لدولة الاحتلال أسوة بعرب الـ 48، أو تابعوا طريقهم بمقاطعة هذا النظام ومقاومته من خارجه كشعب تحت الاحتلال استمرارًا لتعليمات منظمة التحرير الفلسطينية السارية بهذا الخصوص، كما أن السلطة الفلسطينية مطالبة قبل غيرها بأن تُعيد النظر في مسار أوسلو برمّته، وصولًا إلى اعتماد خيار وضع الملفّ في عهدة المجتمع الدولي الذي ينبغي أن يوضع أمام مسؤولياته الأخلاقية والقانونية تجاه الشعب الفلسطيني، مع إعادة ترتيب البيت الفلسطيني والخروج من العقلية الفصائلية التي ما زالت تحكم الواقع الفلسطيني، بما فيه السلطة ذاتها التي ما زالت سلطة فتح وليست سلطة الشعب الفلسطيني، وهذا كان أحد أخطر نواقصها.
الصراع العربي- الإسرائيلي صراع تاريخي، وسوف يبقى مفتوحًا، ولا يُمكن لأي قوة أو سياسات أن تُنهيه بحلول أو تسويات تتجاوز الحقوق الوطنية التاريخية للشعب الفلسطيني، أو تفتقر إلى العدل ورضى أصحاب الحق، وهذا جوهر ما نطق به نتنياهو بصفته واحدًا من عتاة اليمين الإسرائيلي المتطرّف حين قال مؤخرًا: “نحن لا نواجه مشكلة حقيقية في إنجاز السلام مع الأنظمة العربية، المشكلة التي نواجهها هي مع الشعوب العربية التي ترفض السلام”.