مقدمة
تندرج دراستي هذه في سياق ما يسمى (نقد النقد المسرحي). والحقيقة أن هذا المجال هو ورطة حقيقية لكلّ من يخوض فيه. فمثلًا، يتساءل الناقد والفيلسوف الفرنسي تزفيتان تودوروف عن نقد النقد، قاصدًا بسؤاله القارئ الفرنسي: “من بإمكانه أن يجد فيه فائدة ترتجى؟”[1] وإذا أتينا إلى تخصص صغير ضمن هذا المبحث (الكبير)، وهو نقد النقد (المسرحي)، وإلى قارئ عربي عرف عنه عزوفه عن القراءة، تكون المشكلة مضاعفة. مع ذلك لا بد من قراءة كهذه محاولة للتصويب والتحسين وضبط المصطلحات والمفهومات في مجال النقد المسرحي.
أتى الملف، موضوع الدراسة، بعنوان: (المسرح السوري منذ الاستقلال وحتى عام 2020). واحتل الصفحات 15- 273 من العدد السابع عشر لمجلة (قلمون) وتضمن أحد عشر بحثًا، وشهادتين، وُزِّع على محورين جاءا بالعنوانين الآتيين: (من بناء المؤسسات إلى تعطيلها بالأدلجة) و(من تخطي الأيديولوجيا إلى أنطولوجيا الذات الحرة). وذلك إضافة إلى مقدمة البحث التي كتبها رئيس تحرير المجلة الدكتور يوسف سلامة.
في قراءتي هذه سأعتمد الأسلوب الآتي: أولًا استعراض مضامين الأبحاث، ليس بالضرورة وفق ترتيبها في الملف وإنما وفق ما تقتضيه منهجية الدراسة. ثانيًا ملاحظاتي النقدية على ما تضمنته من مشكلات منهجية، وأخطاء مفاهيمية، وغموض في التعبير، وتناقض في القول، وأخطاء في اللغة. لكن ما لن أقوم به هو مساءلة قراءات العروض المسرحية التي جرى تناولها في هذا الملف، فيما إذا كانت هذه القراءات صحيحة أو دقيقة أو شابتها بعض الأخطاء. كوني لم أشاهد هذه العروض من قبل، ومن ثم لا يمكنني الحكم على قراءاتها. ومن هنا يأتي الاختلاف بين نقد النقد الأدبي ونقد النقد المسرحي، ففي حالة نقد النقد الأدبي، يمكنك العودة إلى النصوص الأدبية ما دامت متوفرة في كتب، بينما لا يمكنك العودة إلى العروض المسرحية ومشاهدتها ما دامت عروضًا معلقة في الهواء، بحسب وصف المسرحي البريطاني بيتر بروك، أي إنها، مع انتهاء العرض، لن تعود موجودة في عالم الواقع، إلا إذا أعيد تقديمها أمام الجمهور. مع أن وجود الإنترنت -وخصوصًا موقع يوتيوب- أتاح توفر بعض هذه العروض والعودة إليها ومشاهدتها والكتابة عنها، على الرغم من أن الكتابة عن عرض مسرحي مصور وموجود على الإنترنت ستفتقر إلى روح الكتابة الناجمة عن الحضور المباشر والمشاهدة الحية للعرض المسرحي.
المسرح والسلطة
من خلال قراءة الأبحاث، نجد أن واحدة من أهمّ الموضوعات؛ علاقة المسرح في سورية بالسلطة السياسية القائمة. كان التطرق إلى موضوعة كهذه قبل عام 2011 في سورية يعد نوعًا من التابوهات يخشى كثير من الباحثين الاقتراب منها، وشخصيًا لديّ تجربة في هذا الإطار، فعندما كنت في السنة الرابعة، في قسم النقد المسرحي في المعهد العالي للفنون المسرحية، أردت أن تكون رسالتي للتخرج بعنوان (الرقابة على المسرح في سورية) وعندما تقدمت بمشروع البحث، استدعاني عميد المعهد آنذاك الدكتور غسان المالح، وشرح لي كم هو خطِر البحث في هذا المجال. فاقتنعت بذلك وغيرت موضوع رسالة التخرج[2]. لكن الآن، وبفضل ثورة الكرامة والحرية التي جعلت المثقف السوري يتجاوز عقد الخوف من السلطة، أصبح من الممكن الشغل على هذا الموضوع. خصوصًا المثقف أو الباحث الذي يعيش خارج أسوار الوطن. وهذا الملف، والتجارب والعروض المسرحية التي يتناولها بالبحث والدراسة، مثال على ذلك.
تتجلى موضوعة المسرح والسلطة في معظم مواد الملف، أبحاثًا كانت أم دراسات أم شهادات. فالبحث المعنون (صورة السُّلطة في مسرحيات جمعيَّة المهندسين المتَّحدين) لحمدان العكلة يتناول تجربة فرقة (جمعية المهندسين المتحدين) المسرحية، ومخرجها همام حوت، وكيف وفّرت لها السلطة القائمة الدعم اللازم كله لانتشارها وتوسعها وكسب مزيد من المشاهدين في المحافظات السورية كافة، في المقابل كانت هذه الفرقة تسوق لإيديولوجيا السلطة على أوسع نطاق. ومن خلال هذه التجربة يمكننا التوصل إلى نتيجة مفادها أن المسرح يزدهر وينتشر ويحظى بجمهور واسع عندما يلقى الدعم من السلطة، حتى لو كان مضمونه دعائيًا وتافهًا. والدعم من السلطة لا بد أن يكون مشروطًا، وهذا الشرط يتمثل في استخدام السلطة هذا المسرح لتمرير أيديولوجيتها: “استخدمت السُّلطة مسرحيات فرقة المهندسين المتَّحدين لتمرِّر أيديولوجياتها عبر رموزٍ خفيَّةٍ تارةً وصريحةٍ تارةً أخرى، وعمدت إلى رفع شعارات القوميَّة والعروبة التي تداعب مشاعر الجماهير وتستقطبها”، (ص 100). وبالفعل، مررت هذه الفرقة أيديولوجيا السلطة ولمعت صورتها وحاولت شرعنتها على أحسن وجه. ومن ثم كانت هذه الفرقة مثال الفرقة المسرحية الخادمة للسلطة، حالها حال فرقة (مسرح الشوك) لدريد لحام من قبلها.
على الطرف النقيض من فرقة (المهندسين المتحدين) كانت المحاولات المسرحية التي قام بها عدد من الفنانين في السجون السورية خلال مدة اعتقالهم، على الرغم من محدودية هذه المحاولات نظرًا إلى كونها داخل السجون والمعتقلات. وهذا هو موضوع (شهادة حول المسرح في السجن – ولادة مسرح وموته) لبدر زكريا. ومن يقرأ هذا العنوان يظن على الفور أن هناك إمكانية لإقامة مسرح في السجون السورية، لكن الحال على النقيض تمامًا، وهذا ما يلخصه كاتب الشهادة قائلًا: “من الصعب على المرء أن يتخيّل أن صناعة مسرح في السجن (السوري) أمر عادي أو بسيط أو ممكن؛ لقد تمّ كل شيء في الخفاء عن عيون السجّان الذي كان يسكن في عقولنا في أثناء إعداد كل تفاصيل القصّة من النص إلى الديكور والملابس والإضاءة والماكياج والكواليس، وتقسيم (المهجع- المسرح) إلى منصّة وصالة. كل شيء يجب أن يكون معدًّا بدقة وذكاء بحيث يمكن إخفاؤه أو تدويره إلى شيء لا يثير شكوك السجّان، وإلا كانت العواقب وخيمة، إذ علينا حينئذ أن نستعدَّ لأيامٍ لا تنتهي من عذاب الزنزانات، في كل يوم ثلاث حفلات دولاب” (ص 110). في هذه الظروف الاستثنائية، استطاع بدر زكريا، بمساعدة عدد من رفاقه وزملائه المساجين، إعداد ستة عروض مسرحية وإخراجها وتقديمها خلال ثلاث سنوات (1988-1990)، منها (اللجنة) عن رواية صنع الله إبراهيم، و(موت فوضوي صدفة) لداريو فو، و(البيت الذي شيده سويفت) و(انسوا هيروسترات) لغريغوري غورين، إضافة إلى محاولة لإخراج نص (الباب) من تأليف أحد زملائه المعتقلين وهو محمد إبراهيم.
تثبت هذه الشهادة لبدر زكريا أن الإنسان يمكن أن يصنع المعجزات إذا ما تحلى بالإرادة والصبر، حتى لو كان موقوفًا عرفيًا أو معتقلًا داخل أحد السجون السورية. إنها ليست شهادة عن مسرح داخل السجن بقدر ما هي شهادة عن السجن السوري نفسه وعذاباته وأوجاعه وآلامه… شهادة أتت بقالب نص أدبي تأملي، حيث يتأمل كاتبه واحدة من أقسى التجارب وأمرّها التي يمكن للمرء أن يعيشها. نص أتى في قالب نص مسرحي، أو كأن الكاتب يصف عرضًا مسرحيًا تراجيديًا ليس من نسج خيال أي كاتب، وإنما عرضًا مسرحيًا شخصياته من لحم ودم، وأحداثه هي جزء من التراجيديا السورية، أو جزء من تاريخ القمع والاستبداد السوريين. عرض مسرحي جمع بين التراجيديا والكوميديا (تراجيكوميدي). التراجيديا التي تمثلت في وضع المعتقلين، والكوميديا التي تمثلت في طريقة محاكمتهم في محكمة أمن الدولة، وهي المحاكمة/ المهزلة التي انتهت بأحكام قضائية جائرة وظالمة، ليعاد المعتقلون من جديد إلى السجن بعدما كان الأمل يحدوهم بإطلاق سراحهم بعد سنوات طويلة من الاعتقال التعسفي.
خلال قراءة هذه الشهادة تشعر أن حزامًا من المرارة والقهر يبدأ بتطويقك والالتفاف حول جسدك بدءًا من الساقين صاعدًا مع كل سطر جديد أو فقرة جديدة بحلقة جديدة تطوق جسدك، وصولًا إلى عنقك ورأسك ليطبق عليك تمامًا، بحيث أنك مع نهاية القراءة تشعر بالاختناق قهرًا. ولا تجد أمامك في نهاية الأمر سوى أن تلعن هذه المرحلة التاريخية التي أتت بمثل هذه الأنظمة إلى سدة الحكم، لتتحكم بالبلاد والعباد وتحدد مصيرهما منذ أكثر من نصف قرن من الزمن وما تزال.
في السياق نفسه، يتناول البحث المعنون (آليات صناعة الهزل في المسرح السوري) لعمر بقبوق هذه العلاقة بين المسرح والسلطة، لكن هذه المرة عبر ما أسماه الباحث (صناعة الهزل) وتوظيف هذه (الصناعة) في خدمة هذه السلطة، يقول الباحث: “سنحاول البحث في تاريخ الكوميديا السورية، لنلمس المسار الذي سلكه المسرحيون في تطوير آليات صناعة الهزل، ونرسم تشكيل متخيلات السلطة ضمن المسرح الهزلي في سورية، لرصد العلاقة بين السيادة السياسية وأدواتها الرقابية، وأثرها في التعبير الفني وأشكال الأداء المسرحي، آخذين في الحسبان طبيعة الهزل في سورية، وخصائصه العقيمة غير الموّلدة، وكيف (أباحت) السلطة ظهوره، لرسم قرين هزلي عن سطوتها” (ص 69). وهو يدرس هذه الظاهرة منذ بداية المسرح السوري في منتصف القرن التاسع عشر على يد (أحمد أبو خليل القباني) وحتى اليوم، مرورًا بتجارب دريد لحام وهمام حوت.
المسرح في أثناء الثورة وما بعدها
يتناول البحث المعنون (ملامح الخطاب السياسي في بعض عروض المسرح القومي في دمشق من 2012 وحتى 2020) لعلي سفر العروض المسرحية التي قدمت على مسارح دمشق في المدة المذكورة، أي بعيد انطلاق ثورة الكرامة والحرية. ويتوخى الإجابة عن عدد من الأسئلة مثل: هل أغمض صناع هذه العروض المسرحية “عيونهم عما يجري؟ أم حاولوا الالتفاف عليه، وهل ذهب بعضهم إلى الوضوح في التعبير عن موقفه؟” (ص 131). على الرغم من أن الجواب عن مثل هذين السؤالين بدهي بالنسبة لكل من خاض معترك الواقع الثقافي والسياسي السوري، أو حتى لمن يراقبه عن بعد، سواء قبل الثورة أم في أثنائها. لكنه بحث يقرأ هذه العروض المسرحية ويلقي عليها الضوء لمن لم يشاهدها، ومن هنا أهميته. وذلك إضافة إلى الأهمية التي يعطيها له الباحث بالقول إنه “يقارب منطقة لم ينظر الباحثون المسرحيون السوريون فيها من قبل” (ص 131). أما العروض المسرحية التي يتناولها البحث فهي الأربعة الآتية: (ستاتيكو) فكرة شادي دويعر، تأليف وإخراج جمال شقير. (بلاد ما فيها موت) تأليف وإخراج وتمثيل كفاح الخوص. (ثلاث حكايات) إخراج أيمن زيدان عن ثلاثة نصوص للكاتب الأرجنتيني أوزفالد دراغون. و(هوى غربي) إخراج غسان مسعود عن نص مسرحي لابنته لوتس مسعود اقتبسته عن مسرحية (بستان الكرز) لتشيخوف. خلاصة البحث هي أن هذه العروض التي قدمت في دمشق لم تتطرق إلى واقع المجتمع السوري وعلاقته بالنظام الحاكم، وكانت منفصلة عن الأحداث الجارية في سورية، وغابت عنها آليات تطوير العمل المسرحي (ص 147).
(أنواع التلقي في المسرح السوري المعاصر منذ عام 2011) عنوان بحث كتبه علاء رشيدي، ويدرس “أنواع التلقي في المسرح السوري المعاصر انطلاقًا من 2011. يتناول عددًا من العروض المسرحية التي تتنوع فيها أشكال العلاقة بين العرض المسرحي والجمهور” (ص 152). كذلك “يحاول البحث تحديد الخصائص المميزة لأنواع التلقي المطروحة في العروض المسرحية السورية بناءً على المفهومات الأساس لعملية القراءة، والتفاعل، والتلقي” (ص 153). وفيه يتناول الباحث عددًا من العروض المسرحية التي قدمت في بيروت، بينما قدم أحدها في برلين. وهي: (الآن هنا) عن نص مسرحية (بينغو) للكاتب الإنكليزي (إدوارد بوند)، اقتباس وإخراج: عمر الجباعي. (كل الأسماء) من إخراج علاء الدين العالم (دراماتورجيا هشام حمدان). (الحدائق تحكي) إخراج اللبنانية تانيا الخوري، و(تأليف جماعي في ما يبدو). (رجاء عيدوا وراي) تأليف وإخراج زياد عدوان، وهو العرض الذي قدم في برلين. (دوشكا) تأليف وإخراج عمر الجباعي. و(خيال كورديلو) تأليف وإخراج عمر بقبوق، وهو عن الممثل السوري زكي كوريلو وارث مسرح خيال الظل الذي اعتقله النظام السوري مع ابنه مهيار عام 2012 وما زال مصيره مجهولًا حتى الآن.
خلاصة البحث وفق كاتبه أن المسرح السوري لجأ “إلى تجريب أساليب جديدة في بناء العلاقة بين العرض المسرحي والمتلقي، واستكشافها، وابتكارها”(ص 174)، وذلك عبر عدد من التقنيات التي يذكرها الباحث.
تضمن الملف بحثًا بعنوان: (الجماليات السياسيّة لفن الأداء ضمن الاحتجاجات العلنيّة في سورية: الفخ، الوقفة الصامتة، Happening) لعمار مأمون. ما يلفت الانتباه من اللحظة الأولى لقراءة العنوان تضمنه كلمة بالإنكليزية وبالأحرف اللاتينية! مع أنه يمكن ترجمتها إلى العربية بأشكال مختلفة ومعروفة، مثل: الحدث، الحادثة، الواقعة… لكن بما أننا في سياق بحث مسرحي فإن كلمة Happening تشير إلى نوع من المسرح، أو نوع من (فنون الأداء) بهذا الاسم، أي (مسرح الحدث) أو (مسرح الواقعة) ابتكره الرسام الأميركي ألان كابرو في أواخر خمسينيات القرن الماضي.
يتناول هذا البحث “ثلاثة أشكال من الاحتجاج (الفخ، الوقفة الصامتة، Happening) التي شهدتها مدينة دمشق بداية الثورة في سورية، في محاولة لتحديد خصوصيتها الجماليّة وعلاقتها مع فن الأداء performance art والنظرية الأدائيّة performative theory، وشكل الهيمنة فيها” (ص 177). ومن أهداف البحث: “رصد العلاقة بين الأداء اليوميّ وأداء الاحتجاج والحدود الدقيقة بينهما” و”الإضاءة على الأساليب التي يمكن عبرها توظيف فن الأداء والاحتجاج السلميّ في سبيل فضح تقنيات الهيمنة التي تمارسها السلطة” (ص 179).
المسرح السوري في المهجر
يعنى البحث المعنون (مسرح الشهادات السوري بعد 2011 – إعادة التحكم بالسردية) الذي كتبه وائل سالم خوري بنوع من المسرح الوثائقي هو (مسرح الشهادات) وهي التسمية التي أطلقتها الباحثة والمؤرخة المسرحية جنوب الأفريقية لورين كروغر على نوع من هذا المسرح الذي يعتمد على قصص وشهادات للممثلين والممثلات أنفسهم حول مسألة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا (ص 243). يأخذ كاتب البحث هذا المفهوم ويطبقه على عدد من العروض المسرحية التي أنتجها وأخرجها وعرضها فنانون سوريون في أوروبا وكان موضوعها شهاداتهم عن ثورة الكرامة والحرية في سورية وما تلاها من حرب ودمار وتهجير ونزوح للسوريين عن ديارهم ولجوئهم إلى أوروبا وغيرها من بقاع العالم. يتناول الباحث مجموعة من العروض هي: (نساء طروادة) و(أنتيغون شاتيلا) و(إيفجينيا) لعمر أبو سعدة ومحمد العطار. و(بروفة لا تنتهي) لأمل عمران. و(ما عم اتذكر) و(تحت شمس واطئة) لوائل علي. و(إكس عدرا) و(واي صيدنايا) لرمزي شقير.
يتناول البحث المعنون (مسرحية )عودة دانتون) – المسرح السوري يفتح كواليسه في أوروبا) لعلاء الدين العالم عرضًا مسرحيًا بالعنوان نفسه (عودة دانتون) اقتُبس عن مسرحية الكاتب الألماني جورج بوشنر، وعُرضَ في (مسرح على الرور) (Theater an der Ruhr) في مدينة (مولهايم أن دير رور) الألمانية، ولم يقدم أمام جمهور حي، وإنما قُدِّم عبر شبكة الإنترنت. العرض من تأليف مضر الحجي وإخراج عمر العريان. ويتناوله الباحث في سياقات مختلفة، كعرض مسرحي سوري في ألمانيا ضمن سياق المسرح السوري في المهجر الأوروبي. ملقيًا الضوء على ظروف الإنتاج المسرحي السوري في ألمانيا خصوصًا والقارة الأوروبية عمومًا. والموضوعات التي يتناولها هذا الإنتاج، هي تلك التي يفضلها الممول الأوروبي، وبذلك نحن هنا أمام فوارق عدة بين الإنتاج المسرحي السوري في الداخل السوري والإنتاج المسرحي السوري في أوروبا.
نساء في المسرح السوري
يعنى البحث المعنون (صانعات المسرح السوريات – سؤال عن حضورهن في الإخراج المسرحي) لـهِبة محرز بـ “حضور المخرجات السوريات في العملية المسرحية في سورية” (ص 227)، محاولًا الإجابة عن عدد من الأسئلة مثل: “كيف تشكل حضور صانعات المسرح السوريات بوصفهن مخرجات ضمن العملية المسرحية السورية؟ وكيف أثرت الأدوار الجندرية في هذا الحضور؟…” (ص 227). أهمية البحث أنه يعود بموضوعه إلى بدايات المسرح السوري باحثًا عن دور المرأة فيه، سواء كانت ممثلة أم مخرجة. وهو موضوع قلما بُحث فيه.
المعهد المسرحي – شهادة على شهادة
شارك الممثل السوري جمال سليمان في هذا الملف بـ (شهادة حول المعهد العالي للفنون المسرحية)، وتأتي أهمية هذه الشهادة من أن الممثل جمال سليمان أحد خريجي هذا المعهد وأحد أساتذته لاحقًا، وعايش تجاربه كافة. ومن خلال الفقرة الأولى وحدها نتعرف إلى دقة التعبير لدى هذا الممثل الموهوب، وهو يضعك أمام حقيقة لا جدال فيها، وهي أن “التمثيل لا يمكن تعلمه، ولا أحد يستطيع تعليم أحد فن التمثيل، لكن الأستاذ الناجح والمنهج الفعال هما اللذان يساعدان شخصًا ما على اكتشاف الممثل في داخله، وهي رحلة لا في اكتساب المعارف فقط، بل في معرفة الذات واستخدامها جسديًا ونفسيًا وحسيًا وعاطفيًا في صناعة السحر أمام المشاهد” (ص 47).
يستعرض جمال سليمان تجربة تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية، وكيف تأخر هذا التأسيس عن نظيره في مصر ما يقارب أربعين عامًا وحتى عن نظيره في الكويت أربعة أعوام. وهو ما يعكس إهمال السلطة الحاكمة في سورية للمسرح وتعليمه ونقل تجاربه والاستفادة منها.
في معرض حديثه عن (نقص التخصصات) و(الملاك التدريسي والإيفاد) في المعهد يثبت سليمان بصورة غير مباشرة كيف أدى ما يمكن تسميته بمبدأ “الولاء لا الكفاءة” -الذي ابتكرته السلطة الحاكمة واعتمدته بوصفه إحدى أدوات السيطرة على الشعب السوري- إلى نتائج كارثية على المعهد وعلى الحركة المسرحية عمومًا في سورية. مثلما أدى إلى نتائج كارثية في بقية مفاصل الدولة والمجتمع السوريين. فالطلبة الذين أوفِدوا للدراسة خارج القطر، ولم يكن لدى معظمهم شيء من الموهبة، بل امتلكوا هم وذووهم كثيرًا من الولاء للنظام الحاكم، قد عادوا إلى الوطن بخفي حنين، ومن ثم لم تستفد منهم لا الحركة المسرحية السورية، ولا معهد المسرح بشيء، بل كانوا عالة على هذه الحركة، موظفين في مديرية المسارح والموسيقى، ينتظرون نهاية الشهر ليستلموا رواتبهم من دون تقديم أي شيء مقابل ذلك.
ومن المعروف أنه لا يمكن لأي طالب أن يحصل على بعثة دراسية إلا إذا كان منتسبًا إلى حزب البعث الحاكم، حتى لو كان حاصلًا على العلامات التامة في الشهادة الثانوية، أو في الجامعة. بالمقابل لو كان المبدأ المعتمد في اختيار الموفدين هو (الكفاءة) لكانت سورية قد حصلت على كوادر علمية وفنية كفيلة بالقيام بنهضة مسرحية، بل بنهضة شاملة لو أردنا التعميم.
في حديثه عن قسم النقد في المعهد المسرحي طرح جمال سليمان مسألة لطالما واجهناها منذ تأسيس هذا القسم ودخولنا إليه، فبوصفي أحد طلاب الدفعة الأولى لهذا القسم كنا دائمًا نواجه السؤال الآتي الذي ينطوي على مفارقة، ولا نملك جوابًا شافيًا عنه: ما دامت لا توجد حركة مسرحية نشطة في سورية، ماذا ستفعلون بعد تخرجكم من القسم؟ وبالفعل، فكما يقول جمال سليمان، من بين بضعة عروض مسرحية تقدم في دمشق في الموسم المسرحي، لا يجد المرء منها ما يستحق الكتابة عنه سوى القليل، أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، فماذا نفعل إذًا، يقول جمال سليمان عن حالة خريجي القسم -وأنا واحد منهم- وهذا ما حدث معي بالفعل: “فلا نقابة الصحافيين تعترف بهم بوصفهم صحافيين، ولا نقابة الفنانين تعترف بهم بوصفهم فنانين، ولا يعترف بهم اتحاد الكتاب بصفتهم كتابًا نقديين، ولا تستفيد منهم وزارة التربية في عملية التعليم، ولا سيما أن الدراما أصبحت منذ سبعينيات القرن الماضي مادة رئيسة في مناهج التعليم في الدول المتقدمة” (ص 61). وهنا فليسمح لي القارئ بالحديث قليلًا عن تجربتي في هذا الشأن. فشخصيًا وجدت ملاذًا تمثل في توسيع دائرة الكتابة لتشمل إضافة إلى المسرح، السينما والرواية، ثم اتجهت إلى الترجمة عن الإنكليزية. أما بقية زملائي، فكلٌ وجد ملاذًا خاصًا به بعيدًا من الكتابة عن المسرح.
المفارقة الأكثر من ذلك أننا في السنة الرابعة فقط حتى عرفنا أن أحد أهداف تأسيس قسم النقد المسرحي هو خلق كتاب مسرحيين! قالها لنا أستاذنا المرحوم الدكتور نديم معلا محمد، ولم يقلها لنا أحد قبله! في حين كان يجب إخبارنا بذلك منذ دخولنا إلى هذا القسم، بغية توجيه أنفسنا في هذا الاتجاه ما دام المنهاج، وكذلك الأساتذة، لم يوجهونا إليه ولم يعلمونا إياه. فطوال أربع سنوات لم يطلب منا أي أستاذ أن نقوم بمحاولة كتابة ولو مشهد مسرحي واحد؛ على الرغم من وجود مادة بعنوان (الكتابة المسرحية)، والأمر يعكس الارتباك والحيرة في التعامل مع منهاج هذا القسم والهدف منه. وبالفعل كما يقول جمال سليمان، وهذا ما كنا نقوله دائمًا، كان الأَولى بمن أسس قسم النقد المسرحي أن يفكر أولًا، وقبل ذلك، بتأسيس قسم للإخراج المسرحي، كي ينشط خريجوه الحركة المسرحية السورية ورفدها بدماء جديدة. وبعد ذلك يأتي التفكير بتأسيس قسم للنقد المسرحي.
يلفت جمال سليمان الانتباه إلى أسباب تراجع أداء المعهد، بعد أن حظي بسمعة جيدة من جراء الكوادر التمثيلية المتميزة التي تخرجت فيه ونالت شهرة واسعة في أرجاء الوطن العربي. تمثل هذا العامل في البناء الجديد للمعهد. فبعد أن جرى الانتهاء من هذا البناء بعد روائح الفساد التي فاحت من القائمين على المشروع، تم الانتقال إليه، وبدأ الصراع بين عميد المعهد العالي للفنون المسرحية وعميد المعهد العالي للموسيقى، على من سيتولى المسؤولية عن المبنى، انتهى بتخلي عميد المعهد العالي للفنون المسرحية الدكتور غسان المالح عن منصبه ليتولى المسؤولية عن المعهدين الأستاذ صلحي الوادي الذي كان يتولى إلى جانب ذلك رئاسة مؤسستين موسيقيتين، ليصبح وقته موزعًا بين أربعة مناصب، ومن هنا بدأ التراجع في وضع المعهد. أما العامل الثاني فكان التغيير الذي حصل في وزارة الثقافة، حيث أعفيت الدكتورة نجاح العطار من منصبها لتتولى بعدها الدكتورة مها قنوت مهمات الوزارة. وإذا كانت الدكتورة العطار لم تسمح لأي تدخل من أي جهة حكومية أو أمنية سواء لتعيين شخص ما في منصب ما، أم لقبول أي طالب في المعهد، كانت قنوت خاضعة لأوامر ضباط الأمن ولو كانوا من الدرجة الثالثة في موقع المسؤولية، ومن ثم قُبل طلاب لم يتمتعوا بأدنى موهبة تمثيلية. وكانت النتائج أن تخرّج هؤلاء ليصبحوا عالة على الوسط الفني. كما تولى المسؤولية في المعهد من لم يكن مؤهلًا لها، و”بعضهم عوض نقص إمكاناته بخدماته مخبرًا عند هذا الجهاز أو ذاك. وهكذا تدريجيًا غادر المعهد عدد من كبار الأساتذة، وتناوب على عمادته عدد من الأسماء غير المناسبة، وبدأ مستواه يتهاوى تدريجيًا، ومما أسمع أنه بات في وضع آخر غير الذي عشناه”) ص 65). يعكس هذا القول/ الشهادة لجمال سليمان هنا، مدى تغوّل أجهزة المخابرات في أجهزة الدولة والآثار الكارثية التي تركها هذا التغول في قطاعات الدولة والمجتمع.
متابعة للبحث في مسألة المعهد العالي للفنون المسرحية نجد البحث المعنون (تعاون الموسيقي مع المسرحي في المسرح السوري) لعلي موره لي يعنى بالعلاقة بين المسرح والموسيقى التي تجسدت عمليًا في إنشاء مبنى واحد لتدريس هذين المجالين هو (المعهد العالي للموسيقى والفنون المسرحية) وكيف أثرت هذه العلاقة (التوءمة) إيجابيًا في التطور الموسيقي في سورية وخصوصًا التأليف الموسيقي للمسلسلات التلفزيونية.
تضمن الملف دراسة عن مهرجان دمشق للفنون المسرحية بعنوان (مدونة مهرجانات دمشق للفنون المسرحية – قراءة في الوثائق) لعبد الناصر حسو. وهي استعراض لتاريخ هذا المهرجان منذ دورته الأولى عام 1969 وحتى تاريخ كتابة الدراسة. حول مخاضات التأسيس والأهداف التي أراد تحقيقها المؤسسون من خلاله وأولها توسيع دائرة جمهور المسرح ومحاولة تأسيس هوية عربية للمسرح. يخلص الكاتب في النهاية إلى القول إن المهرجان انحرف “عن هدفه وتحول مساره إلى شيء آخر غير المسرح بعد عودته في 2004، إلى ترسيخ السلطة السياسية خلف واجهة منظمات شعبية تقدم الولاء” (ص 45).
مسائل منهجية ومفهوماتية ولغوية
كما أسلفت في المقدمة فقد شابت معظم الأبحاث أخطاء كثيرة متعلقة بمنهجية بعضها، وفي استخدام المفهومات والمصطلحات، إلى جانب الأخطاء اللغوية. وكذلك مسألة ترتيب الأبحاث نفسها وتبويبها في الملف.
1– مسائل منهجية:
من المتعارف عليه أن مقدمة أي بحث أو دراسة يجب أن تتضمن نقاطًا عدة لا بد منها لتزويد القارئ ببعض المعلومات عن هذا البحث الذي هو بصدد قراءته، أولها (إشكالية البحث) أي طرح الإشكالية التي سيعالجها هذا البحث، أو هذه الدراسة، عبر مجموعة من النقاط التفصيلية. وثانيًا (منهجية البحث)، أي ما هو المنهج الذي سيعتمده الباحث في بحثه. وثالثًا (أهداف البحث) أي ما هي الأهداف أو الغايات التي يريد الباحث الوصول إليها من خلال بحثه. ورابعًا (أهمية البحث) أي ما هي أهميته ضمن سياق الأبحاث التي تعالج الموضوع نفسه، وما هي الإضافة التي سيضيفها، أو يرمي البحث إلى إضافتها إلى موضوع البحث ومجاله العام. لكننا نجد بعض الأبحاث غير معنية بهذه المسائل.
في البحث المعنون (ملامح الخطاب السياسي في بعض عروض المسرح القومي في دمشق من 2012 وحتى 2020) نجد الفقرات المُدرجة تحت عنوانين فرعيين هما (مشكلة البحث) و(أسئلة البحث) يمكن تلخيصها ووضعها تحت عنوان واحد هو: (إشكالية البحث) التي هي نفسها (أسئلة البحث) أو (سؤال البحث) الذي يحاول الباحث الإجابة عنه في نهاية بحثه.
ضمن المسائل المنهجية تأتي أيضًا مسألة توثيق المصادر والمراجع التي اعتمدها البحث أو الدراسة. من ضمنها الحديث عن كتاب ما بوصفه طبعة أولى، مع أنه غير ذلك، مثال على هذا ما جاء في توثيق الأعمال الكاملة لسعد الله ونوس. حيث نجد في الصفحة 148 أن كاتب البحث يوثقها على النحو الآتي:
“ونوس. سعد الله، الأعمال الكاملة، ط 1، (بيروت: دار الآداب، 2004)”.
وحقيقة الأمر أن الطبعة الأولى (ط 1) لأعمال سعد الله ونوس الكاملة صدرت في دمشق عن دار الأهالي عام 1996. وليس في بيروت عن دار الآداب عام 2004.
مع العلم أنه من الناحية التوثيقية لا يجوز الإشارة إلى رقم طبعة الكتاب إذا كانت هي الطبعة الأولى، وإنما يشار إلى رقم الطبعة فقط إذا كانت ما بعد الطبعة الأولى؛ أي فقط إذا كانت الثانية أو الثالثة أو الرابعة، إلخ. وهذا الخطأ نجده يتكرر في عدد من الأبحاث التي تضمنها الملف.
2– خلط في المفهومات والمصطلحات:
في خاتمة البحث المعنون (صورة السُّلطة في مسرحيات جمعيَّة المهندسين المتَّحدين) يقول الباحث: “ولم يكن هذا المسرح يسعى إلى التَّطهير البريختي الذي يستفزُّ العقل ويحفزه من أجل التغيير والثورة على الواقع”. في الحقيقة لا يوجد مفهوم يسمى (التطهير البريختي) فمهوم التطهير في المسرح، أي “كاثارثز” باللغة اليونانية القديمة، هو مفهوم أرسطي، أي أحد مفهومات المسرح الأرسطي الذي ظل سائدًا حتى ظهور بريخت ومسرحه الملحمي الذي أتى ردًا على المفهوم الأرسطي للمسرح، ومحاولة لإيجاد بديل منه. نعم كان هدف بريخت من المسرح إحداث تغيير في المجتمع، لكن من خلال تقنية أخرى في الكتابة والإخراج المسرحي وتسمى (التغريب) أو (الإبعاد). تتلخص بجعل ما هو مألوف لدى المشاهد في عالم الواقع غير مألوف لديه، في محاولة لفهمه، أو تعميق الوعي به كمقدمة لتغييره. كان المسرح الأرسطي يماهي بين الممثل والشخصية التي يتماهى معهما المتفرج بدوره، وصولًا إلى تحقيق (التطهير). بينما أتى بريخت وطالب بترك مسافة نقدية بين الممثل والشخصية، وكذلك بين العرض المسرحي والمتفرج. أي بدل تحقيق التماهي أو (الإيهام) طالب بتحقيق (التغريب) أو (الإبعاد) و (كسر الإيهام) في محاولة لجعل المشاهد يقظًا وواعيًا ومدركًا وفاهمًا لما يدور أمامه من أجل تغييره، من هنا سمي مسرحه أيضًا بـ(مسرح التغيير). وفي تعليق ساخر على المسرح الأرسطي الذي يهدف إلى إيهام المتفرج وإدماجه في العرض المسرحي قال بريخت ما معناه: يمكننا توزيع الخمر على المشاهدين فيدخلون في حالة من السكر فيندمجون بما يدور أمامهم على خشبة المسرح ويصدقونه، وبالتالي لا داعي لبذل كل هذا الجهد في الكتابة والإخراج من أجل إيهام المشاهد.
يستخدم بعض الباحثين مصطلح (الخطاب) وعادة ما يكون في مجال معين مثل: (الخطاب السياسي) أو (الخطاب النقدي) أو (الخطاب المسرحي)، وما إلى ذلك. شخصيًا أعتقد أن مصطلح Discourse الذي يترجمه المترجمون العرب معظمهم بكلمة (خطاب) ويتبعهم الباحثون والدارسون في استخدام هذه الترجمة، أخذ أكبر من حجمه كثيرًا في معظم الأبحاث والدراسات الأدبية والنقدية العربية المعاصرة. بحيث لا تجد ناقدًا أو باحثًا أو دارسًا لم يستخدمه في كل ما يكتب. إنها (الموضة) بكل ما للكلمة من معنى. شخصيًا أقرأ الأبحاث والدراسات والمقالات النقدية بالإنكليزية وأترجم منها، ومؤخرًا أقرأ بالألمانية، ولا أجد هذا الاستخدام الكثيف للمصطلح في هاتين اللغتين كما هو الحال عليه في العربية! كما أن معنى كلمة (خطاب) هو معنى غامض وملتبس. بل لا يحيل على أي معنى عند القارئ العادي على سبيل المثال، اللهم إلا إلى معنى الخطاب الذي يلقيه رئيس دولة ما، من ثم لا يؤدي المعنى المطلوب منه في السياقات المذكورة أعلاه. فيدفع هذا القارئ إلى التوقف عن القراءة، ما دام لا يفهم ما يقرأ، وبذلك فإن هذا الغموض والالتباس في المصطلحات والمفهومات يُفاقم عزوف القراء عن القراءة، أو على الأقل عن قراءة هذا النوع من الكتابة.
ما زلت أفضل ترجمة مفردة Discourse بكلمة (قول) أو (كلام)، على الرغم من أن المترجمين والباحثين العرب معظمهم يستخدمون كلمة (خطاب) كما أسلفت. ومنهم من ترجمها بكلمة (إنشاء) مثل الدكتور كمال أبو ديب في ترجمته لكتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد. تدعمني في رأيي هذا، على سبيل المثال لا الحصر، الباحثة والمترجمة فاطمة الجيوشي، في ترجمتها لكتاب الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (القول الفلسفي للحداثة) (دمشق: وزارة الثقافة، 1995) (بالإنكليزية: The Philosophical Discourse of Modernity، وبالألمانية: Der philosophische Diskurs der Moderne) مع أن المترجمة فاطمة الجيوشي ترجمت هذا الكتاب عن الفرنسية. وهو ببساطة كتاب ألفه هابرماس عما قاله، أو تكلم به الفلاسفة، من هيغل إلى فوكو، عن الحداثة. وليجرب القارئ الكريم استبدال مفردة (قول) أو (كلام) بمفردة (خطاب) في كل مكان ترد فيه سواء في هذا الملف، موضوع الدراسة، أم في أي دراسة أدبية أم نقدية تستخدم هذا المصطلح، ليجد بنفسه كيف سيتضح المعنى ويزول الالتباس وينجلي الغموض عما يقرأ. إن ما حدث مع ترجمة هذه المفردة (Discourse) كمقابل لكلمة (خطاب) هو أن أول من ترجمها إلى العربية ترجمها على هذا النحو، تبعه مترجمون آخرون، ثم دارسون وباحثون ونقاد، من دون أن يخضع أي من هؤلاء هذه الترجمة إلى التدقيق أو إعادة النظر. ومن هؤلاء المترجمين والدارسين والباحثين اثنتين من أساتذتنا في المعهد العالي للفنون المسرحي، أقصد الدكتورة ماري الياس والدكتورة حنان قصاب حسن في كتابهما (قاموس المسرح)، حيث وقعتا في الخطأ نفسه، عندما لم تعيدا مراجعة ترجمة هذه المفردة أو التدقيق وإعادة النظر فيها، ومن ثم وُرث هذا الخطأ للطلاب والأجيال اللاحقة من النقاد والدارسين.
إن من يريد التعمق أكثر في معنى المفردة والمصطلح فليبحث عن معنى كلمة Discourse واستخداماتها الكثيرة في القواميس مثل قاموس (ميريام ويبستر) (Merriam Webster) على سبيل المثال لا الحصر. ولو يتسع المجال لكنت أوردت هنا كل ما جاء في هذا القاموس، وربما في غيره، عن هذا المصطلح وهذه المفردة ليتبين القارئ المعنى الحقيقي لهما، واستخداماتها/ته في سياقات متعددة.
في البحث المعنون (أنواع التلقي في المسرح السوري المعاصر منذ عام 2011) نجد عبارة (التجهيز المسرحي) تأتي ضمن هذا السياق: “هذا الأثر الذي تتحدث عنه الفقرة السابقة هو تجربة حسية-ذهنية يقترحها التجهيز المسرحي الذي قدّمه المخرج عمر الجباعي للجمهور تحت عنوان…” (ص 155). من يقرأ عبارة (التجهيز المسرحي) ربما يظن أنه هو نفسه (الديكور المسرحي) أو ربما كان مصطلحًا جديدًا دخل إلى عالم المسرح ولم نسمع به بعد. ومن يبحث عنه في الإنترنت لن يجد له أثرًا، لكن سياق العبارة يدل على أن المقصود هو (العرض المسرحي) والله أعلم.
يستخدم مؤلف البحث المعنون (الجماليات السياسيّة لفن الأداء ضمن الاحتجاجات العلنيّة في سورية) مصطلح (الحياة الصرفة) كترجمة بديلة لمصطلح (Bare life) للفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين، لتوصيف حالة المواطن السوري المعتقل في أحد الفروع الأمنية. كما هو الحال في الفقرة التالية: “سنحاول رسم ملامح سياسات الفناء في سورية، وخصوصيتها في ظلّ حكم شمولي دكتاتوري يراهن على إنتاج الحياة الصرفة داخل فرع الأمن وخارجه” (ص 182). ربما كان على الباحث شرح المصطلح أكثر، فالمقصود، بحسب كتاب أغامبين (الإنسان المستباح والحياة العارية)، هو أن يصبح الإنسان مستباحًا داخل معسكر الاعتقال، وفي الحالة السورية داخل الفروع الأمنية.
في البحث نفسه وفي السطر الأخير من الصفحة 194 نقرأ ما يأتي: “وهنا تظهر ملامح من المسرح الخفي”. وعندما نقرأ الحاشية حيث مصدر الاقتباس نقرأ:”Augusto Boal, Theatre of the Oppressed, P122″ تعني كلمة Oppressed المظلوم أو المقهور أو المضطهد. ومن ثم فإن ترجمة Theatre of the Oppressed إلى العربية هي (مسرح المظلومين) أو (مسرح المقهورين) أو (مسرح المضطهدين) الذي أسسه المسرحي البرازيلي أوغستو بوال.
نصادف في عدد من أبحاث هذا الملف مصطلح (دراماتورجيا) (Dramaturgy). ويستند معظم الباحثين هنا في تعريف المصطلح إلى معجمين، هما (معجم المسرح) لباتريس بافيس. و(المعجم المسرحي: مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض) لماري الياس وحنان قصاب حسن. مع ذلك يبقى هذا المصطلح غامضًا أو غائم المعنى. كما هو الحال مع التعريف الآتي من (معجم المسرح) الذي يقتبسه كاتب البحث المعنون (مسرحية (عودة دانتون) المسرح السوري يفتح كواليسه في أوروبا): الدراماتورجيا “هي التقنية أو الشعرية للفن الدرامي التي تعمل لإقامة مبادئ بناء على العمل، إما بشكل استنباطي استقرائي عبر أمثال محسوسة واقعية، وإما عبر نظام من المبادئ المجردة” (ص 264). لن أخوض كثيرًا في شرح المصطلح، لأن مثل هذا الشرح يطول جدًا، وإنما سأعتمد فقط على مصدرين يعرّفانه بطريقة مبسطة هما قاموس أوكسفورد وموسوعة ويكيبيديا. يعرّف قاموس أوكسفورد الدراماتورجيا على النحو الآتي: (نظرية التأليف الدرامي وممارسته). بينما تعرّف موسوعة ويكيبيديا المصطلح على النحو الآتي: (دراسة التأليف الدرامي وما تمثله العناصر الرئيسية للدراما على خشبة المسرح)[3].
3– غموض والتباس:
يطال الالتباس في بعض الأحيان المراجع التي يستند إليها الكاتب، فمثلًا يستند كاتب دراسة (مدونة مهرجانات دمشق للفنون المسرحية – قراءة في الوثائق) إلى كتاب له بعنوان (الحركة المسرحية في التسعينيات). فالعنوان لا يوضح أي حركة مسرحية؛ هل هي الحركة المسرحية في العالم؟ أم الحركة المسرحية في الوطن العربي؟ أم الحركة المسرحية في سورية؟ أم الحركة المسرحية في دمشق، أم في إحدى المحافظات السورية؟ ولا يحدد المرحلة الزمنية بدقة، فهل التسعينيات هي تسعينيات القرن العشرين؟ أم تسعينيات أحد القرون السابقة (التاسع عشر أو الثامن عشر، مثلًا؟) والمفارقة أن الكتاب صادر عن (الهيئة العامة السورية للكتاب) التابعة لوزارة الثقافة السورية التي كانت معروفة بمعاييرها الصارمة في إصدار الكتب، وحرصها على أن تكون خالية من الأخطاء بأنواعها جميعها؛ المعرفية واللغوية وغيرها.
في البحث المعنون: (أنواع التلقي في المسرح السوري المعاصر منذ عام 2011) نقرأ ما يأتي: (وأنا أنقل هنا حرفيًا بالأخطاء والأقواس التي ليست في محلها): “مع أعوام الثمانينيات من القرن الماضي تحول اهتمام (هانز ياوس) في كتبه (نحو نظرية جمالية للتلقي، 1982) ومقالته (التجربة الجمالية والهرمونطيقا الأدبية، 1982)، محاولًا إعادة تقييم اللذة الجمالية التي اشتملت على التلقي بوصفه واحدًا من أنماطها.” (ص 158). تنطوي هذه الفقرة على مجموعة من الأخطاء: أولًا: نجد كلمة (الهرمونطيقا). والصحيح هو (الهرمنيوطيقا) التي تعني ببساطة (التأويل)، من دون الخوض في تفاصيل المصطلح. ثانيًا: ما يقول عنه الكاتب إنه مقالة لهانز ياوس هو في الحقيقة كتاب للألماني هانز روبرت ياوس يتألف من 877 صفحة في طبعته الرابعة الصادرة عن دار سوركامب عام 1991 وعنوانه بالألمانية: Ästhetische Erfahrung und literarische Hermeneutik وليس مقالة. ثالثًا: هناك غموض في معنى هذه الفقرة، يتعلق بجملة “تحول اهتمام هانز ياوس” بماذا كان مهتمًا؟ وإلى أي مجال تحول اهتمامه؟ لا نعرف، لأن الفقرة غير مكتملة، ومن ثم غير واضحة.
في البحث نفسه، وفي الحاشية رقم 30 التي تتحدث عن العرض المسرحي (حدائق تحكي)، نجد العبارات الآتية: “بعد نقاش ارتأت لجنة تحكيم ملف المسرح في مجلة قلمون الاحتفاظ بالعرض بين العروض المدروسة في العرض” (ص 162). والالتباس والغموض هنا متعلقان بجملة “الاحتفاظ بالعرض بين العروض المدروسة في العرض” ماذا تعني؟ الله أعلم.
4– أخطاء في اللغة وخلط في الأسماء:
من اللافت للانتباه هذا الكم الكبير من الأخطاء اللغوية لتي انطوت عليها البحوث والدراسات التي تضمنها ملف العدد، بحيث لا تكاد تخلو صفحة في الملف من خطأ أو أكثر. وهنا لن نتوقف عند الأخطاء الطباعية لأن القارئ الحصيف سيكتشفها ويصححها بنفسه تلقائيًا في أثناء القراءة، وسأكتفي بالوقوف عند بعض الأخطاء اللغوية التي لا يمكن تجاهلها، وأقول بعض الأخطاء، لأن الوقوف عند الأخطاء جميعها وتصحيحها سيزيد من حجم هذه الدراسة كثيرًا.
في الصفحة 158 من البحث المعنون: (أنواع التلقي في المسرح السوري المعاصر منذ عام 2011) نجد اسم المسرحي الألماني (بِرتولت بريشت) (Bertolt Brecht) مكتوبًا على هذا النحو (بروتولد بريخت). بينما في البحث المعنون (مسرح الشهادات السوري بعد 2011) نجد كاتب البحث يكتبه على هذا النحو: (بريتولد بريشت) ص 243. والخطأ هنا ليس فقط في ما إذا كانت الكنية تكتب (بريشت) أو (بريخت) وإنما في الاسم الأول الذي يكتبه صاحب البحث الأول على هذا النحو: (بروتولد) وصاحب البحث الثاني على هذا النحو: (بريتولد) بينما الصحيح هو (بِرتولت). من المعروف في اللغة العربية أن هناك من يكتب (بريشت) وهذا صحيح، وهناك من يكتب (بريخت) وهذا خطأ. وهذه مسألة تحدثت عنها في كتابي (المراجع المسرحية العربية والمعربة) (1992). ويمكن للقارئ الكريم العودة إلى هذا الكتاب، كي لا أكرر هنا ما قلته آنذاك.
في البحث نفسه (ص 160) نقرأ ما يأتي: “يكتب (إبراهيم وطفة) المترجم الأبرز لأعمال كافكا إلى العربية”. والحقيقة أن اسم أهم من ترجم كافكا إلى العربية هو (إبراهيم وطفي) أي إن الحرف الأخير من الكنية هو الياء وليس التاء المربوطة. كما أن كاتب البحث لا يوثق اقتباسه هذا، من أي كتاب من كتب إبراهيم وطفي أخذه؟ ثم إنه يبدأ الاقتباس بقوسين هلاليين على هذا النحو: (( ، ولا نجده يضع قوسين عند نهاية الاقتباس. ومن ثم لا يعرف القارئ أين ينتهي هذا الاقتباس.
في البحث نفسه (أنواع التلقي في المسرح السوري المعاصر) وفي الصفحة 166، نقرأ ما يأتي: “يكتب (بن ذهنية بن نكاح) في بحثه المعنون (الجمهور وطبيعة التلقي في المسرح): ((يركز…)). وعندما نذهب إلى الحاشية حيث توثيق هذا المرجع، نقرأ ما يلي: “(40) بن ذهيبة بن نكاع، الجمهور وطبيعة التلقي المسرحي…”. إذا ما هو اسم صاحب هذا المرجع؟ هل هو (بن ذهنية بن نكاح) أم (بن ذهيبة بن نكاع؟” وما هو عنوان بحثه؟ هل هو (الجمهور وطبيعة التلقي في المسرح) أم (الجمهور وطبيعة التلقي المسرحي؟).
وفي الصفحة التالية، من البحث (ص 167)، نقرأ ما يأتي: “والآن، يجري النزاع بين الأحزاب في أوروبا حول قضايا تتعلق بالهجرة واللجوء الإرهاب وهي تدخل في الإيديولوجيات الأساسية للأحزاب، وهذا كله يجعل من الآخر-أي السوري، هي القضية الأساسية للأحزاب بالأوروبية”. وكما يلاحظ القارئ تتضمن هذه الفقرة المؤلفة من سطرين ونصف فقط أربعة أخطاء! الأول في الكلمتين (اللجوء الإرهاب) فهل الخطأ هنا يمكن في غياب حرف العطف (الواو) بين كلمتي (اللجوء) و(الإرهاب) أم ماذا؟ أما الخطأ الثاني فيكمن في عبارة “وهذا كله يجعل من الآخر-أي السوري، هي القضية الأساسية للأحزاب بالأوروبية”، فلماذا استخدام الضمير (هي) في هذه العبارة؟ وإذا كان يريد استخدام الضمير بدلًا من كلمة (الآخر) فالصحيح أن يكون (هو) وليس (هي) أما الخطأ الثالث، وكما يلاحظ القارئ فهو في عبارة (للأحزاب بالأوروبية)، والصحيح طبعًا هو: للأحزاب الأوروبية. أما الخطأ الرابع فهو خطأ مفهوماتي، عندما يقول: “وهذا كله يجعل من الآخر – أي السوري”، والحقيقة أن الآخر بالنسبة إلى الأوروبي، أو إلى أي شعب من الشعوب، هو أي شخص أجنبي سواء كان (السوري) أو (المصري) أو أي شعب من شعوب العالم، وليس (السوري) وحده.
في البحث المعنون (الجماليات السياسيّة لفن الأداء ضمن الاحتجاجات العلنيّة في سورية) نقرأ ما يأتي: “وبحسب هافال فاكلاف المواطنون أنفسهم ينتجون هذه الطاعة ويراقبونها ضمن ما يسميّه (الشمولية الذاتية الاجتماعيّة)، إذ ((لا يريد الأفراد أن يتم استثناؤهم، والدخول في العزلة، والابتعاد عن المجتمع، فانتهاك قواعد اللعبة قد يعني المخاطرة بفقدان السلام والهدون والأمان))” (ص 187). هنا سأترك جانبًا الأخطاء المتعلقة بنوع الأقواس المستخدمة، وكذلك المتعلقة بجملة (فقدان السلام والهدون والأمان)، حيث سينتبه القارئ مباشرة ويعرف أن كلمة (هدون) مقصود بها (هدوء). وسأتوقف عند عبارة (وبحسب هافال فاكلاف)، فعند النظر إلى حاشية الاقتباس، نجد أن المقصود هو “Václav Havel, The Power of the Powerless”؛ أي إن المقصود هو الرئيس التشيكي الأسبق فاتسلاف هافل الذي كان، قبل أن يصبح رئيسًا، كاتبًا مسرحيًا ومفكرًا اختارته (مجلة بروسبكت) كرابع مفكر من بين أفضل مئة مفكر في مستوى العالم. والكتاب الذي يقتبس منه كاتب البحث مترجم إلى العربية بعنوان (قوة المستضعفين). أما اسم الفنان الأميركي الذي ابتكر مفهوم (مسرح الحدث) (happening) أقصد (ألان كابرو) (Allan Kaprow) فمرة نجده يُكتب (كايرو) (ص 193) ومرة ثانية نجده يُكتب (كابروا) (ص 194)، ويبدو أن الألف هنا وضعها المحرر أو المصحح اللغوي، أو ربما الكاتب نفسه، في لحظة سهو أو نعاس معتقدًا أن أصل الكلمة هو فعل (كابَرَ) والواو هنا هي واو الجماعة، فوضع لها حرف الألف ليستقيم الإعراب.
انطوت مواد الملف معظمها على أخطاء تتعلق باستخدام الأقواس وعلامات التنصيص. ولا أجد ضرورة هنا للوقوف عندها، ما دام بوسع القارئ اكتشافها بنفسه.
مع ذلك، فإن هذه المشكلات والأخطاء لا تقلل من أهمية هذه الأبحاث وهذا الملف. فهي ستبقى شاهدًا على المسرح السوري وتوثيقًا له، سواء في الداخل أم في بلاد المهجر، وكل ما يرتبط به؛ سواء نجاحاته أم إشكالاته ومشكلاته وأزماته، وعلاقته بالسلطة السياسية خلال العقود الماضية.
[1]. تزفيتان تودوروف: نقد النقد. د.سامي سويدان (مترجمًا)، د.ليليان سويدان (مراجعة). ط2: بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1986. ص: 16.
[2]– لاحقًا، عدت إلى هذا الموضوع وطرحته في كتابي “في مهب الرقابة – العرض المسرحي في سورية بين عامي 1988 و1997، قراءات نقدية”. لندن: بالاشتراك مع كل من موقع أمازون وغوغل بوكس. 2019.
[3]INTRODUCTION TO… DRAMATURGY. على الرابط الآتي: https://bit.ly/3nFgTl4