لا يوجد نصّ قرآني يشير إلى موضوع نظام الحكم في الإسلام، ولا حديث نبوي صحيح في الموضوع كذلك، وهذا متفقٌ عليه عند المحققين والكتّاب في الفكر الإسلامي من كل الأطراف، حتى دعاة الإسلام السياسي أنفسهم، لكن هناك تأويلات لنصوص ذهبت باتجاه سلطوي، إذ توفي النبي الكريم ﷺ، وترك الأمر شورى في اختيار نظام الحكم وأسلوب السلطة، وهذا من عظمة الإسلام؛ لأن الإسلام دين دعوة لا دولة، ولأن أنظمة الحكم وإدارة السلطة أشكالها متبدلة ومتغيرة بحسب الزمان والمكان.
والثابت بالاتفاق، في هذا الشأن، أن الإسلام لا سلطة ثيوقراطية فيه، ولا يحق للحكام الادعاء بأنهم يستمدون شرعيتهم من الله، هذا من حيث الأصل لا الواقع. أما في الواقع، فقد أصبح عندنا رجال دين ومؤسسات دينية تمارس التنمر على من يخرج عن رأيها، وأما السلطات الحاكمة فكانت ترى نفسها أنها “قدَر الله”، فقد أورد ابن كثير في (البداية والنهاية) أنّ معاوية بن أبي سفيان، عندما أخذ البيعة لابنه يزيد بالقوة لتوريثه، قال: “إن أمر يزيد قضاء وقدر، وليس للعباد الخيرة من أمرهم”. وذكر الطبري في (تاريخ الأمم والملوك) أنّ أبا جعفر المنصور خطب بالحجّاج في عرفة قائلًا: “أيّها الناس: إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه، وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلًا، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وقسم أرزاقكم، فإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني، فارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم من فضله ما أعلمكم”. وبهذا تتجلى قوة سلطة التاريخ عند من يؤول الدين سلطويًا.
لكن الفكر الإسلامي المعاصر الذي يعمل من أجل دولة حديثة، المواطنة جوهرها، لا يرى ذلك، حيث يؤكد سعيد العشماوي في كتابه (أصول الشريعة) أن “نظام الحكم الإسلامي السديد هو نظام ينبع من واقع المجتمع، وإرادة أبنائه، والذي يأخذ بأرقى المبادئ في الحرية والعدل والمساواة”. فالسلطة فيه هي “حكومة تعبر عن الحقيقة الإنسانية، وتحترم إرادة الشعوب وكرامة الناس”.
هذا يعني أن السلطة الراشدة في أيّ بلد كان، ومنها البلاد ذات الأكثرية المسلمة، المواطن محورُها وغايتُها، والسهر على سعادته وأمانه وحريته وكرامته سياستُها، تحترم شعائر الآخرين، وتمنحهم حقوق المواطنة الكاملة، ولا تفرق بينهم سياسيًا أو اجتماعيًا، ولو غمطت حقّ أي مواطن فيها، أيًا كان انتماؤه الديني أو العرقي، فهي حكومة جائرة ظالمة، الإسلام براء منها.
سلطة التاريخ لا سلطة النص!
كلّ الادعاءات المعاصرة بأحقية السلطة إسلامويًا قامت على سلطة التاريخ لا على سلطة النص! فقد احتلت السلطةُ التاريخَ الذي وصلنا كله، حتى صارت الثقافة الإسلامية أسيرة لذلك التاريخ، ومن ثمّ حكم التاريخُ رؤيةَ العقل الإسلامي في هذا الباب، حتى قام مقام النص في موضوعة السلطة، ليشكل تاريخُ السلطةِ سلطةً للتاريخ علينا، وهذا ما جعل العقل أسيرًا للتاريخ، أي أسيرًا لشكل السلطة، يُقاس الإسلام في موضوعة السلطة على التاريخ لا على النص، وأصبح الإسلام السياسي يعاني استلابًا تاريخيًا، يتنمر على من يعارضه باسم التاريخ، لا النص.
لذلك لم يستطع أيٌ من منظري الإسلام السياسي أن يأتي بدليل قرآني أو نبويّ صحيح، على شكل الدولة ونظام الحكم في الإسلام، وأكثر منذ ذلك أن الخلافة التي يلهج بها هؤلاء لم تكن يومًا بشهادة الفقهاء من أصول الإسلام أو فروعه، ولكنهم ذهبوا إلى مبدأ المصالح المرسلة على قاعدة “ما لم يتم الواجب به فهو واجب”.
ما عُرف لاحقًا بالإسلام السياسي، بعد انهيار الخلافة، بدءًا من تَشَكُلِ جماعة “الإخوان المسلمين” في عشرينيات القرن الماضي، ثم انشقاق “تقي الدين النبهاني” وتشكيله “حزب التحرير” الذي قدّم نظريته في شكل الدولة الإسلامية في الخمسينيات، إلى النموذج السلفي الجهاديالذي أسسه (عبد الله عزام وأسامة بن لادن والظواهري) وعملوا بعد تأسيس تنظيم القاعدة على المزج بين النظرية القطبية والسلفية في السلطة، حتى جعلوا من “الجهاد” سبيلًا للوصول إلى الحكم. وما قدموه لأحقيتهم بالسلطة، هو سلطة التاريخ، وهذا ليس مبررًا ليكونوا بالسلطة.
“فالتاريخ شيء، والإسلام شيء آخر، فتاريخ المسلمين ليس دينًا، وعندما ننقد التاريخ، فنحن نبرأ الإسلام، وإذا تمسكنا بالتاريخ فنحن نتهم الإسلام، وهنا خط الافتراق بين من يتعبد بالتاريخ، ويتعبد بالإسلام”، كما يقول المفكر حسن بن فرحان المالكي.
فالقياس على الدولة الإسلامية، منذ الخلافة الراشدة فالأموية ثم العباسية حتى العثمانية، قياس تاريخي لا نصّي، لم يكن فيه نموذج ثابت لتلك الدول القائمة في التاريخ حتى يغدو مثالًا يُقاس عليه، فكل مرحلة كانت آليات الوصول إلى السلطة مختلفة عن سابقتها، طغى عليها فقهُ الغَلَبة، وتمت شرعنة سلطة أصحاب الشوكة! أي الانقلابات الدموية، وتلكم شرعنة فاسدة، وهي نقطة ضعف بائنة في الفقه السياسي، أسست الاستبداد.
وهذا من الأسباب التي دفعت المفكر الإسلامي محمد عمارة، المدافع عن نظرية السلطة في الإسلام السياسي، إلى الاعتراف به، حتى قال في كتابه (الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية) منتقدًا الاستبداد في الحكم الأموي وما بعده، كما انتقد نظرية الحق الإلهي عند الشيعة: “نحن -بقليل من التأمل- أمام شكل قديم من أشكال الفاشية الحديثة، وتأليه لفرد يزعم البعض أن له من القدرات والصفات ما لا يشاركه فيه فرد آخر، بل ولا تشاركه فيه الأمة كلها مجتمعة، والنتيجة هي احتقار الجماهير، وهذا الاحتقار هو المقدمة لاغتيال مصالحها لحساب من تخدمهم وتخدم مصالحهم هذه النظريات، والوسيلة النظرية إلى ذلك هي الزعم بأن السلطة ليست مدنية حتى تتولاها الأمة، وإنما هي دينية تستأثر بها السماء التي أنابت عنها حاكمًا، حسابه أمامها وليس أمام البشر المحكومين”!.
من سلطة التاريخ إلى سلطة التدين
ينطلق الإسلام السياسي، في أحقيته بقيادة الدولة والمجتمع، من منطلقٍ يبدو للوهلة الأولى محقًا، ولكنه لو أعملنا عقولنا فيه، فسيتهافت سريعًا، يتمثل بأن المجتمع في شرقنا البائس مجتمع جلُّه متديّن، لينطلق من نظرية أن المجتمع المتدين يحتاج إلى نخبة متدينة تقوده، لديها شريعة قادت هذا المجتمع طوال قرون عديدة حتى سقط أنموذج الخلافة، وهو ينطلق من سلطة التاريخ التي جعل منها حقًا دينيًا، إلى سلطة تدين المجتمع لأحقيته بالسلطة.
لكنّ سلطة التدين ذاتها مشكلةٌ لا حلّ! فإذا سلّمنا بأن المجتمع جلّه متدين، فبأي إسلام نحكم، وإلى أي إسلام نحتكم؟ وتلك مسألة معقدة وليست سطحية كما يُظن، وعليها تترتب فتاوى تكفير، وهدر دماء، وأحكام بالردة والزندقة، لأننا اليوم أمام إسلامات لا إسلام واحد، فرقاؤها يتصارعون على الإسلام، لا من أجله! فهل نُحْكم بالإسلام السلفي القائم على تكفير الأشعرية والماتريدية والجعفرية؟ ويرى بأن أفكارهم تمتلئ بالشرك والوثنية! أم يقودنا الإسلام الأشعري المتصارع منذ ألف سنة مع التيار السلفي؟ أم الشيعة الجعفرية التي ترى في أهل السُنة نواصبَ، وعدوها الأول! أم الإسلام التنويري المتهم بأنواع شتى من التهم والعمالة والردّة؟ ثم، هل السلطة تكون بالغلبة والقهر، كما هو رأي الحنبلية؟ أم تكون بالديمقراطية التي ترفضها التيارات الراديكالية، وتعتبرها شركًا؟ أم بالشورى مستحيلة التحقق بين الإخوة الأعداء إسلامويًا؟ لنصل إلى السؤال المختلف عليه: من يمثّل الإسلام اليوم؟ ومن تُعْقَد له راية السلطة فيه؟!
الخلاصة:
إنّ أحقية الإسلام السياسي، في ما يقدمه من مشروعية لوجوده في السلطة، قائمة على سلطة التاريخ لا على سلطة النص.