المحتويات
ثانيًا: اتفاق إدلب هل كان تراجعًا تكتيكيًا من الروس؟
ثالثًا: حول مصير التفاهمات الروسية – الإسرائيلية
رابعًا: ارتباك في الدبلوماسية الروسية
في الثلاثين من أيلول/ سبتمبر الفائت، طوى التدخل العسكري الروسي عامه الثالث، ودخل في عامه الرابع دون أن تتضح نهاية مُرضية للقادة الروس لهذا الصراع الذي انخرطوا فيه. لقد دمر الروس مدنًا، وقتلوا وهجّروا، وأوقفوا النظام على قدميه بعد أن كان يترنح وعلى وشك السقوط ربيع العام 2015، وأنهى القصف الروسي الكثيف بمساعدة الميليشيات الإيرانية وبقايا الجيش السوري وميليشياته قوى المعارضة المسلحة أو كادوا بعد أن كانت هذه المعارضة تُسيطر على أغلبية الجغرافيا السورية، لكن كل هذا الإنجاز العسكري الذي حققه الروس باستخدامهم القوة المفرطة، مازال معلقًا كونهم ما زالوا عاجزين حتى الآن عن تحويل هذا الإنجاز العسكري إلى إنجاز سياسي، وهذا يعود إلى سببين رئيسين، أولهما؛ ممانعة الدول المتدخلة الأخرى واختلاف أهدافها ومصالحها، وصعوبة، إن لم يكن استحالة، أن تحصل توافقات بين هذه الأهداف المتناقضة لتلك الدول، وثانيهما؛ أن الروس لم يُفلحوا في تأمين قاعدة اجتماعية تطمئنّ لهم وتتقبل رؤيتهم إلى الحل السياسي أو بعضها، الحل الذي حاولوا فرضه كأمر واقع نتيجة تبنيهم الكلي لرؤية النظام وموقفه من الثورة ووصمها بالإرهاب، ولأن أغلب السوريين ينظرون إلى الروس كقوة احتلال غاشمة، لا تُجيد إلا التدمير والقتل، وتفتقد في بلادها إلى نموذج يُحتذى، قوة لم تأخذ أيًا من مطالب الشعب السوري الذي خرج من أجل الحرية والكرامة في الحسبان، واعتبرت كل من يُعارض الأسد بالكلمة أو بغيرها إرهابيًا يجب اجتثاثه.
لم يحقق التدخل الروسي في عامه الرابع لبوتين ما كان يطمح إليه، سواء أكان تدخله بغاية إعادة روسيا إلى المسرح الدولي كما يُروّج الإعلام الروسي، وفرض وجودها على الغرب كقوة عالمية من جديد، ومساومته حول الملفات الخلافية العديدة العالقة بينها وبينه، أو أنه استُدرج للتدخل بغية توريطه في مستقنع سيكون الخروج منه صعبًا ومكلفًا، وهذا الاحتمال ليس مستبعدًا، ذلك أنه لم تكن لروسيا تلك المصالح الكبيرة في سورية، التي تُبرّر الكلفة السياسية والأخلاقية التي ستطاردها لزمن طويل على خلفية الجرائم التي ارتكبتها بحق السوريين، ولم يرد الغرب التورط بها مباشرة لكنه لم يُمانعها، ولعل تصريح معاون رئيس الوزراء الإسرائيلي في عقب التدخل الروسي بأن “الشراكة الروسية مع إيران وحزب الله لإنقاذ الأسد ليست بالضرورة سيئة بالنسبة إلى إسرائيل”، مؤشرًا على طريقة تفكير الإدارة الأميركية وحلفائها آنذاك حيال الصراع الدائر في سورية، وبعد ثلاث سنوات يمكن الاستدلال على آلية التفكير هذه بما صرّح به مؤخرًا جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي بقوله إن روسيا “غارقة في سورية، وعلى الولايات المتحدة استغلال هذا الوضع وفرض شروطها على روسيا”.
كثيرةُ هي المؤشرات التي لم تعد خافيه، بأن “غلّة البيدر” الروسي في سورية تتضاءل يومًا بعد يوم، وأن الطموح الروسي بتسويق الحل الذي تريده يواجه ممانعة قوية من الغرب ومن بعض الدول الإقليمية، وليس بمقدورها تجاهل هذه الممانعة، بحيث بات ممكنًا القول: إن الموقف الروسي دخل المنعرج الصعب وسيكون التقدم فيه خطرًا، والتراجع عنه مُكلفًا، ومن غير المعروف ما الخيار الذي سيتبعه بوتين، أو أنه سيجبر على ولوجه.
ما إن انتهى الروس -بمباركة أميركية إسرائيلية أردنية- من السيطرة على درعا، التي كانت تُشكّل منطقة خفض التصعيد الرئيسة باتفاق تلك الأطراف عبر فبركة المصالحات المحلية، وإخراج من لم يوافق عليها من الفصائل إلى إدلب، حتى بدأ النظام والميليشيات الإيرانية والروس التحشيد والتحضير لاجتياح إدلب وإنهاء المعارضة المسلحة في آخر معاقلها، وارتفعت وتيرة التهديد والوعيد الروسي في محاولة لدفع تلك المعارضة لعقد مصالحات مع النظام على غرار ما حصل في مناطق أخرى من أجل تجنيب أكثر من ثلاثة ملايين مدني مصيرًا مشابهًا لما واجهوه من قصف روسي مدمر في حلب الشرقية نهاية العام 2016.
في الجنوب كان واضحًا أن المصلحة القومية لأمن “إسرائيل” المرعية أميركيًا وروسيًا، تقدمت على التزامات مجموعة دول الموك، التي كانت تدعم فصائل المعارضة في الجنوب، وسلّمت مصيرها إلى الروس والنظام، لكن في إدلب يبدو أن الوضع كان مختلفًا بدرجة نوعية، وأن حسابات الروس عند هذا المنعطف، لم تتطابق مع معطيات الواقع؛ فإدلب مهمة في حسابات الأمن القومي التركي، لأن خسارة تركيا لإدلب يعني استجلاب إيران إلى حدودها، وتسهيل عودة الأكراد إلى عفرين وربما التمدّد غربها، وخسارتها لقوى المعارضة التي ترعاها وتعتمد عليها في تثبيت نفوذها في المناطق التي تُسيطر عليها، ولعل الأهم هو سيل اللاجئين الذي سيعبر حدودها، ليضيفوا إليها أعباءً جديدة وتوترات إضافية مع الأوروبيين، لذلك كان الموقف التركي المعارض لأي حرب على إدلب صلبًا، ولم تفتح أي بابٍ للمساومة على عكس ما حصل في حلب الشرقية.
عقدت الدول الثلاث الضامنة لاتفاق أستانا لمناطق خفض التصعيد قمةً لها في طهران يوم السابع من أيلول/ سبتمبر الماضي، ولم تفض تلك القمة إلى أي اتفاق حول مصير إدلب، وبدا واضحًا تضارب سياسات الدول الثلاث وحساباتها. إن فشل القمة تلك ترافق مع ضغط أوروبي وأميركي كثيف على الروس، مشفوعًا بتهديدات بضربة عسكرية لقوات النظام إذا استخدم أسلحة كيماوية، وذلك بغاية تجنب الكارثة الإنسانية المتوقعة فيما لو تابع الروس وحلفاؤهم مغامرتهم العسكرية شبه الأخيرة هناك، ولم يكن عرضيًا ما صرح به ترامب بعد توقيع اتفاق سوتشي بأن الولايات المتحدة “استطاعت بالتعاون مع حلفائها تجنيب إدلب كارثة إنسانية فظيعة”.
إضافة إلى ذلك، أدّت عوامل أخرى دورًا في حرف مسار السياسة الروسية بعد قمة طهران، منها أن روسيا ليس في مصلحتها أن تُغامر بتفاهماتها مع تركيا، وهي التي ما برحت تعمل على جذب الأتراك نحوها، كما أنها تتعرض لضغوط أميركية – إسرائيلية للمساعدة في إخراج إيران وميليشياتها من سورية، وليس من الحكمة تمكينها من أوراق إضافية تُعزّز وجودها، وقبل هذا وذاك فإن الحرب على إدلب ستكون مُكلفة، فهناك عشرات الآلاف من مقاتلي المعارضة، ليس أمامهم من بدائل سوى القتال حتى النهاية، وهم مدعومون من تركيا، فكان الخيار الروسي بالدعوة إلى عقد قمة مع الرئيس التركي في سوتشي الروسية في 17 أيلول/ سبتمبر الماضي، ووقعت اتفاق سوتشي الذي أوقف الحرب على إدلب، ويقضي بإنشاء منطقة منزوعة السلاح الثقيل والمتوسط تمتد على طول خطوط التماس بين قوات المعارضة وقوات النظام في منطقة التصعيد في إدلب وحولها بعرض من 15-20 كم، تحرسها دوريات مشتركة روسية وتركية، ثم تتكفل تركيا بفصل المعارضة المعتدلة عن تلك المتطرفة المتمثلة بـ (هيئة تحرير الشام) التي تضم إلى جانب (جبهة النصرة) (الحزب الإسلامي التركستاني) و(حراس الدين) وسواهما، وإيجاد حل لهذه التنظيمات، وترحيل غير السوريين منهم خارج المنطقة، وهذه مهمة صعبة سوف تسبب مشكلات لا يستهان بها لتركيا.
رحّبت الدول المعنية بالصراع بالاتفاق بما فيها إيران، وكذلك فعل النظام، ونفذت الفقرة الأولى منه بإخلاء المنطقة المنزوعة من السلاح، وسحبت فصائل الجيش الحر سلاحها الثقيل والمتوسط، أما (هيئة تحرير الشام) فقد سحبت سلاحها الثقيل، لكنها ترفض إخلاء هذه المنطقة بحسب ما ينص الاتفاق، في موقف لا يبدو بريئًا، وليس مستبعدًا أن تحاول تخريب الاتفاق ودفع تركيا إلى تنفيذ عملية عسكرية واسعة، أو أن تدفع (الجبهة الوطنية للتحرير) للقيام بهذه المهمة وتسعير حالة الاقتتال الداخلي، أو إعطاء المبرر للروس والنظام للتملص من الاتفاق بحجة محاربة التنظيمات الإرهابية، وقد تكون هذه فرصة ينتظرها الروس.
من غير المؤكد أن اتفاق سوتشي أنهى احتمال الحرب على إدلب بشكل نهائي، بل ربما أجلها إلى حين، ريثما تستجد أوضاع تسمح للروس والنظام بمعاودتها، لإخراج المعارضة السورية من معادلات الحل الذي تريده؛ لذلك واعتمادًا على معطيات التجربة الروسية في سورية، يرجح أن موافقة روسيا على اتفاق سوتشي كان إجراءً تكتيكيًا، اضطرت إليه تحت الضغوط المتعددة الأطراف والأوجه التي تعرضت لها، وعليه فالمتوقع منها أن تتربص لاستغلال أي ثغرة يمكن أن يتيحها التنفيذ التركي لتعهداته حيال الاتفاق، أو أي معطيات ملائمة قد تفرزها الوقائع على الأرض، وكذلك هو دأب إيران والنظام، لكن على الجانب الآخر تبين الإجراءات التركية على أنها تستعد للاحتمالات كافة بما فيها احتمال الحرب، فقد أدخلت قوات كبيرة من جنودها إلى محافظة إدلب بحجة تدعيم نقاط المراقبة الـ 16، التي تديرها في المنطقة وفقًا لاتفاقات أستانا وسوتشي، وحشدت قطعات عسكرية كاملة على حدود إدلب من جانبها، كما زودت المعارضة بأسلحة وذخائر للغاية نفسها، لكن مع هذا التحشيد بقصد الردع، يبقى احتمال العودة إلى الحرب قائمًا بحكم تعقيدات الوضع وتضارب الأجندات، ما دام الحل السياسي المتوافق عليه دوليًا ومحليًا ما زال بعيدًا.
حرصت “إسرائيل” على أن تحافظ على موقف المراقب لمجريات الصراع الدائر في سورية حتى العام 2016، وهي لم تعترض على التدخل الإيراني، ولا تدخل حزب الله وكذلك حيال التدخل الروسي. إنما بعد التدخل الروسي، قام نتنياهو بأربع زيارات إلى موسكو، وأُشيع عن إحراز تفاهم وتنسيق بين الروس و”إسرائيل”، يضمن حرية العمل أمام الطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية، وتجنب الاصطدام غير المقصود في الأجواء بين الطيران الروسي والإسرائيلي، وأن تمتنع روسيا عن اعتراض الطيران الإسرائيلي في أثناء تنفيذه مهمات في سورية ضد الأهداف الإيرانية، وقد نفّذت “إسرائيل” مئتي هجوم من الجو على أهداف إيرانية خلال السنتين الأخيرتين، وذلك بهدف منع إيران من تثبيت وجودها العسكري في سورية، خسرت خلالها طائرة واحدة من طراز (إف 16) في شهر آذار/ مارس 2017 بفعل الدفاعات الجوية السورية.
هذا الوضع المثالي والمريح لعمل الطيران الإسرائيلي بفضل “التفهم” الروسي لهواجس الأمن القومي الإسرائيلي حيال التواجد الإيراني وميليشياته على الأرض السورية، أصيب برضّة قوية في عقب إسقاط الدفاعات الجوية السورية يوم السابع عشر من أيلول/ سبتمبر الماضي بطريق الخطأ طائرة التجسس الروسية (إليوشن 20)، التي كانت تحلق في الأجواء قبالة السواحل السورية في أثناء تنفيذ الطيران الإسرائيلي لهجومٍ على مصنع لتصنيع الصواريخ يتبع لحزب الله في اللاذقية بالقرب من قاعدة حميميم الروسية، بحسب ما ادعت “إسرائيل”.
لقد كانت ردة فعل بوتين الأولي على إسقاط الطائرة هادئة وتبريرية، حيث عزى الحادثة إلى “سلسلة من المصادفات السيئة”، لكنه سرعان ما تراجع تحت ضغط الجنرالات الروس، الذين كانت ردّات فعلهم صاخبة، واعتبروا الحادث إهانة لهيبة روسيا العسكرية، ولم يقبلوا الاعتذار الضمني الذي أعلنته زيارة الوفد الإسرائيلي، الذي زار موسكو حاملًا ملف تحقيقات إسرائيلية توضح ملابسات إسقاط الطائرة. ليس أدل على درجة الغضب التي اجتاحت العسكريتاريا الروسية ما قاله شويغو وزير الدفاع الروسي “إن الطيارين الإسرائيليين إما أنهم يفتقرون إلى الاحترافية، أو أنهم عملوا بإهمال إجرامي”، كما تحدث بلهجة تهكمية لا تخلو من حنق واحتقار عن “الرؤوس الحامية في الجيش الإسرائيلي”، وقرروا تزويد سورية بصواريخ (s300) خلال أسبوعين ونفذوا وعدهم على الرغم من الاعتراض الإسرائيلي والأميركي، وتعزيز طيرانهم في حميميم، إضافة إلى معدات تشويش كهرومغناطيسية متطورة بغية التشويش على رادارات وطيران “إسرائيل” والولايات المتحدة وغيرهما من الدول الموجودة شرق المتوسط على خلفية الصراع الدائر في سورية، وأغلقوا الأجواء قبالة الساحل السوري بغية انتشال حطام الطائرة ومعداتها التجسسية المتطورة التي تناثرت في قاع البحر.
من جانبها، حمَلت “إسرائيل” مسؤولية إسقاط الطائرة للدفاعات الجوية السورية، وحاولت امتصاص الغضب الروسي، ريثما يبدده مرور الوقت، وأوعز نتياهو إلى وزرائه بتجنب أي تصريحات تخص قضية الطائرة، لكن مع ذلك تعمدت “إسرائيل” إعادة التأكيد على أنها ستواصل استهدافها للوجود الإيراني على الأراضي السورية، بل أضافت إليها الأراضي العراقية، وكان لافتًا السرد المطول، الذي أذاعه نتنياهو من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورة عقدها السنوية، حول أسلحة حزب الله التي يخزٍنها الحزب في مناطق سكنى المدنيين في بيروت وعلى أطراف مطار بيروت الدولي، ما فُهم منه على أنه رسالة إلى الروس، بأن لديه أهدافًا بديلة تطال الوجود الإيراني على الساحة اللبنانية، فيما لو واجه الطيران الإسرائيلي عقبات روسية في الأجواء السورية بعد نصب منصات الـ (s300).
أثيرت الكثير من الأسئلة التشكيكية، حول مدى عمق التفاهمات والتنسيق بين الروس و”إسرائيل”، فيما يتعلق بنشاط الطيران الإسرائيلي واستهدافاته للمواقع الإيرانية، وكأن هناك مبالغة فيما قيل حولها، والشيء ذاته حول ما قيل عن الربط بين الدفاعات الجوية السورية وقاعدة حميميم بصفتها قاعدة القيادة والسيطرة الرئيسة، ولم يمنع هذا الربط من وقوع الخطأ، ولماذا وُجدت طائرة الليوشن في الأجواء، ولم يتم إبعادها عن منطقة العمليات، ما دامت الغارة الإسرائيلية استغرقت 20 دقيقة، على افتراض صدق الرواية الروسية التي تقول إن “إسرائيل” قد أخطرتهم بالغارة قبل دقيقة واحدة، وضللتهم بخصوص موقع الهدف، وما دام الروس قادرين على استكشاف حركة الطيران الإسرائيلي أو غيره لحظة إقلاعه بفضل رادارات الـ (s400) المنصوبة حول حميميم.
هذه التساؤلات وغيرها تسحب التحليل إلى أبعد من ذلك، إلى البحث عن الطرف الذي أراد تغيير قواعد اللعبة عبر إسقاط هذه الطائرة، اللعبة التي كانت تضبط الصراع الدولي حتى وصوله إلى هذا المنعطف؛ فإسرائيل – على الرغم من يقينها بأن روسيا سوف تبلع هذه الإهانة بحكم حاجتها إلى “إسرائيل” كبوابة خلفية للاتصال بالجانب الأميركي، كلما اشتدت وتيرة الخلاف، إضافة إلى قوة اللوبي الإسرائيلي المحيط بالرئيس بوتين داخل الكرملين، عدا عن المصالح المشتركة بين الدولتين الظاهر منها والمخفي – كانت مرتاحة لهذا الحياد الروسي في صراعها مع إيران، ومن ثمّ فإنه من المنطقي ألا يكون من مصلحة “إسرائيل” تخريب التفاهمات القائمة، إلا إذا أرادت ممارسة مزيد من الضغوط على روسيا كي تفي بوعودها حول المساعدة في إخراج إيران وميليشياتها من سورية، ومنعها من التلكوء بهذا الخصوص، وإيصال رسالة مفادها أن إبعاد إيران مسافة مئة كيلومتر عن حدود “إسرائيل” غير كافية في نظر الإسرائيليين. وربما يتعلق الأمر كله بروسيا التي تتخبط في خياراتها، في وقت تضيق فيه أمامها تلك الخيارات بفعل الممانعة الغربية لاستعجالها الحل السياسي الذي تريد، وهناك من يلمح إلى أطراف أخرى دفعت نحو وقوع هذا الخطأ مثل إيران أو بعض مواليها في مواقع القرار داخل النظام السوري.
صحيح أن روسيا، بذريعة الغضب وردة الفعل، أدخلت إلى النظام السوري صواريخ (s300) المتعاقد عليها منذ العام 2010، وأخر تسليمها الاعتراض الإسرائيلي على الصفقة، إلا أن ما وردته روسيا فعليًا أربع بطاريات، وهي تعادل نصف كتيبة صواريخ، وليست أربع كتائب كما أشاع الإعلام الروسي، وأن إدارتها ستكون لضباط روس لفترة ثلاثة أشهر على الأقل بذريعة التدريب، وإذا صحت التسريبات التي أشيعت قبيل زيارة نتنياهو المرتقبة إلى موسكو بأن الروس وافقوا على عدم ربط رادارات هذه المنصات بقاعدة حميميم، ما سيخفف عبء الإحراج الروسي، فيما لو أقدمت “إسرائيل” على تدمير هذه المنصات بالصواريخ أو بواسطة الـ (إف 35) القادرة على تجاوز تقنية هذه الصواريخ؛ فإن توريد هذه الصواريخ يكتسي بعدًا إعلاميًا أكثر منه التزامًا روسيًا بالإخلال بموازين القوى القائمة أو التزامًا بالحد من حرية الطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية، وسوف يكون الاختبار الحقيقي لجدية الموقف الروسي وفاعليته، عند أول عملية استهداف إسرائيلية للمواقع الإيرانية بعد إسقاط الطائرة الأمر الذي لم يحصل حتى الآن.
من المعروف في تاريخ الصراعات أن يمارس إعلام الأطراف المتصارعة التضليل والكذب كأحد أساليب الحرب، وهذا مارسته روسيا بكثافة، تصل إلى حد الوقاحة في تناولها للصراع في سورية للتغطية على جرائمها وجرائم حلفائها، التي ارتكبت بحق المدنيين في أكثر من مدينة سورية، لكن المبحث هنا يذهب في اتجاه الدبلوماسية الروسية كدولة تسوق نفسها دولة كبرى، تبحث عن دور عالمي في حل النزاعات والحروب الجارية في أكثر من موقع في العالم، وكان يتوقع منها والحالة هذه، أن تكون أكثر رزانة وحنكة سياسية وخبرة، تجعل طريق الحلول أسهل وأكثر إقناعًا وانصافًا لأطراف الصراع، الأمر الذي تجنبته روسيا، ولم تظهر أدنى احترام لتعهداتها، سواء للأطراف الدولية المتدخلة، أو تجاه الأطراف الداخلية، السياسية منها أو العسكرية، خصوصًا تلك المناطق التي اندرجت في لعبة المصالحات المحلية التي عقدتها في أكثر من منطقة سورية، إذ سرعان ما عاد النظام إلى ممارساته الأمنية السابقة من اعتقال وتعذيب، وسحب أعضاء المصالحات إلى الخدمة العسكرية قبل انتهاء المهل التي حددتها لهم اتفاقات المصالحات، وزج بهم في جبهات القتال تحت نظر الروس ومباركتهم.
بعيدًا من التجهم وقسوة الملامح، التي يحرص وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف على إبدائها تجاه الأطراف الخارجية تدليلًا على الجدية والحزم، فإن مطبات الدبلوماسية الروسية لم تعد خافية على أحد، ذلك أن المناورات والألاعيب، لا تبني سياسة قادرة على فرض احترامها على الآخرين، ويصعب تحديد السبب الرئيس وراء هذا الارتباك، هل يعود إلى عيب في النهج الذي تعتمده الدبلوماسية الروسية؟ أم أنه يعود إلى الصراع المسكوت عنه الدائر بين وزارتي الدفاع والخارجية للاستئثار بموقع القرار أو التأثير فيه؟ أم أن سببه التدخل الانفعالي للرئيس بوتين الحريص على التأكيد بشكل دائم للداخل والخارج، على أنه رجل روسيا الأول وصاحب القرار فيها؟ وفي جميع الأحوال يمكن رصد ثلاث محطات قد تلقي بعض الضوء حول ما تعانيه الدبلوماسية الروسية.
أ – دور “الفهلوي” القادر على التوفيق بين المتناقضات
عندما تدخل الروس في أيلول/ سبتمبر 2015 بناءً على طلب إيران والنظام في ذروة التراجع الذي تعرض له جيش النظام وحلفاؤه من الميليشيات الإيرانية، وما كان لهذا التدخل أن يمر تحت نظر الدول المتدخلة وبخاصة الولايات المتحدة و”إسرائيل”، لو لم يكن لهذه الأطراف مصلحة في هزيمة قوى المعارضة المسلحة أو تحجيمها على الأقل، بما يتوافق مع استراتيجية الإدارة الأميركية في عهد أوباما، التي حددها بـ “لا حسم عسكري للصراع الدائر في سورية”، هذا إذا استُبعد احتمال الاستدراج الغربي لروسيا، وإدخالها في المستنقع السوري واستنزافها، لكن كان لإسرائيل موقف خاص في استثمار التدخل الروسي بدعوى حماية أمنها القومي وهي التي غضت الطرف عن تدخل إيران وحزب الله ما دامت حربهما تخدم مصلحة “إسرائيل” من دون أن يرتب عليها أي التزامات، لا بل إنها تفاهمت مع روسيا لضمان حرية طيرانها في الأجواء السورية، عندما يتحول الوجود الإيراني إلى خطر على أمنها، وقد بدأ الطيران الإسرائيلي عمله بشكل متقطع ضد شحنات الأسلحة المتوجه إلى حزب الله في لبنان، فهلوية بوتين هنا تمثلت بقناعته بأنه قادر على إدارة التناقضات المتنامية بين إيران و”إسرائيل”، واستسهل الموضوع، عندما لم تكن “إسرائيل” قد استنفذت الخدمة الإيرانية غير المباشرة، في حين أن إيران حاولت وما زالت تعمل على تثبيت وجودها على الأراضي السورية، وتتحمل نتائج الضربات الإسرائيلية التي زادت وتيرتها في العام الحالي، لكن إلى متى سيستمر هذا الوضع غير الطبيعي في العلاقات الدولية؟
الأمر ذاته مارسته روسيا بين تركيا وإيران، وساهمت بدخول تركيا إلى الأراضي السورية بعد أن كانت مكتفية بدعم المعارضة من الخارج، بعد أن سهل لها الأتراك السيطرة على حلب، فسكت الروس عن دخول القوات التركية جرابلس وإعزاز بعملية درع الفرات بذريعة منع الوجود الكردي في غرب الفرات، ثم اتبعتها بغصن الزيتون بموافقة روسية مقابل تسهيل سيطرة الروس على الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، وهكذا أصبحت تركيا إحدى الدول التي توجد لها قوات على الأراضي السورية، الأمر الذي جعلها في مواجهة مع الوجود الإيراني في أرياف حلب وإدلب وحماه الشمالي واللاذقية، وما زال بوتين يظن أنه قادر على إدارة التناقضات الإيرانية التركية التي بينت قمة طهران الأخيرة أن هذا النهج الروسي لم يعد نافعًا.
وإذا ما تذكرنا أن روسيا حاولت لعب الدور نفسه بين قوات (قسد) والنظام وافتتحت لهم ممثلية في موسكو، وداعبت طموحاتها بالفدرالية أو الحكم الذاتي، قبل أن تحسم (قسد) خياراتها بالتحالف مع الولايات المتحدة وليس مع الروس، فارتفعت وتيرة الاعتراض الروسي على الوجود الأميركي شرق الفرات وعدم شرعيته، وكان آخر تصريح للافروف بهذا الخصوص هو أن الأميركيين “يحاولون إقامة شبه دولة شرق الفرات”.
يبدو أن هذا الدور انتهى مع سقوط طائرة الـ (اليوشن 20)، وأن روسيا اقتنعت بأن هذا الدور كان فضفاضًا عليها ولم تجن منه شيئًا.
ب – مقايضة ملف اللاجئين بملف إعادة الإعمار
محور آخر عملت عليه الدبلوماسية الروسية، وكان أكثر سذاجة من سابقه، إذ حاولت في الأشهر الأخيرة إغراء الأوروبيين بتخليصهم من عبء قضية اللاجئين، إذا وافقوا على المشاركة في إعادة إعمار سورية التي تقدر كلفته بـ 400 مليار دولار، وادعت أنها جهزت تسعة مواقع لاستقبال اللاجئين، وإذا استثنينا عدم واقعية هذا الطرح، لأن اللاجئين لن يعودوا إلى قبضة النظام بهذه البساطة، مع التنويه بأن القوانين الدولية لا تسمح بإجبارهم على العودة، كما أن الغرب ليس جمعية خيرية ليساهم في إعادة إعمار بلد كان للروس الدور الأكبر في تهديمه قبل التوصل إلى حل سياسي قابل للحياة ويؤمن الاستقرار، وأن تقتضي مصالحهم الإسهام في مثل هذه العملية، هكذا يقول تاريخ الحروب، فليس هناك من عمليات إعمار ما لم تتوقف الحرب، وهذا شرط لازم لكنه غير كافٍ، وكان بديهيًا ما قاله وزير الخارجية الألماني “إننا لن نساهم في إعادة إعمار ما دمره الروس في سورية، كي يعودوا لتدميره مرة أخرى”، أما وزير الخارجية الأميركي جورج بومبيو فقد كان حاسمًا بهذا الخصوص عندما قال: “إننا لن نساهم بدولار واحد في إعادة إعمار سورية، قبل أن تنسحب إيران وميليشياتها من كامل الأراضي السورية، وقبل إنجاز حل سياسي وفقًا للقرار الدولي رقم 2254 لعام 2015”.
ج – المناورة الروسية ولجنة الدستور
في “المؤتمر الوطني السوري” الذي عقد في سوتشي في 11 شباط/ فبراير 2016، وبالتساوق مع مسار أستانا، ونظرًا إلى الفشل الذي اعتراه، والذي يعود إلى ملابسات كثيرة وممانعة غربية، وافقت روسيا على تأليف لجنة دستور تتألف من 45 عضوًا ثلثهم من النظام والثلث الثاني من المعارضة والثالث يختاره ديمستورا من المجتمع المدني. وبعد عشرين شهرًا، ومن دون أن يتمكن ديمستورا من الوصول إلى عتبة تشكيل اللجنة، تنقلب روسيا على موقفها السابق، وتشترط أن يكون للنظام ثلثا اللجنة ورئاستها في رد انفعالي على بيان مجموعة الـ 5+2 الذي طالب بالتزام القرار الدولي أعلاه، وبذلك تكون روسيا قد أعادت موضوع اللجنة إلى نقطة البدء، وهي التي عطلت السلال الثلاث الأخرى برضى ديمستورا أو بتواطئه، ما قد يضطره إلى الاستقالة أو عدم التمديد له، وهذه المناورات التي تقوم بها الدبلوماسية الروسية بتوهمها القدرة على إعادة تأهيل الأسد وتسويقه دوليًا، ستقلب الطاولة على إنجازاتها العسكرية، وربما على أهدافها كلها في سورية.
مع بداية العام الرابع للتدخل العسكري الروسي في سورية، يتضح أن الخط البياني للمصاعب التي تواجهها روسيا في تصاعد، وهي اليوم عاجزة تمامًا عن تحقيق حل سياسي للصراع الدائر، ليس فحسب لأن الدول الأخرى المتدخلة والقادرة على التأثير، لم تُسلم لها في التفرد بإنجاز هذا الحل، بل لضعف موقفها السياسي والأخلاقي بعد كل ما ارتكبته من جرائم حولتها في نظر أغلبية الشعب السوري إلى قوة احتلال، إلى جانب ضعف إمكاناتها الاقتصادية وإمكانات حليفتها إيران عن الإيفاء بمتطلبات إعادة الإعمار بمعزل عن مساعدة الغرب، ويضاف إلى ذلك أن كلفة تثبيت نظام على حطام دولة فوق طاقتها، وبما أن التصدي لأدوار دولية كبرى، لا يتأتى بالمناورات السياسية أو غطرسة القوة، فإن الوجود الروسي في سورية بات مأزقًا حقيقيًا، قد تكون كلفة الخروج منه ذات تداعيات استرايجية على الواقع الروسي، وبذلك يكون الغرب قد قطف ثمار الإنجازات العسكرية، التي حققتها روسيا على حساب دم السوريين وعمرانهم.
يمنح الحلّ، الذي ما زال بعيدًا في الأفق، الأمل للسوريين وينعش آمالهم، أو آمال من تبقّى منهم، لاستعادة كرامتهم وحريتهم، وقد خبروا كل المستبدين، قبل الثورة وبعدها، وأصبحوا أقرب إلى تقبُّل العيش خارج منظومات الاستبداد المتنوعة، العسكرية والمدنية والدينية.