يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية، جان دوست، الشاعر والقاص والروائي والمترجم السوري الكردي، وهو من مواليد 1965، في مدينة عين العرب بمحافظة حلب، غادر إلى ألمانيا عام 2000، وله روايات عدة باللغتين الكردية والعربية، وبحوث ودواوين شعر وترجمات عديدة، ويكتب بالعربية والكردية، ويترجم النصوص الكردية إلى العربية والعكس، وتؤكد أعماله أن الثقافتين تتحاوران لا تتناحران.
حصل ضيفنا على جائزة القصة الكردية القصيرة في سورية (1993)، وجائزة الشعر عن مهرجان الشعر الكردي في ألمانيا (2012)، وجائزة الكتاب الشرقي عن ترجمته لقصص في كتاب بعنوان “رماد النجوم” (2013)، وجائزة “دمشق للفكر والإبداع” التي أعلنتها مجلة “دمشق” الصادرة في لندن (2013)، وعلى جائزة “حسين عارف” خلال مهرجان “گلاويز” (2014). من رواياته باللغتين الكردية والعربية: “مدينة الضباب”، “ثلاث خطوات ومشنقة”، “ميرمانة”، “مارتين السعيد”، “عشيق المترجم”، “دم على المئذنة”، “نواقيس روما” وغيرها.
هنا نص حوارنا معه:
دعنا نسألك بداية، كيف كانت أجواء البدايات، ومن كان له دور أساسي في اختياراتك الأدبية كشاعر وناثر؟ ومن هم الأدباء الذين دفعوك نحو الشعر والرواية، ونحو الترجمة أيضًا؟
ولدتُ في بيت تتصادم فيه تيارات فكرية مختلفة. والدي كان رجل دين متزمتًا لا يقرأ سوى القرآن وتفاسيره وكتب الفقه والسيرة النبوية وعلوم اللغة العربية. أما أخواي الأكبر مني، فقد كان أحدهما يساريًا يقرض الشعر بالكردية مندفعًا منفتحًا على الحياة. والآخر، الأكبر، متدين باعتدال يكتب الشعر باللغة العربية وعن طريقه عرفت الشعر العربي، واطلعت على دواوين الشعراء القدامى والمعاصرين. كذلك اطلعت بفضله على أدب المهجر والنقد العربي المعاصر، وكتب طه حسين والعقاد وأحمد أمين وبعض الروايات الدينية مثل “عذراء جاكرتا” و”واإسلاماه” لعلي أحمد باكثير. كما اطلعت بفضله على كثير من روايات جرجي زيدان التاريخية المثيرة للجدل. وهكذا فقد نشأت بتأثير شقيقيّ اللذين كانت لهما ميول متخالفة، وكذلك بتأثير والدي الشيخ الذي حاول تنشئتي تنشئة دينية بحت وتهيئتي لأصبح رجل دين مثله. جدي، والد أبي أيضًا كان يقرض الشعر الصوفي بالكردية. جدي والد أمي كان عالم دين محبًا للتأليف والمطالعة، وله كتاب صغير في مشروعية التلقين ورسائل قصيرة وتعليقات على تفسير الباقلاني وكذلك سيرة ذاتية غير مطبوعة إلى الآن.
دور والدتي نصف الأمية (كانت تقرأ ولا تكتب) انحصر في سرد القصص القرآنية وقصة الإسراء والمعراج، وكذلك بعض القصص الشعبية بأسلوب جميل وباللغة الكردية مما وسع لدي آفاق المخيلة إلى درجة كبيرة. لقد كانت العائلة هي الينبوع الذي نهلت منه، والعشّ الذي احتضن مواهبي الشعرية التي ظهرت مبكرًا، في حدود العاشرة من العمر.
ما الحادثة التي ترى أنها شكّلت منعطفًا مفصليًا دعاك للخروج من سورية؟ ومتى كان ذلك؟ ومن قبل، هل شعرت يومًا ما بالخطر في الداخل السوري بسبب كتاباتك؟
ليست هناك حادثة معينة. لكن تراكمات العهد البعثي والنظام الشمولي الذي رزحنا تحت وطأته كل العمر الذي عشناه في سورية هي التي دفعتني دفعًا شديدًا إلى التفكير في النجاة من المزرعة الأسدية. وفي الحقيقة فإن غياب أي أفق للتغيير في سورية وإمعان النظام في امتهان المواطنين وازدياد الإشارات إلى أن النظام لن يستسلم ويتميز بصلابة شديدة تمنعه من التغيير وغير ذلك من الأمور دفعتني إلى خارج الرحم الذي أحببت أن أبقى مستمتعًا بدفئه إلى الأبد. لقد كثرت الإشارات والرسائل التي حرص النظام على إيصالها للجميع في أعوام التسعينيات، بأن التوريث قادم لا محالة. وهذا يعني استمرار الطغيان واستمرار الدكتاتورية التي دشنها حافظ الأسد، وهذه المرة على يد شاب لم يبلغ الأربعين بعد.
حين أعلن رسميًا نبأ وفاة حافظ الأسد في العاشر من حزيران سنة 2000، كنت أنا وزوجتي على وشك الهجرة إلى أوروبا. كنا ننتظر الفيزا من سفارة دولة أوروبية بعد أن اتخذنا قرارًا نهائيًا بالهجرة. زوجتي الموظفة في مالية حلب كانت تتعرض لضغوط كبيرة لكي تنتسب إلى حزب البعث. بالإضافة إلى ذلك، وبعد سلسلة من المضايقات من قبل المخابرات التابعة لأمن الدولة والأمن العسكري في مدينتي كوباني (عين العرب)، رأينا أن الحل الأمثل هو ترك البلاد.
لقد تم إيقافي ومصادرة مجموعتي الشعرية على حاجز قبل وصولي إلى المدينة. كما تم استدعائي مرات عديدة من قبل أمن الدولة بسبب كتابتي باللغة الكردية. ولم أكن استثناءً في هذا المجال، بل جميع من خاض مغامرة الولوج في الشأن الثقافي تعرض للمضايقات التي تحدثت عنها. ولم يكن الاضطهاد الثقافي حكرًا على الكرد فقط. بل كانت الثقافة في طول البلاد وعرضها خاضعة لمراقبة الدولة وأجهزتها الأمنية المتعددة. العمل الثقافي الحر كان يوازي النشاط السياسي، من حيث الخطورة والتعرض للمضايقات الأمنية. الأمسيات الشعرية الأدبية التي كنا نحييها في حلب في التسعينيات كانت في السر، وفي أجواء من الخوف والقلق.. طباعة الكتب كانت مغامرة كبيرة. لم تكن هناك تراخيص من قبل وزارة الثقافة والإعلام لأي كتاب باللغة الكردية أو حتى كتاب باللغة العربية يتناول موضوعات ثقافية كردية.
والد زوجتي اعتُقل بسبب حيازته أعدادًا من مجلة كردية كانت تصدر بدون ترخيص اسمها (بِرْسْ). وقد تعرض لتعذيب شديد حتى انكسر حوضه وأشرف على الموت. لم تكن المجلة تطالب بإسقاط النظام، ولم تكن لها علاقة وثيقة بالسياسة، بل كانت مجرد مجلة ثقافية أدبية جريمتها الكبرى أنها كانت باللغة الكردية. المؤلم في قصتنا أن الخطر لم يكن في المواضيع التي نتناولها في كتاباتنا ككرد، بل كانت اللغة نفسها. والكذبة التي تؤلمنا دائمًا ككرد هو أن النظام نجح في تسويق نفسه عالميًا كنظام يحمي الأقليات، بينما اضطهاده شامل للجميع في الحقيقة.
نسألك عن أثر الربيع العربي والثورة السورية عليك كشاعر وروائي. وما الذي أوضحته لك حركة الواقع الثوري العربي خلال العشرية الماضية، بالمقارنة مع قناعاتك الفكرية والسياسية السابقة؟
منذ 2011 تقريبًا، لم أكتب شيئًا خارج نطاق التأثر بالربيع العربي. لقد كان الربيع العربي حلم الملايين في التغيير. كانت فرصة ليكون للشعوب صوتها العالي بعد عقود من التهميش وتجيير الصوت الجماهيري لصالح الطغاة. كنت متفائلًا جدًا بانتصار الثورة السورية. وفي الحقيقة إن قيام الثوة في وجه نظام استبدادي عفن هو وحده رمز للانتصار حتى لو بقي الحكم على حاله. المهم أن الناس خرجت وقالت لا. صحيح أن الشعب السوري بأطيافه المختلفة دفع أثمانًا باهظة لقول لا، لكنه قالها ولم يندم. نتائج الثورات لا تظهر سريعًا إنما على المدى البعيد ستتبين الحقائق وستظهر ثمار الثورة. بالنسبة إلي شخصيًا عززت الثورة انتمائي إلى الوطن السوري، وشعرت بوحدة المصير مع أبناء درعا وحمص ودير الزور قبل أن يجرفنا طوفان الفصائل التي توزعت وتعددت ولاءاتها السياسية، مع الأسف. ما زلت وفيًا لتلك اللحظات الملهمة حيث كنا نرقب يوم الجمعة بلهفة كبيرة. نشاهد الجماهير تملأ الساحات وتهتف بسقوط النظام. كان شيئًا كالحلم عشناه بكل جوارحنا.
بعد كل هذه الانتكاسات، هل تشعر بالألم والمرارة مما آلت إليه أحوالنا العربية بخاصة السورية؟
بلا شك أشعر بألم شديد. أشعر بالطعنة في الظهر ومرارة ثقيلة في الحلق. قبل مدة عاد جزار حماة رفعت الأسد إلى البلاد من دون مساءلة، لا في منفاه الباذخ في فرنسا، ولا في “وطنه” الذي عاد إلى “حضنه”. بينما ملايين السوريين مشردون في أصقاع الدنيا يخافون من العودة، يخافون من التغييب بمجرد وصولهم إلى أرض المطار، لا لشيء، بل ربما لتشابه في الأسماء. هذا وحده يكفي لأن يشعر المرء بمرارة أبدية. إن الشعور بالظلم هو الذي يولد أذى نفسيًا عميقًا لدى المرء. وأنا أشعر بهذا الأذى ينخر في عظامي، ينهش روحي وينغص علي حتى متعة الأكسجين الذي أتنفسه بحرية في هذه الغربة.
من موقعك اليوم، ما قراءتك النقدية للعقد الأخير من عمر السوريين؟
أولًا، أربأ بنفسي أن أنتقد مجريات ما حدث في بلادي منذ ربيع عم 2011. فأنا المتنعم بحرير المنفى لم أذق ما ذاقه المواطن السوري من صنوف العذاب والهوان بعد ثورته العظيمة. لكن لي ملاحظات على من حمل راية المعارضة السياسية وصار يمثلها في المحافل الدولية. أغلب هؤلاء انخرط في الاتجار بالهم السوري ومعاناة الناس. تعددت ولاءاتهم الخارجية، وكان الأجدر بهم أن يكون ولاؤهم للدم السوري البريء وللمشروع الذي رفعته الجماهير في التظاهرات التي عمت البلاد وطالبت بالتغيير. لم يندفع الشباب إلى الساحات ليستبدلوا طاغية بمجموعة فاسدة، لم يواجهوا الرصاص الحي الذي لم تكن السلطات تملك غيره لكي تتقاتل الفصائل على الوليمة الناقصة. لقد أخطأت المعارضة في كثير من المفاصل والمنعطفات الحاسمة. وبالطبع، لا يمكن تبرئة ساحة الدول الإقليمية ولا القوى الكبرى مما آلت إليه أحوال المعارضة التي صارت فسيفساء عير منسجمة القطع ولا تمثل حقيقة التنوع السياسي والديني والإثني في سورية. أستطيع أن أختصر مجمل ملاحظاتي بجملة صغيرة وهي: شعب عظيم ومعارضة هزيلة.
نتوقف معك للحديث عن آخر أعمالك الروائية التي انتهيت من كتابتها حديثًا، «سيرة الغبار» ماذا تخبرنا عنها؟ ومن أين استلهمت فكرتها؟
«سيرة الغبار»هي سيرة الثورات التي تأكل أبناءها. الثورات التي تتحول إلى طاحونة تسحق مشعليها والمنخرطين فيها دون نتيجة. “سيرة الغبار” هي رواية المأساة الكردية في تركيا، حيث حزب العمال الكردستاني الذي احتكر الساحة النضالية وارتكب أخطاء فظيعة ساهمت في تأخر نيل الأكراد لحقوقهم. إنها رواية العبث الثوري، والضحايا الذين تستهويهم الشعارات الخلبية، ثم لا يجدون أنفسهم إلا خارج المسار الطبيعي للتاريخ. لقد جاءت فكرة هذه الرواية من “حرب الخنادق” التي أعلنها أنصار حزب العمال الكردستاني عام 2015-2016 في المدن الكردية بتركيا، حيث نشبت معارك غير متكافئة بين الجيش التركي والشباب الكرد الذين ساقتهم أوهام الحزب إلى الموت المجاني. أراد الحزب أن يكرر تجربة الإدارة الذاتية القائمة في شمال وشمال شرق سورية في تركيا أيضًا. بطبيعة الحال، الموضوع ليس بعيدًا عن محاولة النظام السوري إلهاء تركيا التي أصبح لديها نفوذ كبير بين المعارضة السورية المسلحة. هناك مطالب كردية محقة في تركيا، وهناك قضية لها جذور عميقة، لكن مع الأسف حزب العمال الكردستاني يريد الاتجار بهذه القضية العادلة، ويحاول أن يلعب دور المخلب لدول الجوار ضد تركيا التي لا تريد بدورها حل القضية الكردية إلا من منظورها الخاص. الرواية هذه تريد التوغل في تربة لم يحرثها أحد من قبل، وهي تناغم عمل الأنظمة والمعارضات في إنهاك الشعوب والحيلولة دون وصولها إلى غاياتها النبيلة.
وماذا عن روايتك الصادرة أخيرًا «سيرة خبات» (الكوردي سيبس)، التي قررت أن تصدر عن دار نشر دمشقية، وماذا عنى لك أن يصدر عمل أدبي في بلادك بعد توقفك عن النشر فيها سنوات طويلة؟
صدر لي أول عمل مرخص في دمشق عام 1991. وقتها، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، انفتح النظام مؤقتًا على الكرد في سورية، فدخل بضعة أشخاص يمثلون الأحزاب الكردية إلى مجلس الشعب بصفة برلمانيين وسمحت السلطات بطباعة الكتب المتعلقة بالأدب الكردي. لكن ذلك لم يستمر طويلًا، بل عادت السلطات إلى قمعها السابق، فاضطررت إلى إصدار أعمال عديدة بشكل سري، من ضمنها قواميس ودواوين شعر وكتب ترجمة، حتى خرجت من سورية عام 2000.
بعد عام 2000، صدرت كل كتبي خارج سورية من دبي وحتى تونس مرورًا بإقليم كردستان وألمانيا وغيرها. حين تواصلت دار النشر الدمشقية، دار الفكر، معي لم أقبل فورًا. إذ من الصعب أن أجد قرّاء في سورية وأنا مجهول فيها. لكن مع إلحاح موظفة الدار ووعودها بالاهتمام بالإصدار الجديد؛ استسلمت ووافقت على نشر هذه الرواية، وهي أقصر رواياتي، في دمشق. بالطبع، لذلك معنى كبير، فأنا سوري في النهاية، ومن حقي أن أنشر أعمالي سورية، وأن يعرفني السوريون قبل غيرهم. أما الرواية، فهي تتحدث عن موضوع الإرادة والقدر، هذه الثنائية المتضادة، وكيف أن الكائنات محكومة بأقدار لا فكاك منها. بالإضافة إلى هذه الفكرة، تعالج الرواية موضوعة غسيل الدماغ الذي يتعرض له الشباب فينخرطون بموجبه في أعمال منافية لتكوينهم أصلًا.
ما الرواية التي ترى أنها تشكّل لحظة جديدة ومنعطفًا مفصليًا في مشروعك السردي الممتدّ والمتطوّر؟
“عشيق المترجم”. قبل عشيق المترجم، كنت أكتب رواياتي باللغة الكردية. لم أفكر أن أنشر باللغة العربية. لكن تجربتي في ترجمة روايتي (ميرنامه) إلى العربية، ونشرها لدى مشروع كلمة في أبوظبي، شجعتني على التفكير في استعمال اللغة العربية أيضًا كلغة تعبير إلى جانب لغتي الأم. إلى الآن تتجاذبني اللغتان وتتعاركان من أجل الاستحواذ عليَّ كروائي ومبدع. أنا مدين لهما على حد سواء، كلتاهما شكلتا لي عالمي الإبداعي، كلتاهما شيدتا صرح أفكاري. اللغة العربية هي التي منحتني حضنًا تعيش مخيلتي في نعيمه الدافئ. أما الكردية فهي لغة الروح التي ولدت معي لحظة خرجت من بطن أمي. بالتزامن مع رواية عشيق المترجم كتبت (دم على المئذنة) وكانت أيضًا باللغة العربية. كتبت (دم على المئذنة) تنديدًا بالمجزرة التي ارتكبها مسلحو حزب الاتحاد الديمقراطي في عامودا بحق شبابها. لم أجد إلا أن أصرخ بالعربية. كنت حزينًا وغاضبًا، بحيث شعرت أن اللغة الكردية لن تكفيني للتعبير فلجأت إلى ظلال العربية هربًا من قوميتي التي شعرت بأنها أصبحت جلدًا ضيقًا يمنع تمدد خيالي إلى خارج حدود الأنا المتقوقعة.
ترجمتَ عددًا من الكتب من اللغة الكردية إلى العربية، وتُرجمت العديد من رواياتك إلى أكثر من لغة عالمية، كيف تنظر إلى فعل الترجمة؟ وهل ينقصنا فعلًا العمل النقدي للأعمال المترجمة؟
لنتخيل أولًا الحياة من دون ترجمة. مستحيل أن يكون هناك تطور للآداب من دون هذا الفعل الحضاري العظيم. الترجمة بالضبط تشبه إلقاح الزهر عبر الرياح أو النحل. المترجم يقوم بدور النحل أو الريح ويلقح الأزهار هنا وهناك، وبدونه لن تكون هناك ثمار يانعة يقطفها الناس ويستمتعون بها. المترجمون رياح لواقح، وبدونهم لن تستمر المعرفة في الامتداد. ولو دققنا النظر في نهضات الأمم، لوجدنا أنها قامت على الترجمة أولًا. النهضة العربية الإسلامية الأولى في العصر العباسي الذهبي لم تكن ممكنة لولا عمل المترجمين في نقل الفلسفة إلى العربية. وليس صدفة أن أولياء الأمور أغدقوا الأموال على المترجمين لما يحمله عملهم من طاقة معرفية هائلة وقدرة على إحداث التغيير المطلوب في مسار الحضارة.
وفي اعتقادي أن الأفضل هو خضوع الترجمة للنقد الذي ينير للمترجمين دروبهم. خضوع النقد لاستراتيجية خاصة ضروري لتصبح الترجمة عملًا خلاقًا وليس فقط بابًا لكسب الرزق.
ما الذي جذبك إلى ترجمة كتاب «مم وزين» لمؤلفه أحمد الخاني؟ هل من صدى رصدته لدى القرّاء بعد صدور هذه الترجمة؟
مم وزين هو كرديًا أروع كتاب صدر خلال ثلاثة قرون مضت، وترجمة هذا الكتاب هي تنفيذ لرغبة أحمد خاني وغايته الأساسية من تأليف مم وزين بالأصل. ألف خاني هذا الكتاب الموسوعي العظيم ليبرهن للآخر أن الأنا الكردية قادرة على الخلق والإبداع، وأن الكرد ليسوا فقط فرسان الشرق ومقاتلوه الأشداء. أراد خاني أن يوصل رسالة للشعوب الأخرى ويقول: الكرد يهتمون بالكتب أيضًا، لهم حظ في العرفة مع أنهم يتامى الشرق، والكرد ناس قلوبهم رقيقة بالرغم من شهرتهم في القتال وعيشهم في الجبال. وهكذا قال أحمد خاني في أشهر أبيات ملحمته الرائعة:
لقد كتبت هذه الملحمة لكيلا يتهم الناسُ الأكرادَ بأنهم لا معرفة لديهم
وأنهم قوم لا يعرفون الحب ولا اهتمام لديهم به أبدًا
ألفت مم وزين حتى لا يقول الآخرون:
كل الشعوب لها كتب وحدهم الأكراد لا حظ لهم في ذلك.
لقد نالت ترجمتي اهتمامًا كبيرًا من القراء العرب. طبعتها أولًا في دمشق عام 1995 بالسرّ. ثم في بيروت بطبعة دون المتن الأصلي عام 1998. بعد ذلك اشتغلت على الملحمة المكتوبة بلغة كلاسيكية صعبة فشرحتها باللغة الكردية المعاصرة، وكتبت النص من جديد بلغة يفهمها الكرد المعاصرون، وكان لهذا العمل صدى كبير لدى القراء الكرد. أما القراء العرب فقد اهتموا به اهتمامًا واسعًا، وصدرت الملحمة في مصر في ثلاث طبعات متتالية بين عام 2015 و2017، ثم أخيرًا صدرت طبعة جديدة في عمان. وهذا هو شأن الكتب الأمهات.
هل هناك مشروع ترجمة قيد الإنجاز، ما هو؟
نعم، إنه “حكايات من بلاد الكرد”. وقد أنهيته خلال الإجابة على أسئلة هذا الحوار، وقدمته للنشر، وأنا أنتظر نشره وتقديمه للقراء في هذا الخريف. “حكايات من بلاد الكرد” هي أربعون حكاية جمعها العلامة الكردي ملا محمود بايزيدي 1797-1867 لصديقه القنصل الروسي في أرضروم أوغست جابا. قام جابا بدوره بترجمة هذه الحكايات إلى الفرنسية، ونشرها في بطرسبورغ سنة 1860. هذه الحكايات التي تنوس بين الحكاية الخيالية والواقعة التاريخية تلقي مزيدًا من الضوء على تاريخ الكرد واهتماماتهم، ولا بد للباحث في الشأن الكردي أن يطلع عليها لفهم المجتمع الكردي أكثر وأكثر.
هل تختلف الكتابة في المنفى بعيدًا عن رقابة السلطة الأمنية والضغط السياسي والخوف؟ وماذا عن همومك ككاتب يعيش في المنفى الاضطراري، وعن الصعوبات التي تواجهها هناك؟
الأمر يتعلق بطبيعة الكتابة. ومن البديهي أن تختلف الكتابة في المنفى، حيث لا رقابة على الفكر وبين الكتابة في الوطن الذي يحكمه الاستبداد ويسيجه الخوف. أنا حملت مشروعي الأدبي معي إلى هذا المنفى منذ واحد وعشرين عامًا لم أعد خلالها إلى وطني. لكن الوطن لم يغادرني. هموم هذا الوطن المصاب بداء الدكتاتورية لم تبارحني ولا بارحت كتاباتي. ما زلت مشدودًا بحبل سُرّي إلى رائحة الوطن والذكريات التي خلقت لدي هذا الوعي بالحرية والحب والجمال. المنفى قدّم لي الأمان الذي يحتاج إليه المبدع، قدم لي أيضًا لقمة الخبز الكريمة، وقدم لي صورة أشمل للوطن لم أكن أراها عليها وأنا هناك. كنت بحاجة إلى هذه المسافة الجغرافية والزمانية لأرى وطني بوضوح أكثر، لأحبه بعيدًا عما فعله الدكتاتور بزرعه فكرة أن الوطن هو الدكتاتور، وأن البلاد تتماهى مع من يعتبرونه صاحب البلاد ومالك أعنة أقدار العباد. في هذا المنفى، شعرت بثقل الدكتاتورية في وطني أكثر مما لو كنت في وطني، وذلك من خلال استمتاعي بنعمة الحرية. في الوطن كنا ألفنا الاستبداد إلى حد ما. والمرء يألف البلاء إذا دام. وهذا ما يريده المستبدون الشموليون: قتل الرغبة في التغيير بسد جميع الآفاق أمام المواطن واستعباده بطرق شتى.
ما هو هامش الحرّية الذي تضعه لنفسك، وهل من “تابوهات” تود كسرها؟ وإلى أيّ مدى تمتلك موهبة التحايل على الرقيب العربي، خاصة أنّ أعمالك تصل إلى القرّاء العرب من خلال معارض الكتب الدولية في مدن وعواصم عربية؟
أكتب في العادة ما أنا مقتنع به ويرضى عنه ضميري، وأترك أمر القص والحذف للناشر والرقيب العربي. صحيح أنني شخصيًا ألتزم بأخلاقيات المجتمع ومثله وقيمه، لكنني لا أضع لنفسي حدودًا أو خطوطًا حمراء في الإبداع. في الإبداع يختلف الأمر كما لو كنت في الحياة اليومية. لا يتعلق الأمر بوضع قناع في سبيل إرضاء المجتمع بقدر ما يتعلق الأمر بأن العملية الإبداعية تعالج مواضيع قد يتحاشاه المجتمع ولا يريد إثارتها. إلى الآن، لم يتم منع أي كتاب لي في المعارض العربية. الكتاب الوحيد الذي تم منعه -من سخرية القدر- كان قاموس (الهدية الحميدية في اللغة الكردية) الذي قمت بتحقيقه ونشره من جديد. منعت إدارة معرض كردي في القامشلي تشرف عليه سلطة الأمر الواقع في شمال وشمال شرق سورية في حالة فريدة، وذلك بسبب مواقفي السياسية من تلك السلطة.
أنا لا أتحايل على الرقابة، وأترك لها أمر تدارك الموضوع. في (ميرنامه) تم حذف مقاطع كبيرة من الترجمة التي نشرتها دار كلمة التابعة لهيئة الثقافة والسياحة في أبو ظبي، بتهمة الإسفاف. كان الأمر يتعلق بشخصية مثلية جنسيًا. لم تكن وليست لدي نية لتشجيع الشذوذ، بل كان المقطع يأتي ضمن سياق فهم نفسية تلك الشخصية المعقدة. على الرقيب العربي وكذلك القراء أن يفصلوا بين التحريض على الرذيلة والحديث عن الرذيلة. في اعتقادي لم يتم حل هذه الإشكالية في مجتمعنا بعد.
هل سبق لك أن تخوّفت من فقدان القرّاء، الأكراد أو العرب، بسبب آرائك السياسية؟
نعم. وإلى الآن يلازمني هذا القلق. ناشري الكردي في تركيا قال لي حرفيًا: آراؤك السياسية، يقصد بها تلك التي أنتقد فيها حزب العمال الكردستاني، تؤثر في نسبة مبيعات كتبك. وفي عبارة فهمتها جيدًا، أضاف: نحن ننشر لنبيع. أنا لا أخفي آرائي السياسية إرضاء للجمهور. أعرف أن الجمهور العريض، الحشود بعبارة فلسفية، تؤثر على النخبة وربما تساهم في تدجينها، لكنني أحاول قدر الإمكان أن أبقى بعيدًا عن تأثيرات الجمهور. نعم أنا أحترم الجمهور وميوله السياسية والدينية وتمسكه بتقاليد مجتمعية معينة، لكنني لست مضطرًا إلى أن أتلون بألوانه. الكاتب ليس حرباء، بل عندليب يستيقظ فجرًا ليوقظ بقية الطيور بشدوه الذي ربما لا يعجب الغربان.
إلى أيّ درجة أنت معنيّ بتوثيق الذاكرة والحاضر والمأساة السورية، ومن ضمنها المأساة الكردية؟ ولماذا الكتابة عن مظلمة ومأساة السوريين، والأكراد من ضمنهم، مهمة اليوم أكثر من ذي قبل؟
أنا لديّ مشروع مستمر منذ ثلاثين عامًا، يتعلق بالأنا الكردية التي أحاول تعريفها للآخر. أعتقد أن المحيط القريب من الكرد يجهلهم إلى حد ما. وهذا أمرٌ مؤلم. لقد اهتمّ الغرب بالأكراد، وأسسوا مراكز لدراسة أحوال الشعب الكردي، وبالطبع لم يكن بريئًا من نزعة الاستشراق الذي هو في أحد أوجهه تعبيد للطريق الذي يأتي منه الاستعمار. ومع أن الدراسات الكردية التي بدأت بالرهبان الإيطاليين كانت ذات طابع تبشيري استعماري، فإنها أفادت المعرفة وفتحت أبوابًا واسعة على هذا الشعب المجهول لدول الجوار. كنت أتمنى أن تكون هناك مراكز دراسات عربية لدراسة الجار الكردي، والتعرف إليه بدل الاكتفاء بالمعلومات التي شكلت تصورات مسبقة مغلوطة ما زالت مستمرة إلى الآن.
أكتب روايات عن التاريخ الكردي، تاريخ ثوراته المستمرة وكبواته المتعددة، تاريخ انتكاساته وانتصاراته، أقوم بتفكيك هذا التاريخ الذي قسا على الكرد، فأزاحهم عن مسرحه بعد أن كانوا يومًا ما من أهم اللاعبين الفاعلين في الساحتين العسكرية والسياسية في الشرق الإسلامي. أفرح كثيرًا حينما ألتقي بأحدهم أو يراسلني قارئ، ليقول إنه تعرف على الشعب الكردي من خلال روايتي الفلانية. من خلال المآسي المتعددة التي دونت فصولها في رواياتي أريد أن أعطي صورة بانورامية عن الشعب الكردي وهمومه وطموحاته. أما مأساة الشعب السوري، فأجد نفسي ملتزمًا بها بنفس درجة التزامي بمأساة شعبي الكردي. القضية في الأخيرة قضية ظلم يجب على المثقف والكاتب أن ينحاز فيها إلى جانب المقهورين.
إلى أيّ مدًى تتفق مع الرأي القائل إنّ المناخ العام الذي يعيش فيه الكاتب هو الذي يحدّد قضاياه المُلِحّة والمصيرية في الكتابة؟
ما هو المناخ العام؟ الأحداث العظيمة التي تحيط به منذ بداية تبلور وعيه بالدنيا، انتماءاته العرقية والدينية ومشاكل الهوية، وبالطبع الكاتب عبارة عن ترمومتر ثقافي يتأثر بهذا المناخ. يمكن من خلال نتاجات كاتب ما أن نعرف تفاصيل المناخ العام الذي عاشه وعانى قسوة ارتداداته على أدبه وفكره. هذه الفكرة صحيحة. ولنأخذ مثالًا الثورة السورية ومآلاتها. نعيش منذ أكثر من عشرة أعوام فصول هذه الثورة التي حولوها إلى كارثة. ولا يمكن لأي كاتب أن يتغاضى عن تأثير مناخات هذه الثورة، ومن المستحيل ألا يكتب أحدنا أدبًا متأثرًا بالأحداث العظيمة التي مرت بها سورية بدءًا باشتعال شرارة الثورة على يد أطفال الطباشير في درعا، وانتهاء بظهور الجماعات المتطرفة أو بالأحرى إيجاد جماعات متطرفة للتشويش على الثورة وتصويرها على أنها مجرد حركة إرهابية يقودها متطرفون دينيون. بالنسبة إلي أصبحت الكتابة عن هذه الثورة وتشعباتها قضية ملحة. أرى أنه من المصيري أن أتحدث عن وقع الثورة في المنطقة الكردية وهذا ما فعلته في روايات كوباني، ممر آمن، ودم على المئذنة. وبالطبع، تأثرت بما حدث في حلب من تدمير وتهدير قسري، فكتبت “باص أخضر يغادر حلب”. مناخ الثورة، المليء بالدم والحرائق والنزوح والقسوة التي لا مثيل لها، صبغ رواياتي بصبغتها الخاصة، ولا أعلم إلى أي مدى سأستمر في رصد المآلات الخاصة بها.
حدّثنا عن رؤيتك للأدب الكردي (الرواية، القصة، الشعر)، المكتوب باللغتين الكردية والعربية؟ ما الذي ينقصه لينتشر على الصعيد العربي والعالمي؟
هذا سؤل مهم وكبير. لنتحدث أولًا عن الأدب الكردي المكتوب بالكردية، وأنا مطلع عليه، وهو أدب غني وزاخر بالمواضيع التي تشغل بال الإنسان المعاصر، وللكرد تجارب شعرية ثرية وقوية واشتغالات على السرد الروائي، وتجديد الخطاب السردي وسبر لعوالم وأعماق سردية جديدة. لكن هنا علي أن أعترف أن هناك آدابًا كردية وليس أدبًا واحدًا، وأعرف أن كلامي هذا سيثير القومجيين الكرد. مع الأسف، نحن لا نعيش حالة انسجام لغوية تامة، وعندنا أدب كرمانجي شمالي مكتوب بالأبجدية اللاتينية وبلهجة تسمى الكرمانجية، وتتركز في تركيا وسورية (شمال وغرب كردستان)، وأدب سوراني مكتوب بالأحرف العربية المعدلة، ويتركز هذا الأدب في العراق وإيران (جنوب وشرق كردستان) ولا أنسى الأدب البهديني، وهو أدب كرمانجي شمالي لكنه مكتوب بالأحرف العربية المعدلة. هذه الانقسامات تحول دون تواصل الكرد بين بعضهم قبل أن تكون الصعوبة في وصولهم إلى منصة العالمية أو الترجمة، على الأقل إلى لغات الجوار. الأدب الكردي الآن بحالة جيدة، وهو لا يقل شأنًا عن الآداب المجاورة، لكنه مع الأسف أدب منقسم إلى آداب مختلفة، وهذا ما يعيق حركة ترجمة جادة توصل الأدب الكردي إلى النشر على الصعيدين العربي والعالمي.
مع الأسف، ليست للكرد دولة مركزية توحدهم وتوحد أدبهم، وآدابهم تتطور بمعزل بعضها عن بعض، وفي اعتقادي إن المستقبل سيشهد لغات كردية متعددة، وإن حلم توحيد اللهجات وصهرها في بوتقة واحدة سيظل قائمًا وسيعاني الأدب الكردي من الانقسام الحاد الشبيه بالانقسام الذي تشهده الساحة السياسية.
برأيك، الأدب الذي انحاز إلى الأنظمة وأدار ظهره للجماهير، هل تكفيه اللغة الجميلة والخيال المميز والمهارة المتقنة ليكون أدبًا مهمًّا؟
هذا ليس سوى صوت السلطة الذي يتوسل الأدب. وهو شبيه تمامًا بالأغاني الجميلة التي تمدح الطغاة. سمعنا أغان شهيرة بألحان عذبة وعميقة وكلمات رائعة، تمدح طغاتنا، مثل القصيدة العصماء التي ألفها محمد مهدي الجواهري في مدح حافظ الأسد مثلًا. قصيدة الجواهري تلك ليست مهمة أبدًا، وستموت مستقبلًا ولن يلتفت إليها أحد، بينما قصيدته الخالدة عن أبي العلاء المعري ستبقى إلى الأبد. أدب الكُدية موجود في التاريخ العربي منذ القديم وسيبقى ما دامت هناك دكتاتوريات.
في السنوات الأخيرة، ظهرت أصوات روائية سورية كردية مهمّة أثبتت وجودها، عربيًا ودوليًا، من خلال النصوص المحتفى بها. ما نظرتك للمشهد الروائي الكردي عامّة، والسوري الكردي بخاصّة، في العشرية الأخيرة؟ وما الذي تتوقّعه منه مستقبلًا؟
المشهد الروائي الكردي الآن في أوج عطائه. وهذا انعكاس لازدهار الأعمال الروائية عالميًا. الرواية ملحمة العصر. ولا ينافسها في عصرنا جنس أدبي آخر، بدليل أن جائزة نوبل للأدب تكاد تكون جائزة خاصة بالرواية. وأنا أعتبر الرواية الكردية، وخاصة تلك المكتوبة باللهجة الكرمانجية الشمالية اللاتينية، بمنزلة معجزة. فمع كل هذا القمع والتهميش الممنهج من قبل السلطات الحاكمة، وبالرغم من أن الكردية لغة لا يتم تدريسها في المدارس وليست هناك معاهد تدرسها ومن غير المسموح به وجود دورات لتعليم اللغة الكردية؛ فإن ذلك لم يمنع من أن يبرز أدباء يكتبون رواية بهذه اللغة! هذا ما أسميه دائمًا بالمعجزة الكردية. هذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على حيوية اللغة الكردية أولًا، وعلى إصرار الشعب الكردي في إثبات وجوده أدبيًا ثانيًا. ولنعترف أن الرواية الكردية في كردستان العراق أكثر تطورًا منها في باقي المناطق التي يتوزع عليها الكرد. الأمر الذي يدعو إلى التشجيع هو ازدياد الاهتمام بالرواية الكردية عربيًا، في السنوات الأخيرة. الخطوة متأخرة لكنها إيجابية وأرجو أن تستمر.
ما الدور الذي لعبه الأدب السوري، بخاصة الرواية، في الشتات، في العقد الأخير، في تدويل القضية السورية ونشر جراحها وتنبيه ضمير العالم للمآسي التي عاشها ويعيشها الشعب السوري، بمكوّناته وأطيافه كافة، بعد اندلاع ثورة الحرّية والكرامة في منتصف آذار/ مارس 2011؟
لقيت الرواية السورية، رواية الحرب تحديدًا، اهتمامًا عالميًا في أوروبا وأميركا. ترجمت العشرات من الروايات السورية التي تتناول موضوعة الثورة والحرب إلى اللغات العالمية، وكان لبعض الكتاب حظوظ أكبر من حظوظ كتاب آخرين، لأسباب أحبّذ أن أتجاهلها الآن. لكن بشكل عام لعبت الرواية السورية دورًا مهمًا في التعريف بقضية الشعب السوري الذي ثار على الاستبداد وطالب بالكرامة، في ثورة سلمية محقة. أعتقد أن الرواية السورية أسهمت في شرح المأساة السورية، ونقلتها بأمانة إلى القارئ الأوروبي والغربي بشكل عام. ما أراد الإعلام أن يخفيه عن المواطن الأوروبي أبرزته الرواية السورية، وكشفت زيف ادعاءات النظام في أنه علماني وحامٍ للأقليات، ويواجه “جماعات متطرفة”، وأن ليست هناك ثورة، بل “أعمال شغب يقوم بها إرهابيون”.
هل يمكننا القول إنّ الرواية السورية في عديد نصوصها المتباينة، قد اتّخذت مسارات جديدة، إثر ما تشهده سورية، من حراك وأحداث وحروب منذ عام 2011؟
الرواية السورية وقعت أسيرة الموضوع، على حساب الشكل. أي أن الروائي السوري أصبح يهتم بالثورة ومآلاتها أكثر من اهتمامه باجتراح أشكال جديدة للسرد مثلًا. وهذا شيء طبيعي في نظري. فالذي يلح على مخيلة الكاتب السوري هو الدم المسفوح وصراخ الضحايا ومعاناتهم أكثر من ترف الاشتغال على أشكال سردية جديدة وأنماط إبداعية فريدة. الواقعية السردية عادت من جديد. هذا ما تسنّى لي الإحاطة به من خلال الروايات التي قرأتها عما حدث في عشريتنا السوداء.
هناك من المثقّفين السوريين من يرى أنّ “الوضع السوري اليوم فريد في تاريخ الشعوب ولا سابقة له. وعلينا -لكي نستطيع التعامل معه- أن نوجِدَ نظرة جديدة إليه. ومع الأسف الشديد، لم يستطع أحد حتى الآن أن يجد هذه النظرة”؛ فما رأيك أنت؟
أرى أن الأمر أبسط من ذلك. الثورات تتشابه، ومعاناة الشعوب تتشابه، مع الاحتفاظ طبعًا بخصوصية كل ثورة وفرادة الظروف التي تحيط بها. كل شعب يقول إنه عانى أكثر مما عانته الشعوب الأخرى. وهذا أمر طبيعي. أنت تشعر بآلام جراحك أكثر من شعورك بآلام غيرك. لكن السوريين تعرضوا لغدر مزدوج، غدر الأصدقاء وغدر الأعداء، دون أن نغفل عن غدر النظام المستمر منذ أكثر من نصف قرن. لم يطلب السوريون شيئًا أكثر من استرداد كرامتهم المهدورة على مذبح الدكتاتورية. وهذا ما استكثرته الأمم والدول عليهم. بطبيعة الحال، ستنشأ دراسات خاصة بالثورة السورية، وستعلم الأجيال اللاحقة مزيدًا من الحقائق لا نعرفها نحن. ومع ذلك فلسنا بحاجة إلى نظرة جديدة أو خاصة، لأن كثيرًا من الأمور واضحة تمامًا. ويمكننا اختصار القضية في بضع كلمات: شعب عانى من دكتاتورية عائلية مقيتة تقنعت بستار حزب قومي فاشي هو حزب البعث العربي الاشتراكي، فرغب في تحرير رقبته سلميًا من نير هذه الدكتاتورية. لكن قوى الشر، وأعني بالشر حرفيًا الشر المحض الذي تمثله كل القوى التي وقفت بالضد من رغبة السوريين في التغيير، حالت دون تحقيق رغبته المشروعة هذه.
بالنظر إلى الراهن السوري، هل ترى أنّ مجتمعنا ما زال محصّنًا ضد النوازع الدينية الطائفية بمعناها الانقسامي؟ أم أنه تمزّق وبات من الصعب التئام هذا الجرح؟
المجتمع لم يعد محصنًا بما فيه الكفاية. وفي الحقيقة، هو لم يكن محصنًا بالأساس. نصف قرن من الاستبداد وحكم الحزب الواحد جعل المجتمع السوري بالغ الهشاشة، وقابلًا للتفتت في أي لحظة. لقد رفعت الطائفية رأسها في سورية بشكل لم يسبق له مثيل. ومما زاد من تعقيد الوضع تدخل قوى طائفية من خارج الحدود. ميليشيات طائفية قدمت إلى سورية لمؤازرة النظام. جاءت مشحونة بحقد طائفي واضح، جاءت لتعمق الجرح الوطني وتضع فيه ملحًا كثيرًا، بحيث يصعب التئامه فيما بعد.
أخيرًا، هل يرى الشاعر والروائي جان دوست أملًا في انفراج قريب للمسألة السورية؟
لا أعتقد أن هناك انفراجة قريبة. وما دامت روسيا هي التي تنهى وتأمر، فلست متفائلًا. لو ترك الأمر للسوريين أنفسهم فسيصلون حتمًا إلى نتيجة ترضي الأطراف كلها. ففي النهاية، لا بد لمنطق السلام أن يسود هذه البلاد التي شبعت خرابًا ودماءً. لكن تدخلات الدولة الإقليمية والدول الكبرى تحول دون ذلك. الولايات المتحدة لم تشأ أن تساعد السوريين. أظهرت نفسها بمظهر الصديق، وشجعت السوريين على الانخراط في الثورة، لكنها لم تكن ترغب في أن تنتصر إرادة الشعب السوري في التغيير. إن أكثر من غدر بالسوريين هم بعض من ادعوا أنهم أصدقاء الشعب السوري، وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
لقد وصلت الأوضاع في سورية إلى نقطة حرجة جدًا، بحيث أصبح الحل شبه مستحيل. الآن يتجه العالم إلى قبول النظام وإنقاذه وإعادة إنتاجه من جديد، بعد أن فقد شرعيته وكاد يسقط. حتى أميركا صارت تغض النظر عن محاولات كثير من الدول التقرب من النظام والانفتاح عليه.
من المؤلم جدًا أن تذهب التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب السوري بسخاء نادر هباءً. الآلاف ماتوا تعذيبًا في سجون النظام. مئات الألوف قُتلوا بالقصف والمعارك التي لم تستثن المدنيين. الملايين نزحت وصارت في معسكرات اللجوء في دول الجوار وأوروبا. المدن دمرت والاقتصاد انهار بشكل فظيع، البنية التحتية صارت بحاجة إلى عقود للعودة إلى ما كانت عليه قبل الثورة. كل شيء تغير، وحده النظام بقي قائمًا على تلة من الجماجم فخورًا بإنجازه في البقاء، على حساب غياب شعب كامل.