تحلُّ الناشطة الحقوقية المحامية هدى سرجاوي، عضو “اللجنة الدستورية” عن قائمة المجتمع المدني، ضيفة على مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية، للوقوف على آرائها تجاه ما تشهده الساحة السياسية السورية من أحداث وتطوّرات، بخاصّة بعد عقد الجولة السادسة من اجتماعات “اللجنة الدستورية” في جنيف الشهر الحالي، وللحديث معها حول تعقيدات الملفّ السوري، سياسيًا وعسكريًا، وعدم وضوح الرؤية حول التداعيات المحتملة لما يجري على أرض الواقع.
تطرّقنا في حديثنا معها إلى أحوال النساء السوريات وأدوارهنّ، في الداخل السوري المحرّر، بعد أكثر من عقد من الزمن من عمر الثورة، وكذلك إلى واقع الحركة النسوية السورية، في ظلّ الحرب والتشرذم الجغرافي الذي فرضته لغة السلاح.
صاحبة كتاب «بوحُ الضّحايا» 2021، الذي وثّقت فيه شهادات ذوي معتقلين ومغيبين قسريًا وناجيات من الاعتقال، تقيم حاليًا في مدينة إعزاز شمال حلب، وكان أن شاركت في تأسيس “تجمّع المرأة السورية” في محافظة إدلب، وانتخبت مديرة له في 25 أيار/ مايو 2017، وعملت من خلاله على توعية النساء والشابّات السوريات بحقوقهنّ القانونية والسياسية. وكانت قبل ذلك عضوًا في “الهيئة السياسية” بإدلب، وانتسبت إلى تجمعات ثورية عدة في المناطق المحرّرة.
هنا نصّ حوارنا معها:
في مستهلّ حوارنا معكِ، أرجو أن تحدّثينا عن نفسكِ وعن النشاطات التي تقومين بها حاليًا، وعن بدايات مشاركتكِ في الثورة، وما هي الأسباب التي دفعتكِ إلى الانخراط فيها؟ وكيف بدأ اهتمامكِ بالعمل السياسي؟ وكيف كان المدخل إلى ذلك؟
درستُ المحاماة، وأتابع الآن دراستي لنيل شهادة الماجستير بتخصّص علاقات دولية، في جامعة حلب في المناطق المحرّرة. ولدتُ في معرّة النعمان بإدلب، وأقيم حاليًا في مدينة إعزاز شمال حلب، بعد اجتياح النظام لمدينتي. وعملتُ سابقًا لدى المجلس المحلّي لمدينة معرة النعمان مدة أربع سنوات، إضافة إلى العمل مع “الهلال الأحمر القطري”، في التوعية المجتمعية للنساء. وحاليًا أعمل مع منظمة “اليوم التالي”. وعملت أيضًا كمدربة في الحوكمة والانتخابات والدستور والتفاوض والعديد من المواضيع السياسية والقانونية، وأهتمّ بمناصرة قضايا المرأة، وتشجيع النساء على العمل في الشأن العامّ ومراكز صنع القرار.
بدأت مشاركتي في الشأن العامّ بانضمامي إلى المجلس المحلّي في معرة النعمان، بعد أن شاهدت إعلان فتح باب الترشّح للمجلس المحلّي، فقرّرت الترشّح، لإيماني بأهمّية دور المرأة ومشاركتها في الشأن العامّ، ولأنّ المرأة السورية قدّمت التضحيات مثل الرجل، ومن حقّها أن تكون ممثّلة في مراكز صنع القرار، إضافة إلى حاجة المجتمع إلى أن تكون النساء موجودات في المجلس، لتهتمّ بشؤون النساء اللواتي لا يستطعن التعامل مع الرجال. كانت انتخاباتٍ غير مباشرة، عبر لجنة تحضيرية تمثّل الفعاليّات في المدينة، بسبب الظروف الأمنية والقصف المستمرّ على المدينة، وتمّ انضمامي إلى المجلس مع زميلة لي، حيث التحقت بالمكتب القانوني، والتحقت زميلتي بالمكتب التعليمي، وكانت المرّة الأولى التي تدخل فيها النساء للمجلس المحلّي في مدينة معرة النعمان، وقد واجهْنا بعض الصعوبات بدايةً، وحالة من عدم التقبّل من البعض، وكانت هناك انتقادات من آخرين، حيث لم يكن المجتمع معتادًا على وجود المرأة في هذه الأماكن، لكن دائمًا كان لدينا إصرار ورغبة في إحداث تغيير، وكان اقتناعي بأنّ ذلك حقّ لنا يدفعني إلى الاستمرار. وعملت أيضًا من خلال وجودي في المجلس المحلّي على تشجيع النساء على الانضمام إلى المجلس المحلّي، ونجحت في استقطاب العديد من النساء؛ فبعد ستة أشهر من انضمامي، أصبح عدد النساء ست سيدات يمارسن عملهنّ في مكاتب مختلفة (قانوني، مالي، تعليمي، موارد بشرية). وعندما قرّر المجلس إحداث مكتب للمرأة، رُشّحت لإدارة المكتب، وعملت من خلاله على الاهتمام بشؤون المرأة ودعمها، من خلال مشاريع توعية وتمكين وتأهيل، وعلى تشجيع النساء للعمل في الشأن العامّ، وهكذا زادت نسبة النساء واستطعن إثبات أنفسهنّ، ومع الوقت اعتاد المجتمع السوري المحلّي على وجود المرأة في المجلس المحلّي، وقيامها بواجباتها على أكمل وجه، ثمّ انضممتُ إلى تجمّع شبابي، من أهدافه وضع رؤى سياسية للدولة السورية المنشودة، وإلى “الهيئة السياسية” بإدلب وغيرها من التجمعات السياسية.
وكذلك أسهمت بتأسيس “تجمع المرأة السورية”، بالتعاون مع ناشطات من مناطق مختلفة من المناطق المحرّرة، وكان المؤتمر التأسيسي في 25 أيار/ مايو 2017، وانتخبت حينذاك لإدارة التجمّع الذي يهدف إلى تأهيل وتمكين النساء، خاصّة في الإدارة والتوعية القانونية والسياسية، وأقوم أيضًا بتشجيع ودعم مكاتب المرأة في المجالس المحلّية المجاورة. وعندما رشّحت لـ “اللجنة الدستورية”، عملت على إطلاع النساء على التحديثات في الشأن السياسي، واستطعت الوصول إلى شريحة واسعة من النساء، والاطلاع على توصياتهنّ وطلباتهنّ ورؤيتهنّ للدستور، بخاصّة ما يتعلق بحقوق المرأة.
صدر لك حديثًا كتاب بعنوان «بوحُ الضّحايا»، ما الذي دفعك إلى تأليفه؟ وكيف تقدّمينه لنا؟
شاركت في “أكاديمية العدالة الانتقالية”، وكان مشروعي هو كتاب «بوحُ الضّحايا»، كجزء من الآليّات التي تتعلق بتخليد الذكرى. وخطرت لي فكرة الكتاب كون قضيّة المعتقلين والمختفين والمغيبين قسريًا من أكثر المآسي التي يعانيها الشعب السوري، بالرغم من هول ما يعانيه. وهي القضيّة التي تلامس حياة مئات الآلاف من السوريين وعائلاتهم، وهي القضيّة الإنسانية العاجلة والملحّة والمصيرية، لذلك ذهبت في هذا الاتجاه لتسليط الضوء وإبقاء هذه القضيّة ضمن دائرة أهمّ الأولويات، وواجبنا استمرار التذكير بها ومناصرتها.
إننا نرى كثيرًا تحريف الوقائع واختلافها باختلاف الجهة التي يصدر عنها، ونحن نعاصر الأحداث، فكيف بعد مرور الوقت والسنوات، وما قدّمه الشعب السوري من تضحيات عظيمة، يجب أن يطلّع على تفاصيلها الأجيال القادمة. والعمل الأدبي هو القالب الأمثل الذي يوصل الرسالة، ويحدث الأثر المطلوب.
كتاب «بوحُ الضّحايا» تضمّن إحدى عشرة قصة واقعية، رواها الضّحايا أنفسهم أو ذووهم، عن مختفين ومغيبين قسريًا ومعتقلين وناجيات، تروي أهوالًا لا يمكن تخيّلها خاصّة عندما تسمعها من أصحابها. حقيقة في الفترة التي وثّقت فيها تلك القصص، عانيت نفسيًا كثيرًا، بالرغم من أنّني أعيش في الداخل السوري، ولست بعيدة عن كلّ هذه المعاناة.
هذا يدعونا إلى سؤالكِ: ما هي مهمّة توثيق ما أطلقتِ عليه (بوحُ الضّحايا) أدبيًّا، في زمن الثورة والحرب السورية؟
يعمل التوثيق على الحفاظ على الذاكرة والحقائق الخاصّة بالصراع السوري الدائر، ويشكّل عاملًا محفزًا للتحوّل الاجتماعي الإيجابي. فالتوثيق يمكن أن يوفّر لعمليّة تخليد الذكرى أساسًا مبنيًا على الوقائع، ويسهم في تصوّرات عن الشرعية. ويمكن أن تتّخذ عمليّة تخليد الذكرى أشكالًا مختلفة، وكانت تتضمّن في الماضي الحفاظ على المواقع الفعلية للذكرى كالسجون، مثلًا، كيف تتحوّل من مكان للتعذيب إلى موقع لسرد الحقيقة.
وتوثيق تخليد الذكرى العفوي الذي يحصل أثناء الصراعات المسلّحة هو أحد السبل المهمّة لضمان عمليّة شاملة وتشاركية، مع الإبقاء على ذاكرة الفرد والمجتمع، فالحفاظ على مثل هذه الأعمال التذكارية الشعبية سوف يساعد في تقديم أكبر قدر ممكن من الروايات، والتجارب والآراء حول الصراع. كذلك الأعمال التذكارية العفوية، مثل الكتابة على الجدران، والوقفات الاحتجاجية، والتظاهرات العامّة، يمكن أيضًا توثيقها لعمليّة تخليد الذكرى.
إنّ مثل عمليّات التعبير العلنية هذه تساعد في الحفاظ على التجارب المهمّة للصراع، وتؤيد كذلك الروايات ووجهات النظر. كما يمكن أن تشمل أيضًا الفيديوهات، والصور الفوتوغرافية، والوثائق المكتوبة عن تجربة السوريين حول الصراع، والتي ينبغي أن تشمل السوريين في المناطق التي يسيطر عليها الثوار، وتلك التي يسيطر عليها النظام، والسوريين من خلفيات وأدوار مختلفة. بحيث يُمكن دمج هذه التجارب في الجهود الأوسع لتشجّع السوريين على المشاركة كأطراف في بناء سورية. وينبغي أن يستمرّ التوثيق بعد نهاية الصراع، وسيصبح من المهمّ أيضًا، بالنسبة إلى السوريين، تحديد التوثيق كيف سيُسهم في أشكال معينة من إحياء الذكرى، وسيكون تسلسل أحداث العدالة الانتقالية مهمًّا، وجهود التوثيق وإحياء الذكرى المبكرة يمكنها أن تعيد بناء الثقة، وأن تعزّز الحوار، وأن تشجع مشاركة السوريين كمواطنين فاعلين، ولضمان الإدماج الفعّال للتوثيق في عمليات إحياء الذكرى، يمكن ربط أرشيفات التوثيق بشكلٍ واضح بجهود محدّدة لتخليد الذكرى، ممّا يسهم أيضًا في شفافية عمليّة التوثيق.
وعمليّة تخليد الذكرى قادرة على إتاحة الوثائق لمجموعة واسعة من أصحاب المصلحة، وعلى الحفاظ على الذاكرة على مرِّ الزمن، وعلى دعم الحوار والمشاركة الفاعلة. والأهمّ من ذلك أنّ عمليّة تخليد الذكرى لا تمثّل فقط تحية للماضي، ولكن لديها القدرة التحويلية للنهوض بالرؤى الإيجابية لسورية المستقبل، القائمة على السلام والعدالة.
من المؤكّد أنّه وصلت إليك كثير من الأصداء بعد صدور الكتاب؛ حدّثينا عن أهمّ ما تركته تلك الأصداء من أثرٍ في نفسك؟
طبعًا، كان لكتاب «بوحُ الضّحايا» صدًى كبير على صعيد الإعلام والفاعلين في المجتمع، وعلى منظمات مهتمّة بقضيّة المعتقلين، وكذلك أصحاب القصص أنفسهم الذين عبّروا عن الارتياح والامتنان، لأنّ قضيتهم ما زالت تطرح باهتمام خاصّ، ولأنّ المجتمع يتذكرهم ويقدّر تضحياتهم، وهذا ترك عندي الأثر الأعمق والإحساس بالمسؤوليّة لاستمرار العمل بكلِّ الوسائل الممكنة، خدمة لهذه القضيّة، وهي مسؤوليّة المجتمع ككلّ.
لننتقل إلى الحديث عن أوضاع النساء السوريّات بعد أكثر من عقد من الزمن من عمر الثورة، ونسأل بداية عن أحوال وأدوار المرأة السورية في العشرية الأخيرة، وكيف أثّرت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في دورها بالداخل السوري؟
المرأة السورية شاركت في الثورة منذ البداية، بالرغم من صعوبة الظروف التي تعرّضت لها، وبرز دورها في مجالات عدّة، منها الإعلامي والإغاثي والإنساني، وشاركت في تأسيس شبكات ومجموعات نسائية في محاولة للاستفادة من كلّ الإمكانات المتاحة وتوفير الدعم والتمكين اللازم للداخل السوري، ومع تصاعد وتيرة الحرب، لم تيئس النساء وحاولن إيجاد حلول ونشاطات متحدّينّ العنف ومخاطر العمل الثوري في ظلّ هذه الظروف اللاإنسانية.
وفي ظلّ انصراف العالم عن معاناتنا، اضطّرت المرأة السورية إلى مداواة جراحها بنفسها، والتعامل مع الأزمات والطوارئ، كامرأة ورجل في الآن ذاته، فتحمّلت المسؤوليّة المزدوجة، وكانت حاضرة في كلّ المجالات، على الرغم من أنّ دور النساء في سورية كان مقيّدًا بمجموعة من العادات والتقاليد، ممّا دفع بكثير منهنّ إلى الانخراط في أدوار جديدة، فهناك كثير من النساء في مقدّمة محاولات إيجاد حلول للقضايا المحلّية ومواجهة القتل والدمار، كما ظهرت شخصيات نسائية كـ “قائدات رأي” في المجتمع السوري. ودفع الواقع السوري بكثير من النساء إلى معرفة الأوضاع السياسية، وتكوين رأي حول ما يجري حولهنّ من خلال تحليل الأخبار، وأسهمت الثورة في فتح آفاق جديدة للنساء السوريات، وأصبحن أكثر حبًّا للتعلّم واكتساب مهارات جديدة، في حين اتّجهت كثيرات إلى تكثيف أنشطتهنّ على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصّة موقع “فيسبوك” والمدونات الإلكترونية، كمنبر يتحدثن من خلاله بحرّية ضدّ القمع والظلم. ويقمن أيضًا بتحميل مقاطع فيديو يفضحن من خلالها الاعتداءات التي يتعرّضن لها، أو يؤكّدن مطالبهنّ التي غُيّبت عن الشارع بسبب تصاعد الأحداث.
وبدأت نساء أخريات بمبادرات تنموية وافتتاح مراكز نسوية بهدف تدريب النساء على مهارات جديدة، ركّزت على النساء والشابّات اللواتي لم يكملن تعليمهنّ لأسباب أمنية، وعلى الأرامل اللواتي يحتجن إلى مصدر دخل لدعم عائلاتهنّ. واضطّرت شريحة أخرى من النساء إلى الانخراط في مجالات لم تكن تعمل بها من قبل، وتأدية أعمال تحتاج إلى مجهود عضلي وجسدي كبير لا يحتمله إلّا الرجال، كلّ ذلك بأجور زهيدة مقابل إرهاق ومجهود جسدي واضح.
لقد أضحت المرأة السورية عنوانًا من عناوين الأزمة وواجهة للتحدّي والصبر والإرادة، فهي الأم والزوجة، وهي التي تحمل مسؤوليّة كبرى في التعامل مع الأحداث، سواء في داخل سورية أو في مخيّمات الشتات واللجوء القسري على حدود الوطن، أو في بلاد الغربة البعيدة التي اضطّرت مرغمة إلى اللجوء إليها تحت وطأة القصف والقنابل والحرب. وبالرغم من كلّ ما تشكّله الحرب من مأساة، فإنّها كانت دافعًا كبيرًا للنساء لاكتشاف إمكاناتهنّ، والدخول في عوالم لم يخضنها من قبل، لتحقق بعضهنّ استقلالًا ماديًا وتمكينًا اقتصاديًا وعلميًا، ودخولًا في مجالات صناعة القرار وتقرير المصير وخلق تغيير إيجابي في المجتمع، متحدّيةً بعض شرائح المجتمع التي ترفض فكرة كسر الصورة النمطية للمرأة، وتبوّئها لمناصب قيادية في المجتمع.
من خلال نشاطاتك ضمن “تجمع المرأة السورية”، لا بدّ أنك التقيت أو تعاملت مع نساءٍ من مختلف الفئات العمرية والمجتمعية، ما الذي رصدتِه من نقاط إيجابية وسلبية لدى هؤلاء النساء؟ وكيف يمكن العمل معهنّ لتفعيل دورهنّ، في ظلّ ازدياد صعوبة الظروف المعيشية اليومية؟
من خلال تعاملي مع نساء كثيرات، لاحظت الإرادة القوية والطاقات الكبيرة والقدرة على التضحية والإصرار على إثبات الذات، وعلى الرغم من سوء الوضع المعيشي وكارثية الوضع الأمني، لمست الحماس لدى النساء على العمل والنشاط، بالرغم من خطورة العمل وضعف الإمكانات، وكنّ يبدأن من لا شيء من دون توفّر أي إمكانات بالاعتماد على طاقاتهنّ وما يملكنه من خبرات وموارد، لكنّ الأمر السلبي أنّنا ما زلنا نعاني وجود قيود العادات الاجتماعية التي تكبّل المرأة وتمنعها من ممارسة دورها في العمل والبناء؛ فهناك مراكز لا تستطيع المرأة تبوّؤها، خوفًا من نظرة المجتمع أو معارضة العائلة، وهذا الأمر يتفاوت بين منطقة وأخرى. ولتفعيل دور المرأة يجب دعم مشاركتها في مراكز صنع القرار، على جميع المستويات، فهذا يُسهم في دفع قضيّة المرأة لتصبح قضيّة اجتماعية عامّة، لا قضيّة على هامش قضايا المجتمع تعنى بها المرأة فقط. أيضًا، هذا يمكّن النساء من الحصول على الحقوق وممارستها والإسهام في إدارة وتوجيه المجتمع، ولا سيّما أنّها قدّمت تضحيات عديدة منذ انطلاق الثورة ودفعت الثمن الأكبر.
إن وجود المرأة في السلطة سيحقّق المصالح المرتبطة بها، ويُسهم في إبراز قضاياها والدفاع عن حقوقها والتسريع في إعطائها دورًا حقيقيًا في عمليّة التنمية للمجتمع بشكلٍ عامّ. وكلّ ذلك يعود لما لهذه المراكز من تأثير في حياة المرأة. ولكي تتمكّن من تبوّء هذه المناصب، يجب العمل على توعية المرأة والمجتمع بحقوقها، وبأهمّية المشاركة، وتزويدها بالمهارات والخبرات اللازمة حتّى لا يكون وجودها شكليًا.
بحسب مصادر لمنظمة الأمم المتّحدة، فإنّ 13.5 مليون سوري تأثروا خلال الأزمة السورية، من ضمنهم 4.1 مليون امرأة وطفلة لديهم القدرة على الإنجاب. بالإضافة إلى أن 48% من أصل 4.8 لاجئ سوري الذين سجلتهم هيئة الأمم المتّحدة هم من النساء أيضًا، واستخدمت قوّات الأسد الاغتصاب، الذي اعتبره مجلس الأمن الدولي ضمن قائمة جرائم الجماعات الإرهابية غير التابعة للدول، بحسب القرار 2253، كوسيلة لتعذيب النساء، والأطفال، والرجال من المحتجزين في سجون النظام. سؤالنا: من خلال ما عايشتِه، أين تقع حقوق المرأة على سلّم اهتمامات المعارضة السورية ممثّلة بـ“الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، وكذلك باقي مكوّنات الثورة والمعارضة؟ وهل من توصيات للوصول إلى حال أفضل ممّا نحن عليه؟
إذا أردْنا أن نستدلّ على أهمّية قضيّة المرأة بالنسبة إلى “الائتلاف الوطني” الذي يُعتبر ممثلًا شرعيًا للمجتمع السوري، فسنجد أن نسبة تمثيل المرأة فيه ثماني نساء فقط من بين 91 عضوًا، أي بنسبة نحو 9%، وهي نسبة ضئيلة لمؤسّسة تمثّل المظلّة السياسية التي من المفترض أن تمثّل أطياف وقوى المعارضة السورية. وربّما هي إحدى أدنى نسب تمثيل المرأة في العالم.
أيضًا، من بين ممثّلي “الائتلاف” في دول العالم، هناك امرأة واحدة من بين عشرة أشخاص. وفي “الحكومة المؤقتة” التابعة لـ “الائتلاف”، توجد وزيرة واحدة من بين ثمانية وزراء. وجميع النساء الثماني الأعضاء في “الائتلاف” مستقلّات، أي لا يوجد أي تمثيل للمرأة في أي من التكتلات السياسية المكوّنة لـ“الائتلاف”، ومن بينها “إعلان دمشق”، والمجالس المحلّية السورية، و“المجلس الوطني الكردي”.
وعلى الرغم من وضع “كوتا” لمشاركة المرأة، فإنّها لم تأتِ من داخل المؤسّسة عن قناعةٍ بدور المرأة وأهمّية تمثيلها، وإنّما فُرضت من قِبل جهات دولية. وللوصول إلى وضع أفضل، يجب العمل على قضايا النساء ومساواتهنّ وتمكينهنّ من مراكز صنع القرار، وتحسين وضعهنّ ليس بشكلٍ عمودي فحسب، بل يجب أن يترافق ذلك مع العمل بشكلٍ أفقي على القاعدة، فهو عمل من المفترض أن يكون عامًّا وشاملًا لكلّ النساء السوريات، ويجب أن يتاح التطوير المعرفي والثقافي للنساء، ويؤهلهنّ للمشاركة الإيجابية في نصرة قضاياهنّ.
تعيش الحركة النِسوية السورية وقتًا عصيبًا، من جراء الحرب والتشرذم الجغرافي للنساء السوريات، وقد لاحظنا أنّ ثمّة محاولات للمّ الشمل عبر صفحات نسوية وتكتلات ومؤتمرات إلكترونية. هل تكفي هذه البدائل الإلكترونية للنهوض بحركة نسوية مستدامة؟ وكيف يمكننا تمتين هذه التكتلات لتفي بالغرض قدر الإمكان ولتدوم أطول فترة ممكنة؟
لا يمكن للصفحات والمؤتمرات الإلكترونية النهوض بحركة نسوية مستدامة، إن لم تكن موجودة فعلًا على الأرض، وتتكاتف فيها الجهود من الداخل والخارج لخدمة قضايا النساء والمجتمع بشكلٍ عامّ.
نتوقف معك للحديث عن “اللجنة الدستورية”، كونك عضوًا فيها عن قائمة المجتمع المدني، ونسأل: ما سبب المماطلة التي يمارسها النظام بعمل اللجنة؟ وماذا يعني لكِ أن تكوني بين أعضاء “اللجنة الدستورية” السورية؟
كوني من بين أعضاء “اللجنة الدستورية”، فذلك حمّلني مسؤوليّة دماء الشهداء ومعاناة المعتقلين. وأرى أنّ المسار السياسي هو المسار الوحيد المتاح حاليًا للشعب السوري، مع تعثّر باقي المسارات وعدم إمكانية الحسم العسكري، وأنّ هذا هو السقف المتاح لنا المناورة ضمنه، وعلينا استغلاله أقصى ما يمكن. والمسؤوليّة الثانية التي حملتها هي الدفاع عن حقوق المرأة وأهمّية تمثيلها، وأن تكون في جميع مفاصل الحياة السياسية والدستورية.
طبعًا، النظام يعارض أي عمليّة سياسية، ويرى فيها خطرًا على وجوده، وأنّها بالنهاية ستؤدّي إلى زواله، لذلك هو لا يؤمن إلّا بالحلّ العسكري والأمر الواقع وسياسة الأرض المحروقة، لاستعادة السيطرة على باقي المناطق المحرّرة، وهو لم يقبل المشاركة في العمليّة الدستورية إلّا بضغط دولي، خاصّة من روسيا التي هي أيضًا رغبت في أن تُظهر للمجتمع الدولي أنّها تريد حلّا سياسيًا في سورية، لكنّها لم ترغب في أن تقدّم تنازلًا في سلة الحكم الانتقالي، مع تفوقها العسكري على الأرض، وإنّما رغبت في أن يكون هذا التنازل في سلة الدستور. إذًا، فالنظام لم يكن راغبًا في المشاركة منذ البداية، ومستوى تعاونه في العمليّة يتناسب مع الضغوط الدولية عليه التي تتفاوت شدّتها، وفق الظروف الدولية والإقليمية التي لم تعد محصورة في سورية، فنقاط الخلاف تشعبت بظهور أماكن جديدة للصراع، وزاد الأمر تعقيدًا.
ما المتوقّع من الاجتماع السادس لـ “اللجنة الدستورية” في جنيف هذا الشهر، على الصعيد السياسي؟
عقدت “اللجنة الدستورية” اجتماعها السادس في جنيف، ابتداءً من 18 من الشهر الحالي، واجتمع رئيسا وفد النظام والمعارضة في اليوم السابق للاجتماع، واستند اتّفاقهما، بشأن منهجية عمل اللجنة، إلى ثلاث ركائز أساسية، وكذلك احترام الاختصاصات والقواعد الإجرائية الأساسية، وتقديم نصوص المبادئ الدستورية الأساسية قبل الاجتماعات. وكان أن اتفق رئيسا وفد النظام والمعارضة على تحديد مواعيد مؤقتة للاجتماعات المقبلة ومناقشة خطة العمل. وبرأيي، لكي نستطيع إحراز تقدّم، لا بدّ من دعم مستمرّ من المجتمع الدولي، يمكن أن يرسخ الهدوء ويخفف من معاناة السوريين.
بتقديرك، هل الموقف الشعبي المعارض لنظام الأسد، والمعادي لـ “اللجنة الدستورية” ولمشاركة الفريق المعارض فيها، أضعف موقف هذا الفريق تجاه خصومه، وجعله معزولًا، وعرضة للهجوم عليه والطعن بشرعيته؟ ألا تقتضي مصلحة السوريين المعارضين دعم هذا الفريق، وتعزيز موقعه تجاه خصومه، بما أنّ اللجنة أصبحت أمرًا واقعًا، وأنهت حتّى الآن ستّ جولات من المفاوضات في جنيف؟
طبعًا، الموقف الشعبي من “اللجنة الدستورية” يؤثّر في عملها، ويزيد الفجوة بين الشارع الثوري ومؤسّسات المعارضة، والمستفيد الأكبر هو النظام، فوحدة الصف وتكتل السوريين بكلّ فئاتهم تزيد من نقاط القوّة لديهم في معركتهم ضدّ النظام، وقد استغل ممثّلو النظام هذا الأمر مرارًا، وتوجّهوا بالهجوم على وفد المعارضة بعبارة “من تمثّلون؟”.
في النهاية، كلّنا يطمح أكثر من العمليّة الدستورية، ونرغب في تغيير جذري لنظام الاستبداد وأعوانه، لكنّ مفاتيح القوّة غير متاحة، وربّما فقدنا جزءًا كبيرًا من القرار السياسي، وأصبح الحلّ مرتبطًا بتوافقات ومصالح دولية، من شأنها أن تتّفق على الحلّ الذي سيكون الدستور الجديد جزءًا منه، وهذا هو الحلّ الوحيد المتاح حاليًا، وعلينا أن نستغل المتاح، ونسعى بعد ذلك لنحصل على ما نريد.
ما البديل في حال وصول “اللجنة الدستورية” إلى طريق مسدود، في إيجاد حلٍّ سياسي يرضي أطراف الصراع السوري – السوري؟
في حال عدم نجاح العمليّة الدستورية، نحن بحاجة إلى عمليّة سياسية شاملة وإرادة دولية حقيقية، تضغط على الأطراف كافّة بشكلٍ جدّي لتنفيذ القرارات الدولية الخاصّة بالشأن السوري.
برأيكِ، هل بقي لـ“الائتلاف” الذي يمثّل الجهة الشرعيّة للمعارضة السورية المعترف بها دوليًا من أوراق أو وسائل للضغط على النظام وحلفائه في مفاوضات العمليّة السياسية؟
ضمن هذه الظروف، تبدو الخيارات أمام المعارضة السورية شبه معدومة، في ظلّ تراخٍ أميركي مستمرّ منذ عام 2011، وعدم ممارسة ضغط جدّي يمكن أن يجبر نظام الأسد على إعادة النظر بالعمليّة السياسية، وتنفيذ مضمون القرار الدولي رقم 2254 الذي حدّد خريطة طريق لحلّ سياسي، ولا تملك المعارضة السورية، داخل البلاد وخارجها، من أمرها إلّا القليل، حيث انشطرت إلى معارضة داخلية، وأخرى خارجية، انقسمت بدورها إلى منصّات متعدّدة. ولم تنجح في تشكيل مرجعية سياسية موحّدة لقوى الثورة والمعارضة تمثّلها في الاستحقاقات الدولية، وهو ما أفقدها ثقة الشارع السوري ثمّ المجتمع الدولي، وخصوصًا أنّ هذه المنصّات لم تستطع بلورة خطاب وطني واحد جامع للسوريين.
هل يمكنكِ التنبؤ بمآلات الأوضاع، في ظلّ تعقيدات المشهد السياسي والعسكري الحالي بخاصّة على جبهة إدلب؟
هناك احتمالات عدّة في المشهد السياسي والعسكري، إحداها تجميد الوضع الراهن في محافظة إدلب، حيث إنّ كلّ الأطراف تتمسّك بمواقفها في مختلف المناطق، وتدعمه بالقوّة العسكرية. ولم تلتزم روسيا بتعهّداتها المتعلّقة بإبعاد تنظيم “وحدات الحماية الكردية” عن المناطق الحدودية مع تركيا، وتحتفظ بتواصل مع التنظيم، وهذا يدفع تركيا إلى رفض تقديم أيّ تنازل في سورية وملفّ إدلب على وجه التحديد، لذلك فإنّ أي تراجع تركي في إدلب يعني المزيد من الخسائر في الملفّ السوري، وتراجع التأثير في الحلّ السياسي.
الانتشار العسكري التركي المباشر في إدلب، والموقف الأميركي المساند لتركيا، سيشكِّلان حاجزًا في وجه روسيا، في إذا أرادت الحسم العسكري. لذلك فإنّ تجميد الصراع سيدفع الدول الفاعلة، للبحث عن خيارات من أجل دفع التسوية إلى الأمام، خاصّة أنّ الانتخابات الرئاسية التي أجراها نظام بشار الأسد لم تلقَ قبولًا دوليًّا؛ وبالتالي ستكون هناك صعوبات حقيقية أمام المحاولات الروسية لتسويق النظام على صعيد المجتمع الدولي. وعلى الأرجح، ستبحث روسيا عن المخرج من بوابة إعادة تفعيل مسار “اللجنة الدستورية”، وربّما من خلال الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية لاحقًا، وفق الدستور الجديد، مع التركيز على ألّا يُستثنى أيّ طرف من تلك الانتخابات، وقد يكون هذا الخيار مناسبًا للدول حتى تركيا، مع اشتراط حضور مراقبين دوليين، ممّا يتيح إنهاء الصراع السوري – السوري، بمشاركة جميع الأطراف وتوزيع المكاسب وفق موازين القوى على الأرض. وقد يتخلّل عمليّة التهدئة محاولات روسية للضغط عبر عمليّة عسكرية وقصف جوي، ومعارضة تمديد برنامج إدخال المساعدات إلى شمال غرب سورية عن طريق معبر “باب الهوى”، والاحتمال الآخر التصعيد العسكري، في حال رغبت بعض الأطراف الدولية -مثل الولايات المتّحدة الأميركية- في الضغط على روسيا أو على إيران، بما يخدم مسار المفاوضات حول تجديد الاتّفاق النووي، إلّا أنّ فرص التصعيد العسكري لن تكون كبيرة إلّا إذا انخرطت فيه تركيا لتحقيق أهداف معينة، ومنها إبعاد الميليشيات الإيرانية عن مناطق عديدة، والضغط على روسيا من أجل فتح ملفّ المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم “وحدات الحماية الكردية”.
ومن المحتمل أيضًا أن تتجّه روسيا للتصعيد، كمحاولة لفرض الحسم العسكري، إذا استمرّت حالة الجمود السياسية والعسكرية، لكن يبقى خيار الحسم صعبًا في ظلّ الانتشار التركي بمحافظة إدلب.
المساءلة والمحاسبة عن جميع انتهاكات القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان تكتسب أهمّية قصوى، كشرط قانوني وكعنصر أساسي في تحقيق السلام المستدام والمصالحة الحقيقية في سورية. ما هي وجهة نظرك بهذا الخصوص، كحقوقية وكعضو في “اللجنة الدستورية”؟
بعد خروج المجتمع من حالة الحرب أو الانتقال من نظام دكتاتوري إلى حكم ديمقراطي؛ لا بدّ من إجراء عمليّات معالجة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتجب معرفة الجناة ومعاقبتهم، ويجب أيضًا تحديد الضّحايا بشكلٍ جيد، وجبر الضرر الذي لحق بهم، والعمل على إزالة أسباب تفجّر الصراع، بمعالجة مسبّباته وضمان عدم تكرار ما حصل. كلّ هذه الإجراءات من شأنها تحقيق العدالة والمساواة والوصول إلى السلام المستدام، فانتهاكات حقوق الإنسان لا تؤثّر في الضّحايا فحسب، بل تصل إلى المجتمع ككلّ، لذا وجب وضع السبل الملائمة لمنع تكرار حدوث تلك الانتهاكات، وذلك عبر مؤسّسات دستورية وحقوقية وسياسية وسلطات قضائية تزيل الفرص لمعاودة الطرق أو الأساليب التي تسرّبت منها الانتهاكات.
وينبغي أن يتمّ إصلاح المؤسّسات الأمنية والعسكرية، بصورة تكون قادرة فيها على منع حدوث الانتهاكات مستقبلًا. وكذلك هناك جوّ من انعدام ثقة المجتمع ومكوّناته بمؤسّسات الدولة والنظام السائد؛ ما سيكون سببًا في عرقلة بناء الأمن وإبطاء عمليّة التنمية وإعاقة تحقيق أهداف النمو البشري والاقتصادي؛ وبالتالي الانحراف عن أهداف تحقيق الأمن والسلم الأهلي، فتضعف سيادة القانون، وتعود الفرصة متاحة لتكرار دورة العنف، وقد رأينا كيف تعود الصراعات من جديد، في كثير من البلدان التي شهدت فتورًا في الصراع ولم تعالج الأمور من منطلق العدالة الانتقالية، حيث تجدّدت دورة العنف وغرقت البلدان في دوامة الاحتراب الأهلي، كما حدث في لبنان والعراق واليمن. إذًا تعدّ العدالة الانتقالية وسيلة مثلى لإعادة بناء الدولة والنظام، على أسس مغايرة لتلك التي تسبّبت في حدوث النزاعات وانتهاك الحقوق العامّة والخاصّة وإهدار كرامة الإنسان وتهديد أمنه وضياع حاضره وغياب أفق المستقبل.
أخيرًا؛ هل تستطيعين قول شيء عن مستقبل البلد القريب؟
الثورة السورية عظيمة، وقد أعطت العالمَ دروسًا في التضحيات، بالرغم من الأخطاء التي وقعنا فيها. وفي النهاية؛ لا بدّ أن تنتصر إرادة الشعب، مهما طال الزمن.