عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة ندوة بعنوان “الاستبداد العربي.. جذورًا وتاريخًا وواقعًا“، شارك فيها كلّ من حبيب عبد الربّ سروري، الكاتب والأكاديمي؛ رجاء بن سلامة، الأستاذة الجامعية؛ سلام الكواكبي، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس؛ عزام أمين، الأكاديمي والباحث؛ وأدارها بدر الدين عرودكي.
تناولت الندوة واقع الاستبداد اليوم في العالم العربي، بأشكاله العسكرية والمدنية، وممارساته، وآثاره على التطور السياسي والاجتماعي والثقافي، وتطرقت إلى جذور هذا الاستبداد في العالم العربي، الثقافية والسياسية والدينية والاقتصادية، وعلاقة الاستبداد العربي بالاستبداد الشرقي، والتجارب الديمقراطية العربية المُجهَضة في النصف الأول من القرن العشرين، وثورات الربيع العربي، ومآلات هذا النضال ضد الاستبداد.
وفي بداية الندوة، قدّم حبيب عبد الرب سروري، شرحًا مفصلًا عن الجذور الأولى للاستبداد، ولفت الانتباه إلى أن “الاستبداد السياسي بدأ مع ولادة الدول في تاريخ الإنسان، لكن يجب أن لا ننسى قبل ذلك (النوع البيولوجي الإنساني)، أي أن الإنسان يولد وفي جيناته كل الميول للعدوانية والأنانية وللسيطرة على الآخر، وهذه الميول تتغير مع الواقع باستمرار ولكنها تبقى من تركيبة الإنسان، باعتبار أنها كانت منذ البداية هي وسيلته لمزيد من البقاء، ولكن بعد تشكُل الدول كان هناك قوانين إنسانية عامة لاستمرارية الاستبداد واستمرارية توارث الاستبداد”.
وأضاف “(العنف والإرهاب) في أي ديكتاتورية، يعدّ الوسيلة الأكبر لتدمير الذات في المجتمع، وللسيطرة على الآخر وعلى قدرات الإنسان بشكل عام”. وأشار إلى أن من الوسائل الأخرى التي تسمح ببقاء الاستبداد وتوارثه هي (الإيديولوجيات والأديان)، التي تستخدم لفرض رؤية معينة تُقدَّم وكأنها الحقيقة المطلقة، سواء كانت الحقيقة النازية أو الحقيقة الستالينية أو الحقيقية الدينية”.
ومن الوسائل الأخرى، حسب حبيب، “(التجهيل)، وعدم رؤية كيف يعيش الآخر وعدم الاطلاع على تجارب الآخر في القضاء على الاستبداد، إضافة إلى فرض الأُمية السياسية والمعرفية”.
ولفت إلى أن “الاستبداد مبني على منظومة تراتبية من الطغاة الصغار، إذ أن الإنسان يولد إما ليكون عبدًا أو ليكون مستبدًا”، وتابع أن “الأهم لبقاء الاستبداد هو العبودية الطوعية أو السيطرة على الآخر”، وبيّن أن “الاستبداد مرتهن على تحويل الإنسان إلى عبد قابل لعبوديته، ومن أجل ذلك فإن العبودية الذاتية مهمة جدًا لفهم الاستبداد ولفهم بقاء الاستبداد”.
من جانبها، تحدثت رجاء بن سلامة، عن الاستبداد وجذوره، ورأت أن الاستبداد هو أقرب إلى طبيعة النفس البشرية من نقيضه أي”الديمقراطية”. وأن “العبيد هم الذين يخلقون المستبد وهم الذين يجدون حاجة إلى خلق هذا البطل الذي ربما يذكرهم من الناحية النفسية بـ (الأب) أو الشخص البطل الذي يحمي الفرد خاصة عند خوفه”.
وأشارت إلى أن هناك عاملًا آخر يؤدي دورًا مهمًا في مسألة الاستبداد، وهو “المصلحة”، وقالت إن “المستبدين يؤسسون نظامًا استبداديًا لوجود هذه الحاجة إلى (الحامي)، وهي التي تفسّر فانتازيا المستبد المستنير، الذي ساد في تفكير رواد النهضة أنفسهم، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين”.
وأوضحت أن “المستبد يمارس الاستبداد، لأن له مصلحة مادية في الاستبداد، وهذا يأخذنا إلى سلطة أصحاب الأموال التي تنخر في الديمقراطية وتهددها وتهدد تجارب الانتقال الديمقراطي، كما حصل في تونس على سبيل المثال، كما تهدد أعرق الديمقراطيات”.
وفي هذا الصدد، قال عزام أمين: إن “الاستبداد ظاهرة إنسانية معقدة جدًا، إذ يجب الأخذ بعين الاعتبار تحليل الفرد والمجتمع والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعوامل الفردية النفسية، ولا يمكن بالمقابل القول بأن جذور الاستبداد هي من النفس البشرية، والاكتفاء بتحليل نفسي فردي”.
وذكر أمين أن ظاهرة الاستبداد هي ظاهرة إنسانية موجودة في أمريكا اللاتينية وفي أفريقيا وفي أميركا الشمالية، وكانت موجودة في أوروبا، وهي موجودة الآن في العالم العربي والعالم الآسيوي. وأوضح أنه ضد مقولة “الاستبداد الشرقي”، ومضى قائلًا: “للاستبداد أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية ونفسية فردية، وبالتالي فإن جذور الاستبداد موجودة في كلّ هذه العوامل”.
وخالف أمين ما ذهبت إليه رجاء بن سلامة التي تحدثت عن المستبد المستنير وأن الفرد بحاجة إلى من يحميه، وقال: “لا يمكن أن أتخيل علاقتي بصدّام حسين أو بحافظ الأسد، بهذه الطريقة التي ذكرتها”.
وفي سياق حديثه، قال أمين: “لم أرَ سببًا في خنوعنا ومأساتنا العربية غير الأنظمة الحاكمة، وأيّ تغيّر يبدأ بتغير الأنظمة الحاكمة، دون أي طريقة أخرى”.
ولفت الانتباه إلى أن “التعليم هو إحدى الطرق التي يجب اتباعها للخروج من الواقع المأساوي، وللنهوض بمجتمعاتنا العربية، فكلّ الأنظمة العربية حوّلت المدرسة إلى مؤسسة تدجين وتهجين للمواطن العربي، واستخدمت المدرسة العربية القسر والتعذيب في التعليم، وقتلت الروح النقدية، وكانت مهمتها تعليم الطاعة والخنوع والتعليم القدري، وهذا ما تعلّمناه في كلّ المدارس العربية، سواء في سورية أو ليبيا وغيرها، وكانت إحدى الوسائل التي استخدمها الطغاة في حكم المجتمعات”.
من جانبه، رأى سلام الكواكبي أن تخصيص العرب فقط بموضوع الاستبداد يهمّنا من الناحية السياسية، في حين أن مفهوم الاستبداد من الناحية المطلقة هو “شيء كوني”.
وقال الكواكبي إن “الاستبداد والعنف والأذى كلّها موجودة لدى الإنسان، وأعتقد أن التربية والقانون والتعليم هي من تنقذ الإنسان من الوقوع في أي شيء غرائزي”. ورأى أن “الإنسان يتوق إلى حريته فقط وإلى حرية نفسه، أمّا التوق إلى الحرية المشتركة، فهذا يحتاج إلى مسار وإلى عملية وعي وإلى ثقافة، وهذا ما شاهدناه في الثورة السورية، عندما خرج كثير من الأشخاص من أجل الحرية، وصدّقناهم، وعندما حصلوا على إمكانية أن يمارسوا هذه الحرية، في نطاق خَرج عن إطار سيطرة النظام، عادوا إلى الطبع الاستبدادي، واعتقدوا أن حريتهم في فرض رؤيتهم على الجماعة”.
وتطرقت الندوة في أحد محاورها إلى “واقع الاستبداد في عالمنا العربي”، وأنه المنهج المفضل لدى النُظم العربية، على اختلافها، سواء في أشكاله العسكرية أو المدنية، وشرحت كيف يُمارس الاستبداد في عالمنا العربي.
وحول ذلك، أوضح حبيب عبد الرب سروري أن ممارسات الاستبداد التي كانت في القرون الماضية لم تتغير في وقتنا الحالي، من ناحية الاعتقالات والتعذيب في السجون، إضافة إلى الفساد وغيرها من الأشكال الأخرى التي لم تتغير، وما تزال بتلك النوعية السابقة. وأشار إلى أن أشكال الاستبداد تمارس عربيًا، من خلال “عدم الفصل بين السلطات، وترسيخ الاستبداد والفساد في نفس الوقت، إضافة إلى أن رئيس الدولة ينظر إلى الشعب بأنه ملك له”.
وتابع أن “السيطرة الكلية على الإنسان هي جزء أساسي في الاستبداد، وهذا موجود في كل مكان، حتى عربيًا أيضًا، إضافة إلى لعبة الاستبداد التي يمارسها الحاكم الذي يستخدم الجانب كوسيلة لاستمرار بقائه في الحكم”.
وفي ردّ على سؤال “ما العمل للخروج من حظيرة الاستبداد إلى فضاء الحرية والديمقراطية؟”، أجاب سروري: “يجب القيام بثورة إنسانية وبنشر وعي جديد، والتضامن مع الإنسان والمضطهدين والمعذبين، ويجب أن يكون هناك دور جوهري للمثقفين والمفكرين والفلاسفة، لوضع المفاتيح وإعطاء الأولوية الرئيسية لقهر الاستبداد ومقاطعته”.
وفي السياق ذاته، أجابت رجاء بن سلامة: “يجب تجذير الديمقراطية في الواقع، ببناء المؤسسات الديمقراطية والدفاع عنها، والوقوف في وجهِ من يريد الانحراف عن الديمقراطية واستخدام الديمقراطية لصالح الأثرياء على صالح الفقراء، وذلك من خلال التعليم والتربية على قيم الديمقراطية وقيم المواطنة، لأن التعليم هو مصدر التنمية الأول، وهو أفضل استثمار على المدى البعيد، والدول التي نجحت في بناء اقتصادها هي الدول التي استثمرت في التعليم، ورأت أن التعليم هو أفضل من بناء جيش قوي”.
أمّا عزام أمين فقال: إن “تغيير الأنظمة هو أول خطوة للخلاص من الاستبداد ولبناء مؤسسات ديمقراطية، إذ إننا لا يمكن أن نتطور دون ديمقراطية، ولا يمكننا أن نتخلص من الاستبداد وآثاره”. في حين قال سلام الكواكبي: هناك عاملان أساسيان “العلمانية وحيادية الدولة تجاه الأديان، وفصل الدين عن الدولة ورفع يد الدولة عن الدين، وبالتالي أنا أخدم الدين، وأسحب من يد الدولة الدين كسلاح استبدادي، أي أنها ضد الاستبداد الديني وضد الاستبداد على الأديان، إضافة إلى عامل التعليم في موضوع العلوم الإنسانية، إضافة إلى تدريب مجتمعاتنا على مفهوم المواطنة، وعندما نصل إلى أن نتمكن من فهم دورنا، كمواطنين، فإننا نكون قد قطعنا خطوة كبيرة إلى الأمام”.
وتم خلال الندوة الرد على أسئلة المتابعين، ومن بينها سؤال: “أيّهما أسبق الاستبداد أم الفساد؟ وهل يمكن أن نقول إن أحدهما مقدّمة للآخر؟”، وردّ عزام أمين بالقول: إن “الفساد يأتي نتيجة الاستبداد وغياب الحرية وغياب الديمقراطية وغياب النقد وغياب المساءلة، وما دام هناك استبداد، فسيكون هناك فساد، وإن الفساد في الأنظمة القمعية المستبدة منتشرٌ في كلّ تفاصيل الحياة، بمختلف أشكالها، ولا يمكن حتى نقد هذا الفساد”.