عبد الرحمن المصري/ ترجمة أحمد عيشة
ما تزال مراجعة السياسة السورية التي تُجريها إدارة جو بايدن مستمرة. وما زال الرئيس بايدن، منذ تولّي منصبه قبل سبعة أشهر حتى الآن، يتصرّف وفق سياسة مؤقتة تجاه سورية تفتقر إلى الهدف والتوجيه. وقد كانت هذه السياسة إلى حد بعيد استمرارًا لسياسة الإدارة السابقة، ولا سيّما في مهمة الحفاظ على الاستقرار منخفضة التكلفة، في شمال شرق سورية، واستمرار الضغط الاقتصادي على نظام بشار الأسد، من دون أن يكون هناك هدف سياسي واضح. وما تزال المقاربة (النهج) الأميركية إزاء سورية ضيّقة الأفق، وليس لديها استراتيجية فعلية تجاه الصراع السوري نفسه.
وكلّما انتهت هذه المراجعة المملّة التي لا نهاية لها، بغض النظر عمّا قد تستلزمه، ثبت من الناحية الواقعية أن ليس هناك ما يشير إلى أنها تستطيع أن تغيّر بشكل مجدٍ مقاربة/ نهج السياسة الخارجية، التي تتبناها الولايات المتحدة في التعامل مع البلد الذي يتعرض للعذاب. تفرض الحسابات الاستراتيجية الأميركية الحالية قيودًا صارمة على خيارات السياسة الخارجية، تقيّد واشنطن عن التعامل المنضبط، مع كثير من التهديدات التي يتضمنها ملفّ سورية. لقد تراجع دور وأهمية الصراع في سورية خلال فترات ثلاث إدارات أميركية متعاقبة، إلى مكانة بعيدة بما يكفي، بحيث إن إعادة المشاركة الجادة قد تبدو اليوم جريئة للغاية، لأنّ القيود المحلية الحالية المفروضة على إدارة بايدن من غير المرجح أن تشجّع المبادرات الجريئة أو المتحملة للمخاطر، ولأن تعقيد الصراع السوري لا يقدّم إجابات سهلة.
وتماشيًا مع الوضع العالمي المتراجع، وانحدار النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، من المرجح أن تعمل إدارة بايدن على تمديد نهجها الحالي المتمثل في الجلوس في المقعد الخلفي في سورية، والاكتفاء بدور المراقبة. وعلى الرغم من ذلك، فلن يكون هذا النهج خاليًا من العواقب. ومن المرجّح أن يرى منافسو أميركا، وتحديدًا روسيا، في سياسة عدم المشاركة المعلنة في الولايات المتحدة، فرصةً لتحدّي وجودها في سورية.
التراخي في الماضي والمأزق الحالي
على مدار العقد الماضي، عانت الولايات المتحدة حالتين من حالات عدم الاتساق في السياسة المترابطة، فيما يتعلق بالصراع السوري. أولًا، تعاملت الولايات المتحدة مع سورية على أنها ثانوية بالنسبة إلى السياسات الإقليمية الأخرى، ومشروطة بها، مثل محاربة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، ومواجهة التوسع الإقليمي الإيراني، وإدارة العلاقات مع تركيا، والتنافس مع روسيا.
لم تكن هناك حقًا سياسة سورية قائمة بذاتها ومتسقة من قِبل إدارة أميركية منذ بداية الصراع في عام 2011. ولم تتمكن واشنطن من صياغة سياسة تجاه سورية سليمة متوازنة ومتناغمة مع جدول أعمالها الأوسع نطاقًا في المنطقة. بكلمات أخرى: سعت الولايات المتحدة إلى تحقيق أهداف متعددة في سورية، من دون انتهاج سياسة متميزة بالنسبة إلى سورية نفسها.
والمشكلة الأخرى هي أن الولايات المتحدة -وخاصة منذ إدارة ترامب- كانت تنظر إلى الصراع السوري المتطور باستمرار وكأنه ثابت أو جامد إلى حد ما. ولم تكن واشنطن دينامية أو قادرة على التكيف مع مراكز القوى المتغيرة في البلاد، وكانت تعمل إلى حد كبير كمجرد مراقب له تأثير ضئيل للغاية.
لم تضلل هذه المشكلات الإدارتين الماضيتين -إدارة باراك أوباما ودونالد ترامب- عن الاعتراف بالمصالح الاستراتيجية في الصراع السوري فحسب، بل إنها أدت أيضًا إلى إعاقة الولايات المتحدة عن تحقيق النجاح في كثير من سياساتها الإقليمية الأخرى. كان الرئيس أوباما يفتقر إلى الالتزام، وكان يركّز على التفاوض على صفقة نووية مع إيران، في حين كان الرئيس ترامب كثير العموميات بشكل مفرط، وكان مهتمًا بالسمسرة، ويفتقر إلى معرفة الفوارق الدقيقة.
وبالتالي، فإن بايدن مقيد بشدة، ومن دون خيارات كثيرة. والمأزق اليوم هو أن الوقت قد فات حتى تتمكن واشنطن من إعادة المشاركة والإدارة في ملف سورية، على نحو يجعل إدارة بايدن تنظر إلى النتائج القصيرة الأجل المحتملة، باعتبارها تفوق التكاليف والمخاطر.
إن العمل المجدي في سورية يستدعي تعزيز النفوذ الذي فقدته الولايات المتحدة منذ أمد بعيد، ومن غير المرجح أن تلبي إرادة سياسية أميركية كافية وتيرةَ الصراع وتطوره وعمق التزامات الخصوم تجاهه. منذ تولي بايدن السلطة في كانون الثاني/ يناير، لم يكن هناك سوى القليل مما يشير إلى أن واشنطن كانت تسعى للحصول على النفوذ في سورية. وفي حين وعد الرئيس بايدن في البداية باستعادة مكانة أميركا في العالم أو عكس مسار تصرفات أسلافه، فإن حقيقة الأمر هي أن أفضل ما يستطيع بايدن أن يفعله اليوم هو التعامل مع النتائج المترتبة على تصرفاتهم.
هل الانسحاب في الأفق؟
من الأشهر القليلة الماضية، يستطيع المرء أن يستنتج أن إدارة بايدن تحاول تحقيق هدفين بحدودهما الدنيا في سورية: الأول تحسين ظروف إيصال المساعدات الإنسانية؛ والثاني الحفاظ على الوجود العسكري الأميركي في شمال شرق سورية. وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات قد تكون قابلة للتحقيق، فإن الهدف الأول هامشي حقًا بالنسبة لملف سورية، وتأثيره على السياسة الأميركية وتطور الصراع ضئيل للغاية، والهدف الثاني يستدعي مزيدًا من الإرادة السياسية والالتزام.
من المتوقع أن تلتزم إدارة بايدن بالاستمرار في النهج نفسه، إذ إنّ القوات الأميركية في شمال شرق سورية (التي يبلغ عددها نحو تسعمئة جندي، وتسهم في تحقيق الاستقرار وبناء قدرات الشركاء الأكراد المحليين في مرحلة ما بعد داعش)، سوف تصبح على نحو متزايد هدفًا لروسيا. وعلى الرغم من أهمية الاستمرار بالالتزام بهزيمة داعش، ومساعدة قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد، فإن الوجود العسكري الأميركي معرض جدًا للتحديات، من دون التزام واضح بدعمها وتقويتها.
إن الطريقة التي سحبت بها الولايات المتحدة حديثًا قواتها المنتشرة من أفغانستان لا تجعل الروس أكثر اهتمامًا برؤية خروج مماثل من سورية فحسب، بل إنها تتعلق أيضًا بالشركاء، مثل قوات سوريا الديمقراطية، التي سوف تشكك مرة أخرى في التزام أميركا. إن قوات سوريا الديمقراطية الكردية لديها مخاوف جدية بخصوص نجاتها السياسية، مع التحديات المتوقعة من جانب تركيا ونظام الأسد، ولذلك سوف تنظر إلى الروس بالتأكيد على أنهم ضامن أكثر إخلاصًا للوضع الراهن. وفي الوقت الذي تحسّن فيه موسكو علاقاتها مع القيادة الكردية في سورية، لن يكون من المستغرب أن نرى إدارة بايدن تنظر إلى الانسحاب باعتباره خيارًا قابلًا للتطبيق، مستخدمة المنطق نفسه حول إنهاء تورط أميركا في “الحروب التي لا نهاية لها”.
وفي حين أن اهتمام إدارة بايدن المتجدد بإعادة تشغيل المسار الدبلوماسي لن يكون الأداة الوحيدة للمشاركة في مثل هذا السيناريو، فإن آفاقه سوف تنخفض بشدة. وعلى الرغم من أن العقوبات تؤدي مهمة معاقبة نظام الأسد على جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فإنها غير كافية وحدها كقوة ونفوذ للولايات المتحدة، لأنها لن تجبر نظام الأسد على تغيير سلوكه أو قيادته، ولا تعزز مصالح الولايات المتحدة. والأداة الوحيدة التي يرجح أن تفعل ذلك كانت القوة العسكرية، ولكن كل الدلائل تشير إلى أن هذا الأمر قريب من المستحيل اليوم.
لا تعرف الولايات المتحدة ماذا تريد في سورية، وليس لديها أي طريقة متماسكة لنهاية اللعبة، والأصدقاء والأعداء كلاهما يدرك ذلك. ومن غير المرجح أن تعطي إدارة بايدن الأولوية لسورية في الأشهر المقبلة. ويبدو أن الرئيس بايدن يريد تجنب الاشتباك في المصالح المتنافسة للصراع، نظرًا للتحول الهائل في أولويات أجندة السياسة الخارجية الأميركية، والافتقار الحاد إلى الخيارات الآمنة لإعادة الاشتراك في سورية وترتيبها.
إن الأهداف الضيقة للولايات المتحدة، والانتظار المستمر لما سيحدث (wait-and-see)، لا يمكن الإبقاء عليهما طويلًا، ومن المرجح أن يعمل منافسو أميركا في سورية من أجل رحيل الولايات المتحدة. وفي مثل هذه الحالة، سوف تحتاج واشنطن إلى الاستعداد لاحتمال حدوث سيناريو آخر لمغادرة القوات على غرار أفغانستان. إن الافتقار إلى استراتيجية استباقية نشطة لن يؤثر في قدرة أميركا على النهوض بالمصالح في سورية والمنطقة فحسب، بل سيؤثر أيضًا في منح المنافسين القدرة على استخدام سورية، كمنصة لمتابعة أجنداتهم الإقليمية.
اسم المقال الأصلي | On the way out like Afghanistan? The Biden administration’s Syria policy labyrinth |
الكاتب* | عبد الرحمن المصري، Abdulrahman al-Masri |
مكان النشر وتاريخه | المركز الأطلسي، Atlantic Council، 1 أيلول/ سبتمبر 2021 |
رابط المقال | https://bit.ly/3h1O7bj |
عدد الكلمات | 1162 |
ترجمة | وحدة الترجمة/ أحمد عيشة |
*- عبد الرحمن المصري زميل غير مقيم في مركز رفيق الحريري وبرامج الشرق الأوسط.