يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية الأسبوعية، الشاعر والكاتب والباحث المعارض حسن النيفي، المعتقل السياسي السابق في سجون الاستبداد الأسدي.
ضيفنا من مواليد عام 1963 في مدينة منبج، شمال شرق محافظة حلب في شمال سورية، وهو حاصل على إجازة في الأدب العربي من جامعة حلب. وكان أن انخرط في العمل السياسي منذ المرحلة الثانوية، واعتُقل عام 1986، وهو في المرحلة الجامعية، بسبب انتمائه إلى “حزب البعث – جناح القيادة القومية”، واستغرقت مدة اعتقاله خمس عشرة سنة، بموجب حكم صادر ممّا يسمّى بـ (محكمة أمن الدولة العليا)، في نظام الأسد الوحشي الطائفي الفاسد، وأخلي سبيله بتاريخ 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2001، ولم يكن متاحًا له العمل أو التوظيف، بسبب تجريده من الحقوق المدنية والعسكرية.
شارك صاحب «رماد السنين»، بعد انطلاقة ثورة الحرّيّة والكرامة في آذار/ مارس 2011 في تأسيس “المجلس المحلّي” في مدينة منبج، وكان أحد الأعضاء العاملين فيه. وفي آذار/ مارس من عام 2013، صار عضوًا بالمكتب التنفيذي في “مجلس محافظة حلب الحرّة”، ورئيسًا للمكتب السياسي في “مجلس المحافظة” خلال دورتين (2013 – 2014).
غادر النيفي مدينة منبج، بعد احتلالها من قِبل تنظيم (داعش) الإرهابي بداية العام 2014، والتجأ إلى مدينة غازي عينتاب في تركيا، وما يزال يقيم فيها.
في العام 2015، شارك ضيفنا في تأسيس “حزب النداء الوطني الديمقراطي”، واختير رئيسًا لمكتبه السياسي. كما شارك في تأسيس “التجمع الديمقراطي السوري” عام 2016، الذي كان عبارة عن تحالف بين مجموعة من الأحزاب ذات التوجه الديمقراطي.
من إصداراته الشعرية، المجموعات التالية: «هواجس وأشواق» 1986؛ «رماد السنين» 2004، (طبعة ثانية) 2020؛ و«مرافئ الروح» 2010. وله العديد من الدراسات والبحوث في مجال النقد الأدبي.
هنا نص حوارنا معه:
على الرغم من أنّ السؤال عن البدايات مكرّر، تبقى للبدايات نكهتها الخاصّة، ولا سيّما حين يشكّل السجن بداية ما.. ماذا تُخبرنا عن حسن النيفي، السيرة والمسيرة وسنوات الاعتقال؟
يمكنني التأكيد أنني أنتمي إلى جيل استثنائي في تاريخ سورية الحديث، أعني جيل الستينيات، هذا الجيل ليس استثنائيًا من حيث حيازته على ما يميّزه -معرفيًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا- عن غيره من الأجيال، ولكن الاستثناء يكمن في طبيعة الظرف التاريخي الحاضن له، ذلك أنّ معظم مواليد الستينيات من السوريين -ممّن تعاطوا مع الشأن العامّ- قد أخذ وعيهم بالتفتح في بداية الثمانينيات، ووجدوا ذواتهم أمام جملة من الأحداث الداخلية والخارجية العاصفة وذات التأثير المباشر على الحالة السورية، لعلّ أبرز تلك الأحداث الانفجار الدامي نتيجة المواجهة بين جماعة الإخوان المسلمين والسلطة، في أواخر العام 1979، وعلى امتداد العامين 1980 – 1981، ثمّ تلا ذلك اجتياح حماة في شباط/ فبراير من العام 1982؛ إذ إنّ تداعيات تلك المواجهة لم تَعُد محصورة بين الإخوان ونظام الحكم، بل كانت بمثابة تدشين عهد جديد من توحّش السلطة، ولعلّه من الواضح أنّ حافظ الأسد قد حدّد بحزم، منذ ذلك الحين، الفحوى الحقيقية لطبيعة ومنهج حكمه للبلاد، فما كان غامضًا أو مشكوكًا فيه بات واضحًا تمام الوضوح، حيث غابت السياسة -كحاجة مجتمعيّة وحقّ أساسي من حقوق المواطن- أو غُيّبت، منذ ذلك الحين، وتحوّلت إمّا إلى ولاء مطلق للسلطة التي يختزلها شخص الرئيس، وإما إلى مغامرة محفوفة بعواقب وخيمة، تبدأ بالاعتقال طويل الأمد، وتنتهي بالتصفية الجسدية، وبدا واضحًا أيضًا منذ ذلك الحين، أنّ الحوامل التي تنهض عليها الدولة الأسدية المتمثّلة بالأجهزة الأمنية والجيش، قد حوّلت نظام الحكم إلى طغمة أو عصابة، لم تكتف بممارسة الاستبداد السياسي القائم على العنف فحسب، بل أصبح السوريون في مواجهة (استبداد مركّب) سياسي – طائفي، ولعلّ هذا الطراز من الاستبداد المزدوج هو واحد من الأسباب التي جعلت لثورة السوريين مآلًا مختلفًا عمّا آلت إليه ثورات الربيع العربي الأخرى. وفي موازاة ذلك الانفجار الداخلي، كانت الحرب العراقية الإيرانية قد اندلعت في أيلول/ سبتمبر من العام 1980، وذلك على أعقاب وصول الخميني إلى السلطة عام 1979، تلك الحرب التي انحاز فيها حافظ الأسد -سياسيًا وعسكريًا- إلى جانب إيران، وقد عكس ذلك الموقف الخيارات الإستراتيجية البعيدة لنظام دمشق، فضلًا عن أنّ تلك الحرب التي استمرّت ثماني سنوات، قد كانت موضع خلاف ونزاع، سواء بين الأقطار العربية، أو بين الجماعات والقوى السياسية داخل سورية، وذلك بسبب انحياز العديد من القوى إلى خطاب الخميني، أو قناعتهم بجدوى سياسة الخميني حيال القضايا العربية والإسلامية، وربّما كان انحياز البعض منهم ناتجًا عن موقف من نظام الحكم في العراق أكثر ممّا هو ناتج عن خيارات مصلحية أخرى. ثمّ ازداد المشهد السوري قتامةً بقيام إسرائيل في حزيران/ يونيو 1982 باجتياح بيروت ومحاصرتها طوال شهر، وانتهى الحصار بخروج منظّمة التحرير الفلسطينية من بيروت، لتبدأ بعدها الحرب التي شنّها نظام دمشق على منظّمة التحرير، بهدف إيجاد منظّمة بديلة يمسك أوراقها بيده ويستثمرها كيفما يريد، وقد انتهت تلك الحرب بتدمير قوات النظام لمخيّمات (نهر البارد، البداوي في الشمال اللبناني). لعلّي أردتُ من وراء هذا السرد لما جرى من أحداث أن أبيّن جانبًا من الهواجس السياسية الشاغلة للناس آنذاك، وأن أبيّن أيضًا أنّ سخونة الأحداث آنذاك كانت جارفة، وأنّ هذه السخونة جعلت الانخراط في الشأن العامّ أو ممارسة السياسة من جانب أبناء ذاك الجيل مقرونة ومؤطّرةً بسخونة الحدث السياسي والحالة الأمنية والاجتماعية في البلاد، أكثر ممّا هي مدفوعة بخيارات أيديولوجية أو فكرية أخرى، أضف إلى ذلك أنّ مطلع عقد الثمانينيات، بكلّ ما انطوى عليه من سخونة، قد أسهم في إيجاد سمات مشتركة بين معظم معتقلي الرأي في سورية، آنذاك، على اختلاف مرجعياتهم وانتماءاتهم، ولعلّ أبرز تلك السمات:
أ – النسبة الغالبة ممّن اعتقلوا آنذاك كانت أعمارهم تراوح بين 20 و30 سنة، ومعظمهم كانوا في المرحلة الجامعية.
ب – معظم المعتقلين كان قد تمّ اعتقالهم دون أن يمارسوا السياسة مدة طويلة خارج السجن، أي اعتقلوا بعد انتمائهم الحزبي بأشهر أو سنة أو سنتين.
ج – معظم المعتقلين كان قد تبلور وعيهم الفكري والسياسي خلال فترة السجن.
د – النسبة الغالبة ممّن اعتُقلوا قضوا سنوات طويلة في السجن، تمتدُّ من 8 سنوات إلى 16 سنة.
لقد كنتُ واحدًا من هؤلاء المعتقلين، مع الإشارة إلى أنّ اعتقالي كان متأخرًا (9/ 11/ 1986)، إذ كانت بداية الشطر السياسي من حياتي في أواخر العام 1981، وكنت في المرحلة الثانوية آنذاك، حين انتميتُ إلى “حزب البعث – جناح القيادة القومية”، وكان هذا الانتماء مدفوعًا بتأثير عاملين اثنين: يتمثّل الأوّل بالموقف من ممارسات النظام بحقّ شعبه، وكذلك مواقفه السياسية الخارجية الخاذلة لتطلّعات السوريين والعرب، كانحيازه إلى جانب إيران، وحربه وتآمره على منظّمة التحرير الفلسطينية على سبيل المثال، ويتمثّل العامل الثاني بأثر البيئة والجغرافية، وأعني أنّ المنطقة التي نشأت فيها كانت ذات مناخ قومي (ناصري – بعثي)، بل ربّما كانت بعيدة عن المؤثرات الأخرى.
في العام 1983، انتقلت إلى الإقامة في مدينة حلب لإتمام دراستي الجامعية في كلّيّة الآداب قسم اللغة العربية، حيث أمضيت ثلاث سنوات كانت هي الأكثر نشاطًا على المستوى السياسي، وفي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1986، وكنتُ آنذاك في السنة الرابعة، تمّ اعتقالي من قبل فرع الأمن السياسي بحلب، وقد دام الاعتقال خمس عشرة سنة، أمضيت خمس سنوات منها في سجن حلب المركزي، وأربع سنوات في سجن عدرا المركزي بدمشق، وستّ سنوات في سجن تدمر الصحراوي، وكانت نهاية المطاف ثلاثة أشهر في سجن صيدنايا. وقد أُخلي سبيلي بتاريخ 13/ 11/ 2001، بعد أن أنهيت مدة الحكم الذي كانت قد أصدرته (محكمة أمن الدولة العليا) بحقّي، أواخر عام 1994.
بعد خروجي من المعتقل، لم يكن متاحًا لي السفر أو التوظيف، بسبب تجريدي من الحقوق المدنية والعسكرية، فعدتُ إلى الجامعة وأتممتُ تعليمي الجامعي، ثمّ تزوجت، وأنا الآن أب لخمسة أولاد، أربع بنات وصبي.
حدّثنا عن تفاصيل تلك الأيّام التي قضيتها في زنازين الاستبداد، وعن الرفاق الذين عايشتهم في سنوات السجن، وماذا بقي في الذاكرة من جحيم معتقلات الحكم الأسدي؟
لعلّ اللحظة الأكثر إيلامًا لدى المعتقل، وخاصّة إذا كان اعتقاله في مقتبل الشباب، تكمن في كونه يعدّ نفسه لرسم حياة مستقبلية، يتابع تعليمه، ثمّ يعمل، ثمّ يتزوج.. إلخ، ثمّ يأتي الاعتقال كلحظة مباغتة، فيصادر كلّ أحلامه وتطلّعاته، ويذهب به إلى عالم آخر، مليء بالفقد والقهر والإذلال، إلّا أنّ الأمر الذي لا بدّ منه، بالنسبة إلى المعتقل، هو الميل شيئًا فشيئًا إلى التصالح مع واقع السجن، محاولًا تحسين شروط تصالحه. يمكنني أن أقسم الفترة التي أمضيتها في السجن إلى ثلاث محطات: الأولى كانت في سجن حلب المركزي، واستغرقت خمس سنوات، لم أتمكن خلالها من رؤية أهلي سوى مرّة واحدة في أيّار/ مايو 1988، بسبب قرار أمني اتّخذه العقيد هاشم الصالح (رئيس فرع الأمن السياسي) بحلب، بمنع الزيارة عن “تنظيم البعث – جماعة العراق”، وعلى الرغم من ذلك، فقد كان وجود أكثر من مئة معتقل سابق موجود في الجناح، ينتمون إلى أحزاب سياسية مختلفة “الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي”، الذي أصبح اسمه فيما بعد (“حزب الشعب”، و“حزب العمل الشيوعي”– و“التنظيم الشعبي الناصري”)، أقول إنّ وجود هذا التنوّع، مع وجود إرث طيب لدى هذا الجمع من العلاقات الاجتماعية الراقية، كان عاملًا مساعدًا في إيجاد مساحات جديدة على المستوى الإنساني، طاردة للعطب والتصحّر، أضف إلى ذلك عاملًا آخر، بل لعلّه الأهمّ، وأعني القراءة، التي كانت تفتح أمامي آفاقًا ربّما هي الأرحب في عالم السجن، فضلًا عن كتابة الشعر التي كانت العاصم الأبرز للنفس حين تشعر بالاختناق، أضف إلى ذلك ممارسة الرياضة في أثناء فترة التنفّس التي كانت متاحة للسجناء بشكلٍ شبه يومي. وفي شهر كانون الأوّل/ ديسمبر من العام 1991، أصدر حافظ الأسد عفوًا شمل حوالي 2800 معتقل، وقد تمّ الإفراج بموجب ذاك العفو عن معظم معتقلي الجناح السياسي بحلب، باستثناء (18 معتقلًا) كنتُ واحدًا منهم، وفي نيسان/ أبريل من العام 1992، تمّ نقلنا من سجن حلب، إلى سجن عدرا المركزي بدمشق، حيث اتّخذت السلطات الأمنية آنذاك قرارًا بإحالة (600 معتقل) من كل الاتّجاهات السياسية، إلى (محكمة أمن الدولة العليا) بدمشق. أربع سنوات أمضيتها في سجن عدرا، كانت هي الأخف وطأة، والأكثر قراءةً والأخصب كتابةً، ربّما بسبب إتاحة الزيارة المنتظمة لأهالي المعتقلين برؤية أبنائهم، إضافة إلى وفرة في الكتب، وكذلك وجود التلفزيون والراديو، وربّما هذه العوامل مجتمعةً قد آزرتني إلى حدّ ما، في احتواء تبعات الحكم الذي صدر بحقّي في كانون الأوّل/ ديسمبر 1994 (15 سنة). في أواخر العام 1995، قامت لجنة أمنية من بضعة ضباط بزيارة مباغتة إلى جناح السياسية في سجن عدرا، حيث أجرت مقابلة مع جميع السجناء، كلّ واحد على انفراد، كانت المقابلة عبارة عن مساومة أمنية مع السجناء، وفي نهاية اللقاء، خرجت اللجنة بانطباع سيئ، بل لقد سمع بعض السجناء من بعض أعضاء اللجنة تهديدًا ووعيدًا بالترحيل إلى سجن تدمر، وهذا ما حصل بالفعل، ففي صباح 3 كانون الثاني/ يناير 1996، تمّ ترحيلنا إلى سجن تدمر، وكنا ثلاثين معتقلًا (8 من “بعث العراق”، و22 من “حزب العمل الشيوعي” ومن “الحزب الشيوعي – المكتب السياسي”) وكانت تلك الرحلة إيذانًا ببدء مرحلة جديدة من الاعتقال، كانت شديدة القسوة، زاخرة بالقهر، مليئة بكلّ أشكال التعذيب الجسدي والنفسي. حين وصولنا إلى سجن تدمر حوالي الثانية والنصف ظهرًا، قامت إدارة السجن بعزل معتقلي “بعث العراق” عن المعتقلين الشيوعيين، ثمّ بعد مرور ثمانية أشهر، قامت الإدارة ذاتها بدمج معتقلي “بعث العراق” مع معتقلي “الإخوان المسلمين” الذين يشكّلون الغالبية العظمى في السجن، كنتُ قد قضيتُ آنذاك تسع سنوات من السجن، أمضيتها في سجنيْ حلب وعدرا، وأمامي ست سنوات عليّ أن أقضيها في سجن تدمر، وبالفعل أمضيتها مع السجناء الإسلاميين، حيث يخضع سجناء “بعث العراق” -وفقًا للتصنيفات الأمنية- للمعاملة ذاتها التي تمارسها إدارة السجن على الإسلاميين. الشروط الحياتية في سجن تدمر -بالنسبة إلى السجين- هي غاية في القذارة والإذلال، ومفردات التعذيب لا تستثني أيّ لحظة يعيشها السجين، سواء في صحوه أو نومه أو مأكله، حتّى في لحظات دخوله الحمام لقضاء الحاجة، ومبلغ الخوف الذي يكابده السجين يصل إلى حدّ الاختناق، ولعلّني أذكر تمامًا أنني غالبًا ما كان ذهني -في لحظات الخوف الشديدة- يستدعي الآية الكريمة ﴿وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ﴾، لأقف مبهورًا بدقة تعبيرها عما نحن فيه، كما أذكر يومًا في ساعة الاستيقاظ الإجباري -السادسة صباحًا- كلام أحد الأصدقاء، وكان يجلس بجانبي، همس بأذني قائلًا: “لقد سمعتُ في الليل حمارًا ينهق خارج السجن، والله لقد حسدْتُه، وكم تمنّيتُ أن أكون مثله أو زميلًا له، على الأقل حينها لن أشعر بهذا الخوف المستمرّ الذي أحسّه ينهش قلبي”. ومن طريف المفارقات، أنه في صيف 1998 حدثت هزة أرضية، شعرنا بأثرها القوي الساعة الثانية عشرة ليلًا، من خلال اهتزاز جدران المهجع، وأصوات السجانين وهم يتراكضون خوفًا، وفي الصباح، كان الحزن يخيّم بشدّة على معظم السجناء، لأنّ الهزة الأرضية كانت محدودة الأثر، ولم تؤدِ إلى خراب السجن، علمًا أنّ لسان حال الجميع كان يقول: “خراب السجن هو السبيل الوحيد للخروج منه ولو إلى سجن آخر، والموت تحت الأنقاض أرحم من الموت البطيء بين ركلات السجان وتحت وقع سياطه”.
ديمومة سجن تدمر في أذهان السجناء، وخاصّة معتقلي بداية الثمانينيات، كانت مقرونة بديمومة حافظ الأسد على قيد الحياة، وربّما لهذا السبب، كان موت حافظ الأسد في العاشر من حزيران/ يونيو عام 2000، قد أحدث حالة انتعاش في النفوس، لأنه الحدث الوحيد الذي من شأنه إقناع السجناء باحتمالية الخلاص من سجن تدمر، إلّا أنّ سيناريو التوريث قد أطفأ ذلك الانتعاش الذي لم يدم طويلًا، بل ترك إحباطًا شديدًا لم تتلاشَ آثاره إلّا في السابع والعشرين من تمّوز/ يوليو عام 2001، حين اتّخذت السلطات الأمنية قرارًا بإخلاء سجنيْ تدمر والمزّة، وإيداع جميع المعتقلين في سجن صيدنايا.
كنتُ ضمن الدفعة الأخيرة من السجناء الذين غادروا سجن تدمر باتّجاه سجن صيدنايا، يوم 11 آب/ أغسطس 2001، وكان أمامي ثلاثة أشهر لأتمّم مدة الخمس عشرة سنة في السجن. خلال الأشهر الثلاثة التي أمضيتها في صيدنايا، لم أكن أشعر بلهفة انتظار انقضائها، بقدر ما كنتُ حريصًا على استثمار كلّ لحظة لا أشعر فيها بالخوف، بل كنت شديد الميل إلى الجلوس والشرود طويلًا، أستمع إلى الراديو وأدخن وأحتسي كميات كبيرة من القهوة والشاي، أسهر حتّى ساعات الصباح الأولى، وأحاول النوم قبل أن يأتي السجان ليفتح الأبواب في السابعة صباحًا، كنتُ أتحاشى سماع قرقعة جرْزة المفاتيح التي يحملها، إذ كانت تلك القرقعة كفيلة بارتعاد الفرائص في سجن تدمر.
يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2001، غادرت سجن صيدنايا بصحبة أربعة عناصر من الشرطة العسكرية، حيث أودعوني في (فرع الأمن السياسي – الفيحاء) وبعد يومين، عند الساعة الثامنة مساءً، كنتُ طليقًا، أمشي هائمًا في شوارع دمشق، لعلّي أهتدي إلى مركز الباصات التي تتجّه إلى حلب. وفي الساعة السادسة من صبيحة اليوم التالي، كانت قدماي قد وطأتْ أرض مدينتي منبج، وكانت المسافة الفاصلة بين مركز المدينة ومنزل أهلي لا تستغرق أكثر من عشر دقائق مشيًا على الأقدام، كنتُ أحسّها بعيدة جدًا، كما كنت أحسّ بقلبي يندفع كحصان جامح يريد أن يشق أضلاعي ليسبق جسدي في معانقة أحبابي، إلّا أن اندفاعة الروح ووثبتها قد ارتطمت بفجيعة الفقد، فمعظم الذين كنتُ أتوهّم أنهم سيكونون بانتظاري قد ماتوا، وفي مقدّمتهم والدتي.
الأكثر رسوخًا وتجذّرًا في ذاتي، بعد خروجي من السجن، هم أصدقائي في السجن، وبخاصّة من كنتُ اختلف معهم، سياسيًا وفكريًا، فهؤلاء، أشعر حتّى هذه اللحظة بأنني مدين لهم بأمرين اثنين: يتمثّل الأوّل بالمستوى الحميمي الراقي من العلاقات الإنسانية المجرّدة من النفاق والمحاباة، والبعيدة عن التصنّع والابتذال. ويتمثّل الثاني بأنني تعلّمتُ من أصدقائي (المختلفين عني) أنّ الفطرة السليمة ونظافة الضمير لدى المرء هما الحقل الأكثر صلاحية لاستنبات العلاقات بين البشر، ليس العلاقات ذات الطابع الإنساني فحسب، بل العلاقات الفكرية والسياسية ومسائل أخرى، علّمتني علاقتي مع أصدقائي الطيبين أنّ المهاد الأخلاقي هو الشرط الأقوى لاحتضان وتحصين الوعي بكافة تجلياته (الفكرية والسياسية والفنية والإنسانية) من الابتذال والتشظّي، حتّى بتُّ على يقين بأنّ مقولة أو فكرة (عزل الأخلاق عن السياسة) هي كذبة سافرة، بل فكرة مُدمِّرة.
أين كانت نقطة التحوّل التي أدّت بك إلى دروب الشعر والسياسة والاعتقال؟ وكيف أثَّرَ ذلك في حياتك الشخصية وعلاقتك مع محيطك بشكلٍ عامّ؟
ينبغي الفصل أوّلًا بين ما هو متأصّل في ذات المرء، وبين ما هو طارئ عليها، بالنسبة إلى الشعر فهو موهبة تتموضع في الذات البشرية بالفطرة، وتنمو وتنضج بالتعلّم والتثقيف، وربّما تخبو وتموت، إن لم تجد الشروط اللازمة لاستمرارها في الحياة، أمّا السياسة فتخلقها الظروف، ويستدعيها السياق الحياتي للإنسان. إلّا أنّ نقطة التقاطع بينهما تبدأ بالظهور تزامنًا مع النمو في الوعي والفكر لدى المرء، فمن خلال تجربتي أذكر أنّ مجموعتي الشعرية الأولى «هواجس وأشواق» كان الغالب فيها الإرهاصات العاطفية والوجدانية للذات، وكانت تخاطب شيئًا غامضًا، ربّما يعكس اضطراب الشباب وانسياقاته الجارفة، وسمة الحدوس الشعري فيها تطغى على صفاء الفكرة أو الشعور، وأعتقد أنّ السبب يعود إلى أن معظم قصائد تلك المجموعة هي من نتاج مرحلة مبكرة من الشباب. أمّا في مرحلة لاحقة، فبدأت أشعر بأنّ القصيدة بدأت تنحو بي إلى آفاق أخرى، وذلك وفقًا لما يؤرق نفسي ويبعث على قلقي، وشيئًا فشيئًا، وبطريقة لاإرادية، بدأت تتوحّد عندي الرؤية من خلال تداخل العواطف والمشاعر واندماجها بالمواقف السياسية والحياتية الأخرى، ولم أعد أشعر بذاك التناقض بين الفن وحوامله الوجدانية والعاطفية، وبين السياسة كممارسة ذهنية حيال الواقع، ولعلّ هذه المسألة في غاية الحساسية، وما تزال تثير جدلًا كبيرًا في الوسط النقدي: إلى أيّ حدّ يمكن للسياسة أن تتجنّى على الشعر؟ لنؤكّد بدايةً أنّ الشاعر هو مفكّر، ولكنه يفكر بطريقة فنية وليست منطقية، فإن نجح في تجسيد أفكاره فنيًا، فذلك هو المراد، وإن خذلته أدواته وملكاته الفنية فقد انحدر نتاجه إلى الكلام الخطابي المباشر الذي يبعده عن مضمار الفن. في تاريخنا الشعري، ثمّة شعراء كبار كانت السياسة إحدى أطروحاتهم المركزية، وقد حقّقوا نجاحًا إبداعيًا باهرًا (نزار قباني، عمر أبو ريشة، محمود درويش)، وثمّة آخرون كانت حواملهم الفنية أوهى من أن تحمل أفكارهم، فكانت قصائدهم أقرب إلى التبشير السياسي منها إلى الفن.
كيف أثّرت تجربة السجن فيك، كإنسان وشاعر وسياسي؟ وهل تغيّرت نظرتك إلى الحياة والكتابة والسياسة بعد تلك التجربة القاسية؟
ما من شكّ على الإطلاق في أنّ مرحلة السجن، على الرغم من ظلاميتها من جهة كونها تغييبًا قسريًا عن الحياة الطبيعية، كانت المرحلة الأكثر تأثيرًا في بناء الذات من الناحيتين، الفنية والسياسية. فمن جهة الشعر، جعلني السجن أخرج بالقصيدة من طورها الانفعالي العاطفي، إلى فضاء أكثر تأمّلًا، وبالتالي أكثر ثراءً، وذلك بفضل القراءة التي علّمتني أنّ الإبداع عامّةً، والشعر على وجه الخصوص، يغدو أكثر توهّجًا بفضل اكتنازه على البعد المعرفي والإنساني. أمّا من الناحية السياسية، فقد أدركت منذ السنوات الأولى للسجن أنّ سلطة الأيديولوجيا هي الكابح الحقيقي لنشاط الفكر، وأنّ التكلّس الفكري هو الطارد الأوّل لثراء المعرفة وازدهارها، كما أدركت أيضًا أنّ الثقافة، بمفهومها الإنساني العامّ، هي فضاء أرقى من السياسة، لا بل إنّ ممارسة السياسة مجرّدةً من رصيدها الثقافي والمعرفي هي تهويم في الخلاء، ولعلّ الأهمّ من ذلك كلّه هو أنّ مرحلة السجن قد أتاحت لي فرصة التحدّي الذاتي لمجمل القناعات والأفكار التي انبثقت من سلطة الأيديولوجيا وقد أثبت الواقع زيفها وبطلانها، إنها امتحان لا يخلو من عسر وصراع مرير مع الذات، ولكنه مقرون في الوقت ذاته بنشوة في الضمير لا يدرك بهجتها إلّا من جرّبها.
مع دخول الثورة السورية عامها الحادي عشر، كيف تقرؤون من موقعكم اليوم مجرياتها وتفاعلاتها؟
لا جديد في القول: إنّ القضية السورية لم تَعُد بيد السوريين، وباتت رهنًا لصراع المصالح المتعاركة على الجغرافيا السورية، كما لا جديد في التأكيد أنّ إفلات القرار الوطني من يد السوريين كان البداية التي أدّت إلى كوارث متعاقبة على كل المستويات السياسية والعسكرية والإنسانية، إلّا أنّ ما يمكن الوقوف عنده هو استمرار الاعتقاد، من جانب كثيرين ممّن تصدروا مشهد القيادة، بجدوى المسارات التفاوضية التي هندسها وأشرف على سيرورتها الروس، ويتمّ فرض وتنفيذ محتوياتها على السوريين بالقوة، من خلال امتثال كيانات المعارضة الرسمية للإرادات الإقليمية والدولية، أعتقد أن القضية السورية بلغت من التعقيد درجة لم يعُد ينفع فيها الترقيع، بل هي بحاجة إلى عمليات استئصالية موجعة، ربّما يقول البعض إنّ وجهة نظر كهذه إنما تعني حالة تشبه العودة إلى الصفر، أقول: نعم، لا محيد عن تصفير البرامج إن ثبت فسادها وعدم صلاحيتها.
بعد عقدٍ دامٍ، أما زال هناك إمكانية للحديث عن ثورة شعب في بلدٍ تحوّل اليوم إلى مقاطعات مسلحة، ويعاني وجود خمسة احتلالات وعشرات الميليشيات الطائفية فوق أراضيه التي مزّقتها الصراعات المسلحة؟
ربّما كان من السهل التلفّظ بعبارات من مثل: موت الثورة، أو اندثارها، أو إخفاقاتها وفشلها إلخ، ولكن لو عدنا إلى الطور النظيف للثورة، أي إلى الفترة الممتدّة من العام 2011 حتّى بداية العام 2014، لوجدنا أنّ الحراك الشعبي في سورية -قبل توغل الجيوش الأجنبية في البلاد- أثبت قدرة على كسر هيبة المنظومة الأمنية للنظام، وأجبر النظام على الانحسار من كثير من المناطق والمدن والبلدات، كما أثبت هذا الحراك -نسبيًا- القدرة على إدارة المناطق والبلدات من خلال المجالس المحلّيّة التي تشكّلت آنذاك، وربّما كانت الأمور تسير بوتيرة تؤكّد أنّ نظام الأسد في حالة تآكل، ولكن قوة الحراك الشعبي والتضحيات الكبيرة التي قدّمها السوريون شيء، والنجاح في استثمار قوة الحراك وعطاء التضحيات وتحويل ذلك إلى مُنجز سياسي شيء آخر، فالذي حدث هو عدم وجود توازن بين الموقف الشعبي الشجاع والمعطاء، والموقف الرسمي الخاذل للمعارضات الرسمية، الأمر الذي جعل المُنجز الثوري الشعبي يتبعثر على رخاوة وهشاشة الجهات السياسية التي أخفقت في إدارة الثورة، ولعلّ هذا الإخفاق كان أحد العوامل التي مهّدت لاختراق الثورة، ومن ثمّ التسلّط عليها والتحكّم في سيرورتها.
بعد العام 2014، بدأ الحراك الثوري بالانحسار، وبدأت القوى المدعومة من الخارج تُحكم قبضتها وتفرض نفوذها. ثمّة مُضمَر ثوري لا يمكن إنكاره لدى شرائح كبيرة من السوريين -سواء أكانوا داخل سورية (ومنها مناطق سيطرة النظام)، أو في مخيّمات النزوح، أو في بلدان اللجوء- والإصرار على إنكاره هو إنكار لتضحيات السوريين وتطلّعهم إلى الحرّيّة، أمّا القول بفشل القوى السياسية السورية المعارضة وعدم قدرتها على تحصين الثورة، فهذا صحيح بلا أدنى ريب.
انخرطتم في العمل السياسي بعد الثورة، في الحياة الحزبية، وترأستم مكتبًا سياسيًا لـ “حزب النداء الوطني الديمقراطي”، لكن سرعان ما توقف الحزب عن النشاط، وكما تعلمون هناك كثير من الأحزاب والتشكيلات السياسية المعارضة التي ظهرت في السنوات العشر الأخيرة. وهذا يدعونا إلى سؤالكم عن رؤيتكم للعمل الحزبي المعارض، وما هي المصاعب والعقبات التي تحدُّ من عمل وتقدّم وتطوّر هذه القوى لتكون قادرة على قيادة العمل السياسي في زمن الثورة؟
موضوع الأحزاب السياسية وإشكاليّاتها في الحالة السورية هو من الموضوعات التي تحتاج إلى أحاديث طويلة ومفصّلة، وقد نشرتُ أكثر من مادة حول هذا الموضوع منذ العام 2015، في موقعي “أورينت” و”جيرون”، والعديد من الصحف، وضمن ما هو مُتاح لي في هذا الحيّز، يمكنني القول باختصار شديد: ما أزال أعتقد أنّ الإطار الحزبي هو النموذج الأمثل لممارسة السياسة، كما أعتقد أنّ افتقار الحالة السورية إلى إرث من العمل الحزبي الناضج كان أحد أهمّ أسباب اليتْم السياسي الذي وَسَم الثورة السورية، ولذلك كان من الطبيعي أن يتوجّه كثير من السوريين نحو تشكيل أو إيجاد أطر سياسية، يمكن لهم من خلالها أن يعبّروا عن آرائهم أو تصوّراتهم، بغية تنظيم العمل السياسي من جهة، والخروج من الحالات الفردية التي تبقى أقلّ أثرًا وفاعلية من جهة أخرى، إلّا أنّ تلك الاندفاعة نحو تشكيل بنى وأحزاب سياسية كانت تصطدم بجملة من العوائق، ولن أقف عند الأسباب التي أنتجتها مرحلة نصف قرن من الاستبداد وتحريم العمل السياسي، لأنها أضحت معروفة، وسأكتفي بالإشارة إلى بعض الأسباب الأخرى، الموضوعية والذاتية، فممّا هو موضوعي أنّ أكثر الأحزاب التي تشكّلت بعد انطلاقة الثورة كانت فاقدة، منذ ولادتها، لأهمّ شرط أو حامل من حوامل نجاحها، وأعني افتقاد (الأرض – الجغرافيا)، وهذا ما يُفقدها حاضنتها الشعبية، ويجعلها أقرب إلى الكيانات الافتراضية المجرّدة من القوة والتأثير، ثمّ إنّ قيام أحزاب خارج البلاد سوف يجعلها عرضةً لاستثمار الداعم أو المموّل، وهذا المموّل غالبًا ما يكون جهة خارجية غير سورية، الأمر الذي يبعدها -مع مرور الزمن- عن مسارها الوطني، ويحوّلها إلى أداة بيد المستثمر في إدارة الأزمة. أمّا الجانب الذاتي، فيتمثّل في غياب وعي حزبي جديد قادر على تجاوز الإرث التقليدي للأحزاب، وقادر على استلهام المعطى الثقافي والفكري للثورة السورية. أضف إلى ذلك أنّ تعاظم النفوذ الدولي في القضية السورية وانسداد أفق الحلول الوطنية قد عزّزا لدى كثيرين شعورًا بعدم الجدوى من أيّ دور حزبي فاعل.
اهتمامكم الخاصّ بالحياة السياسية في أوساط السوريين/يات، وبخاصّة فئة الشباب، يدعونا إلى سؤالكم عن الأسباب الكامنة -من منظوركم- خلف عزوف الشباب السوري الثائر عن المشاركة في الحياة السياسة العامّة، وابتعادهم عن قوى وأحزاب المعارضة؟
يمكن الوقوف بإيجاز عند ثلاث مسائل: الأولى، ثمّة جفاء عامّ بين السياسة والمجتمع السوري، لا ينحصر في فئة عمرية أو شريحة بعينها، بل يشمل جميع شرائح المجتمع وأنساقه، ذلك أنّ العمل السياسي، بمعناه وبمضامينه الفعلية، لم يكن مُتاحًا في ظلّ نظام التّوحّش الأمني الأسدي، بل لعلّه كان تهمةً قد تودي بصاحبها إلى نتائج وخيمة، ولعلّ مكوث الآلاف من معتقلي الرأي في سجون الأسد سنوات طويلة، تجاوزت عند البعض مدة ربع قرن، فضلًا عن التصفيات الجسدية التي شملت كثيرين منهم، خير شاهد على ذلك. وقد كان لهذا التحريم أو (التجريم) السياسي أثره البالغ، ليس في انكفاء المواطن السوري عن ممارسة السياسة فحسب، بل في تعزيز التشوّهات الفكرية والنفسية لمفهوم السياسة في اللاوعي الجمعي أيضًا، ذلك أنّ الإحجام الكبير والحذر الشديد من التعاطي السياسي، باعتباره مبعث خطر شديد التداعيات، ما زال قائمًا على الرغم من زوال أسبابه في كثير من الأحيان، ولعلّ عبارات التبرّؤ من الانتماء السياسي، لدى كثير من السوريين، باتت من العبارات المألوفة، إذ غالبًا ما يفتتح كثير من المثقّفين كلامهم بالقول: “أنا ما لي علاقة بأيّ جهة أو حزب سياسي، أنا مستقلّ”.. يقولها بنبرة المُتّهم الذي يحاول إبعاد شبْهة يخشى أن تطاله، ثمّ إنّ النطق بالتشديد على عبارة “أنا مستقلّ” توحي برفض مطلق لأيّ عمل سياسي جمعي، فضلًا عن كونها حصانة من تهمة قد يضمرها الشخص المُخَاطَب.
المسألة الثانية، لئن اعتقد جيل شباب الثورة في سورية أنّ الطبقة التقليدية التي تمارس السياسة، في مرحلة ما بعد انطلاقة الثورة، هي تلك الشريحة التي يتوزّع وجودها في الكيانات الرسمية للثورة (“المجلس الوطني”؛ ثمّ “الائتلاف”؛ ثمّ “الهيئة العليا للمفاوضات”؛ ثمّ “اللجنة الدستورية”)، وأنّ هذه الكيانات هي التي حالت دون حضور وازن للعنصر الشبابي الثوري في صفوفها، فينبغي القول: إنّ هذه الكيانات لم تقطع الجسور بينها وبين القطاعات الشبابية فحسب، بل بينها وبين جميع البنى السياسية والاجتماعية والثقافية السورية، ولئن كان من الصحيح أنّ نشأتها كانت تلبي حاجة وطنية آنذاك، فإنّ طريقة تصنيعها كانت محكومة بالنفوذ والإرادات الإقليمية والدولية، التي منحتها شرعيتها، وبحكم طبيعة القائمين عليها وانتماءاتهم الأيديولوجية والسياسية، وكذلك بحكم طبائعهم الشخصية، لم تسع تلك الكيانات، بعد مرور أعوام على تشكيلها، إلى استبدال شرعيتها البرّانية (الإقليمية والدولية) بشرعية وطنية تستمدّها من السوريين، ولعلّ هذا ما جعلها تعمل في محيط معزول -ميدانيًا وسياسيًا واجتماعيًا- عن جميع شرائح الثورة، وما تزال حتّى الآن تكتفي بممارسة دور (وظيفي)، ربّما استدعته المصالح الخارجية أكثر ممّا تستدعيه الحالة الوطنية.
المسألة الثالثة، بعد انطلاقة الثورة، لاحت في المشهد السوري اندفاعة كبيرة نحو تشكيل أحزاب وتجمّعات وتيّارات سياسية، تحاول شحن خطابها بمفاهيم جديدة، تقترب من الحداثة، في محاولة لمقاربة تصوّرات جديدة في بناء الدولة، واستلهام قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولعلّ مجمل هذه الاندفاعات ما تزال تراوح في مسار متعثّر، إذ لم تشهد الحالة السورية بعدُ، ولادة كيان سياسي استطاع أن يرسم علامة فارقة في المشهد السياسي السوري، ربّما يعود ذلك لأسباب عديدة، لا يتّسع المجال المتاح لذكرها، ولكن تنبغي الإشارة إلى السبب الأبرز، وهو افتقارها إلى العامل الأهمّ، وأعني اغترابها الجغرافي والفيزيائي عن الوطن الأم، بحكم نشأتها خارج الأرض السورية. ولكن على الرغم من تعثّر مسار هذه المحاولات، فإنها تجسّد حراكًا يفصح بالحاجة إلى بناء نوى سياسية يمكن البناء عليها، أو تصلح أن تكون مشروعًا تراكميًا يكتسي بعض الخبرات والتصوّرات اللازمة والضرورية لأيّ إطار سياسي مستقبلي.
وفي الوقت الذي كان فيه من المفترض أن تكون المساهمة الشبابية هي الرائدة في تأسيس وصياغة تلك البنى السياسية الجديدة، كانت النتائج على غير ذلك، إذ غالبًا ما أشاح الشباب بوجوههم عنها، بل ربّما نظروا إليها بمزيد من الريبة والشكّ حينًا، وبشيء غير قليل من اللامبالاة حينًا آخر، أمّا الريبة والشكّ فمبعثهما غياب الإرث السياسي الحزبي في تحقيق مُنجز ذي أثر بالغ في حياة السوريين، وخاصّة في ظلّ الدور الذي تجسّده المعارضة الرسمية، والذي لا يرقى إلى تطلعات السوريين وتضحياتهم أوّلًا، وثانيًا، لعدم قدرة القوى والأحزاب وجميع الأطراف التي هي خارج الأطر الرسمية للمعارضة، على أن تكون البديل الأفضل من نظيرتها الرسمية، الأمر الذي يعزّز القناعة لدى قطاعات شبابية واسعة بعدم جدوى العمل السياسي.
أمّا اللامبالاة، فلعلّ مبعثها الظروف المعيشية التي يواجهها السوريون في بلدان اللجوء، والتي تصبح هي الناظم الأقوى لسلوكهم، أكثر من رغباتهم وتطلّعاتهم، وربّما تحوّل العامل المادّي، في كثير من الأحيان، ولدى قطاعات شبابية واسعة، من عامل كفاية معيشية، إلى عامل إغراء، فيستمرئه المرء بعد إدمانه، ولم يعُد يرى في سواه إلّا ما هو نافل، وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال الدور السلبي لما يُدعى (منظّمات المجتمع المدني) التي استغلّت طاقات الشباب والشابات العلمية والإبداعية، مقابل وفرة مالية مغرية، ساعيةً إلى تعزيز القناعة لدى هؤلاء الشباب، بأنّ العمل داخل هذه المنظّمات يقتضي منهم الانفصال والتجرّد من قضاياهم الوطنية، بل إنّ أولى محاذير تلك المنظّمات وخطوطها الحمراء -كشرط أساسي للعاملين فيها- هو عدم الاقتراب أو الانخراط في أيّ عمل سياسي، ما جعل كثيرًا من الفئات العمرية الشبابية -ذكورًا وإناثًا- بدافع الحاجة المادية حينًا، وباستمراء الرخاء المادي حينًا آخر، لا يرى في الشأن السياسي سوى عمل مَنْ ليس لديه عمل.
ما يمكن قوله عن أزمة الشباب والسياسة كثير، والوقوف عند الظواهر والأسباب المباشرة، لا يلغي الوقوف عند أسباب وتداعيات أخرى، ربّما تكون أكثر عمقًا وصلة بهذه المسألة، ولعلّ هذا ما يوجب الاستمرار في التفكير في هذه المسألة.
برأيكم، كيف يمكن لمنظّمات المجتمع المدني السوري أن تجد المخرَج الآن، لتحسين الأوضاع ونقل مجتمعنا في الداخل السوري الواقع تحت حكم ثلاث سلطات أمر واقع، من حالة الصراع الراهن، إلى مرحلة جديدة، وتقليل الخسائر البشرية والاقتصادية، وجعل الانتقال أكثر سلاسة وأمنًا وأقلّ تكلفة، تأسيسًا لسورية خالية من الصراعات بين مكوّناتها الاثنية والدينية والمذهبية والعشائرية؟
بصراحة، لستُ من المهتمين بقضايا المجتمع المدني، لاعتقادي بعدم وجود مجتمع مدني (بالمعنى الحقيقي) في الحالة السورية، لا في ظلّ حكم نظام الأسد (الأب والابن)، ولا في فترة ما بعد الثورة، فطوال نصف قرن من حكم آل الأسد، كانت السطوة الأمنية تحول دون قيام مجتمع مدني ينبثق من السياقات الحياتية لحاجات الناس، بل إن مجمل النشاط المدني كان مراقبًا من جانب المخابرات، ولا يمكن أن تحصل جمعية، أيًّا كان نوعها، على ترخيص دون موافقة أمنية، إضافة إلى تحكّم أمني في كلّ ما تقوم به تلك الجمعية. وفي مرحلة ما بعد الثورة، نشأت العديد من الجمعيّات والمنظّمات التي تعمل في الشأن السوري، وثمّة سمات مشتركة بين معظم تلك المنظّمات، ويمكن إيجازها بما يلي:
أ – غالبًا ما نشأت تلك المنظّمات من خلال التشبيك بين أشخاص سوريين وجهة داعمة خارجية، دون أن تتقاطع رؤية هؤلاء الأشخاص مع مصالح مجتمعيّة واضحة، بل الأهمّ هو تقاطعها مع رؤية الجهة الداعمة.
ب – التشبيك الشخصي غالبًا ما حال دون مأسّسة العمل، إلّا من الناحية الشكليّة، أمّا فعليًا فقد بقي المشبكون هم الممسكون بجميع مقاليد الأمور.
ج – التحكّم الشخصي في مقاليد الأمور ضمن عمل المنظّمات كان سببًا في انعدام الشفافية، وخاصّة في الجوانب المالية.
د – لقد أسهمت تلك المنظّمات والجمعيّات في إبعاد فئة الشباب عن الانخراط بالعمل السياسي والهمّ الوطني، تارة عبر إيهامهم بـأنّ العمل المدني مشروط بالحيادية والابتعاد عن السياسة، وتارة عبر الإغراء المادي في ظلّ ظروف معيشية صعبة.
بالتأكيد، لا يجوز التعميم، ولكن يؤسفني القول: إن القسم الأعظم من الجمعيّات والمنظّمات التي نشأت بعد الثورة لم ترتق إلى الحدّ الذي يمكن أن تجسّد فيه دورًا داعمًا لقضية السوريين.
كيف تأثّرت الحالة الأدبية والثقافية السورية من “المُستجد ميدانيًا/ سياسيًا”؟
أجد نفسي مدفوعًا إلى تكرار القول: إنّ الكشوفات الفكرية والثقافية للثورة السورية هي أغنى وأرقى بكثير من إرهاصاتها السياسية، وقد أتاحت تلك الكشوفات للوعي السوري أن يقارب العديد من القضايا والمفاهيم، من خارج فضاءات السلطات المرجعية التقليدية من جهة، وعلى ضوء المعطيات التي أفرزتها الثورة من جهة أخرى، وما انشغال العديد من المثقّفين والساسة بمفاهيم (الهوية؛ الوطنية؛ الحرّيّة؛ المواطنة؛ إلخ) إلّا تأكيد أنّ فكرة التغيير التي تطرحها الثورة هي أكثر عمقًا وجذريةً من عملية استبدال السلطات، وعلى ضوء ذلك، يمكن أن نفسّر العديد من المفارقات الصادمة، على سبيل المثال، سياسيًا: انحياز العديد من التيّارات والشخصيات ذات الشعارات التقدّمية إلى نظام القتل الأسدي، وثقافيًا: انحياز العديد من أصحاب المشاريع الأدبية العابرة للأممية والحداثة (أدونيس مثالًا) إلى جانب أنظمة هي غاية في الإجرام والفظاعة.
بإيجاز شديد؛ يمكن التأكيد أنّ انفضاح المحتوى المعرفي للأيديولوجيات التقليدية، وعجزها عن التماهي مع النزوع التحرّري الوطني لثورات الربيع العربي عامّة، والثورة السورية على وجه الخصوص، إنما يعود الفضل فيه إلى بروز وعي جديد منبثق من السياق الحياتي لواقع الناس، وليس من أسفار السلطات المعرفية والثقافية التقليدية.
في ظلّ وصول العملية السياسية لحلّ الصراع السوري إلى طريق شبه مسدود، مع الفشل الذي يخيّم على مسار “اللجنة الدستورية”، وبروز الخلافات داخل “الهيئة العليا للمفاوضات”، التي انبثق عنها وفد المعارضة إلى “اللجنة الدستورية”، تدور أسئلة حول مآل هذه العملية التي تجري وسط انقسام في صفوف أطياف وقوى المعارضة. سؤالنا: ما قراءتكم للمشهد السياسي السوري اليوم، بكلّ تعقيداته؟ وهل من ثمار تُرجى في نهاية هذا المسار؟
التعقيد الشديد، في المشهد السوري، الذي تنطوي عليه صيغة السؤال، لم يكن وليد اللحظة الراهنة، ولم يأت دفعة واحدة ومباغتة للسوريين، بل هو تعقيد تراكمي تكوّن خلال مسار سنوات عديدة. ثمّة مفاصل قاتلة في مسار المفاوضات لا يمكن تجاهلها، لعلّ أبرزها قبول المعارضة بفكرة السلال الأربع التي طرحها المبعوث الأممي الخاصّ السابق إلى سورية ستيفان ديمستورا، ثمّ اختزالها مجتمعةً بالسلة الدستورية، وكذلك قبول “اللجنة الدستورية” بمفاوضات مع نظام الأسد دون تحديد أيّ سقف زمني، وكذلك القبول بتعدّد المنصّات داخل “الهيئة العليا للمفاوضات” (إشراك منصّة موسكو)، ولعلّ الأهمّ من ذلك أيضًا عدم تمسّك المعارضة بتطبيق البنود الإنسانية التي تضمّنها القرار 2254، وخاصّة البند المتعلق بمصير المعتقلين، حتّى أصبحنا أمام ركام من التعقيد. باختصار، يمكن التأكيد أنّ مجمل الأطر العاملة باسم الثورة (“الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”؛ “الهيئة العليا للمفاوضات”؛ “اللجنة الدستورية”) لا تحظى بقبول وباحترام المجتمع الدولي، بسبب تشظّيها وتعدّد توجّهاتها، وهي كذلك لا تحظى باحترام السوريين، بسبب ابتعادها عن تطلّعاتهم وخذلانها لإرادتهم. لذلك لا أعتقد أنّ عاقلًا من السوريين يمكنه التعويل على مسار عبثي كهذا، باستثناء العاملين في هذا المسار ذاته، حرصًا على ديمومة مصالحهم وأدوارهم الوظيفية.
ما رأيكم، كناشط سياسي ومتابع عن كثب للحياة السياسية السورية، بـ “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”؟
لا نأتي بجديد حين نؤكّد أنّ تشكيل “الائتلاف” جاء تلبية لرغبات أطراف إقليمية ودولية، وكان رهان تلك الأطراف أن يبقى “الائتلاف” كيانًا وظيفيًا مطواعًا لها في إدارة الصراع في سورية، بينما كان رهان السوريين معقودًا على أن يتحوّل “الائتلاف” إلى كيان سياسي يمثّل ثورة السوريين ومصالحهم الوطنية، ولكن مع الأسف خسر السوريون الرهان، وها هو “الائتلاف” يمارس دوره الوظيفي بكلّ جدارة.
رأى المبعوث الأممي الخاصّ إلى سورية السيد غير بيدرسون، أخيرًا، أنّ هناك «عوامل جديدة» تدعو إلى الاعتقاد بإمكانية التحرّك نحو حلّ، منها “الهدوء النسبي على الأرض، والأزمة الاقتصادية في جميع مناطق سورية”، والقناعة أنّ أيًّا من “الحكومة السورية أو المعارضة أو مجموعة أستانا أو أميركا، ليست قادرة وحدها على احتكار الحلّ، وأنه لا بدّ من نهاية نتفاوض عليها (تسوية)”. ما تعليقكم؟
ربّما كان السيد بيدرسون يدرك، قبل غيره، حالة العقم التي تحيط بالمسارات التفاوضية جميعها، وربّما يدرك أيضًا أنّ القرارات الأممية ليس بمقدورها أن تحمل حلًّا عادلًا للقضية السورية، في ظلّ اختلال موازين القوى الراهنة، وكذلك في ظلّ الآليّة التي يعمل بموجبها مجلس الأمن، والتي تتيح لروسيا والصين تعطيل أيّ قرار لا يخدم مصلحة نظام بشار الأسد، كما يعلم السيد بيدرسون أنّ حلّ القضية السورية هو مرهون بتوافق المصالح بين واشنطن وروسيا بالدرجة الأولى، إلّا أنه من جهة أخرى، لا يريد التصريح بالعجز الذي تواجهه الأمم المتّحدة، وكذلك لا يريد التصريح بعبثية اللقاءات الدورية وبعدم جدوى المفاوضات الجارية بين وفود “اللجنة الدستورية”، وأخيرًا لعلّ المبعوث الأممي الخاصّ إلى سورية -في ضوء المعطيات المذكورة- بات لديه اليقين الكامل بأنّ حلّ القضية السورية لا يمكن أن يتحقّق إلّا من خلال توافق دولي، يرضي الأطراف الدولية، وليس بالضرورة أن يكون مُرضِيًا للسوريين.
هل ترون أيّ آمال في تعاون قوى من المعارضة السورية مع روسيا لحلّ القضية السورية؟ وهل تعتقدون أنّ إيران قد تكون طرفًا فاعلًا في إيجاد حلّ يرضي أطراف الصراع السوري – السوري، أم أنها جزء أساسي من الكارثة التي يعانيها السواد الأعظم من السوريين؟
من الكوارث التي حلّت على ثورة السوريين، أن يكون الخصوم هم رعاة للحلّ، فروسيا هي الظهير الأقوى للأسد، بل هي من أنقذت نظامه من السقوط، من خلال تدخلها العسكري المباشر في أيلول/ سبتمبر 2015، وكذلك هي من تتصدّى في مجلس الأمن لأيّ قرار يدين الأسد، وهي كذلك ما تزال تقاتل معه على الأرض، بكلّ شراسة وضراوة، فهي -من هذا الجانب- خصم للسوريين، ومسؤولة عن مئات الآلاف من الأرواح التي أزهقتها طائرات بوتين وقاذفاته، وأمّا عن بعض السوريين ممّن يُحسَبون على المعارضة، والذين يشيدون بدور روسيا ويأملون أن يكون لها دور في إرساء حلّ للقضية السورية، فهؤلاء إمّا واهمون، ولا أعتقد ذلك، وإمّا يرجون لأنفسهم أدوارًا ومصالح، لا أحد غير الروس يمنحهم إيّاها.
ولئن كانت روسيا تدافع عن مصالح اقتصادية وجيوسياسية في سورية، وهي تتمسّك بمصالحها أكثر ممّا تتمسّك ببشار الأسد، فإنّ إيران لا يمكن أن تتصوّر وجودًا لسورية بدون آل الأسد، ذلك أنّ ارتباط الطرفين ببعضهما -إيران وآل الأسد- هو ارتباط عضوي قد وثّق عراه حافظ الأسد، منذ وصول الخميني إلى السلطة، بل إنّ إيران تنظر إلى سورية على أنها مجال حيوي لمشروعها القومي.
مقاومة النفوذ الروسي والإيراني في سورية تحتاج إلى موقف دولي، وأميركي حصرًا، لإقامة نوع من التكافؤ في موازين القوى، وكذلك تحتاج إلى موقف عربي داعم للثورة في مواجهتها لإيران، باعتبار أنّ الخطر الإيراني لا تتوقّف حدوده في سورية، بل على المنطقة جميعها، ولعلّ غياب هذين الموقفين -الأميركي والعربي- هو ما يتيح استمرار التغوّل الروسي والإيراني.
بعد قمة جنيف الأخيرة، بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي جو بايدن؛ هل يمكننا القول إنّ واشنطن تقترب أكثر من المقاربة الروسية في المشهد السوري؟ وفي هذا السياق، نسأل عن الأسباب التي جعلت إدارة بايدن تتهاون مع النظام السوري كما بدا واضحًا في الشهور الستة الماضية؟
في الأصل، لم يكن بوسع الروس الإمساك بمعظم أطراف الملفّ السوري ميدانيًا، لولا التفويض الأميركي، وقد بدا العزوف الأميركي عن القضية السورية جليًا منذ اتفاق أوباما – بوتين، على صفقة الكيمياوي عام 2013، ولم يطرأ أيّ تغيير على الإستراتيجية الأميركية في سورية حتّى الآن، فأولوية واشنطن في سورية هي تنظيم (داعش) وإيران، أمّا “قانون قيصر” ومجمل الضغوطات السياسية والاقتصادية الأميركية على نظام دمشق، فالهدف منها إجبار النظام على تقزيم نفوذ إيران في سورية، وليس تغيير نظام الأسد، وهذا ما صرّحت به وأكّدته معظم الإدارات الأميركية المتعاقبة، وكذلك تقف واشنطن رافضةً لأيّ حلّ تريد فرضه روسيا في سورية، وهذا من قبيل الضغط على الروس للهدف ذاته، أي الحدّ من نفوذ إيران في سورية، فالمسألة لا تبدو على أنها تهاون أميركي حيال نظام دمشق، بقدر ما تبدو تكرارًا وتوضيحًا لما تريده واشنطن في سورية.
حظيت المعارضة السورية بدعم دولي كبير في بداية الثورة، واعترفت أكثر من 100 دولة بـ “الائتلاف”، وكان للمعارضة حلفاء تقليديون، عرب وغربيون، لكن مع تقدّم عمر الثورة والتقلبات المختلفة على الأرض، قلّلت بعض الدول من اهتمامها بالقضية السورية. فمن المسؤول عن هذه الانتكاسة؟ وما الذي يجب فعله لعودة الدعم الدولي لأطياف وقوى المعارضة السياسية السورية؟
ثمّة أمران، لا بدّ من التأكيد عليهما، كان لهما أثر مهم في حيازة التعاطف الدولي: أوّلهما عدالة القضية السورية ومشروعية أهدافها ومطالبها؛ وثانيهما نظافة أدواتها ووسائلها، وهنا أتحدّث عن الثورة في العام 2012، إبان انعقاد “مؤتمر أصدقاء سورية” في تونس، أمّا فيما بعد، فقد عجز السوريون عن الحفاظ على نظافة ثورتهم وتحصينها، سواء أكان هذا العجز ناتجًا عن عوامل ذاتية، أو عن عوامل خارجية لا قدرة لهم على مواجهتها، وهكذا بدت فرصة الحفاظ على ذاك التعاطف تضمحل موازاةً مع تعدّد القوى العسكرية ذات التوجّهات المختلفة على الأرض السورية، وكذلك مع كثرة اللاعبين الدوليين والإقليميين، وتحوّل المشهد السوري إلى مسرح لصراع المصالح والأجندات. ولعلّه من العسير أن يكون هذا المشهد مقنعًا للآخرين، ما دام ليس مقنعًا لكثير من السوريين أنفسهم، أضف إلى ذلك أنّ المواقف الدولية دائمًا محكومة بمصالحها، والمصالح تتغيّر ولا تعرف الثبات، وربّما من اقتضت مصلحته الوقوف بجانبك اليوم، قد تقتضي مصلحته الوقوف ضدك غدًا! أمّا مدى احتمالية عودة التعاطف الدولي من جديد مع قضيتنا، فذلك أمر تحدّده قدرة السوريين أنفسهم على إعادة الاعتبار لقضيتهم أوّلًا، ثمّ قدرتهم كذلك على إيجاد تقاطعات في المصالح مع الآخرين.
أخيرًا، ما رسالتكم لكل السوريين في الداخل السوري، سواء من هم في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام أو لقوى المعارضة المسلحة أو “الإدارة الذاتية” الكردية؟
تخضع الجغرافيا السورية -اليوم- لتقاسم نفوذ دولي، أدى إلى نشوء سلطات أمر واقع لكلّ بقعة منها، وكلّ سلطة من هذه السلطات تمارس أجندات بالوكالة عن الجهة (الدولة) التي ترعاها وتدعمها، وفي الوقت ذاته، تدّعي تمثيل السوريين، على حين أن سلوكها وممارساتها حيال المواطنين تكاد تكون طاردة لأبسط أحلام السوريين وتطلّعاتهم، فهل ستدرك هذه السلطات جميعها، في يوم ما، أنّ التزاماتها الخارجية وأدوارها الوظيفية هي تكريس لمأساة السوريين واستمرار نزيفهم؟ وهل بمقدور تلك القوى أو السلطات -آنئذٍ- أن تعود إلى سوريتها مجرّدةً إلّا من مصالح السوريين المتمثّلة في إسقاط نظام الاستبداد وإقامة دولة القانون والعدالة والديمقراطية؟ وهل ستعلم هذه السلطات أو القوى أنّ مقدار التنازلات التي يقدّمها طرف وطني لطرف وطني آخر، من أجل الصالح العامّ، هي أكثر نبالةً من التنازلات والاستزلام الذي تبديه للآخر الخارجي؟ ربّما يكون الرهان على ما سبق ذكره ضربًا من الأحلام، ولكن أن نبقى نحلم بالحرّيّة خيرٌ لأنفسنا من القنوط.