أندرو بوويه/ ترجمة أحمد عيشة
إن هويتنا الاجتماعية مهمّة لشعورنا بقيمة ذواتنا. ولكن مفهوم الهوية الاجتماعية نفسه يعني ضمنًا إقصاء كل شخص آخر. وفي المجال السياسي، يمكن أن يتحول هذا الإقصاء بسرعة إلى قهر، و أيضًا إلى مقاومة وتمرّد.
لماذا تثير القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة الرئيسة، وخاصة تلك التي تنطوي على العرق والجنسية والجنس (الجندر)، مسائل “الهوية”؟ وبعبارة بسيطة: إن افتراض “الهوية” والتأكيد عليها مرتبطان بمحاولة تقليد/ تشرّب الوجود الاجتماعي للمرء لنمطٍ معين من المعنى الإيجابي. تتمثل الصعوبة في أن استخدام الهوية كوسيلة لإثبات قيمة الفرد يمكن أن يستتبع التقليل من هوية الآخرين، لأنهم مستبعدون من تلك الهوية الخاصة، سواء كانت هوية اجتماعية، أو جنسانية، أو عرقية، أو هوية قومية. وعلى هذا النحو، فإن أول ما ينبغي إدراكه هنا هو أن مصطلح “الهوية” يمكن أن ينطوي على أنواع مختلفة من التوتر أو التناقض، حيث تتعارض جوانب مختلفة من الشيء نفسه مع بعضها البعض. وتتجلى هذه التوترات في أشكال الإقصاء الاجتماعي القائمة على الهويات العرقية التي تتعارض مع قواعد المجتمع العادل. والرأسمالية ذاتها تنطوي على تناقضات، باعتبار أن المال والوسائل التي تجعل الأشياء متساوية من أجل تمكين التبادل المفيد اجتماعيًا تُدمّر أيضًا الاختلافات النوعية، مع عواقب اجتماعية سلبية. بل إن التناقض ينطوي على تفسير ما هو معرّض للخطر في مفهوم الهوية ذاته، لمجرد أن الهوية تعتمد في جوانب رئيسة على الاختلاف.
الهوية كاختلاف
التوتر واضح بالفعل في أبسط مستويات الحديث عن الهوية. لنأخذ طريقتين بسيطتين جدًا للتعبير عن الهوية، (“A = A”، و “A هي A”)، حيث يمكن أن ينظر إليهما من دون تدقيق على أنهما “الشيء نفسه”، ولكنهما ليستا متطابقتين تمامًا. وفي حالة العلاقة (‘A =A’)، يمكن النظر إليها على أنها تعبير عن علاقة، و (‘A = A’) على أنها حشو وتكرار للمعنى. وفي حالة العلاقة، يجب أن يكون الطرفان الأول (A) والثاني (A) مختلفين، حتى يتم التعبير عنهما كعلاقة هوية. فالتعبير عن الهوية، إذن، يتطلب الاختلاف. وهذا أمر حاسم لفهم كيفية عمل “الهوية” في السياقات الاجتماعية الحقيقية. ولكي يكون هناك اختلاف، يجب أن تستبعد الأمور أمورًا أخرى، وفي السياقات الاجتماعية يمكن أن ينطوي الاستبعاد على أنواع من القمع. غير أنه في الوقت نفسه يمكن أن يكون التأكيد على هوية الجماعة شكلًا من أشكال المقاومة، ورفض ابتلاعها من قبل أفكار تدعي الكونية من دون أن تؤمن فعليًا بها، مثل “جميع الأرواح مهمة”.
علم الحشو/ التكرار (قول الشيء نفسه)، بالرغم من أنه لا يقول شيئًا غنيًّا بالمعلومات، يشير إلى نتيجة مهمة. يؤكد “لايبنيز” [1646 -1716، ألماني، أحد أعظم ممثلي عقلانية القرن السابع عشر] أن الشكل الصارم الوحيد للهوية هو تمثل الشيء مع نفسه. شيئ ما “متطابق عدديًا” إذا صادفناه في مناسبات مختلفة، وهو “الشيء نفسه” الذي نصادفه في كل مرة. ومع ذلك، في العالم التجريبي، لا توجد هوية صارمة بين الأشياء المختلفة، هناك دائمًا بعض الفروق، مهما كانت ضئيلة، بين خواصها (هذه ليست الحال على الأرجح في العالم دون الذري، لكننا لا نعيش في العالم دون الذري).
الهوية كتجريد
يؤكد أدورنو T.W. Adorno، الفيلسوف والمنظّر الاشتراكي، أن “التفكير يعني التحديد/ التعرّف”. فلماذا نستخدم صيغًا تنطوي على نوع من الهوية طوال الوقت لأشياء ليست متطابقة تمامًا؟ وفي عالم لا توجد فيه أشياء متطابقة، بمعنى من المعاني على الأقل، سنواجه تعددية فوضوية لا يمكن السيطرة عليها. نحن بحاجة، على سبيل المثال، إلى الاعتراف بأن الأسد (الحيوان) الذي تجنبناه بالأمس هو بمنزلة الخطر “نفسه” الذي يهدد بقاءنا على قيد الحياة بوصفه تهديدًا نتجنبه اليوم، على الرغم من أنه قد لا يكون الأسد نفسه بوصفه كائنًا ماديًا. علينا أن نحدد الأشياء المختلفة من خلال رؤية كيفية تشابهها، والشبه ينتج عن تفكيرنا كوسيلة للتعامل مع العالم والتكيف معه. وهذا ينطوي على خواصنا المتماثلة التجريدية للأجسام المختلفة لجعل الأجسام في بعض المعاني نفسها.
في هذه المرحلة، بدأ يظهر سبب آخر يجعل الهوية يمكن أن تصبح قضية اجتماعية مثيرة للجدل. إن المسألة هنا ليست مجرد مخاوف فلسفية بخصوص طبيعة القواعد اللازمة لتحديد الأشياء المختلفة، مثل الأُسود المختلفة: فالطريقة التي يتمّ بها تحديد الأمور (الطريقة التي نستبعد بها الاختلافات بين الأشياء) لها عواقب عميقة بالنسبة إلى العالم الاجتماعي. إن نظام المال في الرأسمالية هو وسيلة لجعل كل شيء من وجهة نظر معينة يمكن أن يكون متطابقًا، بحيث يمكن أن يكون الغذاء والعبيد، على سبيل المثال، السلع نفسها القابلة للتبادل. ولا تزال الحجج المتعلقة بالمزايا الثقافية والأخلاقية والعيوب التي ينطوي عليها هذا الشكل من أشكال الهوية، الذي يجرد الأشياء من خصوصيتها وقيمتها المتأصلة، باسم جعلها قابلة للتبادل، سمةً لا مفرّ منها في العالم المعاصر. وإذا كان التفكير يحدد الأشياء المختلفة في المقام الأول من أجل التعامل مع العالم والتكيّف معه، فلا بدّ من أن ينطوي ذلك على مسائل تتعلق بالقوة/ السلطة، وإذا لم تكن هناك طريقة متفق عليها تمامًا لتحديد الهوية الحقيقية أو الأفضل، فإن الصراع يصبح أمرًا حتميًا.
تأخذ العلوم الطبيعية الحديثة الكثير من الدور الثقافي، لإنشاء هويات مفاهيمية حقيقية تمكّن النظريات التي تجعل التلاعب بالعالم ممكنًا. ولكن هل يمكن حقًا أن تكون العلوم جازمة وقطعية في تلك المجالات، حيث الخط بين الطبيعة والثقافة متنازع عليه، في علم النفس، أو في مسائل الجنس والجندرة، على سبيل المثال؟ هذا أمرٌ أبعد ما يكون عن الوضوح، وهو مصدر رئيس للعدائيات الاجتماعية المعاصرة، مثل تلك المتعلقة بهوية الأشخاص المتحوّلين جنسيًا.
تعريف الهوية على أنها تأكيد للسلطة/ للقوة
إن الحاجة إلى الهويات في المجالات التي لا تكون فيها للعلوم مطالبة مسبقة بالسلطة هي أمرٌ لا مفر منه. وبمناقشة معنى “الخير” و”الشر”، يتحدث نيتشه عن “الحق الإلهي في إعطاء الأسماء”، الذي “يذهب إلى حد أن المرء لا بد أن يسمح لنفسه بفهم أصل اللغة نفسها كتعبير عن قوة/ سلطة الحكام: فهم يقولون (كذا مثل كذا)، ويختمون كل شيء وحدوثه بصورة معقولة، وإذا جاز التعبير، يستولون عليه”. إن عملية تحديد الهوية هنا محمولة على “الاستحواذ” على الأشياء على شاكلة صورة المرء نفسه، وهذا يشير إلى السبب في أن الهوية يمكن أن تكون جذور الأمراض السياسية. ولإعطاء هوية للكلمات، فإن اللغة نفسها تنطوي بالضرورة على علاقات الاستبعاد. فالخير والشر يكسبان حتميتهما على وجه التحديد بعدم كونهما متماثلين، بدلًا من امتلاكهما نوعًا من الجوهر الحقيقي. هذا النوع من التفريق يمكن أن ينظر إليه على أنه متأصل في الطريقة التي تفسر بها اللغة العالم. عندئذ، كل من الكلمات والعالم، في هذا الصدد، تصبح مفهومة من خلال الأشياء التي يتم تحديدها على أنها ليست أشياء أخرى، وليس من خلال امتلاكها هويات جوهرية. والسؤال هنا هو كيف نتفاوض بعد ذلك على عالم، حيث الهويات ليست معطًى سابقًا ولا بد من التوصل إليها من خلال عمليات التمييز/ التفاضل/ الفروق. يعتمد تحديد الهوية على الاختلاف، ومن ثمّ على عمليات الإقصاء التي تولد التوترات. وهنا تبرز مسألة القوة/ السلطة وممارستها من خلال اللغة بطرق مألوفة لدرجة كبيرة، بسبب الصراعات الاجتماعية المعاصرة.
الهوية الاجتماعية وما تولّده من استياءات
يستند الشعور النفسي بالهوية الذي يلعب دورًا في الصورة الذاتية الاجتماعية للناس في المقام الأول إلى أشكال رمزية خارجية مولّدة اجتماعيًا. ويمكن أن تصبح هذه الأمور موضع شكّ شديد عندما يقول الناس، على سبيل المثال، إنهم فخورون بهوية وطنية، فضلًا عن هوية عرقية، بحيث لا يفعلون شيئًا لتحقيقها أو يضيفوا إليها، عدا ولادتهم في مكان واحد وليس في مكان آخر. وهنا يمكن أن تصبح الهوية وسيلة للقمع، لأنها تعتمد على الاستبعاد بسبب قيمتها المتصوّرة. وما يعقّد هذه المسألة، ويوحي بوجود تناقض في هذا المعنى للهوية، هو حقيقة أنه من دون وجود روابط بين الشعور الداخلي بالنفس والشعور ما فوق الشخصي بالانتماء إلى شيء يتعالى على الذات، مثل الأسرة، أو ممارسة ثقافية، أو مجموعة اجتماعية، فإن ثمة شيئًا ما سيغيب مما ينبغي أن يكون إنسانيًا. عندئذ، هل يجب أن تنطوي الهوية بالضرورة على القمع؟
في أغلب أنحاء العالم الغربي، على سبيل المثال، نجد أن الفرق بين المجموعات الاجتماعية البيضاء المهيمنة، وبين السود وغيرهم من الجماعات العرقية المضطهَدة، يكمن في الطريقة التي تساعد بها ما يشكل هوية الأولى (المجموعات البيضاء) في إدامة علاقات القوة غير العادلة تاريخيًا. وعندما يؤكد من هم في صفّ اليمين السياسي أن “جميع الأرواح مهمّة”، كبديل إنساني عالمي مفترض للقول إن “حياة السود مهمة”، فإنهم يعتمدون على افتراضات بخصوص الهوية البشرية و”المساواة أمام القانون”، تستند إلى تاريخ قمعي. يقاوم أدورنو مثل هذه الافتراضات، عندما يقول في محاضراته عن التاريخ والحرية History and Freedom، إنه “كلما تم تعريف المعيّن على أنه مجرد جسم ينتمي إلى الكون، من دون أن يكون قادرًا على التأثير عليه بصورة تبادلية؛ أصبح ما يسمّى بالحقائق مجرد عباءة تحجب ما هو موجود فعلًا”. إن الكشف عن الحالة الحقيقية المتعلقة بـ “العرق” يولّد ضرورة تأكيد هوية معينة من جانب أولئك الذين ظلِموا تاريخيًا، وهذا نفسه لا بد أن يعتمد على الاستبعاد، باسم التأثير على علاقات السلطة.
إن الهوية في السياقات الاجتماعية الحقيقية هي إذن جدلية بصورة لا مفرّ منها: فهي تنطوي على تناقضات ديناميكية؛ فالمجتمع العادل يمكن أن يجعل وجودَ شعور كوني ومشترك بالهوية الإنسانية ممكنًا، من دون الأشكال الحالية للاستبعاد التي تنزع السلطة من “الآخر”. غير أن إنشاء هذا الشكل من أشكال الهوية غير الاستبعادية/ الإقصائية قد لا يكون ممكنًا إلا من خلال معركة الاعتراف بعمليات الاستبعاد التي يجري مكافحتها، وهذا يستدعي شعورًا قويًا بالهوية المشتركة من جانب المستبعدين. وبالنسبة إلى جميع المشكلات التي تنطوي عليها هذه الفكرة، فإن هذا هو ما يبرر بعض أنواع “سياسات الهوية”، على سبيل المثال، في حركة الحقوق المدنية وتعزيزها لثقافة السود، واستمرارها في مسألة حياة السود. وفي هذه الحالة، يكون الفقدان الجزئي للهوية الفردية الناجم عن التمسك بهوية الجماعة ثمنًا مؤقتًا يؤمل أن يكون قادرًا على تنظيم مقاومة جماعية فعالة.
التغلب على صرامة الهوية من خلال الفنّ
إن التعامل مع الهوية يعني التفاوض على التناقضات الحتمية بين المعيّن وما يتجاوزه/ يتعالى عليه، من دون ضمان لأي مصالحة نهائية بينهما. وفي العالم المعاصر المتمثل في تفكك الرأسمالية الليبرالية الجديدة، كثيرًا ما يفتقر إلى نوع من الانفتاح على الآخر المطلوب لتحقيق هذه المصالحة. لقد أصبح ظهور الهوية وادعاءاتها في كثير من المجالات أكثر صرامة وحصرية؛ والسؤال الحاسم هنا: كيف يمكن التغلب على هذا التصلب من دون استنساخه في صيغة أخرى؟ ويمكن، على سبيل المثال، البحث عن نماذج للتغلب على هذا التصلب في الفنون، فمن خلال البقاء منفتحًا على الإمكانيات الجديدة وتغييرها عبر تجربة الفن، يمكن للمرء أن يطور علاقات أقل قمعًا وأكثر سلاسة مع العالم والناس الآخرين تمكننا من العيش مع التناقضات المتأصلة في الحياة الاجتماعية.
يقول الفيلسوف ألبريشت ويلمر إن الفن “يتحدّث”، ليس بإنتاج تعريفات مفاهيمية، ولكن بطريقة أن “صوابيته غير معترف بها بمعنى الحقيقة الافتراضية، ولكن مثل معرفة الوجه أو التعرّف إليه”. فالمرء لا يحدد وجهًا، بالمعنى المعرفي المطروح هنا، بتصنيفه من حيث اختلافه أو تشابهه مع وجوه أخرى، لأن التعرف “يشمل الجوانب المعرفية والعاطفية والأخلاقية -الجوانب العملية على قدم المساواة”. إن إدراج جميع هذه الجوانب بالطرق التي نرتبط بها بالآخرين قد يقللُ من المخاطر الموجودة في تحديد الهوية، وهذا يؤكد الحاجة إلى الدفاع عن الفنون في وقت يعدّها عدد متزايد من الحكومات الاستبدادية ترفًا اختياريًا.
اسم المقال الأصلي | The identity politics trap |
الكاتب * | أندرو بوويه، Andrew Bowie |
مكان النشر وتاريخه | IAI news، 13 /5/ 2021 |
رابط المقال | https://bit.ly/3yUna0s |
عدد الكلمات | 1690 |
ترجمة | وحدة الترجمة/ أحمد عيشة |
* أستاذ الفلسفة والألمانية الفخري، جامعة رويال هولواي بلندن، له كتاب، أدورنو: مقدمة قصيرة جدًا والأبعاد الجمالية للفلسفة الحديثة من إصدارات جامعة أكسفورد.