على مدى قرون طويلة، كان”الكتاب المقدّس” في الغرب هو المصدر الأساسي لتاريخ الشرق الأوسط القديم، وقد طبع بطابعه التوراتي دراسات هذا التاريخ، وأسس لمنظور تاريخي توراتي لم يتخلص منه هذا التاريخ بعد، بالرغم من كل التطور الذي بلغه عِلما التاريخ والآثار المعاصرين، وبالرغم من الكم الكبير الذي توفر من المعطيات الأركيولوجية الموضوعية المختلفة جذريًا عما تقوله التوراة، التي لم تعد -من الناحية الأكاديمية- تُعامل كوثيقة تاريخية بقدر معاملتها كوثيقة دينية أو أدبية، لا تشكل مرجعية علمية، ويقول المؤرخ الأميركي توماس تومسون: “إن تلك الصور(التوراتية) لا مكان لها في أوصاف الماضي التاريخي الحقيقي، إننا نعرفها فقط كقصة، وما نعرفه حول هذه القصص لا يشجعنا على معاملتها كما لو أنها تاريخية”(1).
هذا الرؤية التوراتية للتاريخ الشرقي القديم تكاملت مع السياسات الاستعمارية الغربية، واستُغلت في النهاية لإنشاء “دولة إسرائيل الحديثة” التي وجدت مشروعيتها وتبريرها في “دولة إسرائيل التاريخية” المزعومة، في فلسطين، وفقًا لرواية التوراة، واعتُبرت إحياءً ومواصلة لها.
وفي الدعاية الراهنة لإسرائيل وحلفائها، يتم الإصرار على المطابقة بين التاريخ والتوراة، كمسلّمة تامة محظورة المخالفة، ويتم السعي لترسيخها في أذهان العامة داخل إسرائيل نفسها والغرب والعالم العربي، وفرضها أيضًا حتى على الأوساط التخصصية الرسمية، تحت طائلة العقاب المباشر أو غير المباشر، لمن يعلن الحقائق التاريخية المناقضة للأساطير التوراتية، وهكذا تمّ -مثلًا- فصل الباحث في التاريخ توماس تومسون، من الجامعة الأميركية التي كان يدرّس فيها، بسبب كتابه “التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي”(2) المخالف للتوراة، الصادر عام 1992، كما طردت قبله الباحثة البريطانية كاثلين كينيون، من “إسرائيل” عام 1967، بسبب إخلاصها للحقائق الموضوعية المبنيّة على اللقى الآثارية المعثور عليها.
تتحدث التوراة عن اجتياح العبرانيين الخارجين من مصر، بقيادة يشوع ذو النون، لأرض فلسطين الكنعانية في القرن 13 ق.م، والاستيلاء عليها، وتأسيسهم مملكة عظيمة على أيدي شاؤول وداوود وسليمان، بين القرنين11- 10 ق.م، تسمى “الملكة الموحدة”، وتعتبر إسرائيل نفسها وريثتها واستمراريتها في الحاضر، وتقلّدها في اجتثاث السكان العرب الأصليين الحاليين، في مختلف أساليب التطهير العرقي الوحشية الممارسة ضد الكنعانيين التي تتحدث عنها التوراة.
لكن المعطيات الآثارية تنفي هذه الروايات التوراتية، وتُثبت أن فلسطين القديمة لم تتعرض لمثل هذا الاجتياح، وتقول كاثلين كينيون: “لا يوجد في هذه الفترة تغيير حضاري يشير إلى حلول أقوام جديدة في فلسطين، سواء في المناطق الهضبية أو غيرها”(3)؛ فيما يقول توماس تومسون عن “المملكة الموحدة” المزعومة: “لا دليل على وجود عاصمة في أورشليم أو على وجود أي قوة سياسية موحدة ومتماسكة هيمنت على فلسطين الغربية، ناهيك عن إمبراطورية بالحجم الذي تصنعه الحكايات الأسطورية. ولا يوجد أي دليل على وجود ملوك يُدعَون شاؤول وداوود وسليمان”؛ فيما يقول الباحث الفرنسي بيير روسي عن تاريخ العبرانيين المزعوم: “إن التاريخ المصنوع للعبرانين خارج النصوص التوراتية هو الصمت الكلي المطبق”(4).
فمن هم إذًا “الساميون والكنعانيون والعبرانيون واليهود والإسرائيليون”؟ وما حقيقة الأمر؟!
ومن الموضوعي قبل الجواب، القول إن هذه المسائل لم تحسم بعد، وأن هناك خلافات بدرجات متفاوتة ما زالت تدور حولها، لأسباب يتداخل فيها العلم بالسياسة. ووفقًا لما توصلت إليه الأبحاث والدراسات التاريخية الأحدث، فالإجابات المرجّحة هي بإيجاز:
الساميون:
أوّل من استعمل مصطلحي “السامية والساميون” هو المؤرخ اليهودي النمساوي أوغست شلوتزر، عام 1781، اعتمادًا على التوراة، وأطلقه على شعوب شرق المتوسط وشبه الجزيرة.
ويرى اليوم بعض الباحثين أنه من الأكثر واقعية ومصداقية استبدال هذه المصطلح بمصطلح “العرب”، إذ يقول بيير روسي: “الأمر سيكون بسيطًا جدًا، فيما لو أننا، بدلًا عن الساميين الأبطال المختلقين من أصل خيالي، تكلّمنا عن العرب، ذلك الشعب الحقيقي الذي يمتلك وجودًا اجتماعيًا مستمرًا، وجودًا ثقافيًا ولغويًا يعطي حياة وتوازنًا لهذا البحر المتوسط منذ عدة آلاف من السنين”(5).
الكنعانيون:
هم أحد الشعوب (السامية)، وقد استوطنوا جنوب بلاد الشام وسواحلها، حوالي الألف الثالث قبل الميلاد تقريبًا، والنظرية الأكثر شيوعًا أنهم جاؤوا من شبه الجزيرة العربية، وقد بنوا معظم مدن فلسطين، ومن أهمها القدس ومدن الساحل الشامي كصور، وبنوا كذلك بعض مدن سواحل الشمال الإفريقي كقرطاجة، فالفينيقيون هم أيضًا كنعانيون، واللغة المسماة اليوم “عبرية” هي فعليًا “لهجة كنعانية”.
وفي هذا الصدد، يقول البروفيسور درايفر (أستاذ اللغة العبرية في جامعة أوكسفورد) ما يلي: “إن التوراة، حينما تحدثت عن لغة جماعة موسى، لم تقل لغة العبرانيين بل دعتها (شفة كنعان)، أي لسان كنعان، ثم أطلقوا عليها (يهوديت) أي اللغة اليهودية، بعد أن اقتبسوها وأخذوا يتكلمون بها، ثم (لسان حقوديس) أي اللسان المقدس”(6).
العبرانيون:
يُرى أنهم جماعات بدوية كانت تترحّل في شمال الجزيرة العربية وأطراف بلاد كنعان (فلسطين)، وقد دخلتها بشكل تدريجي وغير منظم، واستوطنت في المناطق الهضبية الفارغة على أطراف المدن الكنعانية (7). وعن علاقتهم اللاحقة باليهود، يقول البروفيسور درايفر: “في وقت لاحق، وجد الحاخامون اليهود أنّ أفضل طريقة لربط تاريخهم بأقدم العصور، واعتبار عصر اليهود متصلًا بأقدم الأزمنة، هي باستخدام مصطلح (عبري) أو (عابيرو) للدلالة على اليهود بشكل عام”(8).
اليهود:
تاريخيًا، تعود أصولهم إلى مملكة يهوذا الكنعانية(9)، التي نشأت في جنوب فلسطين، في أواخر القرن الثّامن ق.م، وهم فلسطينيون محليون، ولا علاقة لهم بأسباط التوراة الإثنَي عشر ولا بفتوحات يشوع المزعومة، وقد ازدهرت هذه المملكة بعد أن دمر الآشوريون، عام 721 ق. م، مملكة السامرة الكنعانية الشمالية، التي نشأت في مطلع القرن التّاسع ق. م. وأصبحت مدينة أورشليم عاصمتها، وخضعت بدورها لسيطرة الآشوريين حتى سقطت دولتهم، وخلفتها مملكة بابل الثانية الكلدانية في السيطرة على المنطقة، إلى أن قام نبوخذ نصر بتدمير أورشليم نفسها وسبي أهلها، بعد أن تمردت عليه أكثر من مرة بدعم مصري.
وكان سكان أورشليم يعبدون “يهوه” إله مدينتهم، مع اعتقادهم بوجود آلهة أخرى لغيرهم من الشعوب، ما يعني أنهم لم يكونوا “موحِّدين” (Monotheists) يؤمنون بوحدانية الله المطلقة، بل “عبدة إله واحد” فقط (Henotheists)، يعتقدون بتعدد الآلهة، ولكنهم يعتبرون واحدًا منها فقط إلههم الخاص ويخصونه وحده بالعبادة.
وفي نواحي بابل، التقى عبدة يهوه بثقافتين أرقى، هما الثقافة البابلية التي كانت على مشارف التوحيد الإلهي في شخصية الإله مردوك، ثم بالثقافة الفارسية بعد سقوط بابل بأيدي الفرس.
وبعد الاستيلاء على بابل، سمح الملك الفارسي قورش لمسبيي يهوذا بالعودة إلى أرضهم، فعادوا وأعادوا تشكيل مملكتهم تحت سيطرة الفرس، ونظموا دينهم الذي اتخذ تدريجيًا شكل “اليهودية التوحيدية” (10)، مدرجين فيه عناصر شتى من تراث ومعتقدات الشعوب المجاورة (11)، ثم انتشرت اليهودية في مراحل تاريخية لاحقة في باقي فلسطين، ثم خارجها في أمم وشعوب قريبة وغريبة، كما انتشرت المسيحية والإسلام بدورهما بعدها خارج موطنيهما.
وبهذا الصدد، يقول الباحث السوري فرا س السواح: “الصّورة الآثاريّة الّتي بدأت تتكشف لنا على يد المنقّبين الإسرائيليّين أنفسهم، عن منطقة الهضاب الفلسطينيّة الّتي قامت عليها هذه المملكة الموحّدة، جاءت لتنسف الرّواية التّوراتيّة من أساسها” (12). أما الرواية اليهودية فتنسب تسمية “اليهود” إلى يهوذا أحد الأسباط التوراتيين الاثني عشرة.
الإسرائيليون:
تاريخيًا، هم سكان مملكة إسرائيل الكنعانية التي تشكلت في مطلع القرن التّاسع ق.م. وكانت السّامرة عاصمتها، وقد نمت هذه المملكة ووقفت مع آرام دمشق ضد الآشوريين، إلى أن قضى عليها هؤلاء في 721 ق.م. أما توراتيًا، فإسرائيل هو لقب يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، وإليه ينسب الإسرائيليون كشعب، فبني إسرائيل هم سلالة يعقوب. لكن هناك بعض الباحثين، مثل د. كمال الصليبي اللبناني، ود. زياد منى الفلسطيني السوري، ود. أحمد داوود السوري، والأستاذ العراقي فاضل الربيعو، والباحث الفلسطيني أحمد الدبش، يعتبرون أن بني إسرائيل هم إحدى قبائل العرب البائدة، وينقلون المسرح الأصلي للرواية التوراتية من فلسطين إلى شبه جزيرة العرب.
وختامًا، لا بدّ من القول إن معرفة التاريخ ليست مجرد تحصيل معلومات أو ثقافة صالونات ترفيّة، وإنما هي سلاح أساسي في معركة الدفاع عن الذات، وهذا ما يعيه الصهاينة جيدًا، فيركزون أشد التركيز على نشر وترويج تاريخهم المزيف في حربهم الإعلامية ضدنا، وفي ظروف الشرذمة والتخلف والتردي المستفحلة التي يتخبط بها العالم العربي، باتت جبهة تزييف الوعي الثقافي العربي تأتي لهم بثمارها المطلوبة، وصارت الأصوات (العربية) التي تعترف -جهلًا أو تواطؤًا- بحقٍ إسرائيليّ تاريخي في فلسطين تظهر وتتزايد.. وهذا خطر كبير آخر يطرق أبوابنا!
والخطر الأكبر على القضية الفلسطينية ليس في صفقات الاستسلام الانبطاحية المخزية التي يهرول الزعماء العرب الحاليون لتقديمها كفروض طاعة ذليلة إلى إسرائيل، فهذه الصفقات لن يكون لها قيمة مؤثرة، إذا بقيت القضية الفلسطينية قضية حقّ في الوعي العربي، وإن بقيت كذلك، فستبقى قضية حية دومًا، وتستعيد قوتها وزخمها، عندما تتحرر الشعوب العربية من الطواغيت الفاسدين الذين يتحكمون فيها. أما إذا قُتلت القضية الفلسطينية في وعي ووجدان الشعوب العربية، فلن يكون بعثُها ممكنًا، وعندها تكون الصهيونية قد أحرزت نصرها النهائي.
ولذا؛ فمن المهم جدًا ودومًا التركيز والتوسع والتعمق في نشر كل فكر ومعرفة، من شأنهما إبقاء وتعزيز استمرار حياة وحيوية القضية الفلسطينية في الوعي والوجدان العربيين، ومن دون ذلك لن يستعيد الشعب العربي الفلسطيني حقوقه المصيرية.
الحواشي:
1- بشار خليف، العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم، دمشق، دار الرائي 2004، ص 91.
2- ثوماس طومسون، التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، ترجمة صالح علي سوداح، بيسان للنشر والتوزيع، بيروت، 1995.
3- بشار خليف، العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم، دمشق، دار الرائي 2004، ص 84.
4- بيير روسي، مدينة إيزيس.. التاريخ الحقيقي للعرب، ترجمة فريد جحا، دار البشائر، دمشق، 2004، ط2، ص 25.
5- بيير روسي، المرجع السابق، ص 24.
6- تركي قاسم الزغبي، اليهود وأرض كنعان، دار مؤسسة رسلان، دمشق، 2012، ص 105.
7- بشار خليف، العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم، دار الرائي، دمشق، 2004، ص 84.
8- تركي قاسم الزغبي، المرجع السابق، ص105.
9- «أطلق اسم “يهود” على بقايا الجماعة التي سباها الملك الكلداني نبوخذ نصر إلى بابل قي القرن السادس قبل الميلاد، وهذه التسمية مشتقة من اسم يهوذا أحد أسباط اليهود كما تقول التوراة».
(تركي قاسم الزغبي، اليهود وأرض كنعان، دار مؤسسة رسلان، دمشق، 2012، ص 106).
10- يرى بعض الباحثين أن تدوين التوراة بدأ خلال السبي البابلي واكتمل في مطلع العصر الفارسي، ويرى آخرون أن هذا التدوين حدث بين أواخر العصر الفارسي وبدايات العصر الهلنستي: (فراس السواح، آرام دمشق وإسرائيل، دار علاء الدين، دمشق، 1995، ص 7).
11- يقول الدكتور كارم عزيز بهذا الشأن: “تعددت الدراسات التي تخصصت في دراسة تراث المنطقة (أي الشرق الأدنى القديم) متضمنًا نصوص العهد القديم، وتوصلت الغالبية العظمى من الباحثين إلى أن نصوص العهد القديم مقتبسة من تراث المنطقة”. (كارم محمود عزيز، أساطير التوراة وتراث الشرق الأدنى، مكتبة النافذة، مصر، 2006، ط1، ص9).