عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة، يوم الثلاثاء 30 آذار/ مارس 2021، ندوة بعنوان “الربيع العربي والوحدة العربية”، شارك فيها كلّ من الكاتبة السورية عفراء جلبي، والباحث اليمني مصطفى ناجي، وأدارتها الإعلامية ديمة ونوس.
سلّطت الندوة الضوءَ على مسألة الوحدة العربية، في مفهومها الجديد الذي وُلِد بعد سقوط ما كان يسمى “الاستثناء العربي” نتيجة الانتفاضات العربية، هذا الاستثناء الذي أبقى العالم العربي بعيدًا عن التطورات التي تلت تفكّك الاتحاد السوفيتي وسيادة النظم الديمقراطية، وبيّنت أن سقوط الاستثناء العربي متأخرًا عشرين عامًا، بفعل انتفاضات الشعوب العربية، يعني وجود عناصر مشتركة بين شعوب بلدان العالم العربي تجمعها، وربما كان أهمّها مطلب إسقاط الدولة البوليسية أو الأمنية، من أجل إقامة نظام ديمقراطي يكفل الحرية والكرامة والمواطنة المتساوية.
في بداية الندوة، تحدثت عفراء جلبي عن تجربتها الشخصية مع الثورات العربية والثورة السورية بشكل خاص، وعن القناعة التي تشكلت لديها مع انطلاق ثورة تونس، بأن الاحتجاجات ستصل إلى سورية حتمًا خلال أيام أو أسابيع، وذكرت أن تحرك السوريين كان مفاجئًا بالنسبة إليها، وتوقعت أن يتأخر التحرك السوري، بسبب شدة وحزم الدكتاتورية السورية، وأشارت إلى أن النتائج التي نراها اليوم توضح لنا سبب تردد الشعب السوري سنوات طويلة في عدم مقاومة نظام عسكري أمني.
وبيّنت جلبي أنها في البداية كانت متفائلة بالحراك السلمي للثورة السورية، قبل أن تتحول إلى “التسليح”، خاصة أن بداياتها شهدت مظاهر “سلمية”، وأشارت إلى أنها كانت ترى عند الناس في بداية الحراك إيمانًا غير حقيقي بـ “السلمية”، إذ كانوا يرونها الأداة التي تستعمل قبل اللجوء إلى العنف، لا أن “السلمية” هي أقوى أدوات التغيير، ومن أجل ذلك لم تكن متفائلة.
وسلطت الندوة الضوء أيضًا على التضامن بين بعض الشرائح في الدول العربية، والانخراط في القتال خلال الثورات العربية، وبيّنت جلبي أن الأمر في جذره إيجابي، ولكن ربما له تجليات سلبية وخطيرة، عندما يتطوع الشباب للقتال، وأضافت أن ظاهرة التضامن السياسي هي ظاهرة عالمية، ففي الحرب الأهلية الإسبانية -مثلًا- كان هناك نوع من الحالة الرومانسية مع الثورة الأهلية الإسبانية، لأنها أيضًا كانت ثورة محقة، لكنها تحوّلت إلى حرب أهلية طاحنة، واجتذبت كثيرًا من الشباب ذوي الميول اليسارية، وكثيرًا من الأدباء والمثقفين، لذلك نجد أن ظاهرة الانجذاب إلى قضايا كهذه تحدث دائمًا، لكنها في السياق العربي ستكون مكثفة بشكل أكبر، وأضافت هنا يجب أن نسأل أنفسنا: كيف يمكن أن نحوّل هذه الوحدة العضوية، وخاصة الشعور السهل بالتضامن، إلى إطار إيجابي سياسي، وكيف يُعطى له إطار فكري؟ وأكدت أن من المهم جدًا أن تُفتح حوارات وطنية على مستوى المنطقة العربية، حتى نُحرر فكرة الوحدة العربية من كونها فكرة قومية أو أيديولوجية تعوق أو تقمع الاثنيات واللغات الأخرى، وأن تتحول إلى إطار إنساني يعتمد على حقوق الإنسان، ويعتمد على إعادة تفعيل قضايا المنطقة وهمومها في إطار فكري سياسي، بدلًا من أن تتحول هذه المشاعر في التضامن إلى تجليات سلبية، ويلجأ الشباب إلى حمل السلاح.
وتناولت الندوة، في أحد محاورها، الأسباب التي تقف وراء فقدان مفهوم “الوحدة العربية” لمكانته، بعد أن كان هناك شغف لدى الشعوب العربية والنخب بهذه الفكرة، وذكرت جلبي أن ذلك يعود إلى أن كثيرًا من القيادات الأيديولوجية العسكرية استغلت الشعارات لأجل تحقيق مآرب محلية وأمنية، ففي سورية مثلًا، هناك شعارات “وحدة.. حرية.. اشتراكية”، وهي كلمات جميلة جدًا، لكنها فُرّغت من معانيها، وأضافت أنه مثلما استعاد الشعب السوري والشعوب العربية كلمة حرية وكرامة، فيجب أن يستعيدوا أيضًا مفهوم الوحدة العربية، وأكدت أن من المهم أن تتم استعادتها من الدكتاتوريات العربية.
من جانب آخر، تطرقت جلبي، في سياق حديثها خلال الندوة، إلى ضرورة أن يتم تفعيل “العنصر الجندري”، كونه عنصرًا مهمًا في تسييس المنطقة أو جعلها مدنيّة أكثر، وأكدت أنه من المهم جدًا إدخال قضايا المرأة في المنطقة العربية بشكل جديد أيضًا، لأن وجود المرأة في الساحة السياسية الاجتماعية يعدّ من أهم الضمانات، في تغيير مفاهيم السياسة وإعادتها إلى إطار حواري وإلى إطار سياسي ومؤسساتي أكثر من أن تكون بأدوات عسكرية، ورأت أن تواجد المرأة بشكل أكبر في الساحة السياسية يوجّه البلد إلى اتجاهات مختلفة، وأن من المهم أن تشارك المرأة في صناعة القرارات وصناعة السياسة.
وفي ردّ على سؤال: “كيف نفسّر انكفاء الشعوب العربية عن التضامن مع معاناة الشعب السوري، طوال السنوات العشر الماضية؟”، أجابت جلبي: “يحزننا دائمًا أن نجد أن الآخرين لا يشعرون بآلامنا، لكننا نحن أيضًا لا نشعر بآلام الآخرين، وعندما أسمع هذا من السوريين، أسألهم إلى أي درجةٍ تفاعلتم أنتم مثلًا مع الثورة الجزائرية؟ وإلى أيّ درجة تفاعلت المنطقة العربية مع المجزرة في رواندا؟! لذلك من الطبيعي جدًا، خاصة في أجواء الاستبداد، أن تكون كل الشعوب منشغلة بحالها، وفي الحالة الغربية هناك نوع من الانكفاء، لأن الناس منشغلون بأعمالهم ووظائفهم ودفع ضرائبهم.. إلخ.. هناك أشياء كثيرة ملحّة يوميًا، ومن المهم التفاعل معها، لكنّ ليس من السهل حصول ذلك، وأظنّ أن علينا أن نخلق -بالتدريج- عالمًا فيه تضامن، ونبدأ على الأقل محليًا، ثم تزداد الدائرة، وأرى أن الأمر هو أزمة إنسانية، فقضايا الأنانية والمصلحة اليومية تستحوذ علينا، وتحول دون التضامن والتعاطف مع كثير من القضايا الإنسانية المهمة”.
وتناولت الندوة، في أحد محاورها، أسباب انتقال “الانتفاضة” بشكلها السلمي بسرعة، من بلدٍ عربي إلى آخر، وذكر مصطفى ناجي أن علماء السياسة يفسرون ذلك بمصطلح “أحجار الدومينو”، وأن ما يحدث في بلدٍ سينتقل إلى بلد آخر، عندما تتماثل الظروف، وهذا يؤكد أن الشعوب العربية خصوصًا “الجمهوريات” كانت متشابهة جدًا، في كثير من الظروف: أنظمة هشة، فساد، ظروف معيشية صعبة، وكان هناك شيء أخطر، وهو انسداد الأفق السياسي، وانزلاق الأنظمة التي بدأت في مراحلها الأولى على شكل علماني، جمهوري، آلت إلى التوريث، والمشكلة الكبيرة التي تربط بين كثير من الدول هي مسألة التوريث وتهميش كل الشباب وتهميش كل القوى السياسية، والقضاء على كل التحالفات.
وأعرب عن اعتقاده بأنه كانت هناك روابط أكبر مما هي ظاهرة، وربما انتهى مفهوم الوحدة العربية، لكن العرب ظلوا موحدين على همومهم ومشكلاتهم إلى حد كبير، ولعبت اللغة أيضًا دورًا كبيرًا في تحفيز المحاكاة إلى حد كبير، إضافة إلى وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وبذلك، كان هناك أكثر من دافع.
وذكر ناجي أن الشعوب العربية، وإن اجتمعت على الثورة ضد الدكتاتورية والأنظمة الشمولية والقمع وعدم توفر الحد الأدنى من العدالة والمواطنة، فإنها اختلفت ثقافيًا واجتماعيًا وفكريًا، ورأى أنه من الطبيعي أن يكون هناك اختلاف وتنوع، بسبب كثير من العوامل والمحددات، منها عوامل جغرافية وتاريخية ومدى قرب منطقة معينة من تجمع حضاري آخر وتأثيرها به. وأضاف أن هناك سياقات مختلفة من بلد إلى آخر، وهي التي أفرزت النتائج التي نشهدها اليوم.
وأشار ناجي إلى أن ما يجمع الشعوب العربية اليوم، وقد خرجت منذ العام 2011 ضد الدكتاتورية والنظام الشمولي والقمع، بالرغم من أن هناك شعوبًا ما تزال حتى اليوم مقموعة وتتعرض لكثير من الانتهاكات والتحديات، وشعوب أخرى تشهد نجاح ثورتها عبر العمل المؤسساتي والأحزاب، ما جمعها هو “دينامية الثورة والثورة المضادة”، وأضاف أن كل من سارع إلى تمويل الثورات المضادة هم من العرب، ودعموا الحروب في بلدان عربية أخرى (تدخّل الإمارات في ليبيا مثالًا)، ولفت النظر إلى أن الحلم العربي بدأ في بلد، وانتقل إلى بلدان أخرى، لكن ضياع هذا الحلم هو الذي يجمع الناس إلى حد كبير أيضًا.
وبيّن ناجي أن الوحدة العربية قد تكون شرطًا لتحقيق الأهداف التي خرج من أجلها الشارع العربي وانتفض ضد الاستبداد، وأن الساحات العربية التي امتلأت بالناس في 2011 كانت مأخوذة أولًا وأخيرًا بأمور محلية بامتياز، وكانت معنية بتغيرات سياسية، وأضاف أنه إذا أوجدنا بلدًا عربيًا فيه مؤسسة حقيقية وفيه ديمقراطية وفيه حوكمة، وفيه إشراك لشرائح المجتمع سواء الشباب أو النساء، فيمكن أن نتعامل بشكل أكثر جدية مع التحديات الاستراتيجية والحضارية التي يواجهها العالم العربي، ولكن كيف يمكن أن نقود الثورة إلى وحدة عربية؟ وهنا السؤال الأبرز، وأضاف أنه يمكن توفير الحاضنة الحقيقية لبناء مشروع عربي يحفظ سيادة البلد الواحد، ويحافظ على مصلحة البلد الواحد في إطار مجموعة البلدان، وهذه العلاقة التكاملية لا يمكن فيها لمشروع أن يلغي المشروع الآخر، وبالتالي يمكن البناء على هذه الأسس. وتابع أن هذه الأسس لا تكفي، فيجب أن تتكامل ببناء مؤسسي، وبالحوكمة، والقضاء على الفساد، وباحترام حقوق الإنسان، وربما ندفع بذلك إلى إصلاح ديني أو إصلاح اجتماعي.
وفي ختام الندوة، رأى ناجي أن كل بلد لديه ما يكفي من الهموم، ولكن إذا استطاع القطر الواحد أن يعالج مشكلاته، بطريقة صحيحة تجعله ينطلق للمستقبل، فإنه سيكون رافدًا وسندًا لبقية الشعوب، وأضاف أن الخلاص الفردي هو الوصفة السحرية لكل بلد، ولكنّ ذلك لا يجب أن يمنع كل بلد من الالتفات إلى الأحداث الأخرى، وأن يستفيد كل بلد من تجارب البلدان الأخرى، وبالتالي يمكن خلق التضامن المطلوب للخروج من هذا النفق.
عفراء جلبي: كاتبة سورية – كندية، مهتمة بقضايا اللاعنف والإصلاح الديني والسياسي، عضو سابق في المجلس الوطني السوري، عملت مع منظمات عدة في المجتمع المدني السوري، وفي صحف عربية وغربية.
مصطفى ناجي الجبزي: باحث يمني ودبلوماسي سابق، باحث في مجال الدراسات الاجتماعية، مهتم بقضايا الإدارة العامة والتحول السياسي في المجتمع اليمني، ماجستير في الجيوبوليتيك مِن جامعة باريس الثامنة.