المحتويات
أتت الحرب في سورية على مقدرات الحياة المادية والاجتماعية والثقافية كافة، وتأثرت، بالضرورة، الأنساق المشكّلة للتنظيم الاجتماعي السوري و”الدولة السورية” التي اختُطفت من جانب سلطة البعث وبنيتها القمعية والطائفية. وقد كشفت الثورة/ الحرب، مرحلة من بعد أخرى، عمق البنية الطائفية للنظام من جهة، والاصطفاف إلى جانبه، ولا سيما من أبناء طائفته من جهة أخرى. ومنذ تصدير النظام في خطابه الإعلامي رواية مزيفة عن الثورة بأنها ذات بعد إسلامي/سني يقوم على إقصاء المكونات السورية الأخرى، وخصوصًا المذهبية منها، اتخذ خطاب ما سنطلق عليه جموع (الموالين) وسلوكهم مساراتٍ تحددت بما يأتي:
إن ما نحاول تتبعه في هذا السياق هو موضعة السوري من غير الموالين، من قبل خطاب الموالاة وتمثلاته الجمعية، في موقع الغريب والآخر في معادلة تنتجها فقط حالات استثنائية كالحالة السورية. الأمر الذي يعني نزع صفة الانتماء إلى سورية التي ترتبط عند جموع الموالين برموز السلطة الأسدية منذ أكثر من خمسة عقود.
منذ انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، وبموازاة التعاطي الأمني مع المتظاهرين المطالبين بإسقاط نظام الأسد، ثم استخدام العنف المسلح والاعتقال التعسفي وغيره مما ارتكبه النظام وأذرعه الأمنية، ويُصنف كجرائم ضد الإنسانية؛ اشتغل النظام السوري، عبر قنواته الإعلامية وكل ما تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، على ترسيخ (نمط) و(صورة) ناجزة عن المتظاهرين الذين تم تصنيفهم معارضين للنظام السياسي السوري بشكله الذي كان عليه حتى لحظة انطلاق الثورة. لكن ما يجب التنويه إليه في هذا السياق، هو أن لفظ (معارضين) لم تكن دارجة في خطاب النظام حتى مراحل متأخرة ساد فيها الحديث عن (معارضة وطنية شريفة) عند وصف (المعارضة) التي تعمل تحت مظلة النظام وأخرى مرتهنة بالخارج ومصالحه.
لكن المتظاهرين الذين خرجوا على نظام الأسد، ونُعتوا بصفات احتقارية كان أكثرها دلالة وصف رئيس النظام (بشار الأسد) لهم بأنهم (جراثيم) و(مندسين)، وكذلك (دخيلين على النسيج السوري)، وتكرر بلسان مستشاريه عند بداية الأحداث في درعا. وبينما عمل (الإعلام الثوري البديل) على كشف جرائم الجيش والفروع الأمنية وأزلامها بين صفوف الشعب السوري؛ اشتغل النظام على تكريس صورة نمطية لكل من يعارضون النظام، ويتعاطفون معهم، ومن بعض الذين اتخذوا موقفًا حياديًا أو صامتًا.
لقد خلق (الفيس بوك)، بوصفه واحدًا من أهم وسائل التواصل والبث الإعلامي وأسهلها، مساحة كبيرة ونشطة لتكريس أنماط سلبية عدة تجاه معارضي النظام على اختلاف مشاربهم ومناطقهم ومستواهم التعليمي والثقافي والطبقي، بحيث تم حشرهم جميعًا في صف (الخونة والمرتهنين لمن يريد تخريب الوطن من الخارج). وهكذا، ظهر مثلًا منذ الأسابيع الأولى للثورة واتساقًا مع جيش يقمع مواطنيه ويقتلهم؛ جيش سوري إلكتروني يشرف عليه أكاديميون مختصون في العلوم السياسية والإعلام وعلم الاجتماع وعلم النفس، ويهتم ببث الشائعات وملاحقة صفحات المعارضين، الأمر الذي يمكن تسميته بحرب إعلامية اتسمت في ظل سيطرة النظام وملحقاته على وسائل الإعلام ونشر المعلومات والأخبار والصور، بغياب التكافؤ.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل بدأت صفحات (الفيس بوك) المؤسسة أمنيًا والخاصة بالموالين والمدعومة بـ (أبواق إعلامية وأكاديمية موالية) بالانتشار الكبير، بحيث باتت شبكات الأخبار (الفيسبوكية) تعمل يوميًا على تكذيب أخبار التظاهرات، وفبركة كثير من المواقف والأخبار، وبث تهم الخيانة لجموع المتظاهرين. ومع تأزم الوضع، وازدياد شدة التخندق بين النظام والثائرين عليه، كان لا بد من صناعة صورة ناجزة بسماتها الرئيسة عن السوريين الذين اختاروا الخروج عن (نصّ النظام) وروايته الرسمية عن (المسلحين والمؤامرة الكونية) وما إلى ذلك. ولقد تم، في واقع الحال، إنجاز الصورة، واتهمت فئة عريضة من السوريين بالتغرير والخيانة وضعف النفس، علاوة على الامتثال للخارج، وتنفيذ أجندات الدول التي تريد تخريب ازدهار (سورية الأسد)، بالإضافة إلى اللغو الكبير عن (المقاومة وإسرائيل وقلاع الصمود)، وغير ذلك من الشعارات التي زيفت الوعي السياسي السوري لعقود طويلة منذ عهد الأسد الأب.
ويمكننا الحديث منذ تلك المرحلة، أي منذ انطلاق الثورة حتى منتصف عام 2012، عن سمات عامة تميزت بها اللغة الرسمية للنظام، وامتدت إلى لسان مواليه وأزلامه الذين كانوا في غالبيتهم من أصحاب المصالح في بقائه نظامًا فاسدًا، وإلى لسان من ينتمون إلى طائفة النظام، عبر ترهيبهم من (ثورة ذات بعد إسلامي سنّي)، إضافة إلى لسان حال بعض الصامتين الذين بدا أنهم اختاروا الانحياز إلى لغة رواية النظام والموالين الرسمية. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فمع تبدل الحال في مراحل الثورة، وتحويلها إلى ما سُمي بـ (الحالة السورية) أو (الأزمة السورية)، باتت تُضاف إلى تلك (الصورة الناجزة) نعوت دينية وأيديولوجية متناقضة تشمل مناطق ومكونات من قبيل بعض المكونات السورية الدينية (الدروز والإسماعيليون)، والقومية (الكرد والتركمان)، وممن باتوا من النسيج السوري (الفلسطينيون السوريون).
لقد ترافق ذلك مع صعود الحركات الراديكالية في ميدان القتال والسياسة السوريين، حيث ظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وجبهة النصرة وحركة أحرار الشام وجيش الإسلام في الغوطة الشرقية. ولأن صورة غير الموالين يراد لها أن تكون في خطاب الموالين قاتمة بالمطلق؛ ظهرت في مرحلة ما بعد 2016 نعوت وصفات سلبية جديدة بحق المعارضين السوريين في مقابل أخرى إيجابية لمكونات غير سورية (من روسيا وإيران وتشكيلات من ميليشيات مذهبية قاتلت وما تزال إلى جانب النظام).
يصعب الحديث عن (آخر سوري) بالنسبة للسوريين أنفسهم، فـ (الآخر) يفرض، بالضرورة، حضور (الأنا)، لكن ما حصل هو أن (الأنا السورية) أنتجت، من قبل الموالين، (آخر سوري) هو (السوري المعارض)، وتطورت صورته وموضعته مع تطور المراحل المتلاحقة لأحداث الثورة. وفي المراحل الأولى من الثورة، كان الحديث عن أبناء (خانوا) أو (انحرفوا) عن نهج (الوطن الأسد)، وكانت الصفات المسبغة عليهم لا تدخل في تصنيفهم على أنهم (آخر غير سوري)، فإمكان إنهاء الثورة بالعنف المفرط كان واردًا، ومن ثم فإن العودة إلى حضن (الوطن الأسد) و(التوبة) كانا واردين أيضًا، بل يمثلان السيناريو الذي كانت سياسات النظام تعمل على إشاعته وتظهيره على أنه (تسامح الدولة مع مواطنيها وأولادها العاقين).
إلى هنا، لم يكن خطاب الموالاة قد تجاوز حدوده المعروفة في أزمات ومفاصل مرت بها البلاد، حيث حافظ على لغة تطغى عليها اتهامات بالخيانة والارتهان للخارج والتخريب. الأمر الذي كان قد حصل في مرحلتي (مجزرة حماة) أوائل الثمانينيات و(توريث بشار) السلطة السياسية والعسكرية من أبيه. ومع بداية الثورة، عادت تلك الصفات لتجد طريقها إلى خطاب النظام، ووصلت إلى حدها الأقصى، كما في المراحل السابقة في عهد الأسد الأب وبداية عهد الابن، في إسباغ نعت (الخونة) و(المغرر بهم) و(فاقدي البوصلة الوطنية).
لقد تشابه، في المرحلتين وبفعل تشابه الحوادث، خطاب النظام الذي كان واضحًا لديه أن القضاء على الثورة ليس بالأمر السهل، والذي كان يطمح ويخطط لتكرار واحدة من أبشع المجازر في التاريخ المعاصر للمنطقة (حماة سنة 1982). ولقد استمرت الثورة، وبدأت بعض المناطق تخرج عن سيطرة النظام، وانقسم السوريون أكثر فأكثر مع تمسك كل طرف بروايته، وازداد مستوى العنف وسفك الدم، وازدادت وحشية النظام والجيش وميليشيات (الدفاع الوطني) و(الشبيحة) والميليشيات الطائفية غير السورية بطريقة تجاوزت حدود المتوقع.
مع ارتفاع منسوب الدم والكراهية لدى النظام ومن يقف معه، سوريًا وغير سوري، استمر تأييد النظام من مواليه مع كل شكل جديد من أشكال القمع والعنف، حيث بُرِّر حرق السوريين ونحرهم وإلقاء البراميل عليهم واستخدام السلاح الكيماوي ضدهم. ولقد بدت الحرب بالنسبة إلى كثير من الموالين من الطوائف كافة وأصحاب المصالح حربًا وجودية، ولا سيما من طائفة النظام. ويمكن لنا بالنظر إلى المتغيرات المذكورة أعلاه الحديث عن انزياح (صورة غير الموالين)، وليس المعارضين فقط، فقد تم حشر كل من لا يقف صراحة مع النظام وخطابه في جهة أخرى، وتأسست من ثم صورة لـ (آخر سوري)، سواء ممن هم في الداخل أو الخارج وممن خرجوا من نسق الموالاة للنظام السياسي والعنف وتبرير القتل، وكذلك بالنسبة لمن يتحدث عن جرائم النظام وطائفيته من مكونات سورية مختلفة أو ممن انسجموا مع الجسد الاجتماعي السوري خلال عقود طويلة.
يكتسب (الآخر) صفته بالتمايز مع (الأنا)، وبالاستناد إلى الاختلاف بالدرجة الأولى، ويكتسي موقعًا فيه تبخيس أو تعظيم، بالاتساق مع نمذجته واختلافه في المواقف والسلوك، أي في الخطاب بوصفه تعبيرًا مكثفًا. ويصبح الآخر رمزًا، وترسم (الأنا) تخوماً حوله، وتحدده بوصفه صورة ناجزة أُسبغت عليها الصفات كلها التي لا تشبهـ(نا)، بوصفـ(نا) موالين. وإذا كانت العلاقة بين الأنا والآخر متضمنة مشكلة ترسيخ الرمز في الثقافات عمومًا، فإنها في الحالة السورية قد تجاوزت تلك المشكلة، وتكرست (صورة غير الموالين) بوصفها وظيفة يمكن القول إنها (شيطانية) ببعدها المعرفي الاجتماعي.
وهكذا، أصبح (الآخر السوري) غير سوري في ضمير الموالين ولغتهم وخطابهم اليومي، وانتقل من مرحلة (الابن العاق) إلى المنبوذ وغير السوري في أصوله ومواقفه. لقد انسحب هذا الموقف على (لغة) الموالين كافة، ولم يكن الأكاديميون (نخبة الموالين) استثناءًا من ذلك ([1]). ولقد تكرّس الخطاب السابق واستمر حتى الآن. وهو، في بعده المعرفي، يعني نزع صفة (المماثل) عن (الآخر المعارض)، إذ يغدو غير سوري، وتثبت صفة (المفارق) و(المختلف) للموالي الذي بات بالنسبة إليه استمرار الاعتراف بالمعارض يشكل تهديدًا لوجوده، لذلك يجب أن يُدفع المعارض إلى مساحة هوياتية أخرى مختلفة لا تشبه الهوية المتفق عليها بين الموالين.
لم يكن هذا التقسيم القسري والإقصائي على مستوى الخطاب الداخلي بين الموالين أو في بنية لغتهم وقناعاتهم، مستحدثًا بالكامل بفعل الثورة وفي زمنها فحسب، بل كان موجودًا قبل الثورة السورية بصورة أكثر باطنية وأقل شيوعًا وتصريحاً، لكن هذا الخطاب تم إعلانه جهرًا ومن دون أي حرج في فضاء الإعلام الإلكتروني المعاصر. وبالعودة إلى أحداث حماة ومجزرتها الشهيرة، نقف على سلوكيات ذات مؤشرات ودلالات، إذ عاش المواطن السوري مدافعًا ليس فقط عن كونه لا ينتمي ولا يؤيد جماعة الإخوان المسلمين، بل يكرهها خشية اتهامه من قبل أي مخبر أو عنصر أمن أو تقرير كيدي بأنه (إخونجي) (المفردة التي كانت دارجة آنذاك). وقد كان ذلك يجري، في أحايين كثيرة، بحق سوريين مسيحيين ومن ديانات وطوائف من الأقليات الأخرى وأشخاص من ذوي اتجاه فكري يساري/شيوعي.
لكن هذا الخطاب قد وجد، أخيرًا، مساحته الواضحة، وتحوّل إلى ما يشبه (الكود) الدال على خطاب (الأنا الموالية) ضد الآخر أو (غير الأنا) المعارض. ولقد حاول الخطاب الرسمي تغليف توجهه هذا بالكلام المنمّق عن الوطن وحضنه وما إلى ذلك من اللغو. وهنا يمكن القول: إن محددات هوية السوري، من حيث هو (آخر)، أصبحت محل إجماع، وبات متفق عليها بين جموع (الأنا الموالية)، وتنمذجت تلك الصورة على مستوى أيديولوجي وثقافي ومناطقي وديني، وحتى على مستوى الشكل والهيئة.
لا يمكن في الحالة السورية الحديث عن مفهومي (الأنا) و(الآخر) كما تعينا في الدراسات السوسيولوجية والثقافية والاستشراقية، ببعدهما المعرفي والسياسي ، لذلك نرى أن الفهم الأدق للحالة السورية في تمفصلها حول الأنا والآخر، يكمن في ما يطلق عليه سوسيولوجيًا (التمثلات الفردية والجمعية)، إذ تتكون بنية التمثلات ذهنيًا بالاتساق مع المعطى الخارجي، وما يشمله من خبرات الفرد والجماعة، مضافًا إليها مواقف شخصية أو(شخصنة) مدعمة بإدراك عام لمجمل عناصر هذا المعطى، بحيث تصبح عملية مركبة تتفاعل لدى الفرد والجماعة، وتتخذ صورة إما نسبية أو ثابتة يُطلق عليها مصطلح (تمثّل/ تمثّلات).
تنطوي (التمثلات) بالضرورة على سلوك ومواقف واستجابات تتجلى في (المعنى) ذي الدلالة عند (الاستجابات) تجاه (المثير) الذي يمثل هنا (الآخر) ودلالاته الكثيرة. وعلى الرغم من أن عددًا من السوسيولوجيين ([2]) قد أكدوا أن (التمثلات الجمعية) تسبغ النسق المجتمعي العام، استنادًا إلى انسجام مشترك لإدراك وخطاب (لغة)، بحيث تترسخ سمات اجتماعية مشتركة، فإنه في الحالة السورية ومع انقسام النسق المجتمعي في اتجاهين متنافرين، انزاحت (التمثلات الجمعية) من إدراكها للآخر غير السوري إلى تمثلات جديدة نحو السوري (غير الموالي) والمعارض للنظام. الأمر الذي فرض وعيًا جمعيًا جديدًا ذا سمة طائفية، ومؤسسًا لـ (تمثلات) جديدة تتسم بإدارك ناجز لصورة الـ (سوري الآخر) أو (غير الموالي)، ونعته بصفات تتراوح بين السلبية والاحتقار.
تتشكل (التمثلات) من بنية من المعارف وتصبح شكلًا من أشكال المعرفة، فضلًا على أن الحديث عن (نسق معرفي للتمثلات) يحيلنا بالضرورة على نسق التفســـير والتأويل. وقد تشكلت (التمثلات الجمعية) الجديدة للسوريين الموالين وأضيفت إليها معارف وتفسيرات تراكمية مع كل طور من أطوار الثورة، وتم تصنيفها على الدوام من خلال نظام تفسيري يعتمد على الصور والصفات الناجزة التي جرى تثبيتها في خطابهم ولغتهم، إذ اشتغل (الخطاب الموالي) على تقديم تفسيرات لأي موضوع قد يحمل طابعًا مشكلًا أو حمالًا لأوجه، وتم ما يمكن تسميته بـ (صناعة تمثلات) لها خصوصية في المفهومات والمعتقدات والصور والمواقف، بحيث تم إنتاج قواعد قيمية خاصة يُحاكم السوري الآخر بناء على مدى قربه أو بعده منها.
ثمة خصوصية أخرى للحالة السورية لدى الموالين، فما يجري من تكريس للسوري بوصفه (آخرًا)، وتمثلات وصور، يغير معادلات التحليل السوسيولوجي المعتاد بامتياز. وإذا كانت التمثلات الجمعية تقوم بكشف انحراف نمط الإدراك والحكم الفردي المغاير للجمعي بـ (بعض الاستقلالية ضمن النسق المجتمعي المتجانس)، فإن السلوك الفردي لـ (الموالين)، وهو القادم من الإدراك الجمعي، قد انسجم وتجانس مع المعطى الاجتماعي للأحداث الواقعية، بما هو (مثير يستتبع استجابة)، وأصبح محكومًا كليًا بـ (السلوك الجمعي)، ومن دون ظهور انحرافات فردية على مستوى الإدراك والسلوك والفعل.
ويمكن هنا الوقوف على المحددات التي أنتجت التجانس في تمثلات السوري، من حيث هو آخر وبصورة جمعية في (خطاب الموالين المعرفي)، وهي:
استقرت حالة الانقسام السوري على مستوى (النسق الجمعي) إلى نسقين، وتم (تثبيت) متغيرات النسق الموالي بصورته الناجزة وظيفيًا وأيديولوجيًا وتفسيريًا، ما مهد لشرعنة العنف بأشكاله و(فنونه) الكثيرة. ولأن (النسق الموالي) بات على مستوى التفسير والوظيفة والسلوك، مفتوحًا على إدخال عناصر مشابهة له، فقد استتبع عملية (إدماج وظيفي) لمكونات جديدة لهذا النسق الإقصائي الجديد لمكونات سورية اتخذت صفة الآخر أو (الغريب) بمفهوم أوسع. وهكذا، دخلت تلك العناصر المتشابهة والمتجانسة طائفيًا وبراغماتيًا، ضمن إطار (تمثلات) و(رؤية متطابقة للعالم)، في النسق الجمعي الموالي، مع كل ما تحمله تلك التمثلات من محددات وأبعاد.
وفي هكذا حال، يصبح من ينتمي إلى الميليشيات والمرتزقة الموجودين في سورية أكثر قربًا من السوري (الآخر)، ويتم إسباغ الصفات (الوطنية) عليه، على أساس أن الانتماء يكون للسلطة، وليس لدولة ومجتمع بمكوناته المتعددة، بل يتمثل أيضًا خطاب النسق الموالي ولغته، ويتبنى (تمثلاته) تجاه السوري (الآخر) الذي لا يتفق معه، ويغدو التهليل لـ (حزب الله) اللبناني أو لـ (حركة النجباء) العراقية وغيرهما متسقًا مع خطاب العنف والتحقير، وتغدو مباركة (سحق الإرهابيين) من قبل (حزب الله) مثلًا، في المناطق الحدود السورية – اللبنانية، سلوكًا منسجمًا مع (نسق كلي للتفسير) لدى الموالين. ويضاف إلى ذلك في الحالة السورية معادلة جديدة أيضاً، إذ تنضح لغة هذا النسق بخطاب من الكراهية والاحتقار تجاه اللاجئين السوريين الذين فرّوا مرغمين من قمع وعنف النظام، ويتم تسويغ قتلهم وامتهان كرامتهم من قبل الجيش اللبناني وميليشيات (حزب الله) على أساس أنهم من أهالي (الإرهابيين).
تتمثل صيغة القريب/ البعيد، أو الـ (نحن/ الآخر) في اختلاط لغة الخطاب لدى أي دارس لما يجري في سورية، بصورة أكثر وضوحًا، الأمر الذي يمثل عنفًا يُعبَّر عنه بتحقير وسخرية و(شماتة) بالسوري الذي أُقصي إلى مرتبة (الغريب/ الآخر)، ويسترسل مرتكبوه على الصفحات الإخبارية الموالية وعلى ألسنة الأفراد، على اختلاف مواقعهم ومستوياتهم. ولقد حدث هذا في مجازر صغيرة وكبيرة موزعة على مناطق وبلدات مختلفة؛ نخص بالذكر منها ردود الأفعال والخطاب/ اللغة تجاه ضحايا مجزرة خان شيخون الكيماوية، حيث امتلأت صفحات الموالين وشبكاتهم الإخبارية بالشتائم واللعنات والسخرية من مشهد الأطفال الموتى ومن الآباء والأمهات الثكلى.
لقد تكرر الأمر ذاته عند (سقوط حلب)، حيث قدمت صور وشهادات الناجين، في أيام حصار المدينة واجتياحها، (بانوراما حرب) تفوق القدرة على تصورها ذهنيًا، حيث أحرقت الجثث، وانتشرت في الشوارع، وانتحرت بعض النساء خوفًا من الاغتصاب، وقتل الأطفال عمدًا وغير ذلك من أبشع صور الإجرام التي كانت احتفالات الموالين بـ (تحرير حلب) تطغى عليها. وقد سوّغ البعد التفسيري نجاح التدخل الروسي والإيراني والميليشيات الأخرى في سحق (السوريين الآخرين) جميعهم، وخصوصًا المدنيين، على أساس أنهم حاضنة (الإرهاب) ويستحقون الموت.
أخيرًا، استنادًا إلى ما سبق كله، هل يمكن أن تتنتج المكونات السورية (تمثلات جمعية) تخص كل واحدة منها من دون الأخرى؟ وهل يصبح، من ثم، كل مكوّن (آخرًا) بالنسبة إلى المكونات الأخرى؟ إن الحالة السورية ما تزال تطرح كثيرًا من الأسئلة المشكلة، وهي ربما ستنفتح على تأويلات جديدة، ما دام تأثير الحرب على النسق المعرفي للتنظيم الاجتماعي السوري مستمرًا، بوصفه كلًا موحدًا، وعلى الجماعات والمكوّنات المجتمعية كلّ على حدة.
([1]) الأسوأ في مواقف الموالين، في هذه الفكرة التي نناقشها، هو موقف (النخبة الموالية) التي بدأت تصدّر مقولات استبعاد المعارضين، ولا سيما المثقفين منهم، عبر مقولات تروّج بأنهم دخيلون على المكون السوري.
([2]) إميل دوركهايم ومن سار على دربه في التنظير في هذا الإطار، بصورة خاصة.
([3]) نذكر، في هذا السياق، الألوية جميعها التي تتكنى بأسماء طائفية ابتداءً بـ (حزب الله)، وليس انتهاء بميليشيا (أبي الفضل العباس)، وما تضمه من مقاتلين من جنسيات مختلفة وتجمعهم روح الطائفة.
([4]) يتميز الشبيحة ومرتزقة الميليشيات الطائفية التي تقاتل إلى جانب النظام بالوشوم المطبوعة على زنودهم وصدورهم وأحيانًا على رؤوسهم، وهي كلها عبارات تخص الطائفة أو رسوم تحيل على طائفة، علاوة على رباط الرأس أو الزند وعبارات باتت معروفة وربما أشهرها (لبيك يا زينب)، على اعتبار أن هذه الميليشيات الطائفية من المرتزقة (تحمي) أبناء تلك الطوائف، بل تأخذ (بثاراتها) المغرقة في القدم، إن لزم الأمر.