المحتويات:
الإنسانية في التاريخ الإسلامي
تاريخية المذهب الإنساني غربيًا
التدين المعاصر وحاجته للإنسانية
الهدف من التنوير إنسانيًا
ختامًا
يصرخ الإمام الثائر جمال الدين الأفغاني في وجه تحالف رجال الدين مع السلطة، ذلك التحالف الذي أفرغ رسالة السماء من مقاصدها الإنسانية وعطل العقل كليًا، وجعل التدين خادمًا للسلطة ومشروعاتها، قائلًا: “ملعون في دين الرحمن من يسجن شعبًا، من يخنق فكرًا، من يرفع سوطًا، من يُسكت رأيًا، من يبني سجنًا من يرفع رايات الطغيان، ملعون في كل الأديان، من يُهدر حق الإنسان، حتى لو صلّى أو زكّى أو عاش العُمرَ مع القرآن”.
لقد حاول الإمام الثائر أن يعيد البوصلة الدينية والسلطوية من جديد إلى تجاهها الإنساني العقلاني، فتحول في خطابه من العامة إلى السلطة لعلها تثوب إلى رشدها في عصر كان التخلف والهزائم العسكرية ضاربة أطنابها في المجتمع والدولة، وشنَّ حملته على التحالف الفرعوني/ الهاماني مبينًا أن التدين بات مُسْتَخْدَمًا للمشروعات السلطوية، ومبتعدًا عن حنيفيته وخاليًا من إنسانيته التي يجب أن يتمتع بها، منطلقًا من الحديث النبوي: الإنسان بنيان الله ملعون من هدم بنيانه.
إن الهدف الإنساني الذي يدعو إليه تيار التنوير يقوم على فكرة الإنسان بوصفه غاية في هذا العالم، ليكون الإنسان محوره بما هو إنسان، لإطلاق قدراته وإمكاناته، ولا يعتمد آلية العقوبة في استنهاض القدرات البشرية وتنظيم المجتمع، بل العكس يدعو إلى تنظيم المجتمع من خلال ما هو إنساني ويطالب باحترام الكرامة الإنسانية أساسًا للتفكير الانساني.
إذن؛ فالنص الديني جاء خادمًا للإنسان ولمصالحه العاقلة المؤنسنة، وإن كان من غايات النص السماوي الأساسية تصحيح مسار التوحيد، فالتشريع الإلهي كله لو تدبرناه بعيدًا عن الفهم الطائفي والمذهبي والتقليدي، سنجده لمصلحة الإنسان أولًا وأخيرًا، ولذلك كل ما خالف الإنسانية والعقلانية أو وقف ضدها فهو منحول على رسالات السماء، ومخالف لها، فالإنسان خليفة الله في أرضه، وهو الكائن الوحيد المكرم إلهيًا بغض النظر عن معتقده ولونه وجنسيته.
الإنسانية في التاريخ الإسلامي
تتمثل الإنسانية بالتركيز على قيمة الإنسان وكفاءته، وتهتم كثيرًا بالاستدلال العقلي والتجريبي الذي يقدمه في فهمه للنص الديني من جهة، وسبل نهضة المجتمع وتحرره من جهة أخرى، ولا يمكن أن تتحقق الإنسانية ثقافة وسلوكًا، إنْ لم يكن الإنسان ذاته مقدسًا غير مهدور الحقوق، وهذا يحتاج إلى مناخ من الحرية في إبداء الرأي، فكلما منح القانون الحرية للإنسان، وكانت محمية دستوريًا، شعر بإنسانيته أكثر وعمل على تحقيق سعادته وسعادة الآخرين.
وتعدُّ صحيفة المدينة أول وثيقة إنسانية وطنية إسلامية عملت على ضمان حق الجميع، بعقد اجتماعي بين المكون الجديد (المسلمين) في يثرب وباقي المكونات الأخرى القديمة، لم تتدخل السماء فيها ولكنها كانت ذات قيم سماوية إنسانية([1]) احتوت على رسائل طمأنة لكل مواطني (يثرب) وما حولها، إذ “حوت الصحيفة اثنين وخمسين بندًا… خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولا سيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُونت على نحو يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم بحسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء… وفي حال هاجم المدينةَ عدوٌ، عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده”([2]).
وكان تيار المعتزلة الذي ظهر في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري المؤسس الحقيقي لمفهوم العقلانية الإنساني من خلال منحه مساحة واسعة للجهد العقلي في كل شيء بدءًا بفهم الذات الإلهية حتى فهم النص الديني بمقاربات عقلية كانت غاياتها إنسانية، ولذلك كانت مبادئ الفكر الاعتزالي مبادئ إنسانية، وقد تمثلت في (التوحيد والعدل والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمنزلة بين المنزلتين)([3]).
لكن يُحسب للفيلسوف ابن رشد أنه كان مؤسس المبدأ الإنساني من خلال دعوته إلى المساواة بين الرجل والمرأة، وعقلانيته وتأكيده قانون السببية الذي هو انتصار للعقلانية الإنسانية، وفهم مجريات الحياة، وإدراك حركة الناموس الكوني، وسنن نهضة المجتمعات وانحطاطها.
وتشكل رسالة (الهاشمي/ ابن عم الخليفة المأمون) التي نقلها عماد الدين أحمد، في الرد على الفيلسوف الكندي أهم وثيقة إنسانية إسلامية تاريخيًا في حق الآخر بطرح وجهة نظره، وجاء فيها: “فاحتجَّ عافاك الله بما شئت، وقل كيف شئت، وتكلم بما أحببت وانبسط في كل ما تظن أنه يؤديك إلى وثيق حجتك، فإنك في أوسع الأمان، ولنا عليك إذ قد أطلقناك هذا الإطلاق وبسطنا لسانك هذا البَسْط، أن تجعل بيننا وبينك حكمًا عادلًا لا يجور في حكمه وقضائه، ولا يميل إلى غير الحق إذا ما تجنَّب دولة الهواء، وهو العقل الذي يأخذ به الله عز وجل ويعطي. فإننا قد أنصفناك في القول، وأوسعناك في الأمان، ونحن راضون بما حكم به العقل لنا وعلينا، إذ كان لا إكراه في الدين. وما دعوناك إلا طوعًا وترغيبًا في ما عندنا، وعرَّفناك شناعة ما أنت عليه. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته”([4]).
ويعد الإمام الحنبلي نجم الدين الطوفي المولود بالعراق 657-714 هـ أحد أهم الإنسانيين العقلانيين في التاريخ الإسلامي الذي أعلن بعد الهزيمة التي تجرعتها الدولة الإسلامية نتيجة اجتياح هولاكو بغداد “الشريعة متطورة باستمرار ولا تتحنط في أقفاص النصوص، فإذا كانت العبادات موقوفة على النصوص، فإن المعاملات غير موقوفة عليها. فحيثما تكون مصلحة المجتمع (الإنسان) فثمة شرع الله، ولكون الشريعة جاءت لمصالح الناس، فلا يمكن أن تكون ضد احتياجاتهم ومصالحهم، ولذلك نادى بتقديم المصلحة على النص، ومن ثم فإن مصلحة المجتمع تُقدم حتى على النص القطعي، وإنْ كانت المصلحة خلاف ظاهر النص كما قال، فطرح الإمام الطوفي ما يمكن عدّه اليوم حلًا للخلاف بين العلمانيين والإسلاميين حول تطبيق الشريعة، فالنص يمكن تخصيصه أو تقييده على حد قوله، والأهم في ما طالب به الطوفي إنهاء العمل بالقاعدة القائلة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وجعلها زمكانية/ تاريخانية فقال: “إن العبرة بخصوص السبب وليس بعموم اللفظ، والمجتمع ينظر في مصالحه ويختار الأصلح له في الدنيا، وأما القرآن والسنة النبوية فتختار الأصلح له في الآخرة”. وإن أمور مصلحة المجتمع تحتاج إلى خبراء في الدين والدنيا من كل الاختصاصات ليقولوا بها، بمعنى آخر دعا الطوفي إلى تأسيس ما يُطلق عليه اليوم السلطة التشريعية (مجلس الشعب) وما تقره هذه السلطة في مصلحة المجتمع، وإنْ تعارض مع النص لا يعد خروجًا عليه، إنما لتحقيق مقاصده الإنسانية التي جاءت الشريعة لتحقيقها.
وتعدُّ مدرسة المقاصد التي أسسها الإمام الشاطبي بشكل ما إحدى ثمار نظرية المصلحة عند الطوفي، لكن المدرسة التقليدية عارضت رأي الطوفي بشدة واتهمته باتهامات كثيرة، حتى جاء في العصر الحديث العلامة الدستوري عبد الرزاق السنهوري لينتصر لمذهب الطوفي في المصلحة والمقصد الإنساني، إذ أوضح أن العبادات لا مجال للاجتهاد فيها، وأما المعاملات فهي اليوم محلَّ الاجتهاد. وذهب المذهب ذاته المفكر السوداني محمود محمد طه، عندما عدّ التشريعات الحياتية خاصة بعصر الرسالة، وعلينا أن نجتهد لتشريعات تتلاءم مع عصرنا([5]).
تاريخية المذهب الإنساني غربيًا
ظهر المذهب الإنساني في إيطاليا في بداية عصر النهضة، وكان يدعو إلى تحرير الإنسان من نير سلطة الكنيسة وهيمنة رجال الدين على أفعال الناس، ومن أهم رواده الهولنديان (أراسمس) والفيلسوف الثائر على احتكار الكنيسة لفهم الكتاب المقدس (باروخ سبينوزا) ومن ألمانيا (كانط) والمؤرخ واللغوي (جورج فويت) ومن فرنسا (سكايلجر) و(ديكارت) ويبقى على رأس هؤلاء جميعًا الإيطالي (فرانشيسكو بترارك) أحد أوائل الإنسانيين في عصر النهضة. ويطلق عليه (أبو الإنسانية). وهؤلاء عاشوا ما بين القرن الرابع عشر والسادس عشر، إذ رفضوا الاعتقاد المسيحي بأن الشر سببه الخطيئة وإنما هو ناتج من الظلم السياسي والاجتماعي المكبل لحرية الإنسان وحقوقه، ودعا هؤلاء الفلاسفة إلى إمكانية تحقيق الفردوس الأرضي لسعادة الإنسان من خلال الرخاء الاقتصادي الذي تحقق اليوم للمجتمع الأوروبي، ولكن هذا الرخاء يحتاج إلى منهج تربوي علمي، يؤسس للتفكير العقلاني لنبذ الخرافات والأوهام التي يزرعها وعاظ التدين في أذهان العامة. وأكدوا أسس مذهبهم، منها: “حريّة الإنسان الاختيارية، وإنكار الوسائط بين الربّ والإنسان، وحصر القدرة في تعيين المصير بالإنسان ذاتِه، بوصفه محوَرًا للعالم، وحق الناس من خلال الكفاءة والجدارة الشخصيّة للأفراد دون إيمانهم بالماورائيّات”([6]).
إذن “الإنسانيّة (Humanism) ظاهرة وُلدت ونَمَت في العالم الغربي، ويرى بعض الفلاسفة الغربيّين أنّها كانت دافعًا وركنًا أساسيًّا للنهضة، بحث المفكِّرون من خلالها عن الكمال الإنساني في عالم الطبيعية والتأريخ، وبهذا توصلوا إلى تفسير معنى الإنسان…. والاتجاه الإنساني حركة فلسفيّة أدبيّة بدأت في إيطاليا في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، وانتقلت إلى بقيّة الدول الأوروبيّة، وهي تقضي بوضع قيمة ومنزلة لعزّة الإنسان وتتّخذه محورًا لكلّ شيء، وبتعبير آخر هي اختيار الطبيعة الإنسانيّة وملاءَمتها ملاكًا ومعيارًا في التقويم العام. ويظهر ممّا تقدّم أنّه يمكن عدّ «الإنسانيّة» حركة بدأت نشاطها بعد عصر النهضة، وهي التي أبدلت محوريّة الإله بمحوريّة الإنسان، وجعلت منه ميزانًا في تقويم المسائل جميعها، فيما كان ذلك -في القرون الوسطى- يتركّز على الكنيسة وتعاليمها فقط”([7]).
التدين المعاصر وحاجته للإنسانية
عندما يُقال إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، هذا يعني أن فهم النص القرآني فهم متغير ومتبدل بحسب حاجات المجتمع وضروراته ومشكلاته، ولا يعني أبدًا القياس على أقوال تراثية والبحث في كتب السابقين عن حلول لمشكلاتنا، فعملية البحث عن أدوية لأمراضنا في صيدليات الأولين تشبه كثيرًا حالة من أصيب بمرض وبقى مصرًا على التداوي بالأعشاب من عند العطارين على الرغم من تطور الطب والأدوية.
ومن ثم فإننا نخرِج -تنويريًا- مقولة الإسلام السياسي “الإسلام صالح لكل زمان ومكان” من حيزها الشعبوي المدغدغ لرغبات التدين الشعبوي والسياسي إلى حيزها العلمي، بمعنى آخر إننا نرى أن فهم النص فهم متغير ومتبدل بحسب حاجات المجتمع وضروراته ومصلحته، وحيثما تكون مصلحة المجتمع فثمة شرع الله، ولا تعني أبدًا القياس على أقول تراثية قيلت لعصر مختلف عن عصرنا تمامًا، ولا نبحث في كتب السلف عن حلول لمشكلاتنا، حتى جعل سدنةُ الدين الموازي التدينَ المعاصرَ نسخة من التدين المنتج في القرن الثاني والثالث والرابع الهجري معتمدين على فهم فقهاء تلك القرون ومحدِثيّها من دون أي محاولة لإعمال العقل، ولم يعتمدوا المقاصد القرآنية، بل جعلوا القرآن للبركة فحسب، يُقرأ في رمضان قراءة ببغائية أو لتتغنى به الأصوات الجميلة ويتلى على قبور الموتى، وفي الصراعات الأيديولوجية تُستخدم بعض نصوصه عِضينيًا (مجتزأة من سياقها العام) لمآرب سياسية وسلطوية.
فالتنوير عندنا هو التعامل المباشر مع النص بأدوات المعاصرة والعقلانية، وواقعية تجعل مصلحة المجتمع والمبدأ الإنساني مقدمة على كل شيء. ولذلك نقول: ابدأ من الإنسان لتصل إلى الله، ولا تبدأ من الله حتى تصل إلى الإنسان. فإنسانيتك توصلك إلى الهدى حتمًا.
وكما اجتهد الأولون وأوجدوا حلولًا لمشكلاتهم، علينا أن نجتهد لإيجاد حلول لمشكلاتنا معتمدين المثلث المعرفي (النص + العقل + الواقع) والكلمة الأخيرة في حلِّ المشكلات لأصحاب الاختصاص والخبراء الاقتصاديين والقانونيين والدستورين ومن شابههم، وليست محصورة في الفقيه وحده، فمنطقة الفراغ التشريعي لا علاقة لرجل الدين بها، بل يملؤها تنظيميًا الخبراء المتخصصون بالواقعة.
“والقراءة الخاصة بمفكرين وشيوخ إسلاميين ينتمون إلى مراحل تاريخية سابقة، هي قراءة مشروطة بواقعها، ولذلك كانت أدواتهم المعرفية تنتمي إلى زمنها الذي يمتاز بدرجة تطور محدودة. ولذلك فهي غير صالحة لقراءة الحاضر والمستقبل، ويمكن عدّ قراءاتهم مرهونة بزمنها، أي ابنة شرعية لواقعهم الراهن آنذاك. وهذا يجعلنا نميز كما يقول (فوكو) بين الراهن والحاضر “إن الجديد والمهم هو الراهن، فلا يتجدد الراهن بما نحن عليه، وإنما بما نصيره، أو نحن بصدد صيرورته أي الآخر. أما الحاضر فهو على عكس ذلك، نحن بصدد تجاوزه”([8]).
الهدف من التنوير إنسانيًا
لا يعنينا الخلاف الحاد على عالم الغيب التي تصارع حوله الأولون (كيف هو الله وأين الله وهل نرى الله يوم القيامة والأسماء والصفات…إلخ) فهذه قضايا لا تنقذ مظلومًا ولا تُطعم جائعًا، ولا تنهي أزمة البطالة التي يعانيها أبناؤنا، ولا تحل مشكلة السكن ولا تخلصنا من الاستبداد، ولا تحقق التنمية، ولا تمنح للمهجرين في الخيام دفئًا، وحتى لو عرفنا كُنْه هذه القضايا الغيبية، فلن تخرجنا معرفتها من تصنيفنا دولًا متقهقرة ومتخلفة يُقال عنها دبلوماسيًا دول العالم الثالث.
إن ما يعنينا هو عالم الشهادة الذي نعيشه ولم يعاصره الأولون من السلف، المتمثل في حقوق الإنسان كيف نحققها لأنها مقصد قرآني إنساني، والحرية كونها مقدمة حتى على الإيمان، وثقافة المجتمع المدني وإيجاد مؤسساته التي تنظم المجتمع وتحافظ على حقوق أبنائه، كيف نؤسسها؟ وكيف نمارس الديمقراطية بعيدًا عن العنف؟ وما هي نظرتنا إلى الآخر الذي يعيش معنا في وطن واحد؟ وما حقوقه؟ وكذلك الآخر البعيد منا وتجمعنا معه صفة الآدمية والإيمان والمحافظة على السلم العالمي، وكيف نؤسس لثقافة التشاركية العالمية وننبذ ثقافة القطيعة مع الآخر التي جذَّرها في العقل المسلم سدنة الدين الموازي؟ ونُبعد رجال الدين عن البحث العلمي والاقتصادي والسياسي وحتى الأدب والفن، فلا ننتظر مباركتهم ولا تعميدهم لها فهذا ميدان ليس ميدانهم وله فرسانه الأكفاء.
كما نُرِّسم الحدود بدقة بين الديني والدنيوي، فترسيمها بوضوح هو السبيل إلى نهضة مجتمع متعدد المكونات. فملء منطقة الفراغ في الشريعة الإسلامية اليوم ليس مهمة الفقيه، كما كان دوره بالأمس إنما هي المنطقة التي لم يتدخل الشارع سبحانه وتعالى فيها، وأوكل مهمة تنظيمها إلى البشر، بما لا يتعارض مع المحرمات الإلهية.
ختامًا
المقصد الإنساني يشكل حالة تحدٍ آدمية لنا، بعد أن أفرغ كهنة الدين الموازي الدين من إنسانيته، وبدؤوا ينظرون للآخر على أساس ديني فقط، محتقرين كينونته واعتقاده وشعائره، متناسين أن النص القرآني كرم الإنسان لآدميته قبل كل شيء، ولا يمكن أن يستقيم تدين يعادي الإنسان ويكرهه، ولا يمكن أن تحدث نهضة لأمة ترى إنسانية الآخر لا قيمة لها فتهدر دمه، وتمنعه حريته لاختلافه بالاعتقاد عنه.
وكما رددنا كثيرًا أن الدين في خدمة الإنسان، وليس العكس، فكل فهم لرسالات السماء بعيدًا من المقصد الإنساني، هو قراءة مشوهة للرسالات السماوية، فالإله الذي نعبده إله غفور رحيم، وشديد العقاب على من يُؤذي خلقه.
إنّ التنوير المنشود يطالب العقل الديني بالعمل من أجل ثلاث قضايا أساسية لتحقيقها، هي الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية لأبناء المجتمع جميعهم مهما كان انتماؤهم الأيديولوجي، إذ إنّ القضايا الثلاث هي السبب في كل ثورة قامت أو حركة إصلاح نشأت، ولو استعرضنا تاريخيًا كل دعوة للإصلاح أو كل ثورة قامت، لتبين لنا أنّ الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية كانت السبب الباعث لها.
[1] ـ نقصد هنا بعدم تدخل السماء أن صحيفة المدينة لم تحتوِ على نص ديني فيها، إنما كانت مصلحة الإنسان والمجتمع ديدنها.
[2] ـ المستشرق الروماني جيورجيو، ممدوح الشيخ، مدخل إلى ثقافة قبول الآخر: رؤية إسلامية (الطبعة الثالثة 2018). المركز الدولي للدراسات والاستشارات والتوثيق.
[3] ـ راجع كتاب أصول المعتزلة الخمسة لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد. (نشر مكتبة وهبة القاهر ط:3. 1996)، د. عبد الكريم عثمان (محققًا).
[4] ـ موقع واي باك مشين: رسالة الهاشمي إلى الكندي والرد عليه. 14 تموز/ يوليو 2017.
[5] ـ راجع ما كُتب عن نظرية المصلحة عند الطوفي مثل كتاب (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) لمحمد سعيد رمضان البوطي. وكتاب “(ي نظرية المقاصد عند الامام الشاطبي) لأحمد الريسوني. وكذلك كتاب (في نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي) لحسين حامد حسان.
[6] ـ لا نوافق على ما ذهب إليه بعض فلاسفة المذهب الإنساني بإنكار الذات الإلهية وأن الإنسان حلّ محل الإله.
[7] ـ المذهب الإنساني، خضر إبراهيم، مجلة شعائر، السنة الثانية العدد:14.
[8] ـ كريم محمد: التنوير باعتباره تفكيرًا في «الراهن» إضاءات: https://bit.ly/3cbOhLI