ترجمة أحمد عيشة
من الواضح أن إنشاء إطار لمحاكمة الجرائم الدولية، بموجب الولاية القضائية العالمية، أمرٌ يستحق التعب؛ حيث يُظهر تدخّلُ المحكمة الدستورية الألمانية في محاكمة جرائم الحرب السورية، في كوبلنز، دعمًا للصحفيين الناطقين باللغة العربية، ولكن لا بدّ من الشفافية والمساءلة بجدّية أكبر. لكي تحتفظ الولاية القضائية العالمية بشرعيتها، يجب أن تصبح المحاكم المحلية التي تنظر في الجرائم الدولية أكثر تطورًا في تطبيق القانون الإجرائي، وأن تكون مجهزة بشكل أفضل لمراعاة مصالح السكان المتضررين والمجتمع الدولي الأوسع.
قد تكون المحاكمةُ الجنائية الجارية لعضوَين سابقين في المخابرات السورية، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، أمامَ المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز، المشار إليها باسم “الخطيب” (نسبة إلى حيّ في دمشق يقع فيه فرع الاعتقال الذي جرت فيه الجرائم المزعومة) أوّلَ محاسبة قانونية ضد مسؤولين من النظام السوري، لكنّها ليست المرة الأولى التي تمارس فيها المحاكم الألمانية، بموجب القانون الألماني للجرائم، الاختصاص العالمي، عوضًا عن القانون الدولي؛ فقد سبق أن كانت هناك محاكمات تتعلق بالصراع اليوغوسلافي، ومحاكمات تتعلّق بقضية القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، ضد أعضاء ميليشيا رواندية في عام 2015 (وهو حكم نقضته لاحقًا محكمة العدل الفدرالية الألمانية).
إن إنشاء مثل هذه الآليات للمساءلة الدولية أمرٌ جيد للغاية؛ ولكن لتحقيق ما هو أكثر من مجرد معاقبة الأفعال الفردية، تحتاج هذه الآليات أيضًا إلى أن تكون شفافة تجاه الأفراد والمجتمعات المتأثرة بصورة مباشرة، إضافة إلى توفير وسائل المشاركة والمساءلة المتعلقة بالمجتمع الدولي. ونظرًا لأهمية الموضوع، تشير التجربة في “محاكمة الخطيب” حتى الآن إلى أن من الضروري الذهاب إلى أبعد من القانون الألماني للجرائم، عوضًا عن القانون الدولي، وإنشاء إطار تفصيلي أكثر للقواعد الإجرائية لمحاكمات الاختصاص العالمي في ألمانيا.
محاكمة الخطيب.. فرصة ضائعة!
على الصعيد الدولي، تشقّ ألمانيا طريقًا جديدة، بمحاكمتها مسؤولين سوريين متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والقتل والاعتداء الجنسي والاغتصاب. لذلك، من المؤسف أن المحكمةَ -بذريعة حماية الشهود ومنع التأثير السلبي على الإفادات- رفضت تسجيلَ المحاكمة، وهو أمرٌ ممكن نظريًا، بموجب المادة 169 (2)، من قانون المحاكم الألمانية الدستوري، “لأغراض أكاديمية أو تاريخية، إذا كانت الإجراءات ذات الصلة تتمتع بأهمية قصوى للتاريخ المعاصر لجمهورية ألمانيا الاتحادية”. وبالنظر إلى الأهمية التاريخية لمحاكمة الخطيب، بالنسبة إلى كلٍّ من سورية وألمانيا والمجتمع الدولي، باعتبارها معلمًا بارزًا في القانون الجنائي الدولي، ثمة سؤال يفرض نفسه: لماذا لم تختر المحكمة حلًّا وسطًا، بأن تحذف شهادة الشهود الواقعين تحت الخطر فحسب، من السجل العام للمحاكمة؟!
لأسبابٍ معروفة، جذبت المحاكمة اهتمامًا كبيرًا من جالية السوريين الكبيرة في أوروبا؛ إذ حرص الصحفيون السوريون والمدوّنون وصانعو الأفلام ومذيعو البث ومحامو حقوق الإنسان والناشطون، على حضور المحاكمة طوال فترة انعقادها، على الرغم من إجراءات التباعد الاجتماعي المرتبطة بوباء (كوفيد -19) التي فرضت تقليل عدد المقاعد المتاحة في القاعة العامة. وعلاوة على ذلك، بدت المنطقة المجاورة لمحكمة كوبلنز (الساحة الواقعة أمام المحكمة، والحديقة التي تطل عليها قاعة المحكمة) وكأنها منصّة للناشطين السوريين. قد تجد في الصباحات الباكرة معرضًا لصور بعض الأفراد الذين أُخفوا في سجون سريّة لأجهزة المخابرات السورية موضوعةً على درجات ساحة المحكمة ومزينة بالورود البيضاء. تُجرى المقابلات أمام هذه الخلفية، ويستخدمها الناشطون كنقطة محورية لتقديمها وعرضها لوسائل الإعلام وجذب اهتمام المارّة. في الحديقة الواقعة أسفل نوافذ قاعة المحكمة، نصب فنانون سوريون في وقت من الأوقات حشدًا من الدّمى التي تحاكي الضحايا السوريين، وهم يتقدّمون نحو قاعة المحكمة، ويواجهون المتهمين، في عرضٍ آخر لصدى المحاكمة وعلاقتها مع المتضررين من قبل الحكومة السورية.
ومع ذلك، فقد أحبط قانون الإجراءات والممارسات القضائية الألماني محاولات مراقبي المحاكمة في كوبلنز لإيصال الإجراءات إلى الجمهور السوري الناطق باللغة العربية، في الشتات السوري وفي سورية نفسها. ينشر المكتب الصحفي للمحكمة الإقليمية العليا التحديثات الموجزة باللغة الألمانية فقط، وهي تتناول الجوانب التنظيمية فقط، مثل قيود المقاعد وجدول الأعمال. وتُسَدّ هذه الفجوة بالاعتماد على متابعة مجموعات مختلفة للقضية، مثل المركز السوري للعدالة والمساءلة، أو المركز الأوروبي لحقوق الإنسان والحريات للمحاكمة، حيث تنشر هذه المجموعات تقارير موجزة عن الإجراءات.
ويعود ذلك إلى حقيقة أن المحكمة تتبع، في القضايا الجنائية الدولية، الإجراءاتِ التي تتبعها في القضايا المحلية؛ وبالفعل، تنص المادة 184 من قانون المحاكم الألمانية الدستوري على أن “لغة المحكمة يجب أن تكون الألمانية”. هذا يعني أن المحاكمة تُعقد حصريًا باللغة الألمانية، باستثناء أقوال الشهود الذين يدلون بشهاداتهم باللغة العربية، بوساطة مترجم. وفي النهاية، سيُكتب حكم المحكمة باللغة الألمانية حصريًا؛ والمحكمة ليست ملزمة بتقديم ترجمة له. ولن تظهر أي نسخة مكتوبة من الإجراءات (المحاضر).
تُترجَم الإجراءات المنطوقة باللغة الألمانية مباشرة إلى العربية، بواسطة المترجمين الفوريين المعينين من قبل المحكمة، ويمكن للمدّعى عليهم والمدعين العامين الملحقين سماعها بواسطة سماعات الرأس. وكذلك تُترجم أقوال الشهود من اللغة العربية إلى الألمانية، لكي تستمع المحكمة إليها. ومع ذلك، حتى صدور أمر المحكمة الدستورية الألمانية، لا يمكن الوصول إلى الترجمة العربية عبر سماعات الرأس إلا للأطراف الرسمية في المحاكمة؛ بينما لا يتمكن الجمهور السوري الواسع في القاعة (الصحفيون والمدونون والناشطون والمتفرجون) من ذلك. ولا شك أن هذا وضعٌ سخيف، بالرغم من أهمية المحاكمة للسوريين ولغيرهم في المنطقة.
المحكمة الدستورية العليا تتمسك بالطابع الخاص للجرائم الدولية
من بعد مناشدة الصحفيين الناطقين باللغة العربية، المحكمةَ الدستورية العليا في كارلسروه [المدينة الثانية في ولاية بادن فورتيمبيرغ، جنوب ألمانيا]؛ أصدرت المحكمة في 18 آب/ أغسطس 2020 قرارًا وفّر بعض الراحة. بعد تقييم العلاقة بين الاستقلالية التنظيمية المحمية دستوريًا لمحكمة كوبلنز، ضد الحق في المساواة أمام القانون وحرية الصحافة من جهة أخرى، والتأكيد على حرية العمل الواسعة لمحكمة كوبلنز في إدارة الجوانب التنظيمية للمحاكمة؛ أصدرت المحكمة الدستورية العليا أمرًا قضائيًا أوليًّا لمحكمة كوبلنز، لتوفير الوصول إلى الترجمة العربية للصحفيين المعتمدين الناطقين بالعربية. استندت المحكمة الدستورية العليا في ذلك إلى الاعتراف بخصوصية هذه المحاكمة، من حيث إن “جمهورية ألمانيا الاتحادية تدّعي اختصاصًا قضائيًا لنفسها هنا، غير الموجود وفقًا للمبادئ العامة، ولكنه يرجع على وجه التحديد إلى الطابع الخاص للجرائم موضوع المحاكمة، التي تمس المجتمع الدولي ككل”، وأن معظم الأفراد المعنيين هم مواطنون سوريون، قبل أن يقرروا أن من المستحيل استبعاد انتهاك المتطلبات الدستورية المتعلقة بالصحفيين المشتكين.
ومع ذلك، لم يكن هذا التطوّر مفيدًا تمامًا؛ إذ لم يقم -على حدّ علم المؤلفين- أيّ من الصحفيين المعتمدين (الذين كان عددهم قليلًا، بسبب إجراءات التباعد الاجتماعي في المحكمة وضرورة التسجيل قبل بدء المحاكمة في نيسان/ أبريل) بالاحتكام إليه، حتى الآن، وبالتالي لم يكن هناك تجريد لأمر المحكمة الدستورية العليا من أي تأثير عملي، على الأقل في الوقت الراهن.
المشاركة والمساءلة
“محاكمة الخطيب” ليست ذات أهمية تاريخية بالنسبة إلى السوريين، وحسب، بل للمجتمع الدولي الأوسع أيضًا، ولتطوير القانون الجنائي الدولي وكذلك مبدأ الولاية القضائية العالمية. عند الفصل في الجرائم الدولية المرتكبة خارج ألمانيا، حيث لا الضحية ولا الجاني هم من الألمان، بموجب الولاية القضائية العالمية (التي يُفهم أنها الملاذ الأخير ضد الإفلات من العقاب، عندما تكون المقاضاة المحلية مستحيلة، وتفتقر المحاكم الدولية إلى الولاية) فإن محكمة كوبلنز ليست مجرد تطبيق للقوانين المحلية، ولكن تمتلك القانون الدولي، وتستخدمه نيابة عن المجتمع الدولي. وفي هذا السياق، فإن اتخاذ خطوات لإشراك المجتمع الدولي، من خلال قدر ضئيل على الأقل من الشفافية والمشاركة، لا ينبغي أن تفهمه المحاكم المحلية على أنه من الأمور الفنية غير الضرورية، ويجب أن تعدّه من العناصر الأساسية من الولاية القضائية العالمية. إن مشاركة المجتمع الدولي والمساءلة أمامه هما المفتاح لشرعية ألمانيا في هذه القضية.
ترتبط قضية الخطيب بنقاش قديم حول ضرورة وملاءمة قانون الإجراءات الجنائية الدولي الألماني ليتكامل مع القانون الجنائي الألماني، بموجب القانون الدولي. ولكن حتى من دون قانون الإجراءات الجنائية الدولي الألماني، يمكن للمحاكم استخدام الأدوات الموجودة بالفعل تحت تصرفهم بشكل أكثر تطورًا، مثل السماح بالتسجيلات والترجمات. ومن دون هذه التدابير، تضعف قدرة ألمانيا على المطالبة بإنفاذ القانون الجنائي الدولي والتصرّف كممثل للمجتمع الدولي، وكذلك الفكرة الأساسية التي مفادها أن المجتمع الدولي نفسه هو المتضرر من جرائم مثل تلك التي تُعرض على المحكمة في كوبلنز. ومن خلال التعامل مع إجراءات مثل التي تحدث في محاكمة الخطيب، من دون تقدير كافٍ لأهميتها التاريخية، تجازف محاكمة جرائم الحرب السورية في كوبلنز بنسيان الشيء الوحيد الذي ربما يكون أكثر أهمية من الأحكام الفردية في النهاية: الأهمية الرمزية للمحاكمة نفسها في النضال المستمر ضد الإفلات من العقاب.
كان المؤلفون يراقبون الإجراءات من القاعة العامة في كوبلنز منذ نيسان/ أبريل 2020، في إطار التعاون بين مؤسسة كليفورد تشانس للقانون الدولي وبرنامج العدالة الدولية في هيومن رايتس ووتش.
الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
اسم المقال الأصلي | Universal jurisdiction without universal outreach? |
الكاتب (*) | ألكسندر دونكيلسبولر , ألكسندر سوتور ، وليا بورغر، Alexander Dünkelsbühler، Alexander Suttor ، Lea Borger |
مكان النشر وتاريخه | V0elkerrechtsblog (منصة القانون العام الدولي والفكر القانوني الدولي) ، 13 كانون الثاني/ يناير 2021 |
رابط المقال | http://bit.ly/3ikDCPC |
عدد الكلمات | 1299 |
ترجمة | وحدة الترجمة/ أحمد عيشة |
(*) ألكسندر دونكيلسبولر: مرشح لنيل درجة الدكتوراه في كلية الحقوق بجامعة كولونيا وكاتب قانوني في المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت.
ألكسندر سوتور: خبير قانوني.
ليا بورغر: كاتبة قانونية في المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت.