ترجمة أحمد عيشة
مقدمة
منذ أن ظهرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بقيادة الخميني، كقوة إقليمية، وتبنّت فكرة تصدير الثورة، تحاول إنشاء قوى موازية في دول مختلفة. حيث نجحت إيران في اختراق العراق ولبنان واليمن وسورية، عسكريًا وسياسيًا، وهي تدعم ميليشيات مختلفة في هذه البلدان. وإضافة إلى ذلك، تحاول إيران أيضًا تبني إستراتيجيات القوة الناعمة، مثل التبشير وتعزيز التشيّع بين المجتمعات غير الشيعية تقليديًا.
تواجه هذه الإستراتيجية تحديات كبيرة في سورية، حيث لا تستطيع إيران الاعتماد على الدعم الشعبي الطائفي من العرب الشيعة، كما الحال في العراق واليمن ولبنان، ولكنها تتمتع ببعض الإمكانات في سورية، حيث قدم نظام الأسد فرصة للنشاط الإيراني، وسمح لها بالانخراط بحرية كاملة في أنشطة الدعوة الشيعية، وبتعزيز إستراتيجيتها في “القوة الناعمة”. في دير الزور، أكبر مدن شرق سورية، تحاول إيران استغلال المصاعب الاقتصادية من أجل جذب المجتمع المحلي، بادئة مع ثلاث فئات: وجهاء العشائر، من خلال تقديم المال، والشباب من خلال توفير التجنيد مقابل راتب شهري، والأطفال عن طريق تنظيم جولات ترفيهية وتقديم المال لأسر الأطفال، مقابل تبنيهم للتشيع وتعلّم ممارسات مثل اللطميات (أغنية دينية شيعية). ونحاول في هذا المقال مقارنة إستراتيجية القوة الناعمة لإيران، بنهجها العسكري المتمثل في الميليشيات والأسلحة الإيرانية في سورية ودول أخرى.
الإستراتيجية العسكرية البحتة غير كافية
منذ بدء التدخل العسكري الإيراني في سورية عام 2013، وإرسال طهران ميليشياتها إلى سورية، تحاول إيران بناء قواعد عسكرية كجزء من إستراتيجيتها العسكرية المتماسكة التي تهدف إلى اقتطاع منطقة متواصلة لإتمام السيطرة الإيرانية، من طهران إلى بيروت، عبر بغداد ودمشق. ومع ذلك، فإن الإستراتيجية العسكرية ليست كافية بحد ذاتها، خاصة أن إسرائيل تشارك في حملة نشطة لتعطيل هذا الجهد ودحره. بالنظر إلى ذلك، تعمل إيران أيضًا على إستراتيجية موازية لإنشاء خزان من الدعم البشري، يكون بمنزلة قاعدة للتطلعات السياسية المستقبلية في سورية.
تركّز إسرائيل جهودها بشكل رئيس في الجنوب، ولذلك تقوم إيران ببناء قواعدها وتعزيز وجودها في الشرق. لكن إسرائيل تحاول ضربها في الشرق أيضًا، لتعطيل مساعيها التي تهدف إلى تطوير قواعدها هناك، حيث يمكنها استخدام هذه القواعد كمستودعات أسلحة مهمة، يمكن استخدامها لتهديد إسرائيل عند نقلها إلى الجنوب.
مشكلة عدم وجود عدد كبير من الشيعة
لإيران وجود عسكري وسياسي مباشر في العراق وسورية ولبنان واليمن. وهي قادرة على تحريك وكلائها، وتنفيذ أجندتها، وإرهاب أعدائها في هذه البلدان، أو لاستهداف قوات أجنبية، كما فعلت مع القوات الأميركية في العراق ردًّا على مقتل قاسم سليماني. كما يمكنها القيام بأعمال مثل استهداف شركة (أرامكو) في السعودية. وتختلف قوة إيران واختراقها من منطقة إلى أخرى، ولكن على عكس شرق سورية، فإن نفوذ إيران في اليمن والعراق ولبنان يعتمد إلى حد كبير على قاعدتها الشيعية، حيث تحدد إيران الشخصيات الموالية وتجنّدها، على المستويين العقائدي والسياسي. ثم تقوم هذه الشخصيات بتنفيذ أجندة إيران السياسية، وتضمن لها اليد العليا في صنع القرار السياسي في هذه الدول.
الوضع في سورية مختلف جدًا. صحيح أنها تتمتع بنفوذ سياسي وعسكري فيها، لكنها تفتقر إلى عنصر مهم وهو وجود عدد كبير من السكان الموالين عقديًا. فالشيعة في سورية هم أقلية صغيرة جدًا. وعلى الرغم من أن إيران تحاول منذ أعوام إحياء الطائفية في سورية، فإنها لم تنجح حتى اليوم، خاصة في مناطق مثل دير الزور، حيث إن 99 في المئة من السكان هم من العرب السنّة. وينظر كثير من هؤلاء إلى إيران على أنها قوة محتلة، متحالفة مع نظام إجرامي متوّرط في قتل شعبه. ومع ذلك، تسعى إيران إلى استخدام أساليب القوة الناعمة لإنشاء قاعدة مذهبية في هذه المنطقة. ويبدو أن إيران تحاول زرع البذور بقصد حصادها في وقت لاحق.
إستراتيجية القوة الناعمة لإيران
منذ سيطرة نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين على دير الزور، بدأت إيران العمل بطريقة واضحة على استهداف الشباب والأطفال، واستغلال الظروف الاقتصادية السيئة. بطبيعة الحال، تجبر الظروف الاقتصادية المتدهورة الناس على البحث عن سبل لكسب العيش. ونتيجة لذلك، ينجذب بعض الشباب إلى محاولة الانضمام إلى الميليشيات الإيرانية لكسب رواتب دائمة، حيث يتلقى كل مقاتل محلي ينضم إلى الميليشيات الإيرانية 150 دولارًا شهريًا.
يصادف هؤلاء الشباب أشخاصًا يروّجون للتشيّع، ويكسبون كثيرًا من المال أو الامتيازات، ويغرون الآخرين باتباع مسار مماثل. وإذا لم يعتنق هؤلاء الشباب أنفسهم التشيّع، فإنهم سيكونون على الأقل، من الآن فصاعدًا، على دراية بالمذهب الشيعي، ولن ينكروا أو يعارضوا اعتناق الآخرين له. ومن ثمَّ من المرجح أن يصمتوا ويذعنوا للتغيير العقائدي والأيديولوجي وحتى الديموغرافي.
تحاول إيران أيضًا جذب الأطفال إلى المراكز الثقافية الإيرانية، وتعليمهم الثقافة الإيرانية والمذهب الشيعي، مقابل الجوائز والأموال التي تقدمها تلك المراكز على شكل منحة لمرة واحدة، لا كراتب دائم، حيث تُمنح لأهاليهم (الأبوين)، والهدف جذب الأطفال. وكمثال على هذا النوع من النشاط، نظّمت إيران في الآونة الأخيرة دورة تدريبية، في مركز كشافات المهدي، تهدف إلى تعليم الأطفال فن الترانيم الشيعي في مدينة الميادين. هذا الفن يسمى “اللطميات” في الثقافة العقائدية الشيعية. وبعد انتهاء الدورة؛ يحصل كل طفل على (250) ألف ليرة سورية، وهو مبلغ مغرٍ لكثير من العائلات في سورية هذه الأيام.
وتسعى إيران لأن يعتنق الأطفال المذهب الشيعي في سنّ مبكرة. وقد تكون هذه الإستراتيجية بطيئة الحركة، لكنها قد تؤتي ثمارها يومًا ما، خاصة إذا استمرّت إيران في متابعة نشاطاتها، ويبدو أنها تفعل.
الفرص والتحديات
الميزة الأهم لإيران في مشروع قوتها الناعمة هي أن نظام الأسد سمح لها بحرية مطلقة، في الميادين والبوكمال ومناطق أخرى من دير الزور. فأنشأت ميليشيات مقاتلة وجنّدت رجال قبائل، وحصلت على دعم بعض شيوخ القبائل (أحيانًا عن طريق التهديدات، لأنهم أرادوا السماح لهم بالبقاء في مناطقهم)، وأنشأت مراكز ثقافية ومجموعات كشافة، وأقامت دورات لغوية ورحلات ترفيهية ومسابقات للشباب. وهي تدعم الأشخاص الذين تحوّلوا إلى مذهبها الشيعي، من خلال تقديم المساعدات الإنسانية ومواد الإغاثة، لكسب دعم المجتمع المحلي.
كل هذه الأمور تبدو مقنعة، من الناحية الإستراتيجية، ومن المحتمل أن تؤتي ثمارها، إذا كانت جزءًا من مشروع طويل الأجل، وإذا استمرّ الالتزام به مدة طويلة. ولكن نتائج هذا الأمر غير مضمونة، في ضوء التغييرات المحتملة في سورية، وخاصة أن القوى الأخرى لا توافق بالضرورة على بناء نفوذ إيراني قوي في سورية.
تُشكّل حقيقة أن سكان دير الزور هم في الغالب من العرب السنّة تحديًا كبيرًا. حيث إن هناك حاجزًا نفسيًا ودينيًا أمام التوسع الطائفي والسياسي الإيراني في دير الزور.
الغائب في سورية: تصوّر الشيعة للمظلومية (كونهم ضحية) وفهمها
غالبًا ما تعتمد الدعاية الشيعية في مناطق نشاط إيران على تعزيز التصورات الشيعية التقليدية عن المظلومية وعلى أن الشيعة مضطهدون، وأنهم كانوا يُقتلون ويُنفون، لكونهم شيعة يعيشون بين الأغلبية السنية. هذا الادعاء تدعمه ثقافة تبجيل الحسين، والرغبة في تذكر التاريخ واستعادته. وهذا يساعد جهود إيران في كسب التعاطف وربط السكان أيديولوجيًا بإيران. لكن في سورية، حيث التشيّع جديد ولا يوجد تقليد شيعي عن المظلومية، كان من الصعب بناء هذا الادعاء من عدَمٍ، والعمل بالإستراتيجيات المعتمدة في مناطق أخرى. وقد ركزت إيران، كما ذُكر أعلاه، على ترويج اللطميات، وظهر ذلك جليًا في مناسبة عاشوراء في دمشق ودير الزور. ويقصد بهذه الأعمال كسب التعاطف، اعتمادًا على تبجيل المسلمين لأهل البيت (آل بيت النبي محمد).
وتلجأ إيران كذلك إلى بناء الأضرحة باستخدام الرموز الطائفية الشيعية، سواء بالافتراض أو بالأساس التاريخي أو مجرد التشابه في الأسماء، مثل “بئر علي” في دير الزور. وتعدُّ هذه المزارات أماكن مناسبة، لإثارة المشاعر، وربطها بالوضع الشيعي العام القائم على القمع التاريخي، كتعويض عن غياب الاضطهاد المعاصر. اعتمد الشيعة في الترويج لعقيدتهم تقليديًا على إثارة عواطف الآخرين، حول محبة “أقارب الرسول”، أي أهله، وهم علي بن أبي طالب، وولداه الحسن والحسين.
الخاتمة
لا يبدو أن إيران ستتوقف عن هذا النشاط، وهي تواصل السعي لتحقيق رؤيتها في التوسع، بالرغم من العقوبات والتحديات التي تواجهها. وهي تسعى باستمرار إلى تطوير أساليبها، والتغلغل ثقافيًا في الدول العربية. ولدينا مثال آخر يثير الاهتمام، وهو المسلسل التلفزيوني الإيراني الصنع “يوسف الصديق”؛ حيث أدى النجاح الكبير الذي حققه هذا المسلسل إلى تخوّف بعض الدول العربية، وخاصة الخليجية، من زيادة التأثير الثقافي الإيراني على العرب. فقامت شبكة (MBC) السعودية، ردًّا على ذلك العمل، بإنتاج مسلسل عن حياة عمر بن الخطاب، استغرق إنجازه عامين بتكلفة عالية جدًا، وعلى الرغم من أن كثيرًا من علماء السنة يمنعون تمثيل وتجسيد شخصيات صحابة النبي (تماشيًا مع الأعراف السنية التقليدية)، فقد رأت المملكة العربية السعودية أن إكمال هذا العمل وغيره ضروري لسدّ الطريق أمام التأثير الثقافي الإيراني.
إن مسألة تغلغل إيران في سورية تبقى مرهونةً بالواقع السياسي في المرحلة المقبلة؛ فإذا تم قبول إيران، كجزء من الحل السياسي، فإنها ستسعى بالتأكيد إلى الحفاظ على مكاسبها من “القوة الناعمة” وتعزيزها كطريقة للبقاء الإستراتيجي في سورية، من خلال السعي لتوسيع قاعدة قبولها -ثقافيًا وعاطفيًا- بين سكان المنطقة. وعلى الرغم من أن خطواتها بطيئة بعض الشيء، فإنها تعوّل على نشاطها في نجاح مشروعها، وستحاول الحفاظ على هذا المشروع حتى في حال عدم تمكن الأسد من البقاء في المرحلة التالية، بعد الاتفاقات الدولية بضرورة تحقيق انتقال سياسي.
اسم المقالة الأصلي | Iran’s soft power project in Syria, targeting of youth in Deir Ezzor |
الكاتب | عمر أبو ليلى،OMAR ABU LAYLA |
مكان النشر وتاريخه | مركز الشرق الأوسط للتقارير والتحليل،Middle East Center for Reporting and Analysis، 30 كانون الأول/ ديسمبر 2020 |
رابط المقال | http://bit.ly/2XoEglo |
عدد الكلمات | 1379 |
ترجمة | وحدة الترجمة/ أحمد عيشة |