ضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة اليوم، هو العازف والمؤلف والموزع الموسيقي، وقائد الأوركسترا السورية “أورنينا” الفنان شفيع بدر الدين، ابن قرية “شقا” بريف السويداء جنوب سورية.
تخرج بدر الدين من المعهد العالي للموسيقى في دمشق عام 1998، باختصاص عُود والكلارينت والنظريات الموسيقية، ثم تابع دراسته في التأليف الموسيقي عام 2002 في المعهد الوطني لمدينة ليون الفرنسية، ثم درس قيادة الأوركسترا في المعهد الوطني بمدينة ديجون في فرنسا، وعمل قبل ذلك مدرّسًا في المعهد العالي للموسيقى في بلده بعد تخرجه، وكذلك بعد عودته عام 2007، وألّف العديد من الأعمال الموسيقية.
في نهاية عام 2010، غادر ضيفنا سورية باتجاه أوروبا -دولة لوكسمبورغ-، ومن منفاه أسّس في عام 2016، مع نخبة من الموسيقيين السوريين في الشتات، أوركسترا أورنينا، التي يبلغ تعدادها نحو خمسين عازفة وعازفًا في كل بقاع العالم، وهي مؤسسة غير ربحية مُسجلة في لوكسمبورغ.
صاحب “المتتالية الشعبية السورية” يؤكد في حوارنا معه أن لا بدّ للفنان، وللمثقف عمومًا، من أن ينحاز للقضايا المحقة في مفاصل وأحداث تاريخية معينة، وأن الفنون هي الأداة الأمضى والأكثر فاعلية لرأب التصدعات المجتمعية. مشددًا على أننا وصلنا الآن -السوريين- إلى مرحلة لا بدّ فيها من إيجاد حلّ يُنقذ ما تبقى من السوريين الذين يُقاسون أشد أنواع العذابات، سواء أكانوا من المهجّرين أم من الذين ما زالوا تحت قبضة ما تبقى من نظام الأسد.
هنا نص حوارنا معه..
بداية، من هو شفيع بدر الدين؟
موسيقي سوري من مواليد لبنان، خريج المعهد العالي للموسيقى بدمشق باختصاص عود وكلارينيت، والنظريات الموسيقية، أكملت دراستي في التأليف الموسيقي، في كونسرفاتوار ليون، ومن ثم قيادة الأوركسترا في كونسرفاتوار ديجون، فرنسا. وأقوم بإدارة وقيادة أوركسترا أورنينا السورية منذ عام 2016.
لماذا أوركسترا أورنينا؟ ما دلالة هذا الاسم؟ وكيف خلقت فكرة تأسيسها في المنفى في زمن الثورة السورية؟
الاسم، كما هو معلوم، هو لمغنية معبد عشتار في مملكة ماري. أما دلالة التسمية فتأتي لتأكيد ديمومة الفن وأهمية دوره منذ بداية الحضارة البشرية. منذ ازدهار مملكة ماري إلى وقتنا الحاضر، توالت كثير من الحضارات على تلك البقعة من الأرض، ومع ذلك، وصل إلينا اسم أورنينا كعلامة ورمز لحضارة بشرية لافتة، وصل إلينا متجاوزًا كل تلك المتغيرات والحروب والنظم السياسية والاجتماعية التي مرّت من هناك. بالنسبة إلى فكرة تأسيس الأوركسترا، فقد بدأت مطلع العام 2016، وكان حفلنا الأول بتاريخ 19 تشرين الثاني/ نوفمبر من ذلك العام. أما عن ظروف وأسباب نشوء الفرقة، فهي متعددة، لكن أهمها هو القيام بمسؤوليتنا -كفنانين- تجاه المجتمع السوري، وخاصة في محنته التي ما يزال يعانيها. في ذلك العام، لم نكن نسمع في وسائل الإعلام المختلفة إلا أخبار الحرب والدمار، في حين ساد التعتيم الكلي على أنشطة المدنيين السوريين. فبدا المشهد وكأن السوريين هم فقط فريقان من الأشرار يقتل بعضهم بعضًا. حيث ارتأت الصحافة العالمية التجاهل التام للعديد من النشاطات الإغاثية والمجتمعية والفنية، وخاصة في الداخل السوري، إذ لم تنقطع النشاطات المختلفة بالرغم من كل أنواع الأخطار. هنا قررنا وبعض الأصدقاء أن ندفع باتجاه إظهار الجزء المحذوف قسرًا من المشهد، وذلك وفق قدراتنا ومعرفتنا المهنية. وكموسيقيين، قررنا أن نُنشأ أوركسترا سورية ذات سوية فنية عالية، لنقدم موسيقانا لجميع الناس ولنقدم أنفسنا من خلالها. أما على الصعيد العملي، فيكاد تشكيلها يكون حتميًا، نظرًا لوجود عشرات الموسيقيين السوريين في المنفى، ولا سيّما أنهم من النخب الموسيقية على المستوى الوطني والعالمي.
هل يمكنك -كفنان ملتزم بثورة شعبك- أن تفصل بين الفن والسياسية، وأنت تعلن انحيازك إلى الثورة، ويتجلّى ذلك بوضوح في توجّهك من خلال الأعمال التي قدمتها أوركسترا أورنينا منذ تأسيسها، كـ “المتتالية الشعبية السورية“ (وهي عبارة عن عدد من الأغاني الشعبية التي تعكس فسيفساء المجتمع السوري)؟
لستُ ضد التيارات والمدارس الفنية التي تقول بكفاية وجودها الفني، تبعًا لمبدأ الفن لأجل الفن مثلًا. لكني أعتقد أن لا بدّ للفنان، وللمثقف عمومًا، أن ينحاز إلى القضايا المحقة في مفاصل وأحداث تاريخية معينة، ولا يسعني شخصيًا استبعاد الربيع العربي من هذه الأحداث. بالمقابل لا أومن بجدوى تحويل الفن إلى خطاب سياسي، وإني حريص كل الحرص على أن لا نقع في هذا الخلط. فللثقافة والفنون دور محوري في بناء الإنسان وفي بناء هويته الحضارية. ومع الأسف، تم تقزيم هذا الدور عبر العقود الماضية على جميع الصُعد، أهمّها تعليم الأطفال في مدارسهم، إذ استُبدلت دروس التربية القومية وغيرها بدروس الرسم والموسيقى.
أما على الصعيد العالمي، فلم يكن الوضع أفضل بكثير، مع الأسف، حيث تنزع النيولبرالية إلى تسليع كل شي (جعله سلعة) بمعزل عن قيمته المعنوية. وانسحب ذلك على الفنون، فقُلصت ميزانياتها الوطنية، الضحلة أصلًا، ودفع ذلك الفنانين إلى اقتحام السوق التجارية، فالخضوع لقوانينها وما يترتب عليها من تدهور لقيمة المادة الفنية. من هنا، أعتقد أن دور أوركسترا أورنينا السورية بانحيازها إلى الناس يتمثل بتقديم الفرح وشدّ الروابط الاجتماعية عبر موسيقى ذات قيمة فنية تحترم عقولهم. وأعيد هنا التنبيه إلى أن العمل المشار إليه، بسؤالكم “المتتالية الشعبية السورية”، هو عمل يجمع السوريين بلهجاتهم ولغاتهم المختلفة في لوحة فنية واحدة. وكانت هذه المتتالية طريقتنا كموسيقيين بالرد على دعوات التقسيم التي بلغت ذروتها عام 2016 وما زلنا -مع الأسف- نسمعها حتى الآن، من وقت لآخر.
هل ترتبط أوركسترا أورنينا بخط سياسي معيّن؟ وهل تتلقى الدعم المالي من مؤسسة ما من مؤسسات المعارضة السورية أو أي جهة أخرى؟ وكيف تموّلون أنفسكم؟
أوركسترا أورنينا مؤسسة أهلية غير ربحية مسجلة في لوكسمبورغ، لا تنتمي إلى أي خط سياسي، ولا تتعاطى السياسة، كما أوضحت في ردّي على السؤال السابق. على صعيد الدعم المادي، نتقدم أحيانًا إلى منح ثقافية وقد حصلنا مرة واحدة على منحة لحفلنا الأول، وهو حفل إطلاق الأوركسترا، ونحصل على بعض الدعم المالي البسيط أحيانًا، كالتعاون الذي حصل بيننا وبين (تلفزيون سوريا) في إحدى حفلاتنا، إضافة إلى بعض الفعاليات التجارية أو الأهلية ضمن نظام (السبونسرز) المعروف. لكن القدر الأعظم من تكاليف الفرقة يأتي من تمويلها الذاتي، عبر بيع البطاقات، ويعدّ هذا تحديًا كبيرًا، ومن حسن الحظ، أننا نحظى بسمعة فنية جيدة تجعل جمهورَنا الداعمَ الأكبر للفرقة. وإضافة إلى ذلك، يأتي الدعم الذي يقدمه جميع أعضاء الأوركسترا من موسيقيين ومغنيين وإداريين، إذ يعمل العديد منهم بالحد الأدنى من الأجور، إضافة إلى العمل الطوعي الذي يقدمه مثلًا الفريق الإداري، وذلك لإيمانهم بأهمية الدور الذي يقومون به وبأهمية المادة الموسيقية التي يقدمونها.
قلتَ في حوار سابق إنّ “الفنون عمومًا هي درع في وجه الاستبداد”، وإنّ “الفنون لا تتألق أو تنمو إلّا في أجواء حرّة ومنفتحة”. هل لك أن تستفيض في هذا الموضوع؟
لا يمكن أن تنتج فنًا تحت القيود، فالفنون تنتعش حين تكون سعة الخيال حاضرة، وهناك أمثلة عديدة في التاريخ البشري تُثبت هذه القاعدة، فحين كانت المدارس الموسيقية تتوالد بكل ألوان الطيف في باريس، أواسط القرن الماضي، كانت السلطات الحزبية في موسكو تحاكم المؤلف الموسيقي الشهير دميتري شوستاكوفيتش، لأنه نَحَا إلى الحداثة في مؤلفاته الموسيقية. وكانت التهمة: “موسيقى لا تخدم مصالح الشعب!”، وفي تلك المرحلة كانت السلطات الصينية تجرّم عزف الموسيقى الكلاسيكية، بتهمة أنها موسيقى البورجوازية. طبعًا من قبل ذلك وبعده، لا زالت الموسيقى تهمة وكفرًا، عند التيارات الدينية الراديكالية بكل تلاوينها. أما في أحسن أحوالها، فتكون الفنون لدى المستبدين وسيلة يختبؤون خلفها، وربما هذه هي الحال الأكثر خطورة. لذلك فالفنون هي بالضرورة درعٌ يواجه المستبدين، الموسيقى هي نزعة إلى المستقبل، النظر إلى الأمام، إلى استكشاف رحابة الخيال وسبر مكامن الجمال، وكل هذا لا يروق لمستبدٍّ أيًا كانت أيديولوجيته. وربما يقع خلطٌ ما بين الثقافة والتعليم. الواقع أن المجالين مترابطان، إلا أن الثقافة فضاء واسع يشمل العلوم، ويمتد أثره إلى كل فرد في المجتمع، وبالثقافة والفنون الجادة، يمتلك الإنسان وضوح الرؤيا ورغبة الاستكشاف. وهذا ما لا يطيقه المستبدّون.
ما الدور الذي يمكن أن تؤديه الموسيقى وباقي الفنون في المنفى، لإصلاح ما أفسدته الحرب الوحشية المعلنة على الشعب السوري، بخاصة إصلاح النسيج المجتمعي السوري ورأب الصدوع بين أفراده؟
في الواقع، إن كانت هنالك وسيلة فعالة لرأب التصدعات المجتمعية، فإن الفنون هي الأداة الأمضى والأكثر فاعلية في هذا المضمار. ومع الأسف، يبدو أن النخب السياسية السورية الوطنية أو الدولية الفاعلة في المسألة السورية لا تعي هذه الحقيقة، وأخشى أنها تعيها وتتجاهلها. إن الثقافة عمومًا هي الأداة الاجتماعية التي تتكون بها هوية شعب ما وملامح حضارة ما. ولعلّ الموسيقى من أهم الأدوات الثقافية التي تؤدي هذا الغرض، لأنها تستطيع لمس الناس بموسيقاه الشعبية من جهة، ولشدة أثرها الحسّي عليهم من جهة ثانية، طبعًا على أن تكون مشغولة بحرفية وبصدق يحترمان عقل وذائقة المتلقي. ولا يغفل أحد عن تظاهرات السوريين التي كانت عامرة بالأغاني بكل أشكالها الشعبية، في السنوات الماضية.
وبعد انطلاق الثورة السورية، حصل استقطاب حاد في المجتمع السوري، وكانت أطراف عديدة تغذي هذا الاستقطاب بشدة، ولا يزال بعضها فاعلًا إلى الآن، مع الأسف. وأعتقد أننا وصلنا الآن إلى مرحلة لا بدّ فيها من إيجاد حل ينقذ ما تبقى من السوريين الذين يُقاسون أشد أنواع العذابات، إن كان من جهة المهجّرين أم الذين ما زالوا تحت قبضة ما تبقى من النظام، هذه الحلول تبدأ أولًا بردم خنادق الاستقطاب تلك، وقد بات واضحًا أن الضحايا هم الناس العاديون من الطرفين. وهنا تأتي أهمية الدور الذي تلعبه الفنون، ولن تستطيع السياسة فعل الكثير دونها. وكي لا يُفهم كلامي بغير المُراد، أشدد هنا على أن هذا الدور بردم التصدعات لا يعني -بأي حال- التخلي عن العدالة، فمن دونها لن يكون هناك استقرار.
يُقال إن الرُقم والكتابات الجدارية في مملكة ماري -قبل نحو ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد- تحدثت عن طبيعة العلاقة القوية التي تربط قائد الفرقة الموسيقية بالعازفين. والسؤال هنا: هل حدث أن أوقفتَ التعامل مع عازف أو مغنٍّ لتعارض موقفه السياسي معك شخصيًا أو مع توجه الفرقة العام؟
بدايةً، لا علم لي بما ورد في تلك الرُقم وأشكّ بدقتها، ولا سيما أننا نتحدث عن مرحلة تاريخية يصعب الجزم بوجود فرقة موسيقية وقائد فرقة بالمعنى الذي نعرفه الآن.. ولكني أودّ التأكيد مرة ثانية أن أوركسترا أورنينا السورية هي مؤسسة فنية، لا يسعها أن تتبنى فكرًا أو نظرية سياسية، تمامًا كما لا يمكن للدولة أن تكون دينية أو علمانية أو غير ذلك. فالدولة جهاز إداري والأوركسترا جهاز فني، إن صح التعبير. ومن جهة ثانية، أنا المدير الفني وقائد الأوركسترا، ولستُ وصيًا على فكر وآراء الموسيقيين في الفرقة. ما أعرفه أننا في أوركسترا أورنينا لدينا مواقف وآراء سياسية متقاربة، ولا نختلف على القيم العليا لمستقبل سورية المأمول، لكن بالتأكيد مواقفنا متباينة من شخص لآخر. بالمقابل، نستطيع استشعار توجه الأوركسترا من خلال نتاجها الموسيقي بلا شك، وهذا قد يكون العامل الذي لا يجذب إليها من لا يُشبهها، إن جاز القول.
ما المقولة السياسية التي يتضمّنها مشروع الفرقة حول القضية السورية؟
لا مقولة سياسية للمؤسسة. ما أعرفه أن أعضاء الفرقة كافة، ونحن بغالبيتنا أصدقاء، يطمحون إلى وطن حر مبني على المواطنة وخاضع لسلطة القانون، يكفل الحريات الفردية والكرامة لجميع مواطنيه، بلا أي شكل من أشكال التمييز. وجميعنا نؤمن بأهمية الدور الذي تلعبه الفرقة على الصعيد المجتمعي، وهذا برأيي يتقدم على المقولة السياسية ضمن الوظيفة التي تؤديها مؤسسة ثقافية.
من منظورك، كيف يمكن للفنون، بخاصة الموسيقى، إبراز القضية السورية على الصعيد العالمي؟
منذ انطلاق الثورة السورية، كانت الفنون هي الحامل الأفضل للقضية السورية، فلا داعي للتذكير بما فعلت السينما التوثيقية السورية. أما بالنسبة إلى الموسيقى، فأظن أنها لا تزال الأكثر فاعلية، على المستويين الرسمي والشعبي، فمنذ العام 2011 بدأ الموسيقيون السوريون بتقديم أعمال فنية مختلفة، في كل مكان كانوا فيه، وهذا أضاء على القضية السورية وعلى السوريين كثيرًا، على الأقل على المستوى الشعبي العالمي. لكن مع الأسف لا تحظى الفعاليات الموسيقية بالتغطية الإعلامية اللازمة، على غرار ما يحدث في مهرجانات السينما العالمية. وكي يكون هذا الدور ذا فاعلية أكبر، لا بدّ من دعم هذا القطاع.
علينا أن ندرك أن الثقافة هي استثمار بالغ الأهمية، وأن مردوده ليس بأرقام مالية مباشرة، إنما المردود يأتي من خلال بناء إنسان فعال، منتج وخلّاق.
تعمل على تقديم موسيقى سورية عربية، وفقًا لوجهة نظر حديثة، كيف تصنّف موسيقاك؟ وما ملامح مشروعك الموسيقي؟
بالفعل، إن ما نقدمه هو الموسيقى السورية بشكل رئيسي والموسيقى العربية عمومًا. إلا أننا نقدمها برؤية موسيقية معاصرة، وربما نقدم لتلك الأعمال نفسًا جديدًا يجعلها تصل إلى أجيال شابة غالبًا فقدت أي صلة بتراثها. كذلك نتناول الموسيقى الشعبية من ذلك المنظور، ونحاول وصلها بجذورها الفكرية والاجتماعية، وكمثال على ذلك، أذكر موسيقى رقصة الدبكة، ما سر وجودها فقط في بلدان شرق المتوسط؟ ما هو دورها في الجذور؟ مع الأسف، يصعب أن نجد ردودًا صحيحة، مع أنها تراث يمارسه ويعرفه الجميع. وهنا، لا بدّ من التذكير بأن موسيقانا الشعبية أُهملت كثيرًا، حتى أصابها ضرر بليغ، برأيي، وقد عاينت بنفسي هذه الحال، حين قمت بتحضير العمل آنف الذكر “الدبكة”، حيث وجدت كيف صارت الأغاني الشعبية مشوهة اللحن والكلمة بسبب وقوعها ضحيةً مزدوجةً للتكنولوجيا والجهل معًا. فصار (المجوز والربابة والشبابة) في أقراص آلات الأورغ. وتحوّلت كلماتها من نصوص مرتبطة بالأرض والمهن والحب البسيط، إلى نصوص مليئة بالسطحية والقماءة أحيانًا. بالنسبة إلى التصنيف الموسيقي الخاص بنا، أعتقد أننا نقدّم موسيقى شرقية ذات رنين مختلف، ونؤسس بذلك لتيار موسيقي عبر استخدام الأداة الموسيقية الأكثر فاعلية ألا وهي الأوركسترا، فهذا المزيج بين الطوابع الصوتية المختلفة وطريقة المعالجة الموسيقية، يقدم لونًا صوتيًا متفرّدًا وخاصًا، قريبًا من الأذن الشرقية ومألوفًا للأذن الغربية في الآن ذاته. لعله يكون اللون الموسيقي الذي قد يرتقي بالهوية الثقافية المحلية إلى فضاء عالمي رحب.
هل تعدّ أوركسترا أورنينا الوجهَ الموسيقي لسورية في بلاد اللجوء؟
أعدّها أحدَ الأوجه الموسيقية، فهناك العديد من الزملاء الفاعلين الذين يقدّمون ألوانًا موسيقية مختلفة. وأورنينا هي صوت من الأصوات السورية ليس في بلاد اللجوء وحسب، بل في كل مكان، ولكل السوريين أينما وُجدوا. نحن نعتقد بأن أوركسترا أورنينا السورية تقدم صورة عن سورية والسوريين، غير تلك الالتقاطات النمطية التي تنتشر هنا وهناك، آملين أن نوفق بنقلنا لتلك الصورة.
من أين تستلهم موضوعات أعمالك الفنية، وكيف تختار أسماء هذه الأعمال؟
جميع أعمال الأوركسترا في هذه المرحلة هي أعمال تراثية، تراوح ما بين الكلاسيك العربي (موشحات، سماعي.. إلخ) والموسيقى الشعبية مرورًا بالطرب. وبالنسبة إلى اختيار الأسماء، وأظن أنك تعني بعض الأعمال مثل “المتتاليات”، فهو نمط ربما تفردت به أورنينا بالفعل، لكن يجب القول بأن “المتتالية” هي قالب موسيقي شرقي بامتياز، ومن أشهر الأعمال في هذا القالب، فاصل «اسقِ العطاش».
شخصيًا، قررت استخدام هذا القالب نظرًا لطبيعة بعض الأعمال التي أردنا تقديمها، خاصة حين يتعلق الأمر بالموسيقى الشعبية، فهذه الأخيرة تكون عادة بسيطة ومبنية من جملة أو جملتين موسيقيتين فقط يتعاقب عليها نص طويل، هذا التكرار جميل ومرغوب، حين تُقدم هذه الأغاني ضمن سياقها الشعبي كما في الأعراس مثلًا، لكن إذا أردنا تقديمها في إطار أوركسترالي، كما هو الحال في أورنينا، فالتكرار هذا يصبح نقطة ضعف كبرى. لذلك يكون الحل باستخدام مجموعة من الأغاني الشعبية، ووضعها ضمن قالب واحد، لتكون النتيجة عملًا موسيقيًا مستقلًا بذاته. بالنسبة إلى اختيار العناوين، فالأمر ليس بالمعقد عمومًا، فالعنوان هو بشكل ما تلخيص لمضمون القطعة، فمثلًا “المتتالية الشعبية السورية” تفيد بنوع الموسيقى التي تحويها.
“الدبكة” كذلك ترصد موسيقى الدبكة في بلاد شرق المتوسط.. إلخ. وأنا شخصيًا أحرص على اختيار الأسماء التي ترتبط بفكرة ما مع مراعاة المحتوى طبعًا، وكمثال على ذلك، نجد ضمن برنامجنا عملًا بعنوان “حوران“، وهو تكريم للفنان الراحل فهد بلّان، وفيه أردت إحياء بعض أعماله، خاصة أنها تمتلك لونًا مميزًا يحمل في طياته الموسيقى الشعبية في منطقة “حوران”، وقد بقيت أغانيه حاضرة في وجدان الناس. كذلك هناك عمل آخر بعنوان “حلب“، وهو وصلة لمجموعة أعمال حلبية. إضافة إلى العمل المعروف: “متتالية الربيع” الذي نقدم من خلاله موسيقى شعبية عربية.
حدثنا عن عملك الفني الموسوم بـ “متتالية الربيع” الذي يطوف على الموسيقى العربية متتبعًا حركة ثورات الربيع العربي؟
هو وصلة (مقاطع متتالية) لأغاني وموسيقى من معظم البلدان العربية، بمعظمها موسيقى شعبية اشتهرت بها الشعوب العربية المختلفة، طبعًا، كان لا بدّ من جمع بعض البلدان بحسب اللون الموسيقي أو الحيز الجغرافي كي لا تطول مدة العمل أكثر من اللازم. أما عن الاسم “متتالية الربيع”، فيعود إلى خط سير البلدان الستة الأولى في العمل، فهي البلدان التي انتفض فيها الناس إلى حد عام 2018، تاريخ كتابة هذا العمل. وبعيدًا عن هذا العنصر ذي البعد السياسي، فهو عمل موسيقي يقدم التلاوين الغنية والبالغة الجمال المفعمة بالتنوع الإيقاعي والمقامي واللهجات المختلفة. تمت معالجة وتوزيع هذه الموسيقى للأوركسترا، فأخذت بعدًا آخرًا، وبِوصل بعضها ببعض، صارت لوحة فنية كبرى ملونة ومنسجمة.
ما الذي عناه لك، على الصعيد الشخصي، إحياء أوركسترا أورنينا لحفل فني في قاعة “فلهارموني برلين” التي تُعدُّ واحدة من أهم قاعات الموسيقى في العالم، وماذا تُضيف مثل هذه الحفلات إلى سيرتك وخبرتك؟
عادةً ما تُقدم الموسيقى العربية بتشكيلات صغيرة لا تتجاوز بضعة عازفين، وتقتصر غالبًا على الآلات التقليدية. ومما يجعل أوركسترا أورنينا متفردة بهذا المعنى أننا قدمنا ثلاث حفلات في قاعة “برلين فيلهارموني” ما بين 2019 و2020. بلا أدنى شكّ، كانت هذه نقلة نوعية للأوركسترا وتجربة مهمة للغاية، إن كان على صعيد الموسيقيين أو على الصعيد الشخصي. فليس من اليسير الوقوف على أحد أهم وأعرق المسارح العالمية. أضف إلى ذلك أن هذا النمط من الموسيقى الشرقية لم يُقدّم من قبلُ في هذه القاعة، عبر فرقة موسيقية يتجاوز عدد أفرادها 50 فنانًا، وفق تشكيلها الآلي الخاص.
كيف استقبل الجمهور الغربي الموسيقى الشرقية التي تقدّمها “أوركسترا أورنينا”؟
إن التشكيل الآلي الخاص لأوركسترا أورنينا السورية يجعلها قريبة من الأذن الغربية، بقدر قربها من الأذن الشرقية، فالرنين الصادر عن الأوركسترا ليس غريبًا عن المستمع الأوروبي، قد تكون اللغة في الأعمال الغنائية عائقًا لغير الناطقين باللغة العربية (أو غيرها من اللغات السورية في بعض الأعمال) إلا أننا نحاول قدر المستطاع تجاوز هذا العائق، عبر عرض ترجمة لها.
منذ البداية، كان ملحوظًا حجم الجمهور الغربي الذي يتابع حفلات الفرقة، وتبين لنا ذلك في أكثر من مكان، عبر الصحافة ومن خلال اللقاءات الصحفية مع الجمهور بُعيدَ الحفلات، وكذلك تبيّن لنا، من خلال بيانات الحجوزات وعبر تواصل الجمهور معنا، أن هناك العديد ممن يأتون لحضور حفلاتنا من بلدان مختلفة يقطعون أحيانًا مئات الكيلومترات لهذه الغاية، وهذا يُشعرنا بالغبطة من جهة، وبمسؤولية كبيرة من جهة أُخرى.
ماذا عن التحديات الإنتاجية والمالية التي تواجه أوركسترا أورنينا، وجُلُّ عازفيها ومُغنّيها سوريون منتشرون في كل بقاع العالم؟
كما الحال دائمًا، تأتي التحديات الإنتاجية والمالية على رأس القائمة، طبعًا بعد القاعدة الفكرية والفنية لأي مشروع ثقافي جاد. في الفنون الجادة، تكون هذه التحديات أقوى وأشد، لأن مثل هذه الفنون بعيدة عن الربح وبعيدة عن الشعبوية التي تنال عادة تغطية إعلانية هائلة. في حالة أورنينا، تتضاعف التحديات؛ إذ إن الموسيقيين والمغنين في الفرقة ينتشرون في معظم دول أوروبا، من مدريد إلى ستوكهولم، وأيضًا في أميركا. وهذا يضيف أعباءً لوجستية كبيرة وتكاليف عالية من سفر وإقامة وغيرها، من أجل التدريبات قبل كل حفل. على العموم هذه التحديات ليست جديدة وتبقى قائمة، ونعمل دائمًا على معالجتها، ومستمرون بإيجاد الحلول المناسبة التي تحفظ استقلاليتنا، ولا تؤثر في أهدافنا الفنية والإنسانية، ولعلّ من أهم تلك الحلول البحثَ عن شركاء فاعلين بالشأن الثقافي، من الذين نتفق وإياهم بالغايات السامية للثقافة والفنون، ونحن على ثقة بأنهم كُثر. وأما الضامن الأكبر لنا في هذا التحدي، فيبقى جمهور الأوركسترا الذي يتسع يومًا بعد آخر، ونتبادل وإياه فنًا رفيعًا وفكرًا ساميًا.
لماذا اعتمدتْ أوركسترا أورنينا مبدأ التشاركية في عملها، بحيث تقدم الأعمال الموسيقية بمشاركة عازفين غربيين من البلدان التي تستضيف عروضها أينما حلّت؟ ألا ترى أن هذه التشاركية تشوّه الموسيقى العربية عمومًا والسورية على وجه الخصوص؟
بالفعل، التشاركية هي مبدأ أساسي في أدبيات الأوركسترا، شكلًا ومضمونًا. على صعيد التشكيل، وكوننا نعيش في المجتمع الغربي، لا بدّ من أن نتشارك في صناعة الموسيقى، كما نتشارك في عناصر اجتماعية عديدة. لكن لا بدّ لي أن ألفت النظر هنا إلى أن هذا الشكل من التشاركية قد يكون من المرات القليلة التي انعكست فيها جهة المشاركة، فعادة ما يكون الحدث الأساسي غربيَّ الطابع، والمشاركون مدعوين إليه، وتلك الظاهرة هي أحد أكبر مشكلات الاندماج التي تنتهجها الدول، حيث يغدو الأمر انصهارًا. هذا ما يحدث عكسه في التشاركية التي تحدث لدينا في الأوركسترا.
أخيرًا، ما جديد “أوركسترا أورنينا“ في المرحلة المقبلة؟ وماذا عن مشاريعها المستقبلية؟
حاليًا، تُنهي أوركسترا أورنينا مرحلة أولى من حياتها، وسيتمّ ذلك بتسجيل ألبوم موسيقي يضمّ مجمل أعمال هذه المرحلة. أما المرحلة المقبلة فستكون برامج موسيقية مؤلفة خصيصًا للأوركسترا، وقد أنجزنا جزءًا جيدًا من تحضيراتها، ونستعد لتقديم مسرح غنائي في محاولة للوصل مع مسرح الأخوين رحباني، وتحديدًا مرحلة ما قبل وفاة عاصي الرحباني. وأعتقد أن هذا النوع من الفنون مهمّ جدًا؛ فقد رسم ملامح الثقافة الشرق أوسطية لا سيّما في سورية ولبنان. وكان المخطط أن نبدأ المرحلة الثانية في هذه الأيام، لكن جائحة كورونا، وما تمخض عنها من عطالة عامة، أرغمتنا على التأجيل، آملين أن تنفرج الحالة العامة قريبًا.