انتهت الجولة الثالثة لمفاوضات جنشف في 27 آب/ أغسطس الماضي، دون أي تقدّم، ولم تُحقق أية نتائج إيجابية، أسوة بكل الجولات السابقة، وأسوة بكل المسارات السياسية ذات الصلة بالقضية السورية، سواء في جنيف أو أستانة أو سوتشي أو القاهرة غيرها.
يعود تعثر أعمال لجنة صياغة الدستور، وعدم تحصيل نتائج حقيقية، إلى مواصلة النظام السوري في سياسته الرامية إلى تعطيل الأعمال وتمرير الوقت وإفراغ الجلسات من مضمونها، وهو ما يقوله بعض المسؤولين الأوربيين والأميركيين.
في كل الأحوال، لا يمكن التعويل كثيرًا على اللجنة الدستورية، لأنها لا تُشكِّل الحل بالنسبة للقضية السورية المستعصية، وهي فقط أولى خطوات الحل السياسي، الذي يتوقع له أن يكون طويلًا ومعقدًا وشائكًا، وهي أيضًا، كما قال المبعوث الأممي الأخير إلى سورية غير بيدرسن “قد تكون بوابة نلج من خلالها لبقية السلال الأممية المتعلقة بسورية” ليس إلا.
طوال سنة كاملة، مازالت اللجنة الدستورية التي بدأت أول جلساتها في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، تُفاوض وتُناقش في المبادئ ما حول الدستورية، والتعريفات والمصطلحات، وتناقش المبادئ الوطنية والقانونية التي لا خلاف عليها، ولم تدخل حتى الآن في صلب الدستور ولا في تفاصيله أو بنوده، أو نقاط الخلاف الأساسية، وهي كثيرة جدًا.
سنة كاملة ومازالت اللجنة الدستورية “تؤصل” و”تُحضّر” و”تستعد” و”تُمهّد” للدخول بالعملية الدستورية، وفق تعابير منتقاة من شخصيات في وفد المعارضة السورية ووفد النظام، وتناقش المبادئ الوطنية الأساسية، والهوية الوطنية الجامعة، والانتماء للوطن، وبخطوات يسعى النظام السوري ويحرص على أن تسير بطيئة مُملة عبثية، تمنح اللجنة الدستورية ما يُشبه الشلل.
قبل عام، وبالتزامن مع انطلاق اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف، لوضع دستور جديد يفضي إلى انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، وفق نص تأسيس هذه اللجنة، أطلّ رأس النظام السوري بمقابلات صحفية متتالية كان عنوانها العريض “لا لأي شيء”، مُعلنًا من خلالها رفضه لأي خطوة أو حل سياسي مستقبلي في سورية لا يكون طرفًا فيه أو لا يتوافق مع وجهة نظره ويحافظ على نظامه، وأعلن “لاءاته” الثلاث، التي تمثلت بـ “لا للقرار 2254” الذي يُشكّل المرجعية لعملية التفاوض السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة والعمود الفقري للحل السياسي وفق كل الدول التي لها علاقة بالقضية السورية (ينص القرار 2254 على “دعم عملية سياسية بقيادة سورية تيسرها الأمم المتحدة، وتقيم، في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر، حكمًا ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولًا زمنيًا وعملية لصياغة دستور جديد” ويدعم القرار إجراء انتخابات حرة ونزيهة تجرى، عملًا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرًا تحت إشراف الأمم المتحدة، تشمل جميع السوريين الذين تحق لهم المشاركة، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في المهجر).
كما قال الأسد “لا” للجنة الدستورية، ونسف عملها على الرغم من عدم انطلاقها بشكل جدي، حين قال “اللجنة الدستورية لا علاقة لها بموضوع الانتخابات، لها علاقة فقط بموضوع الدستور”، وتنصل من مشاركة النظام رسميًا في لقاءات اللجنة، واعتبر أن الوفد مدعوم من قبل حكومته ولا يمثلها، حين قال “الطرف الأول هو الذي يمثل وجهة نظر الحكومة السورية، أما الحكومة السورية فهي ليست جزءًا من هذه المفاوضات ولا من هذا النقاش”، معتبرًا أن “هؤلاء أشخاص (وفد النظام في اللجنة الدستورية) من نفس جو الحكومة السورية السياسي، ولكن هذا لا يعني أننا نحن كحكومة نفاوض”.
وأخيرًا قال “لا” لهيئة انتقالية ولمسار جنيف، حيث قال “جنيف خديعة أميركية تقوم على أن يكسبوا بالسياسة ما لم يستطيعوا كسبه من خلال المظاهرات أولًا، ومن خلال الإرهابيين لاحقًا، وبالتالي تحقيق ذلك عبر العملية السياسية”، وأضاف :مسار جنيف قد فشل، لأنه كان “يهدف إلى إسقاط الحكومة عبر هيئة مؤقتة”.
في واقع الأمر، وليرفع اللوم، وليخفف من الضغوط التي يمارسها عليه حليفه الروسي، وليخفف من الضغوط التي يتعرض لها حليفه الروسي، شارك النظام باجتماعات اللجنة، لكنه لعب على مسار يفاوض من خلاله في داخل اجتماعات اللجنة الدستورية بطريقة يحاول من خلالها الإيحاء بأنه متعاون ومتجاوب ويقبل الحوار، لكنه في واقع الأمر يبذل جهده لتعطيل الحوار والاجتماعات ويجعل كل هذا المسار هامشيًا، ويرفض أن يدخل في صلب الدستور ومواده الأساسية، وصلاحيات الرئيس الهائلة وجمع السلطات ودور الأمن المتضخم وغياب الرقابة، وهي أهم النقاط التي تريد المعارضة السورية تغييرها.
روسيا بدورها، التي اضطرت لتبني فكرة اللجنة الدستورية، تتعامل في واقع الأمر مع الفكرة على أنها جزء من مسار “سوتشي”، الذي عقد في روسيا مطلع 2018، وتعتبر أنها تجري فيزيائيًا فقط في جنيف، وكل ما يحصل فيها هو بإشراف أممي لكنّه برعاية ومرجعية وغطاء روسي، لكن روسيا لا توافق على تعطيل النظام السوري لهذا المسار إلى هذه الدرجة، خاصة وأنها قبلت جدول الأعمال والذي ينص على ضرورة عدم عرقلة الاجتماعات.
ورغم أن اللجنة الدستورية لم تُحقق أي شيء يُذكر خلال عام، ولم تستطع التقدم أول خطوة في مسيرة الألف ميل، وعلى تواضع ما تم، مازال رأس النظام السوري يشدد ويعلن في كل مناسبة أنه غير معني بتغيير الدستور، بل وينطق باسم الشعب كله، ويقول إن السوريين غير معنيين بتغيير الدستور، وأن دستور عام 2012، الذي يمنح صلاحيات ملكية استثنائية للرئيس، لا يحتاج سوى لبعض الإصلاحات الشكلية التي لا يهتم بها المواطن أساسًا، ويُذكّر بأن كل ما سيصدر عن اللجنة الدستورية غير ملزم ولا يحمل أي قوة قانونية.
في مقابلة مع وكالة “سبوتنيك” الروسية في العاشر من الشهر الجاري، قال الأسد “الشعب السوري لا يفكر بالدستور، ولا أحد يتحدث عنه، اهتماماتهم تتعلق بالإصلاحات التي ينبغي علينا القيام بها والسياسات التي نحن بحاجة لتغييرها لضمان تلبية احتياجاتهم”.
تقول روسيا إنها تريد من دمشق أن تسهم في العملية الدستورية، وأن تشرع في عملية إصلاح داخل البلاد، وتسعى لإقناع دمشق بإجراء إصلاحات، مقابل لعب دور الوسيط لرفع العقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة، لكن المحادثات الأخيرة بين وفد روسي زار دمشق في 6 سبتمبر الماضي، ضم يوري بوريسوف، نائب رئيس الوزراء، وميخائيل بوغدانوف الممثل الروسي الخاص للشرق الأوسط، أظهرت أن دمشق لا تؤيد إعادة تشكيل دستور جديد وإجراء الإصلاحات، ولا شك أن هذا يوحي بأن هناك مشكلة بين موسكو ودمشق، أو بوادر مشكلة ستبدأ قريبًا، عاجلًا أم آجلًا، لأن عدم إحراز اللجنة الدستورية أي تقدم سيجعل موقف روسيا في سورية مُحرجًا أمام الشريك الأميركي الذي ترك ملف اللجنة الدستورية رهن روسيا.
من الواضح أن الأسد يراهن في استمرار رفضه للجنة الدستورية، وفي رفع سقفه السياسي والعسكري، على الدعم الروسي بشكل أساس، لكنّ الإيحاءات كثرت في الأونة الأخيرة بأن هذا الدعم راح ينخفض وتقزّم، ففي الشهر الماضي شنت وسائل إعلام روسية حملة إعلامية ليست بصالح الأسد، ونُشرت عدة تقارير منفصلة توحي ببدء تخلي روسيا عنه، فتحدث التقرير الأول الصادر عن “وكالة الأنباء الفدرالية الروسية” عن الوضع الاقتصادي السيء للغاية، واتهم الطبقة السياسية الحاكمة في سورية بالفساد المتعمّد، وذكر أن “الأسد يسيطر على الوضع بشكل ضعيف على الأرض، وأن السلطة في سورية تابعة بالكامل لجهاز بيروقراطي”. كما اتهم التقرير النظامَ السوري بممارسة الكذب على السوريين، عبر نشر أخبار كاذبة عن هجمات عسكرية يقوم بها تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في البادية السورية/ ويهدف النظام من خلالها تبرير قطع الكهرباء في المناطق الخاضعة لسيطرته. فيما تحدث تقرير آخر للوكالة نفسها أن الأسد غير مرغوب فيه داخليًا، وأن 32% فقط من السوريين أبدوا الاستعداد لدعمه، وأن النسبة المتبقية – الأكثرية- ترفض بقاءه. وتحدث تقرير ثالث عن عدم قدرة الأسد على إدارة الموقف السياسي في سورية، من خلال افتقاره إلى الإرادة والنية لمواجهة الفساد الموجود ضمن الأوساط العائلية المحيطة به، وركز التقرير المنشور في “وكالة برافدا الروسية” على المشاكل الكبرى في الاقتصاد السوري، وعلى نظام الفساد المهيمن في عائلة الأسد وحاشيتها، وخلص التقرير إلى أن الأسد الذي يعجز عن ضبط الأوضاع الاقتصادية في سورية من الممكن أن يفقد نصف البلاد، بسبب أقربائه.
يُعلن البعض تفاؤله بأن عام 2021 سيكون عام الحل للمأساة السورية، بعد أن تُنهي عامها العاشر، وعام نهاية معاناة السوريين المستمرة منذ عام 2011، لكنّ مسار اللجنة الدستورية المفاجئ في بطئه، والمُخزي في فشله، والتصريحات الضاربة عرض الحائط لرأس النظام السوري، توحي بأن أيام السوريين المقبلة ليست سهلة أبدًا.