ترجمة أحمد عيشة
هل يمكن لمعاهدة سلام “وستفاليا”، التي أنهت حرب الثلاثين عامًا في أوروبا الوسطى عام 1648، أن تكون مصدر إلهام لخلق أفكار وأدوات وأساليب جديدة تصنع السلام في الشرق الأوسط اليوم؟ يجادل المؤلفون المشاركون: باتريك ميلتون، ومايكل أكسوورثي، وبريندان سيم، في كتابهم الذي يحمل العنوان نفسه: (نحو سلام ويستفالي للشرق الأوسط)، بأن الإجابة هي نعم. يقدّم الكتاب منظورًا تاريخيًا أصيلًا، يبني نتائجه على أوجه التشابه والتوازي الموجودة بين حرب الثلاثين عامًا، والصراع المعاصر في الشرق الأوسط.
يشبه الصراع الحالي في الشرق الأوسط الذي يتسم بتعقيد كبير -إلى حد بعيد- حرب الثلاثين عامًا. إنه مجموعة من الصراعات المختلفة والمترابطة، ومن ضمنها التمردات الداخلية، والحروب الأهلية، والصراعات من أجل مزيد من المشاركة السياسية والحرية، والحروب بالوكالة، والتدخل الخارجي، والعداء الطائفي، والصراع الجيوسياسي، وتنافس القوى العظمى، مع مشاركة أنواع متعددة من الجهات الفاعلة التي تختلف كثيرًا فيما بينها داخل المنطقة. إضافة إلى ذلك، كان كلا الصراعين (الأوروبي والشرق أوسطي) مدفوعين بالسيادة المتنازع عليها. إبان حرب الثلاثين عامًا، كان موقع السيادة داخل الإمبراطورية الرومانية المقدّسة على المحك، وكان في خطر أيضًا، وكانت القوة الدافعة وراء الحرب هي الرؤى المتنافسة لصلاحيات الإمبراطور والأمراء ورعاياهم. وبالمثل، كانت الانتفاضات العربية التي بدأت في تونس، أواخر عام 2010، في الأساس، صراعًا من أجل السيادة الشعبية التي عارضتها الأنظمة الحاكمة وحاربت للحفاظ على سيادتها المطلقة. وهناك تشابه مهم آخر، بين كلتا الحالتين، هو دور الدين والعداء الطائفي. ليس من الواقع أن يُردّ الصراعان إلى وجود الطائفية وحدها، مع أن العداء الطائفي عنصر مهم لكليهما، وقد أدى في بعض الأحيان إلى تفاقم الصراعات غير الدينية الأخرى. حيث إن الأنظمة الحاكمة اتخذت العداء الطائفي ذريعةً لتحقيق مصالحها الاستراتيجية. يناقش الكتاب كثيرًا من أوجه التشابه الأخرى بين الصراعين، ومن ضمنها تتابع التصعيد، والتنافس بين القوى العظمى، والملكية والسلالات الحاكمة، والعلاقات المدنية العسكرية، وحروب بناء الدولة، وتقنيات الاتصال، وأزمات اللاجئين.
الهدف الرئيس من الكتاب هو استخلاص الدروس من صلح وستفاليا، لاقتراح حلول للصراعات الحالية في الشرق الأوسط. يميز المؤلفون بين نوعين من الدروس: الأول الأساليب الدبلوماسية التي أثبتت فاعليتها في تسهيل معاهدات وستفاليا وتأمين السلام بعد ذلك؛ والثاني هو شروط المعاهدات. وبقدر ما يتعلق الأمر بالتقنيات المستخدمة لتسهيل معاهدة سلام، فإن أحد أهم الأمور التي يمكن الاستفادة من اتفاقية وستفاليا هو ضرورة إنشاء مؤتمر سلام شامل. فالصراعات الحالية في الشرق الأوسط معقدة للغاية ومتداخلة، بحيث لا يمكن حلها بنجاح بشكل مستقل عن بعضها البعض، إنما ينبغي تشكيل رأي عن الصراعات المختلفة على أنها أجزاء مختلفة من أزمة إقليمية واحدة، تحتاج إلى حلّ، من خلال مؤتمر سلام شامل يضم جميع أطراف الصراعات. ويجب أن يكون المؤتمر شاملًا قدر الإمكان، باستثناء الجهات التي لا يمكن التصالح معها على الإطلاق، مثل الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). لدى هذه المقاربة فرصة أكبر للنجاح من المقاربات المجزأة والتدريجية، إذ يمكن من الناحية النظرية، بسبب ذلك، معالجة مصالح جميع الأطراف التي سيكون لديها حافز جماعي لردع الجهات الفاعلة الفردية عن انتهاك شروط الاتفاقية. فشلت محاولات التفاوض على إنهاء الصراعات بصورة فردية في الشرق الأوسط، مثل الحرب الأهلية السورية، فشلًا ذريعًا، لأنها تجاهلت الترابط بين الصراعات في المنطقة، ولم تشمل عددًا كافيًا من المشاركين في عملية السلام.
من الأساليب الفعالة الأخرى لاتفاقية وستفاليا، التي يجب -وفقًا للمؤلفين- تطبيقها على حل الصراعات في الشرق الأوسط، إنشاء نظام ضمان متبادل لتأمين السلام. وكما ذكر المؤلفون، فقد “كان الضمان الوستفالي مبتكرًا، إذ كانت تلك المرة الأولى التي تصبح فيها الأطراف المتحاربة والموقعون المتعاقدون أنفسهم هم الضامنين لتسوية السلام فيما بينهم في إطار متبادل”. وأُلزم كل طرف بالدفاع عن كل جانب من جوانب المعاهدة، حتى تلك التي لم تكن تمسهم وتؤثر فيهم. كان الضمان الويستفالي مفيدًا في إقناع الأطراف بالتفاوض والتوقيع على معاهدة السلام جزئيًا، لأنه زاد الثقة في جدوى السلام. وكان الضمان نفسه ناجحًا أيضًا في الحفاظ على السلام بمرور الوقت، لأنه ردع الجهات الفاعلة الفردية عن انتهاك شروط المعاهدة. إن تطبيق هذا الدرس في الشرق الأوسط يستلزم إشراك ضامنين محليين وإقليميين ودوليين، بسبب تعقيد الصراعات في المنطقة.
بينما تقع غالبية الدروس، التي استخلصها المؤلفون من معاهدة وستفاليا، ضمن فئة التقنيات الدبلوماسية لتسهيل معاهدات السلام وتأمينه، فقد طرحوا أيضًا درسًا رئيسًا ثانيًا: أن بعض بنود المعاهدة نفسها يمكن أن تكون ذات فائدة قيّمة لنظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط. أحد الإنجازات الرئيسة لاتفاقية السلام هو قوننة الصراع الطائفي، من خلال “ضمان تنظيم الصراعات الدينية، قانونيًا وسياسيًا، ومن ثم إزالة ميلها إلى التسبب في صراع مسلح”، وهو إنجاز رئيس لاتفاقية السلام.
ومن المصطلحات المهمة الأخرى في المعاهدة، السيادة المشروطة. وفقًا لأسطورة وستفاليا، دشنت المعاهدات نظام دولة قائم على السيادة الكاملة وعدم التدخل. ولكن معاهدة وستفاليا -كما يُظهر هذا الكتاب بتفاصيل منهجية مقنعة- “زادت فعليًا من نطاق التدخل في الشؤون الداخلية للحكام، وقللت من حرية الأمراء في الحكم كما يشاؤون”. وضعت معاهدات وستفاليا سيادة محدودة ومشروطة، وألغت تمامًا سلطة الحكام لفرض عقيدتهم على رعاياهم. وعززت أيضًا الأنظمة القضائية وشرعتها، فبات يمكن للرعايا أن يرفعوا الدعاوى ضد حكوماتهم. وتضمنت المعاهدات أحكامًا تسمح بتدخل الضامنين الخارجيين في الشؤون الداخلية، لإنفاذ شروط المعاهدة. على الرغم من أن نموذج الدولة المبني على الأسطورة الوستفالية عن السيادة المطلقة وعدم التدخل قد فشل فشلًا ذريعًا، في بلدان مثل العراق وسورية واليمن، فإن هذه الرؤية الأكثر دقة ومحدودية ومشروطية للسيادة يمكن أن تقدم دروسًا لحل الصراع المستمر، على مستوى السيادة المحلية الخارجية للدولة، وتساعد في بناء نظام إقليمي جديد يقوم على المبادئ المشروعة للسيادة.
وعلى الرغم من أن المؤلفين هم مؤرخون، فإن الكتاب يستند إلى نتائج ورش عمل، جمعت خبراء في شؤون الشرق الأوسط، ومؤرخين من أوائل أوروبا الحديثة، وسياسيين، من ضمنهم مسؤولون حكوميون كبار وممثلون عن المنظمات الإقليمية والدولية. وهذا يثير التساؤل حول المجموعات المختلفة من أطراف الصراعات في الشرق الأوسط، مثل القوى الإقليمية والدول الضعيفة والأنظمة الحاكمة والأقليات وأحزاب المعارضة وضحايا الصراعات والنساء ومنظمات حقوق الإنسان وقادة الانتفاضات الشعبية: هل يمكنها أن تستخلص دروسًا مماثلة أو مختلفة من صلح وستفاليا؟! هذا الكتاب مثالٌ ممتاز لفهم قيمة التاريخ، كمصدر للدروس وحل للمشكلات والصراعات المعاصرة، وسيكون ذا أهمية كبيرة لمن يعمل على حل الصراعات، وللباحثين وللطلاب الذين يدرسون الشرق الأوسط والتاريخ والعلاقات الدولية ودراسات السلام.
اسم المقالة الأصلي | Towards a Westphalia for the Middle East |
الكاتب | رسلان إبراهيم، Raslan Ibrahim |
مكان النشر وتاريخه | Ethics International Affairs، آذار/ مارس 2020 |
رابط المقالة | https://bit.ly/34dAjEJ |
عدد الكلمات | 958 |
ترجمة | قسم الترجمة/ أحمد عيشة |