أولًا ـ التعريف بالمثقف والرسالة التي يقوم بها
كُتبَ عن المثقف ودوره في نهوض المجتمع والأمة وقيل عنه كثيرًا، درجة أن بعض الدراسات والأبحاث التي تناولت موضوع النُخب تعد المثقف محرك التاريخ، فالأديب الفرنسي جوليان باندا يرى في كتابه الشهير خيانة المثقفين: أن “المثقفين طبقة صغيرة تتميز بالموهبة الاستثنائية والحس الأخلاقي الفذ، هم من يشكلون ضمير البشرية، وهم بالغو الندرة، نظرًا لما ينادون به ويدافعون عنه من قضايا الحقِّ والعدل”(1) لا بل “المثقفون يُعتبرون في مرتبة تفوق مرتبة البشر العاديين، نظرًا لدورهم الأساس في فضح وتعرية الفساد ومناصرة الضعفاء”، في حين يرى غرامشي: أن “المثقف يُعرف انطلاقًا من أدواره التاريخية ووظيفته المجتمعية، وكما يجب أن يكون عليه هذا المجتمع، أما سارتر فيرى: أن “المثقف هو صاحب الموقف الملتزم والمنحاز إلى القيم والعدل والحق والنيات الحسنة، قبل أن يكون تقنيًا ومتخصًصًا بأحد فروع العلم أو فنانًا”(2) في حين يقول أمليل: بأن “المثقف هو صانع الأفكار ومروجها ودوره أساسي في التأثير باتجاه التغيير نحو ما يراه أفضل”(3).
وعليه فإن المثقف الحقيقي هو من يمتلك القدرة على اتخاذ مواقف شجاعة “استنادًا إلى قاعدة معرفية تمكنه من التوصل إلى أحكام قيمية ومعيارية، وإذا ارتبطت الثقافة بالموقف النقدي فإن القيمة الحقيقية لذلك، إنما تكمن في الموقف الثوري الذي يبديه المثقف حياله، وبالتالي ليس شرطًا أن يكون المثقف ثوريًا يساريًا، وإنما قد يكون يمينيًا أو حتى متدينًا لكنه يدافع عن القيم السائدة ويوجه نقده إلى الممارسات التي لا يمكن التشبث بها”(4) وبذلك فإن المثقف “لا يمثل فقط حركة اجتماعية باطنة أو هائلة فحسب، وإنما يمثل أيضًا أسلوب حياة خاص، وهو أسلوب مزعج ومنفر في آن، كما يقوم بدور اجتماعي يتفرّد فيه صاحبه تمامًا عن سواه”(5).
ووفقًا لكانط فإن “الثقافة معرفة وقيمة أخلاقية بالدرجة الأولى” لذلك فإن القيمة الحقيقية للمثقف تتمثل في الموقف المبدئي والأخلاقي الذي يقفه تجاه مصير أمته والبشرية جمعاء، يقول جان بول سارتر: “إن عالم الذرة في المعمل وهو يجري الاختبارات المعقدة على فصل عناصر الذرة لا يُعد مثقفًا، بل هو مجرد عالم مختص، إلا أن نفس هذا العالم عندما يعي الخطورة البالغة لاستخدام الذرة في المجال العسكري وتأثير ذلك على حياة الانسان والأرض، ويقرر التوقيع على عريضة ضد تطوير واستخدام الأسلحة النووية، فإنه وقتها ينتقل من مجرد عالم متخصص إلى مثقف، لأنه في هذه الحالة يخرج من كونه عارفًا إلى كونه مثقفًا، ليعبر عن ضمير الناس، لأن المثقف في النهاية يجب أن يعبر عن ضمير المجتمع، باعتباره حاملًا للوعي الاجتماعي، بالتوجيه والنقد وكشف الحقائق، والتعبير الحي عن الالتزام تجاه مجتمعه، وهو لا يستكين للواقع بكل عيوبه ومفاسده ومغرياته، بل يعمل على فهمه وتحليله وتغييره في ذات الوقت”(6).
أما أكثر من كتب عن المثقف ووصف أزمة الضمير التي يعيشها المثقف العربي، فهو عبد الله العروي الذي يرى أن أزمة المثقف العربي إنما “هي انعكاس لأزمة المجتمع، على الرغم من وجود أزمة ذاتية تهم المثقف نفسه التي يُلهي بها ذهنه وأذهان قارئيه، وبالتالي فإن أبرز سمات المثقف العربي البؤس الذي يقوده إلى اليأس من إصلاح شؤون مجتمعه”(7) في حين عرّف زكي محمود المثقف بأنه “الذي يتميز عن عامة الناس بأنه يُدرك الفوارق الدقيقة الكائنة بين ظلال الفكرة الواحدة”(8).
وفي ما يتعلق بالرسالة الواجب على المثقف تأديتها فهي أن يحمل هموم أمته ومجتمعه وواقعه، ومن ثم فإن المسؤولية الواقعة على عاتقه كبيرة وخطرة، الهدف منها العمل على إصلاح الواقع الذي يعيشه وتغييره ومواجهته، لذلك يمكن القول إن رسالة المثقف ثقيلة “تكاد تصل إلى مستوى رسالة الأنبياء والرسل والثوار والمصلحين في مجتمعاتهم، نظرًا لما يتميزون به من نقد الأوضاع السيئة التي يمرّون بها، وإن أعظم مسؤوليات المثقف وأهدافه تكمن في منح بني البشر الوديعة الإلهية الكبرى أي المعرفة والوعي، وبالنتيجة فإن مسؤولية المثقف في زمانه هي القيام بالنبوة في مجتمعه ونقل الرسالة إلى الجماهير، حين لا يكون هناك نبي”(9).
وهو ما يؤكده أيضًا عابد الجابري حيال طبيعة هذه الرسالة، في كتابه “المثقفون في الحضارة العربية” بقوله: أنهم يقولون ما يعرفون، ليقوموا بالقيادة والتوجيه في عصر صار فيه الحكم فنًا في القول، والمثقف لديه “هو الذي يلتصق بهموم وطنه وبهموم الطبقات المقهورة والكادحة، إنه المثقف العضوي الذي يضع نفسه في خدمة المجتمع ويواجه تحدياته المختلفة دفاعًا عن الحق والحقيقة ورفضًا لكل أشكال الظلم والقهر والتسلط في المجتمع”(10) أما إدوارد سعيد فيرى “دور المثقف عمومًا جدلي ومتناقض وهو أن يكشف ويوضح الصراع، وأن يقهر الصمت المفروض بالقوة والهدوء المطيع للسلطة الخفية أينما كانت وكلما كان ذلك ممكنًا”(11).
ثانيًا ـ ليس كل مثقف مثقفًا وليس كل متعلم مثقفًا:
لا يمكن للثقافة أن تفعل فعلتها في نهوض المجتمع من دون أن يكون المثقف نفسه حرًا، شجاعًا مستقلًا برأيه، يجاهر بصوته من دون خوف ومهابة، لا يرضخ للإغراءات والإملاءات، وإنما يرفض التدجين وشراء الذمم وفسادها، بناءً على ذلك ليس كل مثقف مثقفًا، إذ “لا يكفي أن يكون المثقف باحثًا متبّحرًا في بعض ميادين العلم والمعرفة، بل لا بد أن يكون مسؤولًا منخرطًا في أتون الهموم العامة لمجتمعه، خصوصًا إذا كان هذا المجتمع يُعاني مشكلات حارقة مثلما هو الحال في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وإذا كان للمثقف الغربي المعاصر الحق -كل الحق- في أن ينخرط أو ألا ينخرط في الشأن العام، ذلك لأن مجتمعه قد تجاوز مرحلة الانعطافات الحادة والأزمات الكبرى، وأصبح ينتمي إلى مجتمع قوي ومستقر نسبًيا”(12) فإن المثقف العربي عمومًا والسوري خصوصًا مطالب بأن يؤدي دوره بتحرير العقل السوري من “الأغلال والقيود التي تكبله وتنخره من الداخل، بالعمل على تغيير الأطر الفكرية التي يستند إليها” والتعبير لمحمد أركون، سواء كانت إسلامية أم شوفينية بعثية مُستَعبِدة.
وعليه فإنه ليس كل متعلم مثقف، هناك فرق شاسع بين الإنسان المثقف والإنسان المتعلم ينبغي التمييز بينهما، وفقًا لما ذهب إليه الدكتور علي الوردي الذي يضيف “أن المتعلم هو من تعلم أمورًا لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه، فهو لم يزد من العلم إلا ما زاد في تعصبه و ضيّقَ من مجال نظره، آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فأخد يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه وتحرضه على الكفاح في سبيله، أما المثقف الحقيقي فيمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقي كل فكرة جديدة ليتأمل فيها و يملي وجه الصواب حيالها”(13).
وبذلك فإن “مقياس المثقف ليس بمقدار ما يمتلكه من معلومات وتعليم وعدد الشهادات، إنما يعتمد على امتلاكه المنهج العلمي والطريقة الفكرية التي تمكنه من ممارسة النقد على نفسه ـنقد الذات الفكرية ـ وبنفس الوقت تسمح له بقبول الآخر المختلف، إذ إن قبول الآخر يستدعي بالضرورة توفر المرونة لدى المثقف والقدرة على الحوار، لأن الحقيقة نسبية ومتغيرة بتعدد البشر وأوانهم واختلاف مشاربهم”(14).
وبكل الأحوال فإن المثقف يتميز عن سواه من أهل العلم والفكر، من كتاب وأدباء وفنانين ومفكرين وعلماء، وفقًا لعلي شريعتي “بسعة الأفق ووضوح الرؤية وهو ما ينطبق على المستنير أيضًا، كما جاء في اللغة الفرنسية التي تعني (Clairvoyant أي بعيد النظر أو مستنير، بحيث لا يتصف بالتقيد والتوقف ولا يفكر بجمود عقائدي، بل يفكر بوضوح وسعة الأفق، وعليه ثمة فارق واضح بين معنى متعلّم ومعنى مثقف، رغم أن عامة الناس لا تفرّق بينهما، فالمثقف هو من يقوم بتذويب الأطر الفكرية، ويعمل على تصحيحها، وتصويب مساراتها بما يملك من سعة فكر ومنهج علمي وأفق حضاري وميزان معرفي قادر على إدراك الأمور ومناقشتها بعلمية وواقعية موضوعية بعيدًا عن الانغلاق على الذات ومنطق الانحياز”(15).
بناءً على ذلك نستطيع القول بأنه ليس كل من تخرّج من الجامعة أو كان استاذًا جامعيًا يعد مثقفًا، مثلما ليس كل من تعلم وقرأ كثيرًا من الكتب مثقفًا، “إنما المثقف الحقيقي هو كل من له تفكير علمي نقدي يكشف به عن المسلمات والبديهيات الزائفة السائدة في المجتمع، ويطرح الحلول ويقارب مسائل وقضايا مجتمعه باعتماد العقل والمنطق بعيدًا عن التحيز والعواطف والقيود السائدة، ويكون ذو نصيب واسع من المعارف والعلوم المرتبطة بالمجال الذي يقاربه، بحيث تكون غاية أفكاره الإصلاح والتصحيح والتطور والمنفعة العامة للمجتمع، يتقبّل النقد والأفكار والآراء المخالفة بصدر رحب دون تشنُّج، وبذلك هو يختلف اختلافًا كبيرًا عن أشباه المثقفين من المتعلمين وأصحاب الشهادات المؤدلجين الذين يتعصبّون و يتحيّزون لأفكار معينة ولأيديولوجية بذاتها بغض النظر عن ضررها الذين يجادلون فقط للانتصار لتلك الأفكار والدفاع عنها، وليس الإصلاح والتطوير”(16).
ثالثًا ـ المثقف والمسـؤولية الأخلاقية:
تكلمنا في ما سبق أن للمثقف رسالة لا بد من تحمُّل تكاليفها، على الرغم من “القيود النفسية والاجتماعية والحضارية المفروضة على عقله عند تفكيره أو عند نظره في الأمور”(17) رسالة يبدأ فيها المثقف بين ناسه وشعبه قبل أن تصل هذه الرسالة لتعم فائدتها الإنسانية جمعاء، إذ إن المثقف الحقيقي هو “من يمتلك دوره الفاعل في المجتمع، دور لا يمكن اختزاله أو تصغيره، لأنه مطالب بتجسيد مواقف فكرية وفلسفية من مختلف القضايا الوجودية والحيوية في المجتمع، وعليه ضمن هذا التصور أن يتخذ موقف المواجهة والمجابهة لكل سلطة تقليدية ولكل المسائل والقضايا الحرجة في المجتمع”(18) بافتراض “أن النخبة المثقفة بحكم وعيها وموضوعية التفكير ووضوح الرؤية لديها قادرة على التحليل والمحاكمة المنطقية، مما يجعل المثقفين في حصن من أن تنطلي عليهم أساليب البورجوازية ومن أن يخيفهم تحكم المُتسلِّطين، وبالتالي فإن هؤلاء المثقفون، هم وحدهم القادرون على تصحيح تلك الصورة في الوعي الجماهيري، ورسم الطريق الصحيح لتحقيقها في حيز الواقع الملموس”(19).
بل المثقف الحقيقي “يجب ألّا يقلّ مبدئيةً عن يسوع المسيح وعن سقراط، أو عن شخصيات أكثر معاصرة مثل سبينوزا وفولتير، لأنه يدافع عن المعايير الأزلية للحق والعدل، معايير ليست من هذا العالم، مقارنة بعامة الناس الذين لا يدافعون عن مثل عليا بل تسيّرهم الفائدة المادية ويأسرهم التقدّم الشخصي، فيقيمون علاقة وثيقة مع السلطة وأصحاب النفوذ السياسي، وهذا ما يفسّر سوسيولجيًا كيف تنبثق طبقة حكّام فاسدة من شعب ينتخبهم في علاقة زبائنية، وبالتالي فإن أسوأ ما يرتكبه المثقفون هو مرض الانتهازية بانضوائهم تحت لواء السلطة وتخليهم عن واجبهم الأخلاقي، فيساعدون الطبقة السياسية الاقتصادية الحاكمة، في ترويض الناس وتنظيم المشاعر الاجتماعية وغسل الأدمغة”(20).
وعليه فإن رسالة المثقف إلى ناسه ومجتمعه يجب أن تكون شديدة وفاعلة لأن “أفكاره تتوهج تحت رماد التخلف مع شعوره بمسؤوليته في تغيير الواقع؛ لذلك فهو المعني بدراسة التأريخ وتعقيداته بعيون فاحصة، يقول كلمته ببسالة، ويشارك في إثراء الواقع بلا حدود، من دون أن يستسلم لماضٍٍ لم يعد في أكثر جوانبه يجدي المجتمع في مسيرته، والأهم من كل ذلك أنه لا يستسلم إلى الآخر، بحيث يجعلنا هذا المثقف، نأخذ من ماضينا من دون أن نسمح له أن يستَعبِدنا، ونأخذ من غيرنا من دون أن ندعهم يستّلبون عقولنا أو يخيفونا”.(21) وبالتالي فالمثقف “هو المعني بالدرجة الأولى بالبحث عن الحقيقة والاحتفاظ بها، كما هو معني بالقيم الجمعية والمقدسة، تلك التي تتحكم في جماعة وفي مجتمع وفي حضارة، على حد قول عالم الاجتماع الأميركي كوزر (Coser) في كتابه سوسيولوجيا المثقفين”(22).
تتميز رسالة المثقف بشكل أساسي بالمشاكسة والعناد وبذلك هو أشبه ما يكون بذبابة سقراط، كما يقول جورج طرابيشي: “أن يوقظ الناس لا أن يُنيمَهم، وأن يَلسع لا أن يُخدِّر”(23) وهو ما يؤكده علي الوردي أيضًا، بقوله إن “المثقف الحقيقي هو من يتصف بالشجاعة الفكرية فيقتحم التابوهات، لا يتلقى ما يسمع ولا يستظهر كل ما قرأه كالببغاء ولا يعتمد الأفكار الجاهزة مثل العوام وجُلّ المتعلمين، بل يعتمد التمحيص والبحث والتحري ويراعي الموضوعية والنزاهة حين التعبير عن رأيه بعيدًا عن التعصب والتحيز، يقودنا ذلك إلى أن المثقف الحقيقي حين يقرأ لا يُلغي عقله بل يَتًشرّب أفكار المؤلف مثله مثل الإسفنجة، يقرأ بتمحيص ونقد، لا يثق بدون حجج ولا يصدق بسهولة كي لا يقع ضحية الأدلجة والتغييب”، لا بل إن مهمة المثقف وفقًا للمسرحي الإيطالي “داري وفو” الحاصل على جائزة نوبل للآداب: “هي أن يُزعج الآخرين، وأن يوقظهم ويقضُّ مضاجعهم، وألا يدعهم يستريحون، لا أن يداعبهم أو يمتعهم بما يريحهم”(24).
لذلك فإن على المثقف أن يعمل على إيقاظ الآخرين لا أن يغط في سبات عميق كما هو حال مثقفي السلطة السورية الذين لا يرغبون في الاستيقاظ، فكيف لهم أن يوقظوا الآخرين؟ فهم لا يريدون أن يكلفوا أنفسهم بالبحث عن الأسباب التي دعت إلى انهيار الأوطان، وإنما يقفزون دومًا إلى النتائج، لذلك يصفّقون للظالم ويبصقون في وجه المظلوم، وكأنهم أصيبوا بعمى ثقافي وسياسي حقيقي عندما تخلوا عن استقامتهم الفكرية، فهم لا يرون ما فعلته وتفعله بنا وبالأوطان الأنظمة الاستبدادية الحاكمة التي يدافعون عن بقائها بأسنانهم، لا يريدون أن يفركوا عيونهم، علّهم يصحون من هذه الغفلة التي أودت بهم إلى هذا السقوط الوجداني والأخلاقي الفظيع، لذلك من الطبيعي أن تكون المشكلة لديهم في الآخر -كل آخر- إلى درجة أن كل ما يدور في هذا العالم غربًا أو شرقًا، إنما هو محض مؤامرة، الهدف منها الاقتصاص من تلك الأنظمة وتطويعها.
لا بل كان هؤلاء وما يزالون بوقًا للمساهمة أكثر في تدجين الناس ودغدغة وعيهم الوطني وتخديرهم، بوصفهم جزءًا لا يتجزأ من أدوات السلطة، يدافعون بشراسة عن أعمالها القمعية، بدلًا من الانحياز إلى قضايا الناس وهمومها الوطنية، ومن ثم تشبه حالة هؤلاء إلى حدٍ بعيد حال وعاظ السلاطين القدماء الذي تحدث عن تناقضاتهم علي الوردي، حينما كانوا يلعنون الفقير لمغازلته جارية من الجواري، في حين يغضون الطرف عن شراء الغني وصاحب السلطة عشرات بل مئات الجواري.
لذلك لا يرى هؤلاء المثقفون سوى أن المشكلة في رئيس الحكومة وأعضائها الذين يخيبون دومًا أمل القيادة، المشكلة في أعضاء مجلس الشعب الذين لا يقومون بدورهم على الوجه المطلوب، المشكلة في حجم الفساد العام الذي يَسقُط أصحابه بين فترة وأخرى من السماء، المشكلة في معارضة الفنادق، في رياض حجاب الذي ذهب إلى الولايات المتحدة وقابل بعض المسؤولين فيها، المشكلة في رامي مخلوف وغيره، في العسكري الذي انشق عن قطعته مُكرهًا، لأنه لم يستطع تحمل نهج المحسوبية والتفرقة والفساد، أو تحمل القائمين عليه وهم يسرقون قوت يومه، المشكلة في المؤامرة الكونية التي تحاك ضد سورية ونظامها المقاوم، لا بل المشكلة في هذا الشعب الذي لم يُقدِّر نِعَم الاستبداد وبركاته، فخرج يُطالب بمطالب غير محقة.
وعليه نستطيع القول إن رسالة المثقف كبيرة ومسؤوليته الأخلاقية تكمن أولًا وأخيرًا في الانحياز إلى ناسه وشعبه، بافتراض أن المثقفين هم «تلك الفئات التي تهّيأت لها أسباب التعبير والثقافة وأحيانًا القيادة الفكرية»(25) ومن ثم لا خيار آخر أمام المثقف فإما أن ينحاز إلى الجماهير، فيتكلم بشجاعة بمواجهة انحراف السلطة، أو أنه سيكون في موضع الشبهة وخيانة أخلاق هذه المهنة وشرفها.
رابعًا ـ خيانة المثقف:
يقول إميل زولا: “إذا سألتني ماذا جِئتَ تفعل في هذا العالم أنا الفنان؟ سأُجيبك: أنا هنا لأعيش بصوتٍ عالٍٍ” لذلك لا بد للمثقف أن يتحلى بالشجاعة، “إنّ للكاتب واجبًا تجاه الكلمة التي هي حقيقته”(26) فالمثقف الساكن الذي لا يهتم بالشأن العام وفقًا لبرهان غليون لا يدخل ضمن فئة المثقفين، سواء أكان كبيرًا أم صغيرًا، ومن ثم “لا يصبح كذلك إلا إذا حقق الشرطين التاليين: القيام بممارسة منتظمة للتفكير في الواقع الاجتماعي السياسي، والمشاركة الفعّالة في تغييره”، أما عبد الله العروي فيقول: “إن على المثقف العربي الثوري عندما يضيق نطاق العقل التعميمي في مجتمع ما وتنقص حظوظ التأثير في الحياة الاجتماعية بالتداخل التلقائي، أن يتدّخل لتغيير مجتمعه جذريًا وواقعيًا من أجل الخروج من الخيبة”(27) في حين يرى هشام شرابي: أن “المثقف هو الشخص الملتزم والواعي اجتماعًيا، بحيث يكون بمقدوره رؤية المجتمع والوقوف على مشاكله وخصائصه وملامحه، وما يتبع ذلك من دور اجتماعي فاعل من المفروض أن يقوم به لتصحيح مسارات مجتمعية خاطئة”(28).
لا بل المثقف الحقيقي هو الذي لم يخُن رسالته ولم يخُن شعبه، لا يسكت على أي خطأ حتى ولو كان خطأ السلطة، عندما ناصبَ الأسد الأب النظام العراقي العداء في ثمانينيات القرن الماضي، واصطف إلى جانب إيران في حرب الثماني سنوات بمواجهة العراق، خلافًا لما نصّت عليه معاهدة الدفاع العربي المشترك، لم يتجرأ أحد على سؤاله لماذا أقدم على ذلك؟ عُدت خلالها قيادة البعث في العراق في عداد الخونة، بعد سنوات من تلك الوقفة فجأةً ومن دون مقدمات أعادت سورية علاقاتها مع العراق، ليتحول نظامها الخائن الذي يجب إسقاطه إلى الأخ الشقيق، عندها لم يتجرأ أحد على سؤال السلطة السورية عن هذا التحول المفاجئ، لا من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، كما يقول الراحل ممدوح عدوان في كلمته الاستثنائية المسجلة في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب 1979 ولا من مجلس الشعب، ولا من أي مثقف سوري.
ومثل ذلك بالطبع كان الحال مع اتفاقية أضنة السرية، بين كل من الأسد الأب وتركيا، المتعلقة بشطب لواء إسكندرون من الخريطة السورية، ومثلها أيضًا دخول الجيش السوري إلى لبنان والخروج منه مكسورًا، كذلك كان حال هؤلاء مع الاتفاقات السورية الروسية، أكان لجهة دخول قواتها إلى سورية أم لجهة تأجيرها قواعد بحرية أو أراضٍ سورية استراتيجية أخرى، مثلما هو الحال بالطبع مع معاهدة الدفاع المشترك السورية الإيرانية، وغيرها من اتفاقات تتعلق بالسيادة الوطنية.
بناءً على ذلك ليس للمثقف الحق المطلق في أن يصّم أذنيه أو يغض الطرف عما يعتمل في داخل محيطه الاجتماعي، أو يكتفي بالتخندق في داخل التخصص العلمي الضّيق، أو التبحر الموسوعي البارد، في الوقت الذي تُحدق بمجتمعه أخطار مهلكة، وفقًا لمحمد أركون، كما هو عليه الحال في ما يتعلق بمثقفي السلطة السورية ومتعلميها الذين كانوا وما يزالون مثلهم مثل أبي الطيب المتنبي، حينما برع في المزاوجة بين الثقافة والانتهازية المفرطة، نموذج المتنبي هذا، نجده في كل ساحة وكل ميدان، في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، كما في الآداب كما في القانون، أعرف شخصيًا عددًا كبير من الأساتذة، منهم من صمتَ وما يزال كصمت القبور، ومنهم من حاضر ويحاضر في المجالس والمراكز الثقافية، المشكلة في هؤلاء كانت وما تزال إنهم لم ينبسوا ببنت شفة، حيال ما يجري في طول البلاد وعرضها، طوال سنوات الأزمة التي تعصف بالشعب والوطن، طبعًا عدا أسطوانة المؤامرة، وكأن ما يجري من خراب وخروقات تتعلق بحقوق الإنسان وبسيادة الوطن يجري في كوكبٍ آخر.
“إن الخطر الأكبر ليس هيمنة الدولة على الناس وإنما هيمنة الدولة كفكرة على العقل السياسي للناس فلا تفكر ضدها إلا بها”(29) لا بل الأخطر من هذا وذاك أن تدافع ما تسمى بالنخبة المثقفة أو تتخاذل تجاه ما يحدث من إهدار فاضح لسيادة الأوطان، وخروقات تتعلق بحقوق الإنسان، أو أنها تهاب المجاهرة برأيها، يقول المفكر علي شريعتي: “عندما يحترق بيتك فإن من يدعوك للصلاة فهو خائن، وأي عمل غير إطفاء الحريق فهو خيانة”.
ما الذي فعله هؤلاء لما من شأنه إطفاء هذا الحريق الذي يبتلع أراضي الوطن وأهله وسيادته؟ ما الذي فعلوه حيال ما يجري من تواطؤ مكشوف اليوم بين روسيا وإسرائيل؟ في الوقت الذي تجول فيه طائرات الأخيرة الأجواء السورية ذهابًا وإيابًا، فتقصف مواقع الجيش السوري وغيرها من مواقع، مع أنه لا يمكن لهذه الطائرات من التحليق بالأجواء السورية من دون التنسيق المسبق مع الحليفة روسيا التي سبق لها أن أبرمت اتفاق شراكة بينها وبين إسرائيل من شأنه التركيز على العمليات الجوية في سورية، و”التنسيق المغناطيسي” أي موافقة كل طرف على عدم اعتراض الاتصالات اللاسلكية وأنظمة التتبع بالرادار الخاصة بالآخر، علمًا أن كلًا من روسيا وإسرائيل يشكلان فريق عمل مشترك لتنسيق الخطوات بشأن سورية، برئاسة نائبي رئيسي الأركان العامة بالبلدين، وفقًا لما صرّح به ضابط إسرائيلي لرويترز، بحسب ما أورده موقع العربية بتاريخ 24/9/2015.
مثقفون وأكاديميون ونقابات مهنية وأحزاب وأعضاء مجلس شعب بالجملة تحت الطلب، قبل أن يُعلن عبد الحليم خدام انشقاقه عن النظام، عام 2005 كان في حينها يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية، كان من الرفاق المناضلين، هو وكامل ذريته، لم تمر ساعات حتى بات الخائن والمطلوب رقم واحد بوصفه وحده من نهب السوريين وأفقرهم، وحده من تاجر بأرواحهم بالنفايات السامة، ومثله كان حال كل من نائب رئيس الجمهورية الآخر رفعت الأسد ورامي مخلوف الذي اتضح للقيادة أنه وإمبراطوريته الاقتصادية والمالية السبب الأساس في إفقار عموم الشعب السوري وخراب الأوطان.
هل يتجرأ أحد من هؤلاء على السؤال من هو فالح الفياض؟ الذي استقبلته القيادة السورية بالترحاب منذ أيام معدودات وهو الذي يرأس هيئة الحشد الشعبي، لا هيئة الأمم المتحدة، ولا هيئة التحقيق العام، وإنما الهيئة التي تضم في صفوفها أكثر من 70 فصيلًا مسلحًا، ثم هل يجرؤ هؤلاء على السؤال كيف “أصبحت هذه الميليشيات جزءًا من تشكيلة الجيش السوري”؟ وفقًا لموقع (نيوز ري) الروسي(30).
بالقطع “لا يمكن لمثقف أن يصطف إلى جانب الدكتاتورية إلا إذا كان رعاعيًا، ولا يمكن لمثقف أن يعتدي على مثقف الثورة إلا إذا كان رعاعيًا أيضًا، المثقف الرعاعي هو في الأصل ذو أيديولوجيا رعاعية تكوّنت في علاقة مع مصالحه الذاتية، وصار يصدر عنه نمط من الخطاب الطبلي الموجه أصلا إلى الرعاع، وبالتالي فإن المثقف الرعاعي هو مثقف الرعاع وأهوائهم، فهو إما أنه انحدر إلى مستواهم وإما كان هو في الأصل على سوية معهم، ومهما يكن فإنه لم يعد من المقبول أن يتحول المثقف إلى ببغاء يردد ما تقوله السلطة، أو حتى دمية تُحرِّكُ خيوطها كما تشاء”(31).
صمت يجر صمتًا وخيبة تجر أخرى، آخر كلمة نطق بها فاروق الشرع نائب الرئيس في مؤتمر المصالحة الوطنية الذي عقد مع بداية الأزمة، بحضور عدد كبير من أعضاء مجلس الشعب وناشطي المجتمع المدني إلى جانب بعض مثقفي السلطة قوله: “لا بدّ من تسوية تاريخية” بعدها غُيب الشرع، مسكين هذا الشرع، لم يتجرأ على السؤال عنه أحد، لا من أحزاب الجبهة ولا من أعضاء مجلس الشعب ولا من مثقفي السلطة أنفسهم، ولا من محاضري المراكز الثقافية أو مرتادي القنوات الرسمية التابعة للسلطة، من جهته رامي مخلوف عندما افتضح أمره وظهرت خلافاته مع شركائه في المافيا السورية، إلى العلن لم يجرؤ أيضًا أحد من هؤلاء أو غيرهم على السؤال من أين له بهذه الإمبراطورية المالية ومن الذي سهّل له إقامتها طوال ما يقارب نصف قرن؟.
نخلص إلى نتيجة مفادها أن ليس كل مثقف مثقفًا، وإنما مثل هؤلاء هم “سوس الأمة وبلاؤها” بارعون بالرقص في كل عرس، كي يحافظوا على مكاسبهم الشخصية ومصالحهم الذاتية الضيقة، قبل سقوط نظام مبارك بساعات كان أمثالهم يشكلون الحصن الحصين لاستمرار المملكة الفرعونية، لقد مارسوا أسوأ أشكال النفاق في مساندة نظام مبارك وعائلته، فكانوا الحصن الثقافي المنيع، لكنهم ما إن تأكدوا من سقوط الطاغية، حتى تسابقوا لإعلان براءتهم منه، ليس ذلك فحسب بل هاجموه: فأنيس منصور، اتهم الثوار بالخيانة، وبعد نجاح الثورة أشاد بهم، لا بل خاطب مبارك قائلًا: “المليارات التي تملأ جيبك هي من قوت الشعب”، جمال الغيطاني قال: “إن خصال مبارك القيادية جنبّت مصر الكثير من المخاطر في ظروف عالمية ومحلية مضطربة” بعد سقوطه قال: “نظام مبارك كان أسوأ نظام مرّ على مصر، حتى من الاحتلال الأجنبي”، أما جابر عصفور فقال: “لا يوجد مصري عاقل ضد مبارك” بعد سقوطه كتب في الأهرام “إن الحزب الوطني فعل بمصر ما لم يفعله بها حزب آخر، من إفساد نتيجة احتكاره السلطة” أما خيري شلبي فقال: “مصر في عهد جديد” بعد السقوط قال: “إن الرئيس المخلوع نفى المصريين وسحقهم، كان نظامه هو الفساد بعينه لا بد من الاستمرار بمحاكمته ولو نفذ فيه الإعدام سيكون ذلك شيئًا عظيمًا”، بدوره أحمد عبد المعطي حجازي كان من أكثر المصفقين، بعد السقوط قال: “بأن طغيان مبارك أنهك المصريين وأذلهم وبدد ثرواتهم ودفعهم للثورة”(32) ومثل هؤلاء كان عليه حال مثقفي السلطة السوريين لو أن النظام أصبح في خبر كان.
خيانة المثقّف تعني بكل تأكيد خيانة الشعب والوطن، بعدما خبرنا تبدُّل جلودهم وأقنعتهم، وبعد أن خبرنا صمتهم وتماهيهم مع سياسة الاستبداد على النحو الذي أشرنا إليه، نسأل والإجابة يعلمها القاصي والداني، ما الذي قدمه هؤلاء؟ طوال سنوات المحرقة السورية؟ بل ماذا استفاد منهم الشعب والوطن؟ سوى اجترار العبارات الخشبية المقولبة التي كانت وما زالت السبب الأساس في هذا الحريق المتواصل، صابر فلحوط مثالًا، تربع المذكور على مؤسسة الصحافة البعثية أكثر من أربعين عامًا، عايش فيها الأسدين، الأب والابن، كان خلالها الصوت المجلجل، شهد النتائج الكارثية التي أودت بالشعب والوطن مثله مثل غيره من مثقفي السلطة الذين لم تتوقف أقلامهم ولا ألسنتهم الطويلة، لحظةً واحدة عن الاستمرار في صناعة الأوهام، كبر فلحوط حتى هَرِم، اعتقدنا أنه مات، ما لبث أن قام من بين الرماد ليُمطرنا من جديد بمقالٍ من العيار الثقيل في صحيفة البعث الصادرة في 2015-6-12 عن الأب الخالد ودروس الصمود والتصدي مجاهرًا بقول الأسد الأب في مؤتمر اتحاد الصحافيين العرب 1974: نحن أقوياء بمقدار ما نمتلك من الحرية، وأحرار بمقدار ما نمتلك من القوة.
ومثله تمامًا كان حال المتنبي الآخر الدكتورة نجاح العطار بكتابها “القائد الذي صنع التاريخ”، ومثلها أيضًا كل من الدكتورة بثينة شعبان “عشرة أعوام مع حافظ الأسد” والدكتور جورج جبور، “إلى البعثي الأول ـ والد آخر دستورين عرفتهما سورية”، وبالمناسبة في تصريح لجبور لـ ( صحيفة البناء) طالب بعد يوم وفاة “رفيقه المتنبي” في 27 أيلول يومًا عالميًا للغة العربية، أما عيسى درويش فيقول: “أن تجلس مع حافظ الأسد هذا يعني أن خاتم سليمان أصبح في إصبعك”، بالطبع القائمة طويلة وليس انتهاءً بعلي عقلة عرسان الذي تربّع في اتحاد الكتاب العرب أكثر من ربع قرن بالتمام والكمال.
من نافل القول هنا أن اتحاد الكتاب العرب هو نفسه من منح القذافي درع الاتحاد بصفته “أديبًا ومفكرًا عظيمًا”، المدهش أكثر أن للقذافي جائزته للأدب أيضًا التي كان يُغدِق بها على كل متملق وكل واعظ سلطان، لذلك كانت جائزته من نصيب المتنبي جابر عصفور، قبل أن يردّها بعد سقوط القذافي، والعجيب بعصفور أنه قام برد الجائزة، من دون رد المبلغ المالي الذي استلمه عدًا ونقدًا، بخلاف كل من الكاتب الإسباني الشهير “خوان غويتسولوا” الذي رفض هذه الجائزة أصلًا، معللًا ذلك بأنه “يرفضها انسجامًا مع قناعاته ومواقفه المناصرة لقضايا العدل والمناهضة للاستبداد، وهو ما فعله أيضًا الكاتب الأفريقي “برايتن بريتنباخ” الذي رفض بدوره هذه الجائزة، لكن من دون توضيح الأسباب.
تهمة التخلف والبديل الديني والإرهاب لعب عليها مثقفو السلطة السورية وجهابذتها المتعلمون طوال سنوات الأزمة، والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا فعل هؤلاء لانتشال المجتمع السوري من حالة التخلف التي يتحدثون عنها؟ سوى أنهم كانوا وما يزالون الأدوات التي ساهمت في عملية التجهيل، ما الذي قاموا به بوصفهم المحرك الأساس في عملية التغيير؟ سوى أنهم خذلوا هذا الشعب وتركوه من دون ظهر ثقافي يحميه، ما الذي فعلوه حيال ما قامت به السلطة من تبعيث المجتمع وتخريبه، من خلال سياسة التسلط والإخضاع والتبخيس التي تعرض لها؟ لم يسقط مبارك إلا بعد أن سحب المثقفون المصريون الثقة منه في الشارع، لم يتبق عندها من يدافع عنه سوى شيوخ الدجل ورجال الأعمال وبعض عوام الشعب.
يقول علي الوردي إن “هناك صراعًا فكريًا على طول التاريخ، بين من يدعو لتبني ثقافة جديدة وينفتح على الآخر، وبين من يدعو للتمسك بثقافته وتراثه وينغلق على ذاته، وهذا الصراع الفكري والثقافي لا ينتهي أبدًا، وبالتالي فإن المجتمع الذي تسوده قوى المحافظين يتعفّن كالماء الراكد، أما المجتمع الذي تسوده قوى المجددين فيتمرد كالطوفان ويجتاز الحدود والسدود ويهلك الحرث والنسل، والمجتمع الصالح ذلك الذي يتحرك بهدوء فلا يتعفن ولا يطغى”(33).
فكيف إذا تعفّنت في الدولة الثقافة والتعليم والنقابات المهنية والجيش والقضاء مجتمعين؟ في بلاد الموز الجميع في خدمة السلطة حتى القضاء، كان الرئيس وما يزال بحسب روايات إعلامها ومسؤوليها، أكبر من سورية، نائل محفوض رئيس محكمة النقض وعميد المعهد القضائي، رأى أن الـ(نعم) لانتخاب الرئيس، إنما هي بحجم الأمة بكاملها، كيف لا فالسيد الرئيس تجاوز كونه رئيسًا لسورية ليصبح زعيمًا للأمة العربية، لذلك فإن الشعب السوري يختاره أصالةً عن نفسه ونيابةً عن الأمة العربية بصفته روح المقاومة العربية والجماهير في كل مكان، وفقًا لأنس الزين، نائب رئيس محكمة النقض ومدير إدارة التشريع بوزارة العدل.
أي مهمة وأي رسالة تلك التي يحملها المثقف السوري؟ ثم أي دور وطني يقوم به؟ وللإجابة عن ذلك يمكننا القول إن مثقف السلطة يحشر أنفه في كل شيء، بالمقابل يصمت عن كل شيء، فمثلما سكت عن الحلول الأمنية التي لجأت إليها السلطة بمواجهة المطالب الشعبية، ومثلما سكت عن صفقات المحسوبية والفساد التي أكلت جهاز الدولة، أو عن التمييز المطبق في المؤسسة العسكرية، أو في معرض قيام السلطة بخرق نصوص الدستور، أو عند قيامها بالاعتقال خارج نطاق القانون، أو اختفاء كاتب أو مثقف أو معتقل، أو تسريح موظف عام لمجرد ميوله السياسية، ها هو يسكت أيضًا اليوم حيال ما يشهده الوطن من نزف يومي.
الخاتمة:
كان سارتر يقول: “طالما أنا عائش في الحرب العالمية الثانية فأنا مسؤول عن إشعالها”، كان هؤلاء المثقفون ومعهم بعض المثقفين العرب يأتون الى دمشق مصفقين، وخيرة مثقفيها إما مطاردون أو معتقلون، لم يكونوا شهودًا على هذا الخراب فحسب، وإنما كانوا شركاء في عملية التهديم، لذا “حان الوقت لتفحص سجلاتهم العامة والخاصة”، كما يقول بول جونسون، من أجل محاكمتهم على مواقفهم وتخاذلهم قبل أن نحاكم الجندي الهارب من المعركة، لا بل “يجب مطالبتهم بالإفصاح عن حقيقة أفكارهم” كما يقول بول نزان، وعليه لن نصفح عنهم، كتب الشاعر الفرنسي أراجون: “إن الإنسانية لو واصلت الاعتذار لمدة خمسين ألف سنة للنساءِ على ما اقترفَه الرجال في حقهن، لما كان ذلك كافيًا”، كذلك هو الحال بالنسبة إلى بعض المثقفين السوريين والعرب الذين اقترفوا جرائمهم بحق الشعب السوري، بحاجة إلى مواصلة الاعتذار عما بدر منهم تجاه هذا الشعب ألف ألف عام وبكل تأكيد لن يشفع لهم.
لقد أثبتت تجارب المجتمعات المتقدمة، أن الثقافة هي أساس هوية الشعوب ومكون خصوصيتها الحضارية، والمثقف هو محور عملية التغيير، لذلك فإن نقل مجتمع من مرحلة إلى أخرى لا يكون من دون القطيعة مع ثقافة وذهنيات مراحل سابقة، سياسية كانت أم دينية على حدٍ سواء، لذا لا بد للسوريين كلهم من إعمال القطيعة مع الثقافة البعثية والدينية المستبدة السائدة، وإلا سنبقى غارقين في الطوفان، لقد جرّب السوريون المَلَكية، هَربَ الملك وبقي الشعب والأرض، جربوا الوحدة تحولت البلاد خلالها إلى محافظة مصرية غابت معها الحريات وظهر الظلم والفساد، جربوا الاشتراكية فكان القضاء على أي فرصة للتنمية والتطور، جربوا العسكر قادوهم إلى الاستبداد والمحسوبية والفساد، فكان ضياع الشعب والأوطان وكان هذا الهولوكوست الدامي، فلماذا لا يجربون القطع مع الماضي وإعمال مبدأ تداول السلطة وتطبيق سيادة القانون؟.
المراجع:
(1) الفيصل، قراءة في «مفهوم الثقافة والمثقفين، سليمان الضحيان، نوفمبر 1, 2018.
(2) جان بول سارتر، دفاع عن المثقفين، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت: دار الآداب، 1973، ص 58، 59.
(3) أحمد بابانا العلوي، صحيفة المثقف العدد: 5112 ـ 03، 09، 2020م.
(4) إضاءات، المثقف والسياسي، عزمي بشارة نموذجا محمود إبراهيم، 22/02/2015.
(5) بنسالم حميش “عن المثقفين وتحولات الهيجمونيا” في دور المثقف في التحولات التاريخية ص47.
(6) كمال الذيب، صحيفة الأيام، العدد 10802، 5 نوفمبر 2018.
(7) تبين للدراسات الفكرية والثقافية، العدد 31، المجلد الثامن، شتاء 2020، أحمد مفلح، دلالات مفهوم المثقف: قراءة في كتاب دور المثقف في التحولات التاريخية، ص39.
(8) زكي نجيب محمود، مجتمع جديد أو الكارثة ط3، بيروت /القاهرة، دار الشروق، 1989، ص326.
(9) علي شريعتي، مسؤولية المثقف، ط1، مكتبة المعرفة، بغداد، العراق، 2013، ص126.
(10) محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000، ص25.
(11) إدوارد سعيد، خيانة المثقفين، النصوص الأخيرة، ص297.
(12) هامش كتاب محمد أركون، الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، ص27.
(13) د. علي الوردي خوارق اللاشعور، ط2، مكتبة دجلة والفرات، بيروت، لبنان، 2010، ص46.
(14) صورة المثقف عند علي الوردي د. رائد جبار كاظم 12/6/2017
(15) علي شريعتي، مسؤولية المثقف، ط1، مكتبة المعرفة بغداد، العراق 2013، ص51ـ 52.
(16) معهد تطوير الذات، المعنى الحقيقي للشخص المثقف.
(17) د. علي الوردي، خوارق اللاشعور، ص 58.
(18) إدوارد سعيد، صور المثقف، ترجمة، غسان غصن، النهار للنشر، ش م.ل، بيروت، 1996، ص37، 38.
(19) محمد عابد الجابري، مفهوم الثقافة، وقاموس الخطاب العربي المعاصر 11/12/2007 مركز دمشق للدراسات النظرية وحقوق الإنسان.
(20) النهار 5/11/2018، كمال ديب، عندما سألني إدوارد سعيد: هل أنت مثقف؟.
(21) الفيصل، المثقف بين التنميط والتجديد، نجيب الخنيزي، سبتمبر 1، 2019
(22) جيرار ليكليرك، سوسيولوجيا المثقفين، ترجمة جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2008، ص9.
(23) الفيصل، حول إشكالية المثقف والسلطة، تركي الحمد، يناير 1, 2019
(24) معهد تطوير الذات، المعنى الحقيقي للشخص المثقف.
(25) هشام شرابي، أزمة المثقفين العرب: نصوص مختارة، بيروت: دار نلسن، 2002، ص14
(26) رولان بارت: نقد وحقيقة، ترجمة منذر عياشي، مركز الانماء الحضاري، دون مكان النشر، 1994، ص60.
(27) عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ط 5 بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي،200، الفصل الرابع، الماركسية ومثقف العالم الثالث.
(28) هشام شرابي، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، بيروت: الأهلية للنشر والتوزيع، 1972، ص55
(29) هبة رؤوف عزت، نحو عمران جديد، ط1، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث، 2015، ص114،115
(30) عربي21، 32 أغسطس 2020.
(31) د. أحمد البرقاوي، مستقبل الشرق للدراسات والبحوث،26 يناير، 2016
(32) سعد القرش، مثقفو مبارك ومصائرهم، فصل من كتاب الثورة الآن، القدس العربي 3، أبريل 2012
(33) د. علي الوردي مهزلة العقل البشري ط2، دار ومكتبة دجلة والفرات، بيروت، لبنان، ص149.