عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة، عبر البث المباشر، الثلاثاء 29 أيلول/ سبتمبر 2020، محاضرة بعنوان: “التطبيع… الحل الإسرائيلي لأزمات الأنظمة العربية“، قدّمها د. عبد الوهاب الأفندي، رئيس معهد الدوحة للدراسات العليا، وشارك فيها د. أمل غزال، ود. نواف التميمي، وأدارتها آمال عراب المذيعة ومقدمة البرامج في (التلفزيون العربي).
سلطت الندوة الضوء على الجانب التاريخي للقضية الفلسطينية في ذاكرة الشعوب العربية، وأسباب عدم تنازل هذه الشعوب عن القضية، بالرغم مما عانته من ظلم واستبداد وقمع لسنوات طويلة، وبالرغم من محاولات “إسرائيل” المستمرة لطمس الهوية والثقافة العربية للفلسطينيين.
تأتي هذه المحاضرة في وقت تسعى فيه بعض الأنظمة العربية إلى التطبيع مع “إسرائيل”، حيث تظهر المصالح والتقاطعات المشتركة، بين هذه الأنظمة و” إسرائيل”، من خلال تخوفهم من ثورات الربيع العربي، وسعيهم لدعم الثورات المضادة.
وفي البداية، استعرض عبد الوهاب الأفندي أبرز المحطات التاريخية التي شكلت مركزية القضية الفلسطينية، بالنسبة إلى الأنظمة والشعوب العربية على حد سواء، ثم استنكر موقف الدول العربية التي قامت حديثًا بالتطبيع مع “إسرائيل”، كونها ليست من الدول التي تعيش حالة حرب مع الكيان الصهيوني، ولا تمتلك حدودًا برية أ بحرية معه، علاوة على أن هذا التطبيع لن يعود عليها بأي فائدة، ورأى أن موجة التطبيع هذه تستدعي التوقف كثيرًا عند أسبابها، لمعرفة الأسباب التي تدعو هذه الدول إلى أن ترى أن حلول أزماتها السياسية في التعاون مع “إسرائيل”، وأرجع أسباب السعي وراء هذا التطبيع، إلى حادثتين أدتا إلى هذا الوضع: الأولى هي غزو العراق للكويت عام 1990 التي دفعت الأنظمة العربية الهشة إلى طلب المساعدة من أميركا لحل هذه الأزمة، بالرغم من أنها كانت تتجنب قبل هذه الحادثة طلب الحماية من الغرب ومن أميركا خصوصًا؛ والحادثة أو المشكلة الثانية تمثلت بانسحابها من الساحة في قمة كامب ديفيد عام 2000، التي عُقدت من أجل التوصل إلى حلّ سلمي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
وأشار الأفندي إلى أن ثورات الربيع العربي شكلت صدمة كبيرة وغير متوقعة للأنظمة العربية، ولم يكن يتخيل أحد منها أن تثور الشعوب بهذه الطريقة، بسبب القمع وعمليات الأدلجة وغسيل الدماغ التي كانت تُمارس على الشعوب العربية، لكنهم اكتشفوا أنهم فشلوا في تدجين الشعوب التي كانت تعي حقوقها جيدًا، وفشلوا أيضًا في ضربهم ببعضهم البعض، عن طريق بث الطائفية والتفرقة العرقية. وأضاف الأفندي: “كان وقوف أميركا، بقيادة الرئيس باراك أوباما، مع ثورات الربيع العربي في بدايتها، صدمةً كبيرةً للأنظمة العربية، واعتبرت بعض الدول (التي تظاهرت بدعم الربيع العربي في البداية) أن هذا الموقف الأميركي بمنزلة خيانة، وكانوا ينتظرون أن تتدخل أميركا وتوقف مد الربيع العربي في مصر وتونس، قبل أن ينتشر إلى بقية الدول، وهنا وجدت الأنظمة العربية نفسها أمام مشكلتين: الشعوب التي ثارت، وأميركا التي انحازت إلى مطالب المتظاهرين. ومن هنا بدأت تولد فكرة التطبيع مع إسرائيل، على أنها الحلّ، لأن إسرائيل في ذاك الوقت كانت متخوفة من هذه الثورات مثل هذه الأنظمة وأكثر، لأن التوجه الغريزي لهذه الشعوب العربية هو دعم القضية الفلسطينية، وبالتالي يجب إيقاف هذه الموجات الديمقراطية، ومنع الشعوب من التحرر من أنظمتها”.
وحول إمكانية نجاح هذا التطبيع أو التحالف الجديد في قمع ما تبقى من إرادة الشعوب، واستمرار الاستراتيجية المتبعة في المنطقة، كحصار دولة قطر وغيرها من المشاريع، رأى أن هذا التطبيع خلق فرزًا أو فهمًا جديدًا قد يكون مفيدًا، وهو أن “إسرائيل” أصبحت هي من تدعم الدكتاتوريات، ولكي تُحارب الدكتاتوريات، “لا بدّ من محاربة إسرائيل”، وهذا عكس الاستراتيجية السابقة القائمة على أن “محاربة الدكتاتوريات ستفتح الطريق أمام محاربة إسرائيل”. واستبعد الأفندي أن يحقق هذا التحالف الجديد الأهداف المرجوة منه؛ لأن “إسرائيل” ستخلق إشكالات كبيرة، فهي غير متحمسة كثيرًا لهذا التحالف، كما يعتقد حكام الدول المطبعة مع “إسرائيل”، وساق الأفندي العديد من الأمثلة التي تشير إلى ذلك، منها حادثة اختطاف السعودية لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، كي تخلق أزمة سياسية في لبنان، وتساعد “إسرائيل” في انتهاز الفرصة وضرب “حزب الله”، لكن “إسرائيل” رفضت تلك الخدمة السعودية في ذلك الوقت. وتابع قائلًا: “لو أن إيران مثلًا قررت غزو مملكة البحرين أو الإمارات العربية المتحدة، فإن إسرائيل لن ترسل طائراتها وجنودها من أجل الدفاع عنهما، وعندما حاولت أبو ظبي إيجاد مبرر للتطبيع مع إسرائيل، بأن هذا الاتفاق أوقف ضمّ المستوطنات؛ صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن نظامه لن يوقف ضم المستوطنات، بمعنى أنه رفض منحها أي مسوغ أو عذر لإقدامها على التطبيع، وأعتقد أن إسرائيل ليست على استعداد للتضحية بجندي واحد، لمساعدة هذه الأنظمة”.
بدوره تحدث نواف التميمي، عن أسباب وسياقات حملات تشويه حقوق الفلسطينيين التاريخية، التي سبقت عملية التطبيع، وتصوير القضية الفلسطينية على أنها العبء الذي أثقل كاهل الأنظمة المطبّعة وشعوبها، وذكر التميمي أنه لمعرفة أسباب ذلك، لا بد لنا من معرفة ما يجري في كواليس ما يظهر على مسرح العبث واللامعقول الذي يحدث الآن في العالم العربي، منبّهًا إلى أن كل المعطيات التي سرّبها الجانب الإسرائيلي تفيد بأن هذا التطبيع ليس وليد اللحظة، وإنما هو نتاج سنوات طويلة من الاتصالات السرية، بين هذه الأنظمة وتل أبيب، وأن هذه الأنظمة المطبّعة تدرك منذ البداية أنها تسير في اتجاه التطبيع مع “إسرائيل”.
من ناحية أخرى، رأى التميمي أن هذه الأنظمة التي وقفت ضد إرادة الشعوب العربية، في أثناء الربيع العربي، وجدت أنها فقدت الميدان السياسي والإعلامي، ودفعها ذلك، منذ عام 2011 حتى الآن، إلى اتخاذ العديد من الإجراءات التقليدية، وأولها كان سنّ تشريعات جديدة ضمن ما يسمى بـ “الجرائم الإلكترونية”، من أجل فرض مزيد من القيود على الحريات، ولجأت هذه الأنظمة أيضًا إلى الوسائل التقنية، كقطع الإنترنت وحجب بعض المواقع ومنصات التواصل الاجتماعي، أما الإجراء الأهم، فهو العمل على تمييع المجال العام للإعلام، عن طريق افتتاح مئات القنوات الفضائية التي لا تقدّم محتوًى جيدًا، وإغراق المحتوى الإعلامي بنوعية من البرامج التي تُبعد المشاهد عن قضاياه وهمومه الأساسية.
وفي السياق ذاته، أشار إلى أن أخطر ما حدث هو عملية التزوير التي حدثت في المجال الإلكتروني، من خلال استخدام ما يسمى بالجيوش الإلكترونية أو الذباب الإلكتروني، الذي يروج لخطاب التطبيع، بطريقة تجعل المتلقي متقبلًا له، وتقنعه بعدم وجود أي مشكلة مع “إسرائيل”، كي يبدو أن هذا الخطاب التطبيعي هو الرأي العام السائد، ويجعل أصحاب الرأي الآخر يشعرون وكأنهم يشذون عن المجال العام، وبذلك يلجؤون إلى الصمت خوفًا من مواجهة الأغلبية من أصحاب الرأي الآخر.
وضمن إطار سعي الأنظمة العربية المطبّعة للسيطرة على المجال العام إعلاميًا وإلكترونيًا، تحدث عن ظاهرة انتشار المؤثرين (Influencers) الذين حلوا مكان قادة الرأي العام من المثقفين والصحفيين والنقابيين وغيرهم، وتسبب ذلك بما يمكن تسميته بتجريف الرأي العام، من أجل الوصول إلى المجال العام اللاديمقراطي أو الديمقراطية الوهمية، ودلل التميمي على ذلك بالإشارة إلى أن تحليل المشهد الاحتفالي للتطبيع حاليًا، والتخلي عن مركزية القضية الفلسطينية، وبيع الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، يظهر أن من يسيطر على المجال العام العربي هي الفئة التي تبارك وتحتفي بالتطبيع، وهي الفئة المسموح لها بالظهور إعلاميًا وعلى شبكة الإنترنت، وبالمقابل هناك الفئة المقموعة غير القادرة على التعبير، بسبب سيطرة الفئة الأولى على المنابر الإعلامية.
بدروها، تحدثت أمل غزال عن مدى نجاح “إسرائيل” والأنظمة العربية المطبّعة، في اختراق مؤسسات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، من أجل صناعة وعي معين يتناسب مع أجندتها، وإلى أي حد نجحت المنظومة ذاتها في اختراق الشارع العربي والجاليات العربية وإسكاته نهائيًا، وأشارت غزال إلى أنّ القضية الفلسطينية في الخارج أصبحت قضية إسلامية أكثر منها قضية عربية في المقام الأول، وهذا أحدث شرخًا في العلاقة بين الجاليات العربية والجالية الفلسطينية، وطرح إشكالية جديدة تتمثل بعدم قدرة الجالية العربية على معرفة أين هي من قضيةٍ أصبحت مرتبطة -في أذهان الآخرين- بجالية أوسع وأشمل من الجالية الفلسطينية. وربطت غزال صمت الجاليات العربية في الخارج بالصمت الذي يسود الشارع العربي في المنطقة العربية، وغياب القيادة الفلسطينية في الداخل والخارج، إضافة إلى تفاعل جيل الشباب في الخارج مع القضية الفلسطينية بطريقة مختلفة، وتحول اهتمام معظم الجاليات العربية، خاصة خلال السنوات العشرة الأخيرة التي شهدت موجات لجوء كثيرة، إلى الجانب المعيشي.
من جانبه، رأى التميمي أن الشعوب العربية لا تزال تعدّ القضية الفلسطينية قضيتَها المركزية، بالرغم من كل التحولات التي أصابت مسار القضية، وشدد على أن التطبيع أفقد الأنظمة العربية المطبّعة ورقةً تلاعبت بها، على مدار السنوات الماضية، وهي ورقة التوزان الاستراتيجي والصراع مع العدو الإسرائيلي، التي استخدمتها ذرائع من أجل تأجيل مشاريع التنمية والتطور، مؤكدًا في الختام أن الدافع الحقيقي وراء سعي هذه الأنظمة للتطبيع هو أزمة الشرعية، وعدم شعورها بالاطمئنان إلى وجود أي شرعية دينية أو قبلية أو ديمقراطية تتكأ عليها من أجل استمرارها.
في الجزء من الأخير من الندوة، أجاب المشاركون عن أسئلة الحضور التي وردت على صفحة مركز حرمون، في (فيسبوك)، وردّ الأفندي على سؤال، حول أسباب اتجاه دول كالإمارات والبحرين إلى التطبيع، بالقول إنّ ذلك نتيجة طبيعية للوضع العربي الهزيل وتراكم الهزائم منذ أكثر من 40 عامًا، مبينًا أن هذه الأسباب غير منطقية، لأن هذه الدول لا يوجد لديها مشكلات مع “إسرائيل” في الأساس، بل مشكلاتها مع شعوبها. وأجابت غزال عن سؤال، حول دور اليسار في العالم العربي، بعد أن كان مستقطبًا جيدًا لكل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وإلى أي حد يمكن التعويل عليه مثل السابق، وقالت: إن دور اليسار انحسر حاليًا، ولم يعد له أي تأثير، نتيجة حالة التمييع التي طرأت عليه حديثًا، مشيرة إلى الدور الفعّال لليسار في العالم الغربي، حيث يشكّل العرب جزءًا فاعلًا فيه، خاصة في مجال إعادة إحياء القضية الفلسطينية، فيما أجاب التميمي عن سؤال حول مسار عمليات التطبيع مستقبلًا، وكيف يمكن فصل ما تريده الشعوب عما ستذهب إليه الأنظمة، وقال: إن المسألة تتعلق في جوهرها بفشل القيادة الفلسطينية في التعاطي مع هذه القضية منذ سنوات، واحتكار القضية الفلسطينية تحت شعار استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، حيث أسهم ذلك في إيقاف امتداد القضية الفلسطينية بين الشعوب العربية.