ضيف (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) اليوم، هو الدكتور زيدون الزعبي، من مواليد 1974 في درعا. ناشط في المجالين المدني والإنساني، منذ بداية الحراك الشعبي السلمي في آذار/ مارس 2011، وتعرّض للاعتقال في سجون نظام بشار الأسد، في كانون الأوّل/ ديسمبر 2012. وهو حاصل على شهادة دكتوراه في الإدارة في سورية، ودرس دراسات عليا في ألمانيا.
عمل سابقًا أستاذًا جامعيًا في سورية، وكان الرئيس السابق لاتّحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية (UOSSM).
يؤكّد ضيفنا، وهو يتولى حاليًا مهمّة مُيسّر لدى مكتب المبعوث الدولي الخاصّ حول سورية، في حوارنا معه، أنّ استقلال المجتمع المدني، عن الأطراف السياسية الداخلية والخارجية، شرطٌ رئيس لتشكيل فعل مدني بُعده الأساسي المجتمع واحتياجاته وتطلّعاته، وأن لن يكون هناك مجتمع مدني، بالمعنى الحقيقي للكلمة، ما لم يكن هناك استقلال له. كما يؤكد أنّ تناقص الدعم الدولي كان أحد عوامل تقسيم المجتمع المدني؛ لأنّ جزءًا مهمًا من المجتمع المدني ارتبط بأجندات الدول وتحوّل إلى أداة لها، بدلًا من أن يكون أداة مجتمعية. ورأى أنّنا -السوريين- بحاجة، في الأيام المقبلة، إلى نظام حكم شبه رئاسي، بصلاحيات واسعة لبرلمان من غرفتين: إحداهما تكون ممثّلة للمناطق والمكوّنات، والثانية للشعب.
هنا نص الحوار
بداية أسألك، ألم تُخفق الثورة في تحقيق أهدافها؟ ألم “ينتصر” نظام الأسد؟
حكمًا، الثورة ضيّعت طريقها منذ اللحظة الأولى التي سوّغ السياسيون فيها حمل السلاح للناس. لا يمكن لوم الناس على حمل السلاح، في ظل الظلم والوحشية التي واجهت التظاهرات السلمية، ولكن اللوم كل اللوم على من قال “نريد سلاحًا، نريد سلاحًا، نريد سلاحًا”، من سياسيين بعيدين كل البعد عن السياسة.
الثورة فعل هدم وبناء وتغيير، فعل الهدم تحقّق وما زال يتحقّق، من دون أن نرى فعل بناء حقيقي حتى اللحظة. لا يعني هذا فقدان الأمل على الإطلاق، فالثورة الفرنسية تحوّلت إلى حرب أهلية، ومضت في سنوات الرعب عقودًا طويلة قبل أن تبدأ في البناء. ما دام البناء لم يبدأ بشكل حقيقي، فهنالك خشية من أن تخسر الثورة. فعل البناء يبدأ بالسياسة ويمرّ عبرها وينتهي بها في كل المناطق من دون استثناء. فعل البناء لا يكون في ما يُسمّى بـ “المناطق المحررة”، ولا هو مقتصر على جغرافيا بعينها دون أخرى. “حظنا العاطل” أنّنا لم نرَ حتى الآن سياسيين بالمعنى الحقيقي، فأغلبية من يتصدر مشهد المعارضة هم من الهواة الذين يهوون بنا نحو درك لم ندرك قاعه حتى الآن.
قبل أن تظهر طبقة سياسية قادرة على البناء لن تنتصر الثورة.
أرجو أن تحدّثنا عن تصورك لمفهوم “المجتمع المدني” وأدواره في المجتمع السوري؟ وهل هو قادر في ظل الصراع القائم على القيام بدوره الإيجابي في خدمة المدنيين السوريين في كامل الجغرافيا السورية الممزقة؟
ليس في سورية مجتمع مدني واحد، هنالك مجتمعات مدنية منقسمة بفعل الحرب. على الأقل، نتحدّث عن أربعة أو خمسة مجتمعات مدنية، واحد منها في مناطق سيطرة النظام، وآخر في مناطق سيطرة المعارضة، وثالث في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، ورابع في المهجر، وخامس ربّما يكون نواة حقيقية لمجتمع مدني يسعى للحفاظ على وحدة البلاد، ويرى نفسه في خدمة المجتمع السوري في كل جغرافياته.
تضع هذه المجتمعات المدنية نفسها في مواجهة بعضها البعض، ليصف كل مجتمع مدني مقابله بالإرهاب والتشبيح والانفصال. لا أحد يرغمها على تموضعها هذا، إنما هي التي وضعت نفسها في خدمة الحرب، عندما قرّرت أن تكون جزءًا أو مرآة مدنية لهذا الطرف أو ذاك. لا يعني هذا أنّ المجتمع المدني لا يقدّم خدمات عظيمة للمجتمع الذي وضع نفسه في خدمته، فهو يقدّم الدواء والتعليم، وينقذ الأرواح، لكنه في الأغلب جعل نفسه أداة في يد السلطة أو المانح، والأسوأ أنّه جعل نفسه أداة بيد الصراع، ومنعكسًا له، ومظهرًا من مظاهره، بدلًا من أن يكون أداة بناء مجتمعي تحافظ على وحدة المجتمع ووحدة البلاد.
المجتمع المدني واحد من أهم نتائج انتفاضة آذار/ مارس 2011، لكنّه لن يستطيع قيادة، أو المساهمة في قيادة، عملية التغيير ما لم يخرج عن السرديات التقليدية التي وضع نفسه أسيرًا لها، وضع نفسه ولم يضعه أحد.
بأيّ صيغة يمكننا الحديث عن (حيادية عمل المجتمع المدني)، وأنّه (أي المجتمع المدني) ليس طرفًا في الصراع المسلح الداخلي متعدّد الجوانب والأطراف، في سورية المقسمة حاليًا إلى مناطق خاضعة لسيطرة نظام الأسد، ومناطق الإدارة الذاتية الكردية، ومناطق شمال غرب سورية الخاضعة لنفوذ فصائل المعارضة المسلحة، إضافة إلى وجود احتلالات عسكرية متعدّدة تدعمها ميليشيات من المرتزقة؟
بداية، هناك لبس دائم حول مصطلح الحيادية واختلاطه بعدم الانحياز. أولًا، الحيادية تعني عدم التدخل بالسياسة، وهذه تخص المنظمات الإنسانية فقط، ولا يمكن لمؤسّسات المناصرة أن تكون حيادية وغير معنية بالسياسة، وهي جوهر هدفها ومجال عملها الأساسي، فكيف يبتعد عن السياسة من يعمل في حقوق الإنسان وفي توثيق الانتهاكات وحقوق النساء والطفل؟ إنما هذا “المجتمع” معني بالمجتمع، وليس طرفًا سياسيًا حكمًا، أي إنّ المجتمع المدني يوثق الانتهاك من أيّ مصدر كان، ويدافع عن حقوق الإنسان أيًّا كان انتماء هذا الإنسان، عرقيًا أو طائفيًا أو جهويًا، وهذا جوهر عدم الانحياز. هو يسمّي المُرتكب، ويحاول محاكمته، ويسعى لتجريمه، أيًّا كان هذا المُرتكب.
مع الأسف، أصبح المجتمع المدني بأغلبيته، وليس بكليته، منحازًا لهذا الطرف أو ذاك، فهو يشجب هذا المُرتكب، ويغض الطرف عن ذاك، ويهاجم انتهاكات هذا الطرف ويصفق لانتهاكات ذاك، هذا ليس مجتمعًا مدنيًا، هذه فصائلية في شكل مجتمع مدني. لا يعني هذا عدم وجود منظمات عديدة تقدّم عملًا مهنيًا ووطنيًا رائعًا، لكنّي أتحدّث عن الحالة العامّة فقط. زد على ذلك، عدم قدرة المجتمع المدني على تحدي سياسات المانح في أغلب الأحيان، ليصبح مرة أخرى تكريسًا لسياساتها هي الأخرى.
ما لم يستقل المجتمع المدني عن الأطراف السياسية الداخلية والخارجية ليشكّل فعلًا مدنيًا بُعدُه الأساسي المجتمع واحتياجاته وتطلّعاته، لن يكون هناك مجتمع مدني بالمعنى الحقيقي للكلمة.
من منظورك، ما التوقّعات المنتظرة من “غرفة المجتمع المدني السوري” في مسار العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتّحدة في مدينة جنيف؟ وقبل ذلك، ما دور هذه “الغرفة”، ومساهمتها الفعلية في إنضاج الحوار بين الفرقاء السياسيين السوريين للوصول إلى حل سياسي توافقي يجنب البلاد مزيدًا من الويلات؟
“غرفة المجتمع المدني” واحدة من المسار الثاني في العملية السياسية، وليست المسار الثاني الوحيد، على أهميتها أوّلًا، وليست معنية بإنضاج حوار بين الفرقاء السياسيين ثانيًا. هي واحدة من الفضاءات التي تتيح الحوار بين “المجتمعات المدنية المتخاصمة”. أهميتها هي الإطار الأممي الذي تنعقد به، والذي يتيح مشاركة جميع هذه المجتمعات المدنية في محاولة الوصول إلى حوار بناء. لكنّ افتقاد هذه الغرفة إلى آلية حوكمة تتيح لها شيئًا من الاستقلالية، وتحكّم مكتب المبعوث الخاصّ بأجندتها وتآريخ انعقادها، وعدم قدرة السوريين على إنتاج آلية حوكمة تساعد في تشكيلها كمسار حقيقي، يجعلها عاجزة حتى الآن عن تقديم فعل حقيقي ومؤثر.
بتقديرك، ما مدى قدرة “اللجنة الدستورية” المشكّلة بموجب القرار الأممي 2254، على التوصل إلى نهاية شاملة وعادلة للقضية السورية، وما السيناريوهات المتوقّعة لعملها، وكيف يجب التعامل معها من قبل منظمات المجتمع المدني؟
لا يوجد نهاية شاملة وعادلة للقضية السورية إلّا بعد سنوات طويلة، إن لم يكن بعد عقود، بلجنة دستورية وبدونها. فلنخفض سقف توقّعاتنا من اللجنة، على أهميتها الكبرى. هي جزء مهم من المسار السياسي الذي يتضمن سلالًا أخرى لا يمكن تجاوزها كي نسير في الحل السياسي بالمعنى الحقيقي. أما سيناريوهاتها، فهي عديدة. أفضل هذه السيناريوهات هو أن تتحوّل “اللجنة الدستورية” إلى هيئة تأسيسية بالمعنى الحقيقي، لتصبح هيئة تشريعية مستقلّة، وسيدة نفسها، ولا سيادة عليها من قبل السلطة أو المعارضة أو المبعوث الخاصّ. عند ذلك قد تكون هذه اللجنة شكلًا من أشكال جسم الحكم الانتقالي المنشود. بالطبع، لن يتحقّق هذا من دون قرار من الدول المؤثرة، وهي، بشكل أساسي، الولايات المتّحدة ومجموعة دول أستانة. فإذا قرّرت هذه الأطراف أن تدفع بالحل السياسي إلى الأمام، فسيكون لهذه “اللجنة” شأن مهام في العملية السياسية والتحوّل من الحرب إلى التفاوض الحقيقي.
أمّا السيناريو الأسوأ، فهو أن تبقى هذه “اللجنة” أسيرة اجتماعاتها لتصبح لعبة انتظار أخرى في مأساة السوريين القائمة.
أزعم أن مجموعة دول أستانة والولايات المتّحدة غير قادرة على التنبؤ بمصير هذه “اللجنة”، وهي تنتظر مآلات الأمور.
بالنسبة للمجتمع المدني، فهو معني بدعم هذه “اللجنة” من وجهة نظري، كواحدة من المخارج المحتملة من هذه المأساة، وتحديدًا نحو دعم الكتلة الثالثة، لتتحوّل إلى كتلة التوافق والحل من جهة، ومن جهة أخرى إلى صوت السوريين في عمليتها.
يتعين على المجتمع المدني أن يراقب هذه العملية، وأن يكون صوت الناس فيها وناقلًا لما يدور فيها إلى المجتمع، كشكل من أشكال توعية المجتمع بما يدور حوله. إذًا، دور المجتمع المدني الأساسي في هذه العملية هو أن يكون صلة الوصل بين المجتمع وهذه “اللجنة” أولًا، وأن يكون مراقبًا لعملها وناقدًا له، وداعمًا تقنيًا لحواراتها، ووسادة مجتمعية لحمايتها من التأثيرات الخارجية الكبيرة، ثانيًا.
وصل السوريون اليوم، في كل مناطق سورية الخاضعة لسلطات الأمر الواقع، إلى مرحلة اليأس الكامل من الحياة ومن حكامهم. فما الذي يمكن أن تقدّمه لهم منظمات المجتمع المدني، وبخاصّة أنّ أكثر من 83 % من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، بحسب ما ذكرت الأمم المتّحدة العام الماضي؟
أهم ما يمكن أن يقدّمه “المجتمع المدني” هو أن يتحوّل من مجتمعات مدنية منقسمة ومتخاصمة إلى مجتمع مدني واحد برؤى مختلفة، مجتمع مدني بأجزاء متباينة ومختلفة، لكنّها لا تخون بعضها البعض، ولا تعمل لشيطنة أجزائه المتباينة. من ناحية ثانية، يجب أن يقتنع المجتمع المدني بأنّه ليس الدولة، وأنه ليس معنيًا بالقيام بدورها إلّا بشكل طارئ، وهذا يجعل مهمته هي إعادة بناء الدولة، وليس أن يحلّ محلّها. على أهمية ما يقوم به من دعم إنساني عظيم، يبقى دوره “السياسي” في الحفاظ على وحدة المجتمع هو الأساس.
من خلال تجربتك، هل يمكن إيجاد أرضية مشتركة بين قوى الثورة وأطياف المعارضة والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، للعمل لما فيه الخلاص الجدّي للشعب السوري من أزماته المتعدّدة، وبخاصّة الاقتصادية، كانخفاض مستوى المعيشة، والغلاء والبطالة وتوقف التنمية؟
بالطبع، يمكن ذلك في حال تواضع الأطراف التي ذكرتها وفهمت أدوارها وابتعدت عن حالة الشكّ. لكن انظر هنا، السؤال نفسه يشي بأنّنا نتحدّث عن مجتمع مدني موجود في أراضي المعارضة فقط، وهذا غير صحيح، بل هو مدمّر لفكرة المجتمع المدني. المجتمع المدني الفاعل منحاز للمجتمع وليس لهذا الطرف السياسي أو سواه، توقف عجلة التنمية وانخفاض مستوى المعيشة والغلاء ليست أمراضًا يعاني منها جزء واحد من المجتمع، بل هي أمراض تهدم كيان المجتمع في كل المناطق، فلماذا نفترض أنّ المجتمع المدني غير معني بالجوع القائم في الجغرافيات السورية كلها؟ هل هنالك سوريون في مناطق أكثر سوريّة من سوريين في مناطق أخرى؟
كان في سورية قبل عام 2011، (14) طبيبًا لكل (10) آلاف نسمة. أمّا اليوم فيوجد طبيبان لكل (10) آلاف. هذه الأرقام مفزعة، والبلاد تواجه أخطار تفشي وباء كورونا (كوفيد-19)، وهو ينذر بخروجه عن السيطرة. ما الذي في جعبة منظمات المجتمع المدني للتخفيف من أهوال هذه الكارثة؟
يكاد المرء أن ييأس من أيّ مخرج بمجرد ذكر هذه الأرقام، لكنّنا نرى أنّ المجتمع المدني في كل المناطق، وبخاصّة في مناطق المعارضة، قادر على تقديم التوعية وبناء القدرات التي تعوض النقص الحاد في الكوادر الطبية. شكل التعاون بين أطياف المجتمع المدني في المغترب ودول الجوار والداخل حقيقة عظمى، وهو ما يحدّ من هول الكارثة، والتوعية هي أساس ما يمكن للمجتمع المدني أن يقدّمه، وهو يفعل ذلك على الرغم من اضمحلال الموارد.
بصفتك معتقلًا سياسيًا سابقًا وناشطًا مدنيًا، أسألك: ما الذي يمكن أن تقدّمه منظمات المجتمع المدني، من حيث وجودها في الساحة الأوروبية، لقضية المعتقلين والمغيّبين قسرًا، سواء الذين في سجون نظام الأسد، أو من تعتقلهم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرق سورية، أو من هم في معتقلات الفصائل المسلحة في الشمال السوري (إدلب)؟
أهم ما يمكن أن يقدّمه المجتمع المدني هو أن يبعد هذا الملف عن التسييس، على الرغم من صعوبة ذلك. سؤالك نفسه يتضمن الحل. بمجرد أن نفكر بكل من يُعتقل، ومن دون أن ننسى أنّ المُرتكب الأساسي هو السلطة في دمشق، فنحن نقدّم أداة مهمة لهذا المجتمع في تعاطيه مع مأساة المعتقلين.
القيام بالتوثيق بشكل فعال بعيدًا عن “البزنسة”، والمهنية، وعدم الانحياز، والمثابرة والصبر، مفاتيح أساسية لهذه المؤسّسات.
كيف يمكن لمنظمات المجتمع المدني صياغة إستراتيجية لمواجهة تناقض الدعم الدولي للثورة السورية في السنوات الأخيرة، وترك السوريين لمصيرهم المجهول؟
هذا سؤال كبير ومهم جدًا، ولا يمكن أن أجيب عليه ببضعة أسطر، لكن أعود لأقول: إنّ تناقض الدعم الدولي كان أحد عوامل تقسيم المجتمع المدني. ارتبط جزء مهم من المجتمع المدني بأجندات الدول، ليتحوّل إلى أداة لها بدلًا من أن يكون أداة مجتمعية. كيف تواجه هذا التناقض عندما تكون أداة بيده وجزءًا منه؟ الجواب باختصار هو أين بوصلتك؟ يستطيع المرء أن يجد مبررًا أخلاقيًا لكل ما يقوم به، لكن في نهاية الأمر يخضع لمعيار المصلحة المجتمعية، مصلحة المجتمع السوري برمته، وليس مصلحة جزء منه. أوّل خطوة في مواجهة هذا التناقض هو التخلص منه داخل المجتمع المدني.
ليس الكلام نظريًا، وهناك عدد من المبادرات التي تعمل على توحيد المجتمع المدني السوري لمواجهة تناقض الداعمين، غير أنّ هذه المبادرات خجولة، بل هي خائفة، بسبب حالات التنمر التي تخضع لها من هنا وهناك، وبسبب اتّهامها بالعمالة لهذا الطرف أو ذاك.
كيف ستكون مواقع ناشطي المجتمع المدني وأدوارهم في سورية الجديدة؟
لا أحد يستطيع أن يرى المستقبل في سورية ليرى موضعه فيه، ولا أظن أنّ هذا الجيل سيكون جزءًا من مستقبل سورية التي ننشد، لكنّه محرك أساسي لما سيكونه هذا المستقبل، سواء أكان هذا المستقبل براقًا أم معتمًا، لا قدّر الله.
ما يريده الشعب السوري اليوم، بعد عشر سنوات من المقتلة الكبرى، هو محاسبة مُرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من كل أطراف الصراع، وإعادة إعمار ما دمّرته الحرب، وعودة آمنة للمهجّرين، وإخلاء سبيل المعتقلين، والكشف عن مصير المغيّبين، وغير ذلك من رد المظالم. كيف السبيل إلى تحقيق هذا كله في ظل مسار مفاوضات سياسية طويل لم يحقّق حتى الآن أيّ تقدّم يُذكر؟ وما الذي يمكن أن تقوم بعمله قوى المجتمع المدني لأجل ذلك كله؟
هذا ما عنيته عندما قلت: لا يوجد حل سياسي شامل وعادل في سورية، على الأقل في المستقبل القريب، هذا أوّلًا. ثانيًا، لديّ حساسية شخصية ممن يقول “الشعب السوري يريد” عن أيّ شعب نتحدّث؟ هل نعي بالضبط ما يريد؟ هل نعرف ما يريده الشعب في كل مكان؟ هل لهم مطالب واحدة؟ كم منهم مستعد لنسيان كل شيء في سبيل الحد الأدنى من متطلبات الحياة؟ وكم منهم سيقبل بأسوأ الظروف كي لا تضيع الحقوق؟ كل هذا موجود، ولا أحد يستطيع أن يلبي احتياجات الجميع، فكيف نقول الشعب السوري يريد؟
برأيك، إلى أيّ مدى يمكن أن تنجح عقوبات “قيصر” في فرض وتطبيق الحل السياسي في سورية أوّلًا، وما هي مخاوفكم من تأثيرات القانون السلبية على المدنيين السوريين في الداخل؟
ما هو هدف هذه العقوبات؟ هل هي أهداف أميركية أم أهداف سورية، وما هو مجال تقاطع هذه المصالح والأهداف؟ ماذا لو تعارضت أهداف الأميركي مع أهداف المعارضة؟ مثلًا، ما يهم الولايات المتّحدة الأميركية هو أمن “إسرائيل” بالدرجة الأولى، ثم إخراج إيران، ماذا لو قرّرت إيران خروجها من سورية على أن لا تحدث تغيّرات كبيرة في لبنان وسورية، ما هو الموقف الأمريكي؟ طُبقت العقوبات على صدام حسين عام 1991 وتهدم العراق والمجتمع العراقي، فهل نجحت العقوبات في تغيير النظام في العراق أو في أيّ مكان في العالم؟ أدّت العقوبات إلى انهيار العملة، وإلى استبدالها في شمال غرب سورية بالعملة التركية، فهل هذا من مصلحة المعارضة والمجتمع؟ لنفترض أنّ العقوبات تؤثر سلبًا في النظام وفي المجتمع السوري، فمن وجهة نظر المجتمع المدني، هل نستطيع أن نبرّر مرض وعوز وفقر السوريين لأنّ الغاية هي إضعاف النظام؟ هل يمكن تبرير قصف المشافي بحجّة أنّ “الإرهابيين” يتعالجون فيها؟
من يريد أن يعرف موقفي من العقوبات فأدعوه إلى أن يجيب على هذه الأسئلة.
شهدنا في سورية خلال سنوات الثورة والحرب نوعًا من «إعادة اكتشاف» الهويات الأهلية المكوّنة للمجتمع السوري، العرقية منها أو الإثنية أو الطائفية والمذهبية، التي عمل حكم الحزب الواحد على طمسها، أو التصرف على أساس أنّها آيلة حكمًا إلى الزوال. هل تعتقد أنّ التحوّل الديمقراطي في بلد تعدّدي مثل سورية يفترض إعادة الاعتبار لكل تلك الهويات، وهل من الواقعي التعويل الآن على مشروع الدولة الوطنية المدنية بعد كل ما جرى ويجري؟
نعم، عملية التحوّل الديمقراطي هي، بصورة من الصور، إعادة تشكيل الهوية السورية بتنوّعها، وهذه عملية طويلة ومضنية ومكلفة جدًا. نحن لم نكن يومًا أمة مكتملة، فنحن مسلمون أو عرب أو كرد أو شيوعيون أو ننتمي إلى سورية الطبيعية (بلاد الشام)، قبل أن نكون سوريين، ولن تهدأ سورية قبل أن نعرف من نحن.
أخيرًا، بعيدًا عما تسعى له “اللجنة الدستورية” في جنيف، أيّ نظام حكم يناسب سورية في الدستور المقبل، بصفته العقد الاجتماعي الأساس؟ وما شكل الدولة الذي تراه مناسبًا وصالحًا لسورية المستقبل؟
نحن بحاجة إلى نظام حكم شبه رئاسي بصلاحيات واسعة لبرلمان من غرفتين: إحداهما تكون ممثّلة للمناطق والمكوّنات، والثانية للشعب، وبحاجة إلى فصل سلطات واسع، ومن غير ذلك؛ لا يفيد دستور ولا عقد اجتماعي.