قبل أيام من موعد انعقاد الجولة الثالثة من أعمال “اللجنة الدستورية” في جنيف، في 24 من الشهر الحالي، يلتقي (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) الأكاديمي السوري المعارض، المتحدث الرسمي باسم “الهيئة السورية للتفاوض”، عضو “اللجنة الدستورية”، الدكتور يحيى العريضي، الذي أكد لنا أن التركيز في هذه الجولة من المفاوضات، مع وفد نظام الأسد، سيكون على جدول الأعمال المتفق عليه والمتمثل بالركائز الوطنية للدستور، بناءً على القواعد الإجرائية الناظمة لعمل “اللجنة الدستورية. ولولا الأمل والإيمان والإرادة والتصميم على تحقيق تطلعات وطموحات الشعب السوري في وطنٍ حر كريم؛ لما انخرطت “الهيئة” في هذه العملية السياسية.
شدد العريضي في هذا الحوار على أن للقرار الدولي بخصوص القضية السورية نقاط ارتكاز؛ إحداها دستور للبلاد، يكون كخارطة طريق، أو مخطط هندسي لبناء الحل والشروع به. وكشف أن العِبرة في قانون “قيصر” الذي دخل حيز التنفيذ في 17 حزيران/ يونيو الماضي، هي تطبيقه وتأثيره على مَن يقدم المتنَفَس للنظام روسيا وإيران تحديدًا، مبينًا مفاعيله السلبية، وفي مقدمتها استغلال النظام للقانون كأداة إضافية لخنق الشعب السوري في الداخل.
لمعرفة المزيد من التفاصيل حول حيثيات الجولة القادمة من المفاوضات، ومواقف “الهيئة السورية للتفاوض” منها، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالوضع السوري الراهن، كان لنا معه هذا الحوار..
اتفق أطراف اللجنة الدستورية السورية على أن تكون مدة الجولة الثالثة من اجتماعات اللجنة المصغرة في جنيف أسبوعًا واحدًا، تبدأ في 24 من الشهر الحالي. سؤالنا ما الذي ستقدمه “الهيئة السورية للتفاوض” من اقتراحات في هذه الجولة؟ وتاليًا ماذا تنتظرون كمعارضة من هذه الجولة؟
بداية، وبغية الاستفادة من الوقت -لأنه ضاع الكثير- حاول المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، غير بيدرسون، أن تكون الجولة القادمة أسبوعين؛ ولكنه لم يلقَ من جهة النظام جوابًا شافيًا، بل سلبيًا؛ وهذا مؤشر، أقل ما يُقال فيه إنه مؤشر على عدم الجدية واللا مسؤولية.
بخصوص ما ستقدمه “الهيئة”، لا أدري إذا أصبح الأمر معروفًا بأنه منذ أكثر من عام تجهز “الهيئة” ملفاتها المتعلقة بكل جوانب الدستور، مضمونًا وشكلًا: في الثوابت والسلطات والحقوق والواجبات والقوانين العامة وما هو فوق دستوري وغيرها.
في هذه الجولة بالذات، سيكون التركيز على جدول الأعمال المتفق عليه والمتمثل بالركائز الوطنية للدستور بناءً على القواعد الإجرائية الناظمة لعمل اللجنة. أما بخصوص ما تنتظره “الهيئة”، فهي واقعية ومتوازنة وليست مفرطة في التفاؤل؛ لأننا نعرف تمامًا بنية هذا النظام ونيّاته وإرادته بالتملص ليس فقط من “اللجنة الدستورية” بل من العملية السياسية برمتها؛ لأنها معاكسة لإستراتيجيته المبنية على المواجهة والتوتر والحل العسكري.
المشهد السوري -كما تعلم- أصبح معقدًا جدًا من جراء مواقف النظام الرافضة لأي حلول مرجعيتها الوثائق الدولية ذات الشأن، وعلى رأسها “وثيقة جنيف” وقرار مجلس الأمن 2254، والتي أقرت رفض الحلول العسكرية، فهل من أمل في الأفق القريب للوصول إلى حل سياسي يفضي إلى عملية سياسية جامعة بقيادة سورية، تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري؟
لولا الأمل والإيمان والإرادة والتصميم على تحقيق تطلعات وطموحات الشعب السوري في وطن حر كريم، لما انخرطت “الهيئة” في العملية. فهي ليست مغرمة بالجلوس مع أناس رأوا المنكر والجريمة، وظلوا ساكتين، بل مؤيدين للإجرام.
هذا بحد ذاته تضحية؛ فأن تجلس إلى أناس تجردوا من المسؤولية تجاه وطن وأهله، والتصقوا بمرتكب الجريمة بحقه، يستلزم الجسارة والصبر؛ ولكن القرارات الدولية الداعية للولوج في عملية سياسية مآلات نصوصها، ستؤدي إلى وضع البلد وأهله على سكة الحياة الحرة الكريمة؛ تستحق التضحية والالتزام؛ علمًا أن تلك القرارات مع الأسف تفتقر إلى آليات تنفيذية واضحة المعالم؛ فالنظام ومن يحميه يجهدون لإيجاد ثغرات عبر مهاراتهم الخبيثة للتنصل من البنود المُلزِمة. خذ مثلًا إطلاق سراح المعتقلين أو وقف إطلاق النار؛ الأول جزءٌ من إجراءات بناء الثقة، والثاني بند “فوق تفاوضي”، إلا أن النظام ومن يحميه عملوا جاهدين للتملص منهما، وخرق هذين البندين؛ فما بالك بالقرارات أو البنود ذات الطبيعة السياسية؟!
برأيكم، ما الذي سيدفع بشار الأسد إلى القبول بأي حل سياسي يُقصِيه عن الحكم والقبول بدستور جديد، بعد أن استعاد سيطرته على جزء كبير من الجغرافيا السورية الممزقة بالقوة العسكرية؟
فعلًا؛ بطبيعته الاستبدادية، واستعداديته لجلب الاحتلال كي يحافظ على كرسي السلطة؛ لا شيء يجبره؛ ولكن القرارات الدولية وروسيا المُلتزمة دوليًا بإيجاد حل سياسي، إضافة إلى الاستعصاء والمقاطعة والعقوبات الدولية واستحالة جعله سورية جزيرة معزولة عن العالم والضغط السياسي الذي تشكله عقابيل القضية السورية، إضافة إلى وجود من يرفع الصوت ويتواصل مع المنظمة الدولية من معارضة وغيرها. ولا ننسى بالطبع تلك الملفات التجريمية التي تتحرك دوليًا كنتائج لجان التحقيق في استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا.. كل ذلك يدفع باتجاه التجاوب المُكرَه للجلوس إلى التفاوض.
أضيف إلى ذلك أنه في دستور 2012، تقول المادة (140)، إن أي تعديلات أو تغيير في ذلك الدستور، تستلزم إجماع نسبة لا بأس بها من أعضاء المجلس على ذلك، وتبنيه والحصول على موافقة الرئيس على ذلك. وهنا لمجرد تشكيل اللجنة الدستور وانخراطها بعملية التغيير الدستوري، لا يخرق النظام دستوره ذاته، بل يتم تحييده عن مسألة مهمة في صلب وجوده.
الواضح لنا جميعًا أن الحل خرج من يد السوريين منذ زمن، بعد أن سُلمت سورية للقوى الإقليمية والدولية. السؤال الذي يطرح نفسه الآن ما هو المرجو في هذه المرحلة من “الهيئة السورية للتفاوض”؟
لا يمكن القول إن الأمور خرجت من يد السوريين؛ فكل القوى الدولية لا تستطيع أن تخرج بحل، أو تفرض حلًا، من دون السوريين، وخاصة بوجود من يحمل حقهم كأمانة غالية في ضميره وعنقه. ومن هنا، هناك حاجة إلى وجود جسد تفاوضي سياسي سوري ليحمل هذه الأمانة. وبقدر ما يكون هذا الجسد ملتزمًا بتطلعات وحقوق وطموحات السوريين، يكون الحل عادلًا وحقيقيًا.
و”الهيئة” -على حد علمي- ملتزمة بذلك؛ وتبذل جهدها ومتمرسة عند حق السوريين في وطنٍ حر كريم ديمقراطي لكل السوريين يحكمه القانون. وبدون تواضع، أقيس على نفسي: لن أتزحزح عن هذا، ما دمت حيًا.
هناك من يرى أن “اللجنة الدستورية اختراع روسي”، ورغم أن “وثيقة جنيف” والقرار الأممي 2254 يقولان إن عملية صياغة الدستور تأتي خلال المرحلة الانتقالية التي يقودها “جسم حكم انتقالي ذي صلاحيات تنفيذية كاملة”، دون تحديد مصدر الصلاحيات التشريعية. فما تعليقكم؟ وما الذي تقولونه لمن يشكك في جدوى وجود وعمل اللجنة الدستورية وشرعيتها؟
بداية، “اللجنة الدستورية” بمفردها، وبمعزل لمنتجها عن العناصر الأخرى المشكلة للقرار الدولي بخصوص القضية السورية -مهما كان هذا المنتج على درجة من القوة والرقي- لن تخرج الزير من البئر، كما يُقال عاميًا؛ ولن تكون، أو تُجد الحل الشافي الرشيد.
القرار الدولي له نقاط ارتكاز؛ إحداها دستور للبلاد، يكون كخارطة طريق، أو مخطط هندسي لبناء الحل والشروع به. وقيل في هذا السياق أيضًا إن بنود القرار تُطبق بكليتها: لا تطبيق لواحد دون تطبيق بقية البنود. ومن هنا؛ سيكون الدستور المحدد لشكل الدولة، وماهية الحكم، والناظم للحياة السورية بكل جوانبها. هناك أيضًا بعض المواد الانتقالية التي ستحدد إيجاد البيئة الآمنة والمحايدة لانتخابات تشريعية محلية نيابية ورئاسية. والانتخابات، كما هو معروف، أحد الركائز الأساسية للقرار الدولي؛ وبناء على ذلك تتم عملية التغيير والانتقال السياسي؛ التي يرى البعض بوجوب أخذها الأولوية.
وهنا يسأل البعض: إذا تم البدء بعملية الانتقال السياسي، فبناءً على أي دستور سيحكم هذا الجسد الانتقالي؟ أهو دستور العام 2012 الذي صنعه النظام على قياسه؟!
وبخصوص مَن يشكك في وجود وعمل هذه “اللجنة”، إنه مُحق في الأوضاع المثالية؛ أما في حالة صراع مع منظومة استبدادية مجرمة اختارت النهج العسكري، وسعت للتملص من كل حل سياسي، وساعدها في ذلك داعمون يشبهونها، فإن أي طريق باتجاه سحبها نحو حل سياسي هو لمصلحة السوريين، ونسف لمشروعها العسكري الإجرامي.
يرى معارضون سوريون أن “قانون قيصر” هو نسخة جديدة من برنامج “النفط مقابل الغذاء”، الذي لم يؤد إلا إلى مضاعفة معاناة الشعب العراقي. وأن المراهنة على سقوط نظام الأسد بتكثيف معاناة السوريين، في ظل تفشي وباء “كورونا” المستجد، ليست خيارًا ظالمًا وحسب، وإنما غير مجدٍ. وهو لم يكن مجديًا في أي زمان أو مكان. كيف تقدرون الأمر من وجهة نظركم؟
أعتقد أنها مقاربة قاصرة؛ وإذا كان لا بد من المقارنة، فيمكن أن نقول إنه إذا كان الأمر بالنسبة للعراق: “النفط مقابل الغذاء”، فالأمر بالنسبة لسورية هو “رفع العقوبات مقابل وقف الاستبداد”. وهنا وقف الاستبداد يعني نهاية المستبد، حيث بقاؤه باستمرار استبداده، ونهايته بوقفه.
“قانون قيصر” أداة وليس إستراتيجية؛ إنه حالة دفع بهذا النظام (الذي أخذ سورية وأهلها رهائن) كي يوقف جرائمه. مفاعيل القانون السلبية تتمثل باستغلال النظام له كأداة إضافية لخنق هذا الشعب، واستخدامه دعائيًا لتعزيز مقولته الزائفة بـ “المؤامرة الكونية”. العِبرة في القانون تطبيقه وتأثيره على مَن يقدم المتنَفَس لهذا النظام روسيا وإيران تحديدًا؛ والعِبرة الأخرى ما يشترط لرفعه: فإطلاق سراح المعتقلين، ومحاكمة مرتكبي الجرائم مثلًا، تعني نهاية النظام؛ وهذا ما يتم السعي إليه من خلال مفاعيل هذا القانون.
رأى متابعون للشأن السوري أنه سيجري تجميد الصراع حتى موعد انتخابات 2021 وانتخاب رئيس جديد، أو أنه يمكن أن تطرح صيغة مجلس سيادي يضم مدنيين وعسكريين على غرار ما حصل في السودان، أو تبني النموذج العراقي واعتماد محاصصة غير مدسترة ترضي جميع الأطراف، أو أن يكون هناك في الخطة الروسية “كرزاي” سوري، على شاكلة التجربة الأفغانية؟ أنتم، أي طرح مما سبق تعتقدون أنه الأقرب ليطبق في سورية، أم لديكم كقوى معارضة طرح مختلف؟
لا العالم ولا كل ذي كرامة أو عقل، ولا “الهيئة السورية للتفاوض” التفت أو اعترف بشرعية ما سُمي انتخابات مجلس شعب النظام؛ والأمر ذاته ينطبق على أي “انتخابات” رئاسية عام 2020 أو 2021.
هناك قرارات للشرعية الدولية، بخصوص بلد حلت به كوارث تسبب بها هذا النظام، تدعو وتُحتم القيام بإجراءات غير التي قام بها النظام، والتي من شأنها أن تعرقل بقصدية أي حل للمسألة السورية تحت يافطة السيادة السورية التي أضحت أثرًا بعد عين.
أما بخصوص مجالس عسكرية أو مدنية-عسكرية يجري الحديث عنها، فإنها تفتقد للأسس التي تقدم حلًا حقيقيًا؛ ولا تزيد عن كونها -إذا تمت- جزءًا من جسد انتقالي. وأحيانًا يُراد لها أن تكون بالونات اختبار إجهاضية لحلول حقيقية. وإذا كان لا بد من مقاربة حقيقية جديدة، فستكون بقرار دولي جديد بآلية تنفيذية تفرض القرارات التي صدرت منذ العام 2012.
ما يطفو على السطح من خلافٍ بين النظام وروسيا، وتحديدًا بشخص رجل الأعمال “يفغيني بريغوجين” (الطباخ السابق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين) الذي استحوذ على عقود ضخمة في سورية (الفوسفات ومشتقات نفطية وكيميائية)، هل من المُمكِن أن يصل عمليًا الى ما يُثار إعلاميًا ونشهد تحركًا روسيًا يفضي إلى إزاحة الأسد عن الحكم والتخلي عنه؟
لم تدخل روسيا سورية غرامًا بالأسد، وليس لمجرد دوافع إستراتيجية من خلالها تضع أقدامها في المياه الدافئة، وليس لأسباب تتعلق بإعادة “أمجاد” لإمبراطوريتها السوفيتية؛ هناك بعدٌ اقتصادي للمسألة، يتمثل برأس المال والجنى الاقتصادي من أفعال كهذه. في عالم اليوم السياسي، كل شيء بثمنه -ربما الأيديولوجيا أضحت ثانوية- من هنا الهاجس الأساس للروس الآن هو مسألة إعادة الإعمار والمليارات من ورائها، والتكالب على ذلك، وأي شركات ضخمة سيكون لها اليد العليا في هذا الميدان.
الروس ممثلون بحيتان المال أمثال “يفغيني بريغوجين” (طباخ الكرملين) يعتبرون أن يدهم يجب أن تكون العليا اقتصاديًا في سورية القادمة. وأعتقد أن روسيا عندما تجد أن من حَمَته (الأسد) أصبح عائقًا في وجه هكذا مطامع -كما يحدث الآن فعليًا من دون ضجة- لن تتوانى عن القيام بأي شيء، ربما يكون العِبرة لمن يعتبر. نحن أمام عالم تحكمه عصابات لم نألفها من قبل؛ ولسنا في عالم تحكمه أجسام سياسية منتخبة، روسيا مثالها الصارخ.
يعتقد البعض أن المعارضة السورية فشلت في الحصول على دعم أميركي وأوروبي حقيقي، لأنها لم تقدم مواقف واضحة في ما يخص توجهات سورية ما بعد النظام، تجاه المحاور الإقليمية والعلاقة مع “إسرائيل” تحديدًا. ما رأيك بهذا الطرح؟
تتوجه كثير من السهام للمعارضة الرسمية بخصوص كثير من القضايا؛ ومعظم هذه الانتقادات محقة: ضعف، تقصير، إقصاء، فساد.. إلخ، ولكن الجانب الأساس الذي سَلِمَ فيها هو أنها لم تبع نفسها لـ “إسرائيل” طمعًا وتطلعًا لذلك الدعم؛ وهذا يُحسَب لها.
بعض الأفراد، لضعفٍ أو غباء، فكروا فعلًا بمنافسة الأسدية في نيل الرضى الصهيوني والارتباط مع “إسرائيل” كي يفوزوا على الأسد، ولكن خيبتهم “إسرائيل”، لأنها لم ولن تجد من هو أوفى من الأسدية بخدمتها. في النهاية، ما معنى أن تحرر بلدك من مستبد -إذا كانت هذه نيتك- مرتبط بـ “إسرائيل”، وترهن نفسك وبلدك إلى ارتباط جديد معها؟! مرة أخرى، أقول: إذا كان من أمر إيجابي يُسَجل لهذه المعارضة الرسمية، فهو عدم بيع سورية لـ “إسرائيل” للخلاص من الاستبداد الأسدي. إن عدم نيل الدعم الأميركي-الأوروبي الكامل، أهون ألف مرة من دفع ثمن كهذا.
هل تتوقعون انسحابًا أميركيًا مفاجئًا من سورية، قُبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة؟
ذلك يخضع للسياسات الداخلية الأميركية؛ ولكن في هذه الفترة الانتخابية الحرجة، أستبعد ذلك. إن تطورات الأمور في الشمال الشرقي السوري، والخطاب الأميركي-الإسرائيلي تجاه إيران أولًا، والخشية الأميركية من ملء فراغ كهذا إيرانيًا أو روسيًا أو من قبل النظام الأسدي، يحول دون اتخاذ أميركا إجراء لا ينفعها؛ وقد يؤذيها فعلًا. بوجودها هناك، أميركا تحقق هذه السطوة الجبارة، من خلال تواجد بضع مئات من الجنود. صحيح أنه كانت هناك محاولات؛ ولكنها توقفت بفعل رؤية إستراتيجية أعمق للمسألة، تحدد بموجبها مجمل قواعد اللعبة في سورية؛ وفي الوقت نفسه تستمر بالقول إنها خارجة لأنه لا مطامع لها في سورية.
إلى أي مدى يمكن أن يُؤدي الضغط والتحرك الدولي الواسع تجاه النظام الإيراني إلى إخراج قوات الحرس الثوري والميليشيات الشيعية وفي مقدمها “حزب الله” اللبناني من سورية؟ وهل يمكن أن تتخلى طهران عن سورية بهذه السهولة؟
هناك شبه إجماع دولي على الوقوف في وجه العبث الذي تلحقه إيران بمحيطها، وعلى ضرورة احتواء أو وقف أذاها، وصولًا إلى اقتلاعها تحديدًا من سورية؛ إلا أن بعض المصالح تخترق وتُضعف هذا الإجماع.
من جانبها، إيران تتغلغل أيديولوجيًا في ذلك المحيط، مستغلة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والديني والثقافي لدول تتدخل فيها. ولكن في النهاية، لا بد من احتواء هذا الفعل السرطاني الإيراني في المنطقة.
يساهم بذلك الحصار والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وتظهر مفاعيل العقوبات في الداخل الإيراني. ويأتي في هذا السياق “قانون قيصر” الذي يسمي إيران بالاسم كجهة يستهدفها هذا القانون.
وما حدث في لبنان أخيرًا (تفجير ميناء بيروت) يمكن أن يكون له مفاعيله وآثاره الكبيرة عليها، بحكم ارتباط حزب الله بها؛ وهذا الحزب وميليشياته ليسوا أكثر من أدوات عسكرية وسياسية تعبث في المنطقة، وهو أول من سيتلقى الضربة. ومن هنا، نشهد الاستهدافات شبه اليومية لتلك الميليشيات وخاصة في سورية.
بتقديركم، ما هو مستقبل القسم المتبقي خارج سيطرة النظام في الشمال السوري، بشرقه وغربه؟ ومن ثم كيف تنظرون إلى حل القضية الكردية في سورية؟
ما يحدث في الشمال الشرقي والغربي السوري ليس إلا من مضاعفات وعقابيل الصراع في سورية وتأثيراته الجانبية. إذا فهمنا أن جوهر القضية في سورية وطبيعة الصراع هو “شعب ثائر في مواجهة منظومة استبدادية دكتاتورية”، فلا بد من آثار جانبية وأمراض تتولد هنا وهناك؛ فالأمر في الشمالين سيتجه إلى الانفراج، عند التوصل إلى حل للقضية الأساسية للصراع، في التوصل إلى تغيير أو انتقال سياسي؛ فتركيا -باعتقادنا- ليست طامعة، ولم تتدخل في القضية السورية لتبقى، ولا أميركا دخلت محتلة.
أما بالنسبة إلى المسألة الكردية، فلا يستطيع أحد إنكار المظلومية الكردية أو التغاضي عنها في سورية؛ إلا أن جهات سياسية خارجية، وتحديدًا (ppk)، امتطت تلك القضية، وألحقت بها المزيد من الأذى والإشكالات المؤلمة التي قد تتفاقم مستقبلًا. الحقوق الكردية لا تنفصل عن الحقوق السورية عامة. وعند الانفراج، لا بد من الإنصاف للجميع في وطن يحكمه القانون والمواطنة المتساوية.
هل يمكن الحديث في هذه المرحلة عن إعادة إعمار سورية؟
أعتقد من المبكر الحديث عن ذلك قبل الحل السياسي، وقبل تثبيت وتأصيل البيئة الآمنة المحايدة، وعودة اللاجئين. فمن دمّر الإعمار القائم لن يتردد عن تدمير أي عمار أو إعمار قادم بحكم استبداده وفساده وإجرامه.
إضافة إلى ذلك، رُبّما يكون حجب تلك الخطوة واستخدامها كأداة ضغط تجاه القوى الداعمة (تحديدًا روسيا الطامعة والمتطلعة لذلك) للدفع بالسلطة القائمة نحو حل سياسي، مسألة إيجابية حاليًا، رغم مرارتها. السوريون يريدون إعمار بلدهم، لكن ليس في ظل منظومة الاستبداد.
أخيرًا، مع انتشار فيروس “كورونا”، بهذا الشكل المفاجئ في سورية، ومحاولات نظام الأسد إخفاء المعلومات.. ماذا لديكم أكثر خاصةً مما أخفاه النظام؟
إن نظامًا بنى إستراتيجيته على التعمية والدعاية والكذب، لن يفصح عما يحدث بخصوص هذا الوباء العالمي؛ فعندما يقول وزير صحته إن “الجيش العربي السوري” قد قضى على كل الفيروسات برعاية الرئيس وتوجيهاته، فاعلم أن ذلك النظام ربما يعتبر هذه الجائحة مسألة سياسية؛ ونراه الآن ربما يستفيد منها في مواجهة عقوبات “قانون قيصر”، حتى لا يشتد الخناق عليه؛ فهو يأخذ الجائحة كذريعة كي ينفذ مآربه بالشعب، ولن يتردد بتركيبته الإجرامية عن مفاقمة ثقلها وتأثيرها؛ فنحن أمام عصابة إجرامية آخر ما يعنيها الإنسان، بحكم هاجسها في البقاء في السلطة حتى لو على جماجم الناس.
يحيى العريضي:
من مواليد مدينة السويداء عام 1954. حاصل على دكتوراه في اللغة والإعلام من “جامعة جورج تاون” في واشنطن في الولايات المتحدة. ويُعدّ أحد أبرز شخصيات النظام لفترات طويلة، شغل خلالها مناصب عدة، منها مدير (المركز الإعلامي السوري) في لندن، وعمل في القناة الثانية التابعة لـ “الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون”. وكان أستاذًا في “كلية الآداب والعلوم الإنسانية”، وفي “كلية الإعلام” في جامعة دمشق، التي شغل فيها منصب العميد بين عامي 2010 و2013.
انشق د. العريضي عن نظام بشار الأسد في أيار/ مايو 2013.