الدولة كيان اعتباري تتبع له سلطات نافذة على مجتمع محدد وإقليم جغرافي معيّن، وقد باتت الدولة اليوم شبكةً معقدةً تتفرع عنها مؤسسات مختلفة، كالجيش والتعليم والمالية والمنظمات المدنية والعلاقات الدولية، وكذلك العلاقة فيها اليوم منفصلة، بين السلطات الثلاثة التي تديرها “التنفيذية والتشريعية والقضائية”، وصارت تختلف كثيرًا عن الدولة الإمبراطورية والقومية والوطنية التي كانت قائمة من قبل.
المُحزن أن الشارع السوري لا يمتلك رؤية واضحة لشكل دولة المستقبل! بالرغم من كل المآسي التي كان الإسلام السياسي طرفًا رئيسًا فيها، لأخطائه الفادحة في مسار الثورة السورية، سياسيًا وعسكريًا، والمحزن أيضًا أننا، بعد تلك السنوات العجاف، لا نستطيع أن نتلمس، ولو بالحد الأدنى، خطايا العلمانوين الذين تصدروا الثورة! إذ لا يوجد شعبٌ، من شعوب الربيع العربي، دفع ثمنًا كالذي دفعه السوريون، في مأساة لم تدع بيتًا إلا أدخلت إليه الحزن والمصيبة.
هذه الورقة تناقش:
صيرورة شكل الدولة؟
قبل الدخول في مناقشة الطرفين؛ لا بدّ من أن نتعرف إلى الصيرورة التي وصل إليها شكلُ الدولة اليوم، لأنه ذو صلة ببحثنا هذا، وبعلاقتنا بالمجتمع الدولي، فنحن لا نعيش في كوكب منفصل عن العالم، حيث بات عالم اليوم -على اتساعه- قرية صغيرة، بالنسبة إلى عوالم الأمس الإمبراطورية، ففي ظل الثورة التكنولوجية، أصبح العالم كله أقرب إليك مما تتخيل، وسورية ليست بِدعة من الدول، والتعاون الدولي اليوم سرّ من أسرار تطوّر وبقاء الدول.
إن سورية المستقبل تحتاج إلى الدول الأخرى كثيرًا لتقف على قدميها، وكي يحصل ذلك يجب أن تساهم الدول في إعادة بناء سورية، والبناء أهمّ من الإعمار، لكونه متعلقًا ببناء الإنسان السوري، فالبناء الحقيقي هو بناء الإنسان المتسلح بالوعي والمعرفة والثقافة، حتى يكون منتجًا، ويحقق قفزته الحضارية وتدور عجلة التنمية، وكلّ تنمية لا تبدأ بالإنسان هي تنمية وهمية ومتهافتة! وكل ما سوى الإنسان ثروة ناضبة، والأنبياء استثمروا بالإنسان لا بالأشياء.
مدخل في شكل تاريخية الدولة؟
القيادة التاريخية هي التي تلتقط اللحظة التاريخية، لتتخذ القرار التاريخي، فتُحدث تغييرًا تاريخيًا، وهذا ما فشلت فيه المعارضة السورية (العلمانية والإسلاموية) المتصدرة للقرار الثوري! فأضاعت علينا الفرصة التاريخية التي تُقدّم فيها ذاتها، كبديل مقنع للمجتمع الدولي عن النظام الاستبدادي؛ فأدخلتنا جميعًا نفقًا مظلمًا مأسويًا، كان ثمنه على السوريين جميعًا باهظًا جدًا.
علماء الفلسفة السياسية يرون أن شكل الدولة، عبر صيرورتها التاريخية حتى يومنا هذا، مرَّ -أيديولوجيًا- بأربعة عصور: العصر الأول كان عصر الدين (الثيولوجيا) ثم جاء بعده عصر الأيديولوجيا، حيث تم تسخير الدين سياسيًا للوصول إلى السلطة، واستمر هذا العصر طويلًا، وبعد الحربين العالميتين؛ جاء النظام العالمي الجديد وعصر صراع الحضارات الذي أسماه هنتغتون “صدام الحضارات”، ليستقر اليوم على عصر منطق البحث العلمي. ويبدو أننا -كمجتمعات- ما نزال نعيش العصر الثاني من تلك العصور، ونقدّس ما أنتج جيله، مستمتعين بتخلّفنا، لاعتقادنا بقدسيته.
وقد مرَّ شكل الدولة بخمسة أشكال عبر التاريخ، وهي:
الشكل الأول: الممالك الصغيرة، حيث كان أبناء المجتمع يتفقون على قانون معين، يعتمد كثيرًا على العُرف.
الشكل الثاني: الإمبراطورية العظمى، حيث كان الناس في ذلك الشكل على دين إمبراطورهم، ومن يخالف دين الإمبراطور، يفقد مواطنيته وحقوقه. وهذا الشكل للدولة أطول أشكالها عمرًا، حتى الآن، وانتهى بنهاية الحرب العالمية الأولى ([1]).
الشكل الثالث: الدولة القومية، وقد بدأ بعد الحرب العالمية الأولى، وتسبّب في الحرب العالمية الثانية، وانتهى بنهايتها. واعتمد على العرق والقومية، في تقييم المواطنة.
الشكل الرابع: الدولة الوطنية المتشكلة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان الولاء فيها للوطن، أولًا وأخيرًا، ولا قيمة حقيقة للمواطن، إنما المواطن وكل مقومات الدولة في خدمة الوطن.
الشكل الخامس: نتيجة سيرورة وصيرورة تطور الدولة، وصلنا اليوم إلى آخر أشكالها: دولة المواطنة، وهي دولة مدنية، ذات مجتمع مدني، تتعدد فيها المذاهب والطوائف والقوميات والأديان واللغة، وصولًا إلى الآراء السياسية والعقدية، وتكون السلطات فيها منفصلة ([2]). والمواطنون فيها -على تعدديتهم المذكورة آنفًا- هم متساوون دون استثناء بالحقوق والواجبات، وهذا يعني أن المواطن حَرم مقدّس، مصان الحرية والكرامة، وأن الدولة تعمل جاهدة لتحقيق العدالة الاجتماعية، والجميع خاضع لدستور منبثق عنه قانون لا أحد فوقه البتة، أيًّا كان. وهذه الدولة التي نحلم بها -السوريين- تحترم الدين وشعائر المتدينين، ولا تناهضها، لكنها دولة غير متدينة، لكونها كائنًا اعتباريًا، تتعامل مع كل مواطنيها بعدل وشفافية دون تمييز.
فالدولة اليوم لا يمكن أن نصبغها بدين محدد أو مذهب معين أو طائفة أو عرق ما، وهي كمؤسسة تعمل على خدمة مواطنيها كلهم بسواسية، وتشبه كثيرًا شركةً ما، تقدم خدماتها للجميع دون تمييز، فلا يمكن أن نقول عن شركة “سامسونج” إنها وثنية لكونها كورية! ولا يمكن أن نقول عن شركة “آبل” إنها بروتستانتية لكونها أميركية! وكذلك لا يمكن أن نقول عن نادي برشلونة إنه مسيحي، لكون الصليب جزءًا من شعاره.
سورية المستقبل دولة أيديولوجيا أم تعددية؟
من التعريفات التي بيّنّاها آنفًا، نريد أن تكون سورية دولةً تعدديةً، وهي كذلك من خلال فسيفساء مكوناتها المتعددة، فالدولة الأيديولوجية دولة إكراه أحادية المعتقد، وقد ثبت -تاريخيًا- أن المواطن في الدولة الأيديولوجية يحلم بالبقاء لا بالسعادة! لأنها دولة تقوم على إكراه مواطنيها على أيديولوجية محددة، أما دولة المواطنة، بمعناها العميق، فهي دولة الحداثة، والمواطن فيها يبحث عن السعادة من خلال تأمين حقوقه.كما ثبت أن دولة المواطنة هي الأكثر عدلًا مع مواطنيها، والإسلام لا يكون إسلامًا إلا بالعدل، فلا تناقض بينها وبين الإسلام. وهي دولة تضمن للإنسان حقوقه وكرامته، والإسلام أوّل دين يعتبر الإنسان مخلوقًا مكرمًا، بغض النظر عن دينه وقومه وطائفته.
وعندما يتحقق هذا الهدف من الدولة؛ فإن المسمى لا يعود إشكاليًا، بالرغم من أننا في سورية نعاني إشكالية الاتفاق على تعريف المصطلحات، وهذا أحد أسباب الفشل السوري الكثيرة، ويجب علينا أن نبدع كرَّاسًا نُعَرِّف فيه المصطلحات الإشكالية، كي نعود إليه لحل الإشكال، إن اختلفنا على تفسير مصطلح ما، ومن أهم المصطلحات التي نحتاج إلى الاتفاق عليها “العلمانية، الإسلامية، المواطنة، الحداثة، التراث…. إلخ”.
أخطاء وأخطار الطرح الإسلاموي؟
الإسلامويون يصرون على أحقيتهم في الوصول إلى السلطة، ومن حقّ أي تيار أن يقول هذا، ولكن هذه الأحقية تتهافت أو تتصاعد، بحسب البرنامج الذي يقدمه من جهة، وبحسب تجاربه السابقة ورؤيته للمجتمع من جهة أخرى، إلا أن الطرح الإسلاموي فيه مسائل غير صالحة لدولة المواطنة، سنناقشها بهدوء:
المسألة الأولى: سورية المستقبل دولة إسلامية
وهو الشعار الذي يطمح إليه تيّار الإسلام السياسي -بمدراسه المختلفة وتياراته- ويدغدغ به مشاعر الشارع المتدين عمومًا والثوري خصوصًا،ونحن -المسلمين- أُمِرنا أن نحكم بين الناس، لا أن نحكم على الناس، لكن الإسلام السياسي يقدّم نفسه وصيًا على المجتمع، ويراه قاصرًا غير راشد، ويرى أن وصايته عليه واجبة! وهذا منطق المستبدين ذاته الذين حكموا مجتمعاتنا ودولنا في العقود الماضية، وتولوا الوصاية علينا بالذريعة ذاتها، ومنطق الوصاية الإسلاموية هذا مخالف للقرآن الكريم الذي أمرنا أنْ نحكم بين الناس لا عليهم: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}. النساء: 58
المسألة الثانية: تطبيق الشريعة
تطبيق الشريعة كلمة حقّ أُريد بها سلطة، فالشريعة هي أحكام العبادات والأحوال الشخصية والحدود، وهذه في القرآن يبلغ تعدادها قرابة (500) آية، ولو أننا نزعنا المكرر منها، فسيبقى نحو (250) آية، في حين أن عدد آي القرآن (6312) آية. أي إن الشريعة التي يدّعون تطبيقها لا تمثل سوى 5% من آي القرآن ([3]). وإن تطبيق الشريعة الإسلامية ليس وحده جوهر الإسلام، فقد كانت الشريعة مطبّقة، عندما اغتيل عمر وعثمان وعلي، وحدثت حروب طاحنة راح ضحيتها الآلاف، فما نفع تطبيق الشريعة، والعدالة الاجتماعية مغيّبة، وهناك مظلوم بسبب اعتقاده ولا قواعد للحكم الرشيد!
وهناك مسألة أخرى في هذا الباب، فالآيات القرآنية التي تحث على الأخلاق والإنسانية والدعوة بالحكمة يفوق عددها (4000) آية، ولم نرَ لها أثرًا في سلوك الفصائل العسكرية الإسلاموية، لا مع الناس الذين كانوا تحت حكمهم ولا مع أنفسهم، إذ أراقوا دماء بعضهم بعضًا، وفرضوا رؤيتهم للإسلام على من حكموهم بالقهر والإكراه، فكفَّروا وقتلوا وهجّروا ([4])!
المسألة الثالثة: أيّ إسلام تريدون تطبيقه؟
الحقيقة التي يجب أن نعترف بها اليوم أننا أمام إسلامات متعددة ومختلفة، وإنْ تشابهت بالشكل العبادي، لكنها متخالفة في الأمور الأخرى، والإسلام السياسي اليوم ذو مدارس متعددة إلى درجة الخلاف والتكفير! فأيّ إسلام تريدون؟ الإسلام السياسي الإخواني أم النصراوي أم الداعشي أم التحريري ([5])؟
والثابت، في مراحل الفوضى التي تعمُّ الدول نتيجة الثورات، أن الإسلامويين فيها يتصارعون على الإسلام، لا من أجل الإسلام، وهذا ما يؤكد رؤيتنا أن الإسلام غطاء لمشروع سلطة لا أكثر. بدليل أننا وجدنا “جبهة النصرة وداعش”، وهما فصيلان إسلاميان ينتميان إلى مدرسة السلفية الجهادية ومرجعيتهما الفقهية والأيديولوجية واحدة، حتى إن الزيّ الإسلامي واحد! قد تقاتلوا وهدروا دماء بعضهم بعضًا! فماذا سيفعلون ببقية المواطنين من المكونات الأخرى، إذا حكموهم؟
المسألة الرابعة: مفهوم الحدود!
أفزعني وأفجعني استطلاع رأي قام به “تلفزيون سوريا”، على هامش ندوة شاركتُ فيها، حول تطبيق الحدود والجزية على أهل الذمة وقطع يد السارق وتعدد الزوجات.. إلخ، حيث أيَّد 70%، من الأشخاص الذين شاركوا في الاستطلاع، تطبيق هذه الحدود!!
المدونات الفقهية التي ظهرت في القرن الثاني الهجري وما بعده، كانت تمثل القانون المدني الذي سارت عليه مجتمعات ذلك العصر، لأنها مجتمعات ودول ناشئة ليس فيها قوانين، وهي اجتهادات بشرية لا عصمة لها ولا قداسة.
أمّا الجزية، فهي ليست من أصول الإسلام ولا من فروعه، والحديث القرآني عنها، كما ورد في سورة التوبة، حديث (زمكاني) بامتياز، وأما التفسير التراثي لكيفية إعطاء الجزية، فإنه تفسير يبرأ الإسلام منه! لما فيه من هدر لقيمة الإنسان وحقوقه التي أقرّها القرآن الكريم. ومفهوم الجزية في الدولة الإمبراطورية، ومنها دولة الخلافة، لا وجود له اليوم في دولة المواطنة القائمة على نظام الضريبة، وهذا يعني أن المواطنين كلّهم -على تعدد دياناتهم ومذاهبهم وأيديولوجياتهم- يدفعونها في الدولة الحديثة، وقد انتفت شروط الجزية اليوم، فغير المسلم يشارك في بناء المجتمع والدولة كالمسلم تمامًا، ويؤدي الخدمة العسكرية، وبناء على ذلك؛ انتهى مفهوم الجزية، كما انتهى عهد الإماء والعبيد والجواري.
وأما مصطلح أهل الذمة، فهو أقبح مصطلح سَنَّه الفقهاء والسلاطين، تاريخيًا، حيث إنه قسَّم المجتمع إلى طبقات، بشكل لا إنساني، فالإسلام يقوم على العدل، ويدعو إليه، ويجعله مقصدًا من مقاصده، وبما أن دولة المواطنة تدعو إلى المساواة بين مواطنيها في الحقوق والواجبات (وهذا لا يتنافى مع الإسلام إطلاقًا) فليس هناك مانع شرعي أو عرفي أو قانوني من نسخ مصطلح أهل الذمة بمصطلح معاصر هو المواطنة، وبالتالي فإن غير المسلمين مواطنون لا ذميّون، واعتمادًا على القاعدة الأصولية (لا مشاحة في الاصطلاح) فإننا، بتغيير هذا المصطلح، نتخلص من عقبة تقف حائلًا أمام نهضة المجتمع وتطوره وتآلف أبنائه، وتصرفنا عن التنمية والعلم والتطور.
وأما قطع يد السارق والرجم والردَّة؛ فحُكم الردة غيرُ موجود في القرآن الكريم، ووجود حديثين في السنة النبوية، يقابلها آيات وحديث في صحيح البخاري، لا يرتبان على المرتد حكمًا! ومن يريد الخروج من الإسلام، فليخرج، ولدينا سعة اجتهادية في الأمر، إنْ كنا نريد بناء دولة حديثة، أما إنْ كنا نريد مساكنة التاريخ والتراث؛ فسنبقى نمارس الاحتراب الدموي، ونتخلف ونحن “نحوقل”. وأحكام الردة التي طُبقت تاريخيًا كلّها كانت أحكامًا سياسية على معارضين للحكم، جعل لها الحكامُ وفقهاءُ السوء لبوسًا دينيًا، لشرعنة تصفية خصومهم السياسيين ([6]) ([7]).
وأما “حدّ” رجم الزاني الذي نفذته الفصائل الإسلاموية، فهو كذلك غير موجود بالقرآن، وفي الثورة السورية، شاهدنا الرجم يُطبق على المرأة فقط! ولم نشاهده يُطبّق على رجل!! فكيف تكون هناك امرأة زانية دون وجود رجل زان! وها هو عمر بن الخطاب يرفض حدَّ الردة، وقد روى مالك والشافعي أن رجلًا قدم إلى عمر، من طرف واليه أبي موسى الأشعري، فسأله عن أحوالهم، فقال: ليس عندنا من جديد غير أن رجلًا ارتدّ عن دينه فقطعنا عنقه، فغضب عمر وقال: أفلا حبستموه واستتبتموه؟ اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرضَ إذ بلغني، اللهم إني أبرأ إليك من دمه ([8]).
وبغض النظر عمّا قلناه آنفًا، وللخروج من هذا الحرج والشكليات العقابية المنسوبة إلى الإسلام والمطبقة تاريخيًا في دولة الخلافة، لدينا الحل الذي يقدمه لنا الفقه المغاربي القائم على المقاصدية التي أسسها الإمام “الشاطبي”، بمعنى آخر: الخروج من شكل وظاهر تطبيق العقوبة إلى مقاصدها، فبدلًا من قطع يد السارق ورجم الزاني… إلخ، هناك السجن الذي يُعيد تأهيل المواطن المخطئ، بدلًا من إلغائه أو تحويله إلى معاق يكون عالة على المجتمع.
من أساء إلى العلمانية هم صنفان: الحكّام العرب، والنخب العلمانية؛ فالحكام قدّموا أنفسهم للعالم على أنهم علمانيون! ولم يطبقوا أبسط مبادئ العلمانية المتمثلة بالحياد! فكانوا مستبدين حقيقيين… وأما النخب العلمانية فقد قدمت العلمانية الخبيثة لا الحميدة.
المسألة الخامسة: دين رئيس الدولة
وضّحنا أن الدولة كائن اعتباري لا دين له، وهي مؤسسة خدمية لكل مواطنيها، تعمل على تحقيق الأمن والأمان لهم، لكونهم متساوين أمامها بالحقوق والواجبات، وما داموا خادمين للدولة والمجتمع، فلا يجب التفريق بينهم في تولي مراكز الدولة، وعليه فإن المادة الثالثة في الدستور القائلة إن “دين رئيس الدولة الإسلام”، لسنا بحاجة إليها، لأنها تنتقص من حقوق المواطنين الآخرين! وفي دولة المواطنة، يحق لأي مواطن أن يتقلّد أرفع المناصب بالدولة دون حرج، ما دام ملتزمًا بالدستور والقانون، وجاء على أساس برنامج انتخابي قدّمه للشعب، يُحاسب عليه، ونحن لا نريد رئيسًا مسلمًا، إنما نريد رئيسًا عادلًا.
أخطاء الطرح العلماني
أعتقد أن أكثر من أساء إلى العلمانية هم صنفان: الحكّام العرب، والنخب العلمانية؛ فالحكام قدّموا أنفسهم للعالم على أنهم علمانيون! ولم يطبقوا أبسط مبادئ العلمانية المتمثلة بالحياد! فكانوا مستبدين حقيقيين، وكان العطاء في أنظمتهم على الولاء، لا على الكفاءة!! وهذا النوع من العطاء من أهم أسباب انهيار الدول وتفشي الفساد فيها وفشلها.
وأما النخب العلمانية فقد قدمت العلمانية الخبيثة لا الحميدة! إذ إن غالبية هذه النخب ذات أصول يسارية رافضة لفكرة الإيمان أساسًا، فاستغلت العلمانية لتقدّمها كدين ضد الدين الذي يؤمن به ويمارس شعائره أبناء مجتمعاتهم!، وهذا خطأ استراتيجي وقعوا فيه، خصوصًا أننا مجتمعات متدينة بالفطرة، وقد التقط هذه الخطيئة دعاة الإسلام السياسي، ليُظهروا قبح العلمانية، فنفر المتدينون منها ومن دعاتها.
أما العلمانية الحميدة، فهي التي تحترم الدين والتدين، وإنْ كان وضعيًا لا سماويًا، وتضمن لأتباع كل دين ممارسة شعائرهم بكل طمأنينة، وتقف موقفًا محايدًا من الجميع، فلا تتبنى جماعة على حساب أخرى. ويمثلها اليوم أميركا وألمانيا والنمسا ودول أخرى. وأما العلمانية الخبيثة، فهي علمانية مؤدلجة، تفرض نمطًا محددًا على المجتمع، لتحوّله إلى مجتمع أُحادي الأيديولوجية، ومثّلها تاريخيًا الاتحاد السوفيتي والصين وكذلك كوريا الشمالية، وبشكل ما فرنسا.
فصل الدين عن المجتمع
هذا وهم علمانوي مستحيل لمجتمعاتٍ، التدين فيها متجذر، كمجتمعاتنا، فالمطلوب هو فصل الدين عن الدولة، لا فصل الدين عن المجتمع، وعدم تدخل الدين بالشأن السياسي، وأما علاقة الدين بالمجتمع فهذه باتت تحتاج اليوم إلى قوانين عاقلة تنظمها، حتى لا تبقى عشوائية الممارسة، ولا تغدو العلمانوية هي الحَكم والمفسر لهذه الطقوس الدينية، إنما الدستور والقانون هو صاحب الكلمة الفصل فيها، ونحن بحاجة حقيقية إلى عملية ترسيم حدود حقيقي وحاسم، بين الديني والسياسي، وتلك مهمة القانون.
العلمانية والإلحاد
طَبَعَ أغلب مثقفينا ونخبنا العلمانيةَ بطابع الإلحاد، وإنكار الدين والاستهزاء برموزه ومقدساته، وهذه خطيئة استراتيجية فادحة وقع العلمانويون بها، أبعدت في مجتمعاتنا المتدينة الحاضنَ الاجتماعي عنهم، ليرتمي بحضن الإسلامويين.
فالعلمانية لا تعني الإلحاد، إنما تعني الحياد، قد يكون هناك علماني ملحد، ولكن ليس كل العلمانيين ملحدين، بل من العلمانيين مَنْ يمارس التدين وشعائره، لكنه يرى في فصل الدين عن الدولة سبيلًا لنهضة مجتمع كمجتمعنا متعدد المكونات.
ولا ضير من أنه علماني أو ملحد، ما دام يؤمن بحرية الرأي والتعبير، ويحترم عقائد الآخرين، فالحرية مبدأ إنساني دعا إليه القرآن الكريم، فالله -سبحانه وتعالى- احترم حق الإنسان بالحرية والاختيار، حتى لو كفر بالخالق، لذلك أعطى للإنسان ما لم يعط غيره من المخلوقات: حرية الاختيار، وأطلق عليها اسم “المشيئة”، وكل سلوك يقوم على إكراه الآخر هو ضد حرية الإنسان، وقد ضرب القرآن لك في الحرية مثالًا في القمة، لتعلم أن ما دونه ضد حريتك، إذ اختار مثال الاعتقاد أو الأيديولوجية: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.
ختـامًا
لا نريد علمانية خبيثة، لا تحترم الدين والتدين، ولا نقبل في سورية المستقبل أدلجة الدولة والمجتمع، بأيديولوجية أحادية تُفرض على المجتمع بالإكراه، ولا نريد علمانية تعود بنا إلى سياسة الحزب الواحد وثقافته. ونقول لدعاة تطبيق “الحدود”: هل الإسلام (في فهمكم) لا يكون إسلامًا إلا إذا قتل ورجم وجلد وكفّر؟! وهل يكون الدين مُتهمًا إذا سامح وعفا؟ لماذا تريدون ألا يرى العالم إلا الوجه العقابي للإسلام، وهو (5) آيات فقط؟! وترفضون وتنسخون وجهه التسامحي الإنساني!
ولمن يرى أن التراث صالح لعصرنا، نقول: إن المدونات الفقهية التي ظهرت في القرن الثاني الهجري وما بعده، كانت تمثل القانون المدني الذي سارت عليه مجتمعات ذلك العصر، لأنها مجتمعات ودول ناشئة ليس فيها قوانين، وهي اجتهادات بشرية لا عصمة لها ولا قداسة، لكنها حلّتْ مشكلات عصرها المدنية والاجتماعية والاقتصادية، ومن المستحيل أن تبقى صالحة لقرون.
وللمتصارعين على سورية، نقول: نريد سورية الإنسانية، المواطن فيها يتمتع بحريته وبكرامته وبالعدالة الاجتماعية، وهذا حلم مشروع.
[1] ـ يظهر خلافنا المرير مع الإسلام السياسي، لكونه يريد العودة بالحياة إلى الوراء، حيث عصر الدولة الإمبراطورية (دولة الخلافة) ليحكم العالم على أساس “بشارة” موجودة في الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وردت في حديث غير صحيح.
[2] ـ الدولة المدنية كما هي في التعريف الذي قدمناه، لا كما يراها الإسلام السياسي، من أنها الدولة “غير العسكرية”، وهذا المفهوم التلفيقي للمُسمى حصل للمعارضة السورية، عند إنتاج وثائق القاهرة عام 2012، حيث وقّع على ذلك الإسلاميون والعلمانيون، ثم خرجوا إلى جماهيرهم، وكلٌّ منهما يعرّفها بحسب هواه، فالإسلامويون قالوا: هي دولة غير عسكرية. والعلمانيون قالوا: هي الدولة العلمانية!!
[3] ـ الحدود مصطلح منحوت، لكنه يختلف تمامًا عن مصطلح الحدود في القرآن الكريم، فالقرآن ذكر هذا المصطلح (13) مرة. (12) منها تتعلق بأحكام الأسرة والتربية، وواحد فقط عن أجلاف البادية. وبالتالي فإن المصطلح الفقهي مناقض تمامًا المصطلح القرآني.
[4] ـ سلوكات الفصائل العسكرية الإسلاموية أكثر من أن تحصى، آخرها كان في رمضان الفائت، عندما قتل أحد عناصر هذه الفصائل مجموعة من مدنيي إدلب، لكونهم مفطرين، كان بينهم فنان تشكيلي معروف، علمًا أنه لا يوجد في القرآن والسُنة وكتب الفقه عقوبة محددة على المفطر في رمضان!!
[5] ـ النصراوي نسبة إلى “جبهة النصرة”، وأما التحريري فنسبة إلى حزب التحرير الإسلامي.
[6] ـ الرد بوجود حكم الردة من خلال حديثين في السنة النبوية، ونبين أن القرآن لم يفرض عقوبة دنيوية على من يترك الدين، إذ قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}. النساء: 137؛ فالآية تبيّن أن هناك من ارتد مرات، من دون أن تكون عليه عقوبة دنيوية. وأما ما ورد في صحيح مسلم: (حديث الأعرابي الذي جاء المدينة وأسلم وبايع النبي، ثم تطيَّر وطلب من النبي أن يقيله بيعته، أي أن يترك الإسلام). فإن النبي لم يعاقبه إنما قال: “إنما المدينة تنفث خبثها كما ينفث الكير خبث الحديد”.
[7] ـ الحوقلة هي في معناها الشعبوي التلفظ بـ “لا حول ولا قوة إلا بالله”، دون القيام بما يلزم من فعل تجاه حدث ما.
[8] ـ نيل الأوطار للشوكاني ج:8 ص:3