الانتماء إلى العصر (المعاصرة)، والانتماء إلى العالم (الكونية) مظهران أساسيان من مظاهر الانتماء إلى النوع أو الجنس البشري، وإلى الجماعة الإنسانية؛ وهذان، الانتماء إلى النوع وإلى الجماعة الإنسانية، أمران مختلفان اختلاف البيولوجيا، التي تربط الفرد بالنوع أو الجنس، عن الأخلاق، التي تربط الفرد بماهيته الإنسانية، كما تتجلى في الآخرين والأخريات، والتي تشكل الحرية والمساواة قوامها ونصابها وعمادها، ولكن الأخلاقي يتأسس على الطبيعي، ويستمد منه معقوليته الكلية. الطبيعي والأخلاقي وجهان للمسألة ذاتها، إذ الطبيعة هي المصدر الوحيد للمعرفة، والمجتمع هو المصدر الوحيد للأخلاق. المعرفي والأخلاقي يتعينان في بنى المجتمع الذي ينتجه الإنسان على صورته ومثاله، مرة تلو مرة، ويصير أسيرًا له ومعرفًا به، في كل مرة.
الانتماء إلى العصر وإلى العالم هما قوام الهوية الجذرية لأي فرد إنساني، ذكرًا كان أم أنثى، وقوام الهوية الجذرية لأي مجتمع ديمقراطي، بحصر المعنى؛ فما ينتجه الناس، على الصعيدين الروحي والمادي، هو ما يحدد هوياتهم الفرعية. المجتمعات الديمقراطية وحدها لا تُفاضِل بين أفرادها، ولا تفرّق بينهم، على أساس أي هوية فرعية، كالعرق أو اللغة أو الثقافة أو الدين والمذهب، أو لون البشرة، وحين لا تفعل ذلك لا يكون نظامها بخير، ولا تكون الديمقراطية بخير.
افترضنا في مقال سابق أن البداوة والحضارة والمدنية ثلاث حقب تاريخية، وثلاثة أطر مرجعية للتفكير، في أحوال المجتمعات والدول، وفي أحوال الطبيعة البشرية، التي تنتج المجتمعات والدول على صورتها ومثالها، فيكون المجتمع المعني “إنسانًا مموضعًا”، هنا والآن، وتكون الدولة حياة أخلاقية للشعب. ونفترض، في هذه المقاربة، أن المعاصرة والكونية معياران أساسيان للتفريق بين الحضارة والمدنية، بحيث يمكن القول إن الحضارة كونية بالقوة، والمدنية كونية بالفعل، أو إن الحضارة تحمل أجنَّة المدنية.
فالمعاصرة (Contemporary)، إذا استندنا إلى دلالتها اللغوية وصيغتها الصرفية (على وزن مفاعلة) في العربية، هي مشاركة متكافئة، بين الأمم والشعوب، في إنتاج المعرفة والثقافة، على الصعيد العالمي، ومشاركة متكافئة في المعرفة والثقافة وفي المبادئ والقيم الإنسانية العامة، كالديمقراطية وحرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن/ـة، وفي إنتاج الخيرات الإنسانية، وتداولها واستهلاكها أيضًا. وهي مرادفة للحداثة، بمعنى الإبداع والابتكار (novelty)، علاوة على التشارك الحر.
وأما الكونية (universal) فهي “مبدأ المعقولية الكلية”، بحسب لالاند؛ كلّ ما تجمع البشرية على معقوليته، كالمبادئ الرياضية؛ والكليَّات العينية[1]، وكل ما تتبناه من قيم أخلاقية. وهي، أي الكونية، ارتقاء مطَّرد في مدارج العمومية ومراقيها، تصير معه المشاركة المتساوية في النوع أو الجنس مشاركةً متكافئةً، في المعرفة والأخلاق. فالكوني هو المشترك بين البشر كافة، من المبادئ والمعارف والقيم، كالخير والحق والجمال والحرية والمساواة والعدالة والحب…، وما هو إنساني عام وكلي في الآداب والفنون.
الكونية، بصفتها ارتقاء مطَّردًا في مدارج العمومية، هي الأساس الموضوعي للروح الوطنية، التي تتجسد في عمومية الدولة الوطنية ومؤسساتها، تجسُّدَها في “الكلية العينية”، أي في وحدة المجتمع المدني والدولة الوطنية، أو وحدة المجتمع المدني والمجتمع السياسي.
تنفرد العلوم الطبيعية والعلوم والبحتة (العلوم الرياضية) والعلوم التطبيقية، كالعلوم الطبية والهندسية، على اختلافها، بكونها علومًا كونية بطبيعتها. ولذلك تُعدّ المعرفة العلمية، منذ أول ثورة معرفية حررت العلم من اللاهوت، شرطَ الانتقال من الحضارة إلى المدنية، وشرط نمو المدنية وارتقائها. فالثورة العلمية، بالمعنى الواسع والشامل للكلمة، هي الأساس الذي نهضت عليه الثورة الصناعية، وهي ثورة نوعية في التاريخ البشري، أرست الأساس المعرفي والأخلاقي، الذي نهضت عليه الثورة الديمقراطية، بجميع منطوياتها، وتشكَّل في كنفها نمط الإنتاج الرأسمالي.
الكونية موقف أخلاقي أيضًا، بل هي، أساسًا، موقف يرتقي بالوعي الذاتي إلى مستوى يشعر فيه الشخص (الرجل والمرأة) بمسؤوليته عن إنسانيته، وبأن كل ما يحدث في العالم إنما يحدث له شخصيًا، بحسب تعبير الفيلسوف الوجودي الروسي، نيكولاي بردياييف، أو بحسب تعبير أينشتاين في قوله: “نحن هنا من أجل الآخرين، وقبل كل شيء من أجل أولئك الذين تمثل ابتساماتهم وراحتهم الشرطَ الكامل لسعادتنا، وسعادة الذين لا نعرفهم، ومصير الذين تربطنا بهم روابط اللطف والمحبة”[2]. هذا مما يمكن أن يترجم إلى “صداقة مدنية”، أو إلى اهتمام بالذين لا نعرفهم واللاتي لا نعرفهن معرفة شخصية، ولكن تربطنا بهم وبهن روابط اللطف والمحبة.
إذا كان في التحقيب المشار إليه أعلاه شيء من صواب، أو ظل من صواب، فإن العرب لا يزالون، مع عدد كبير من الأمم والشعوب، في مرحلة الحضارة الملتبسة بالبداوة؛ والمعيار الذي يقوم عليه هذا الحكم هو المفاضلة أو عدم المفاضلة بين الأفراد، بحسب الجنس واللغة والثقافة والدين والمذهب ولون البشرة.. مفاضلة لا تقتصر على المنزلة والمكانة والاعتبار، بل تتعداها إلى الجدارة والاستحقاق. فالانقسام العمودي، بين شعوب متمدنة وأخرى متحضرة، أو لا تزال حبيسة حضارتها الخاصة، ينمو ويتعمق، في عالمنا، ويثير الأسى والقلق، مثله، في هذا، مثل التفاوت الاجتماعي وعدم العدالة في توزيع الخيرات المادية والمعنوية، اللذين ينموان ويتعمقان، في جميع الدول، بنسب متفاوتة.
من خصائص الحضارة ازدهار “العمران” وازدهار الآداب والفنون والعلوم النقلية والعقلية والعقائد الدينية.. إلخ، تبعًا لازدهار الزراعة والحرفة والتجارة والمبادلات والتفاعلات الثقافية. وكذلك، ازدهار النظم الأرستقراطية والأوليغارشية والاستبدادية، البطركية والذكورية، على وجه العموم.. وما من شك في أن بين الحضارات المختلفة كثرة من العناصر المشتركة، هي التي تسمح بالمقارنة، لا بالمفاضلة. فمن حق العرب أن يفخروا بحضارتهم، أسوة بغيرهم من الأمم، ولكن هذا لا يعني جعل الحضارة سجنًا للعقل والحكمة والضمير.
ثمة، في اعتقادنا، عقبتان كأداوان تحُولان دون المعاصرة والكونية، أولاهما المذاهب الدينية أو الأرثوذوكسيات، والثانية هي الإثنيات، والقوميات العنصرية الحديثة، التي تعتبر كل منها أمتها “خير أمة أخرجت للناس”، لا يليق بها إلا أن تكون معيارًا للمعرفة والثقافة ومعيارًا للقيم.
سبيلان ممكنان دومًا إلى المعاصرة والكونية، هما المعرفة العلمية، والقيم التي تضارعها في العمومية والكلية، أي القيم الإنسانية العامة، وما بين هذين الحدَّين تلاوين من خصوصيات لا تخلو من عناصر كونية أو ذات بعد كوني.
وما دام الناس لا يتخلون عن انتماءاتهم الدينية والإثنية والقومية، إلا باختبارهم، ليس من شيء غير العلم (النظري والعملي) والفكر المرتبط به يمكن أن يؤسِّس المعاصرة والكونية، في ثقافتنا وفي مجتمعنا، وينتشل المجتمع والثقافة من الدرك الذي انحدرا إليه، وذلك بحكم خصائص العلم ذاته وشروط إمكانه، وخصائص المعرفة العلمية وشروط إمكانها، لا بسحر ساحر أو قدرة قادر. المعرفة العلمية معرفة كونية خالصة، لا تمكن نسبتها إلى عرق أو أمة أو دين أو وطن ودولة، إنها أكثر تجليات الروح الإنساني الكلي وضوحًا. هناك، على سبيل المثال، فلسفة فرنسية أو ألمانية وأدب فرنسي أو ألماني أو عربي وفن فرنسي أو الماني أو عربي.. إلخ، وهناك فلسفة إسلامية وفلسفة مسيحية أو غير ذلك، ولكن ليس هنالك علم ألماني أو فرنسي أو سوري أو إسلامي أو مسيحي، بل ثمة علم كوني في فرنسا أو ألمانيا أو غيرهما من الدول. جابر ابن حيان (721 – 815 م) “أول من علَّم الكيمياء في العالم”، على سبيل المثال، ولكن الكيمياء ليست عربية أو إسلامية، ومحمد بن موسى الخوارزمي (781 – 847م) من أبرز علماء الرياضيات والفلك، في زمنه، ومبتكر الخوارزميات المستعملة اليوم في برامج الكمبيوتر، ولكن الرياضيات والخوارزميات ليست عربية أو فارسية، ولسيت إسلامية.
هذا يطرح مشكلة معرفية بالتأكيد، هي مشكلة وجود شيء عام، (العلم) ليس له وجود خاص أو حصري، (علم عربي أو إسلامي). ليس من حل لهذه المشكلة إلا بافتراض أن العلوم الطبيعية والعلوم البحتة والعلوم التطبيقية هي ذروة تطور معرفي وتفتح إنساني، في كل عصر، وفي كل مكان معمور، ومن ثم، هي ذروة التطور المعرفي بوجه عام. الرياضيات، على سبيل المثال، أكثر كونية من الموسيقا، وأكثر تجريدًا منها، إذ لا موسيقى بلا صوت، وبلا آثار الغناء وقابلية الغناء وقابلية الرقص، علاوة على كونها خاضعة للذوق. ثمة علاقة ارتباط مؤكدة بين التجريد والعمومية، ومن ثم، بين العمومية والكونية. فمسار المعرفة العملية يبدأ بالتفريد وينتهي إلى التجريد، مرورًا بالتعميم. هذا ليس على صعيد “الاستقراء” فقط، بل على صعيد اندراج الفردي والخاص في الكلي والعام، على أي صعيد وفي أي مجال.
إن هدم أسوار التأخر في سورية وغيرها مشروط بثورة علمية، ليست من قبيل “اللحاق” بالغرب أو الشرق أو الشمال، بل من قبيل مشاركة ممكنة دومًا، في إنتاج المعرفة العلمية، بشرط جعل مؤسسات التربية والتعليم والمؤسسات الثقافية ومراكز البحث العلمي بيئة مناسبة لذلك، وجعل المعرفة العلمية حاكمة وقائدة، إذا جاز التعبير، مع العناية باللغات الأجنبية. السوريون والسوريات، مثل غيرهم وغيرهن، منتجون بارزون ومنتجات بارزات للمعرفة في الجامعات ومراكز البحوث، إلا في سورية.
إن رهان المعاصرة والكونية، في سورية وغيرها، هو رهان العمومية، المشروط بهدم الأسوار كافة، وردم الخنادق كافة وإزالة الحواجز كافة، وبناء الجسور، على الصعيد الوطني أولًا، ثم على الصعيد العالمي. فهدم الأسوار وردم الخنادق وإزالة الحواجز وبناء الجسور كلّها تعني المشاركة المتساوية في الحياة العامة وحياة الدولة، وهذه المشاركة شرط لازم للمشاركة في إنتاج المعرفة والثقافة والخيرات الإنسانية على الصعيد العالمي.
تحتاج سورية، بعد استتباب الأمن والسلام والمصالحة الوطنية، إلى ثورة معرفية، في التربية والتعليم والمؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية، قوامها المعرفة العلمية؛ وهذه كفيلة برفع وعي السوريات والسوريين إلى مستوى العصر، وتمهيد الطريق للانتقال الممكن والواجب من الحضارة إلى المدنية. فإن رهان المعاصرة والكونية هو رهان العمومية، والعمومية ليست مجرد صفة، بل هي مبدأ معرفي وأخلاقي، بل معرفي – أخلاقي، يمكن أن يترجم سياسيًا إلى عمومية الدولة ومؤسساتها، فتكون العمومية مرادفة للوطنية ذات البعد الإنساني، لا تلك الوطنية ذات البعد الإمبريالي والعنصري، التي أنتجها الفكر القومي والدولة القومية الحديثة.
ثمة، إذن، سبيلان ممكنان دومًا إلى المعاصرة والكونية، هما المعرفة العلمية، والقيم التي تضارعها في العمومية والكلية، أي القيم الإنسانية العامة، وما بين هذين الحدَّين تلاوين من خصوصيات لا تخلو من عناصر كونية أو ذات بعد كوني، تعبّر عنها حقول معرفية مختلفة تعتمد مناهج علمية، ولكن مخرجاتها لا ترقى إلى مستوى المعقولية الكلية، كمخرجات العلوم الطبيعية والعلوم البحتة. إن الممكن هو حقل فسيح وفضاء مفتوح للتفكير والعمل.
[1] – يفرق الفلاسفة بين الكلية العينية، التي تدل على الكائن الكلي، والتي مثلنا لها بالفرد الإنساني، وبين الكلية المجردة، التي تحيل على المفهوم، كمفهوم الخير أو الحق أو الجمال. ومن ثم، إن الكونية تدل على جملة الكليات العينية وجملة المبادئ والمفاهيم الكلية.
[2] – ألبرت أينشتاين، هكذا أرى العالم، ترجمة فاروق الحميد، دار التكوين، بيروت، 2015، ص 10 وما بعدها.