في الخامس من حزيران/ يونيو 2020، تمرّ الذكرى الـ 53 لهزيمة الجيوش العربية في حرب الأيام الستة، التي عدّها نظام البعث آنذاك مجرد “نكسة”؛ لأن النظام “التقدمي” الذي نشأ في 8 آذار/ مارس 1963 لم يسقط!
شكّل قيام الكيان الصهيوني في 1948 وما زال، كابوسًا بالنسبة إلى الأنظمة العربية، وعبئًا ثقيلًا على شعوب بلدان الطوق، وكارثة على الشعب الفلسطيني الذي نُهبت أرضُه وشُّرِدَ خارجها، ثم على الشعوب العربية في بلدان الطوق بخاصة.
وإضافة إلى أن قيام الكيان الصهيوني خلق مناخًا للصراع منح العسكرَ أهمية خاصة ودورًا أوصلهم إلى السلطة في عدد من البلدان العربية وإلى إقامة أنظمة عسكرية مستبدة كان لها أسوأ الأثر على هذه البلدان وحريات شعوبها ونموها الاقتصادي والاجتماعي والعلمي، فقد كان لقيامِه أثرٌ اقتصاديٌ سلبيٌ كبيرٌ، نود أن نتطرق إلى بعض جوانبه في هذه المقالة، وسنأخذ سورية مثالًا على هذا الأثر، على الصعيد الاقتصادي والتنموي، وسنتناول ثلاثة جوانب رئيسة هي:
أولًا: الإنفاق المالي المباشر على الجيوش:
استخدم النظام الصراع مع الكيان الصهيوني ذريعةً، كي يخصص جزءًا كبيرًا من ثروات البلاد للإنفاق على الجيش والأمن. وتشير معطيات البنك الدولي إلى أن حصة الإنفاق العسكري المخصصة في الموازنة العامة للجيش ومؤسسات الأمن الكثيرة في سورية تبلغ نحو الثلث قبل سنة 2000، وهبطت إلى ما دون الرُّبع في 2010: (انظر الجدول رقم 1)
جدول (1) نسبة الإنفاق العسكري من إجمالي الموازنة العامة:
سنة | 1998 | 2000 | 2005 | 2010 |
% | 35.81% | 30.34% | 27.33% | 22.95% |
وقد شكّل الإنفاق العسكري في سورية، بين 1988 و2006، نحو 7.9% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو واحد من أعلى معدلات الإنفاق العسكري في العالم، وبلغ في 1991 نحو 10%، بينما هبط سنة 2006 إلى 4%. (انظر الجدول رقم 2)
جدول (2) نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج المحلي الإجمالي
سنة | 1988 | 1991 | 1995 | 2000 | 2005 | 2006 |
% | 7.85% | 10.43% | 6.96% | 5.34% | 5.3% | 4.34% |
وإذا ألقينا نظرة على معطيات المكتب المركزي للإحصاء في سورية؛ وجدنا أن الموازنة العامة في سورية اعتادت أن تخصص نحو ثلث الموازنة العامة للجيش والأمن، وتدرجها برقم واحد من دون تفاصيل (انظر الجدول 3). وعلى الرغم من أن مخصصات الموازنة، وخاصة في جانب الإنفاق الاستثماري، لم يكن يُنفق منها سوى نسبة لا تزيد عن 50 أو 60%، فإن الجيش كان يحصل على كامل مخصصاته التي كانت تُدرج تحت بند “النفقات الجارية”[1]، ما يعني أن حصّة الجيش والأمن أكبر من الثلث. وكانت موازناته مستقلة، فلا تُدرج تفاصيلها في الموازنة، بل تُدار من قبل جهة عسكرية مختصة بالشؤون المالية. ولعل من أهم المفارقات ذات الدلالة أن مخصصات الجيش والأمن في الموازنة (أي ما هو مخطط للإنفاق) بلغت نحو مثلَي مخصصات التعليم سنة 2001، ونحو 1.3% سنة 2010. وهذا يشير إلى طبيعة النظام الذي قام في سورية منذ 1963 برمته.
جدول (3) اعتمادات الدفاع والأمن مقارنة مع اعتمادات التعليم للعامين 2001 و2010
السنة | الوحدة | الدفاع والأمن | التعليم | الإجمالي |
2001 | مليار ل. س | 55.3 | 25.9 | 356.3 |
% | 15.6% | 7.2% | 100% | |
2010 | مليار ل. س | 128.2 | 101 | 754 |
% | 17% | 13.4% | 100% |
في الواقع، تزيد نسب الإنفاق الفعلي على هذه النسب؛ إذ إضافة إلى ما يُخصّص من الموازنة العامة، كان الجيش والأمن يستجرون احتياجاتهم من مؤسسات الدولة، مثل المحروقات والكهرباء والمواد التموينية وغيرها، من دون أن يسددوا قيمتها، وقد كان ذلك الأمر يرفع نسبة عجز وخسائر تلك المؤسسات التي تتحملها الموازنة العامة. وحين سعى رئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الكسم، وكان رئيسًا للوزراء بين 1980 و1987، لمطالبة القطعات والمؤسسات العسكرية والأمنية بتسديد قيمة ما يستجرونه من كهرباء وماء ومحروقات وغيرها؛ قام الضباط بشنّ حملة كبيرة ضده. وهناك جزء آخر من الإنفاق كان يتمّ خارج الموازنة ومن مصادر خاصة، مثل مساعدات من بلدان عربية تُسدد لموردي الأسلحة والعتاد، أو من صندوق خاص يُدار من قبل رئاسة الجمهورية. وهذا يعني أن حصة الموازنة العسكرية من الموازنة العامة أكبر من النسبة المذكورة في الجداول أعلاه، وكل هذا يتم على حساب الإنفاق الجاري والاستثماري المنتج.
ثانيًا: الخسائر البشرية:
أعداد من قُتلوا في الصراع مع “إسرائيل” لا تُعدّ أرقامًا كبيرة؛ لأن الحروب والمعارك التي وقعت كانت محدودة، وكانت تنتهي بعد أيام بهزيمة أنظمتنا، والفلسطينيون هم من دفع العدد الأكبر من الشهداء، عبر تاريخ الصراع. أما اليوم فلم تَعُدْ تلك الأرقام تُذكر أمام الأهوال التي شهدناها خلال الحرب العراقية الإيرانية 1980 – 1988، أو بعد الغزو الأميركي للعراق 2003 حتى الآن، أو التي نشهدها منذ 2011 على جبهات الصراعات الداخلية في بلدان عربية عدة، وأكبرها في سورية، وهي خسائر بشرية هائلة بلغت 690 ألفًا في سورية وحدها، بحسب آخر تقرير للمركز السوري لأبحاث السياسات، يضاف إليها مئات الآلاف ممّن تُوفوا بسبب نقص الأدوية والرعاية الصحية والماء النظيف ونقص الغذاء، والعيش في ظروف بائسة، ومئات الآلاف من الجرحى والمصابين والمعوّقين. لقد ساهمت جرائم أنظمتنا المستبدة في جعل “إسرائيل” تظهر كمجرم صغير، مقابل جرائمهم الهائلة، وعلى الرغم من ذلك، تبقى “إسرائيل” هي المسبب الأكبر لوجودهم.
شكّل استدعاء قوة كبيرة من الشباب السوري إلى الخدمة الإلزامية وتجميد طاقاتها تحت السلاح الخسارةَ الأكبر التي تفوق خسارة من استُشهدوا في الحروب من الكيان الصهيوني، فقد اعتادت البلدان المجاورة للكيان، وخاصة سورية ومصر، أن تمتلك جيوشًا كبيرةً العدد، سيئة التنظيم والتدريب والقيادة.
تبرز هذه الظاهرة بأوضح أشكالها في سورية، حيث إنها احتفظت، بذريعة “الصراع مع العدو الصهيوني”، بجيش كبير، يستهلك جزءًا كبيرًا من قوة العمل السورية. ويبيّن الجدول التالي أعداد أفراد القوات المسلحة ونسبتها من إجمالي قوة العمل السورية، وقد كانت نحو 12.5% منتصف التسعينيات، وهبطت إلى 7% سنة 2010. وهي نسب مرتفعة جدًا، يتم سحبها من عملية الإنتاج وتحويلها إلى قطاع الاستهلاك. ولكن هذه القوة الكبيرة لم تُستخدم لمواجهة “العدو الصهيوني”، بقدر ما استُخدِمَت لحراسة حدود هذا “العدو”، ومنع قيام أي عملية فدائية من جبهة الجولان من جهة، بينما انهزم هذا الجيش في المواجهات التي جرت، سواء في حرب 1973 (إذ لو لم تُوقف الحرب لوصل الإسرائيليون إلى دمشق)، أو بعدها إذ هرب ذلك الجيش من المواجهة إبّان اجتياح لبنان وبيروت 1982، بعد خسائر كبيرة مُني بها وخاصة في قواته الجوية.
جدول (4) أعداد أفراد القوات المسلحة ألف فرد (بحسب موقع البنك الدولي)
السنة | 1990 | 1995 | 2000 | 2005 | 2010 |
عدد أفراد القوات المسلحة | 408 | 531 | 424 | 416 | 403 |
نسبة من قوة العمل | 12.39% | 12.43% | 8.7% | 8% | 7% |
لقد شكلت الخدمة العسكرية الإلزامية والدعوة المفتوحة للاحتياط، على كل مواطن سوري، كابوسًا على قلب كل شاب سوري، وكانت دافعًا وراء عدم عودة كثير ممن درسوا في الخارج، وهروب أعداد كبيرة ممن درسوا في سورية إلى خارجها. فقد كانت الخدمة الإلزامية العسكرية تقتطع سنتين ونصف من حياة كل شاب سوري من قبل، ثم أصبحت سنة ونصف، وهي الآن في الصراع الجاري تأخذ أعمارهم. وبالطبع كان أبناء المسؤولين والأغنياء، وما زالوا، يتهربون منها بطرق شتى.
وكمثال شخصي، على واقع المواطن السوري، أذكر أني بعد تخرجي في الجامعة من كلية الاقتصاد في حلب، استُدعيت للخدمة الإلزامية منتصف سبعينيات القرن الماضي، ولم أستطع استكمال فرصة متابعة دراستي في الخارج حينذاك، ولم تُتح لي هذه الفرصة حتى 1985. وقد أمضيت في الخدمة الإلزامية العسكرية سنتين ونصف السنة. ثم استُدعيت للاحتياط ثمانية أشهر أخرى؛ فخسرت بسببها موقعًا وظيفيًا أفضل.
ثالثًا: خلق مناخ طارد للاستثمار:
بغض النظر عمّن يصف المستثمرين بالجُبن (رأس المال جبان) أو يصفهم بالذكاء (يعرفون أين يضعوا أقدامهم)، نجد أن الصراعات وأخبار الحروب أو التهديد بقيامها تطرد الاستثمارات، هذه هي القاعدة. وهذا التهديد قائمٌ منذ قيام الكيان الصهيوني، وقد خلق مناخًا طاردًا للاستثمار، وزاد عليه نظام العسكر من عندياتهم؛ فامتنع تدفق الاستثمارات العربية والأجنبية إلى سورية، فضلًا على أنه أدى إلى هروب الرساميل السورية إلى الخارج.
إضافة إلى مناخ الصراعات الطارد للاستثمارات، تُعدّ السّمعة العامة للبلاد أحدَ العوامل الأساسية في جذب الاستثمار أو طرده. وبسبب عقلية النظام العسكرية التسلطية في سورية (وهو النظام الذي لعب قيام الكيان دورًا رئيسًا في قيامه وتعزيز قبضته على السلطة التي تضع في مقدمتها ما يخدم تعزيز قبضتها على الحكم) على حساب النمو الاقتصادي أيضًا، فقد أقام نظام البعث – الأسد اقتصادًا خليطًا، يتكون من أجزاء مجموعة تعسفيًا إلى بعضها، فلا هو اقتصاد اشتراكي مغلق، ولا هو اقتصاد سوق مكتمل يقيم البنية المؤسسية والقانونية الجاذبة للاستثمارات التي تخلق فرص عمل برواتب وأجور وشروط عمل أفضل، إضافة إلى ارتفاع مستوى الفساد وانعدام سيادة القانون وعدم شفافية القوانين والإجراءات وغياب القضاء الكفء والمستقل والنزيه الذي يضمن الحقوق وإنفاذ العقود والاتفاقات، وكانت سمعة مناخ الاستثمار في سورية سيئةً باستمرار، بسبب هذه الجوانب وغيرها.
واستعانة ببعض الأرقام التي تعطي المعنى بعدًا واقعيًا، نذكر ما أورده تقرير الاستثمار العالمي الصادر عن الأمم المتحدة، لسنة 2009، فقد بلغ إجمالي الاستثمار الأجنبي في سورية للسنوات 1990 و2000 و2008 على النحو المذكور في الجدول رقم (5)
جدول (5) إجمالي الاستثمار الأجنبي في سورية للسنوات 1990 و2000 و2008
بيان | الوحدة | 1990 | 2000 | 2008 |
مجموع الاستثمار الأجنبي المباشر في سورية | مليون دولار | 5954 | 7279 | 10337 |
غير أن معظم الاستثمارات الأجنبية كانت في قطاع النفط والغاز، إذ منحت الدولة معاملة تفضيلية خاصة للمستثمرين في هذا القطاع، والأهم أن الشركات المستثمرة هي شركات عالمية كبيرة نافذة، ويصعب التجاوز عليها، فضلًا على أن لكل منها من يحميه داخل النظام.
أما الاستثمار الأجنبي المباشر خارج قطاع النفط والغاز فقد بقي محدودًا، ولم يتجاوز حدود 300 مليون دولار قبل 2007، ثم طرأ عليه بعض التحسن الطفيف، فوصل سنة 2010 إلى أقل من مليار دولار، وكانت معظم تلك الاستثمارات رؤوس أموال سورية تأتي تحت اسم شركات أجنبية مؤسسة خارج سورية، للانتفاع ببعض الميزات الممنوحة للاستثمارات الأجنبية. وفي الوقت ذاته كانت رؤوس الأموال السورية التي تهرب إلى الخارج سنويًا أكبر من تلك التي تدخل، وشكّل ذلك عملية استنزاف مستمرة.
إن مجمل تلك العوامل قد منعت سورية من استقطاب رؤوس أموال البلدان المصدرة للنفط، وخاصة في بلدان الخليج التي اتجهت لتبحث عن فرص استثمار في كل مكان في العالم، ولكنها لم تأتِ إلى سورية، على الرغم من توفر مجالات استثمار كثيرة، لكون مناخ الاستثمار الأمني أغلق الطرق في وجوهها.
لقد شكّل قيام الكيان الصهيوني في 1948 وما زال كابوسًا بالنسبة إلى الأنظمة العربية، وألقى عبئًا ثقيلًا على شعوبنا العربية، وخاصة شعوب بلدان الطوق، وقد دفعوا ثمن ذلك من حريتهم وكرامتهم ومستوى عيشهم.
لذلك، يُعدّ منطق الاستسلام والتفريط والدعوة للتطبيع مع “إسرائيل” منطقًا مرفوضًا في كل الأحوال؛ حيث إن قبول بعض السوريين والعرب وغيرهم بقيام هذا الكيان الباطل، بدعوى “الواقعية” وبحجة أن وجوده أصبح أمرًا واقعًا، يُعدّ تخلّيًا عن قضية وطنية وإنسانية وعن حقٍ مشروع، وخضوعًا لا موجب له. ولا يمكن قبول هذا الموقف المنهزم واليائس، ولا سيّما أن هذا الكيان قام على زعم تاريخي باطل، قبل عدة ألفيات من السنين، عبر تزييف الحقائق وترويج الأكاذيب، وما يزال مستمرًا في ارتكاب جرائم التهجير وقضم الأراضي والتمييز.
إنه استسلام مجاني بلا مقابل، بل إنه استسلام مع دفع أثمان إضافية، تشمل القبول بضمّ القدس والجولان ومعظم الضفة الغربية إلى سلطة ذلك الكيان. وعلى الرغم من أننا اليوم ضعفاء وحكوماتنا مهزومة، فلا بد أن نتمسك بحقوقنا هذه بانتظار قادم الأيام.
[1] تقسم الموازنة العامة/ الحكومية عادة إلى قطاعين رئيسين: جارٍ واستثماري، ولكل قطاع إيراداته ونفقاته، وتشمل النفقات الجارية رواتب العاملين في القطاع الحكومي الإداري، والنفقات الجارية للمكاتب من قرطاسية وطاقة من مشتقات نفط وكهرباء وغاز ونفقات ماء وهاتف، ونفقات السلك الدبلوماسي في الخارج، ودعم المؤسسات الحكومية الخاسرة الكثيرة، وسداد القروض، والإنفاق على دعم السلع والطاقة وغيرها، والقسم الآخر الإنفاق الاستثماري الذي يشمل تكاليف الأبنية والطرق وشراء السيارات والمعدات وتجهيزات المكاتب والمختبرات لمختلفة والمصانع وغيرها.